• تقرير عن محاضرة “المصارف الإسلاميَّة بين مقاصد الشَّريعة ومتطلَّبات العصر” التي أقامها المركز المغاربي

    تقرير عن محاضرة "المصارف الإسلاميَّة بين مقاصد الشَّريعة ومتطلَّبات العصر"التي أقامها المركز

    نظَّم المركز المغاربيُّ للدِّراسات بالتَّعاون مع جمعيَّة الاتِّحاد العالميِّ لعلماء المسلمين فرع اسطنبول تركيا بتاريخ 20 آب / أغسطس من العام 2016م محاضرة نوعيَّة تحت عنوان: "المصارف الإسلاميَّة بين مقاصد الشَّريعة ومتطلَّبات العصر"، ألقاها فضيلة الشَّيخ الدُّكتور علي محيي الدِّين القره داغي، الأمين العامُّ للاتِّحاد العالميِّ لعلماء المسلمين.

    بدأت المحاضرة أعمالها في مقرِّ جمعيَّة "الحكمة للعلم والصَّداقة والتَّعاون" الكائن في منطقة الفاتح في إسطنبول في تمام السَّاعة 5.30 مساءً، بحضور جمهور غفير من الحاضرين وعدد لافت من الشَّخصيَّات العلميَّة والسِّياسيَّة العربيَّة والتُّركيَّة، وكذلك لعدَّة قنواتٍ إعلاميَّة كقناة الجزيرة مباشر وقناتي الوطن ومكملين.

     بدأت المحاضرة أعمالها بكلمة من رئيس الجلسة الشَّيخ "عبدالوهَّاب اكينجي" رئيس جمعيَّة الاتِّحاد العالميُّ لعلماء المسلمين بالتَّرحيب بالضُّيوف الكرام وبفضيلة المحاضر، وبنبذة عن الاقتصاد الإسلاميِّ وأهمِّيته.

    ثمَّ أعطى الحديث لفضيلة المحاضر الدُّكتور علي القره داغي، وقد بدأ فضيلة المحاضر حديثه بالشُّكر للمنظِّمين، وبترحيب بالحضور الكريم، ثمَّ بدأ كلامه بالحديث عن أهميَّة المال في المجتمع من ناحية نظر الإسلام للمال، وكذلك عن أهمِّية ربط مقاصد الشَّريعة بالمال والصَّيرفة.

    ثمَّ انتقل بعد ذلك للحديث عن كون الاقتصاد في الإسلام جزء من العبادات، وأنَّ عظمة الاقتصاد الإسلاميِّ تأتي من خلال الربط بين العقيدة والشريعة والعمل وبين قضايا الأخلاق، ثمَّ تحدَّث عن أهمَّ سببٍ في الأزمة الاقتصاديَّة التي بدأت عام 2008م، وأنَّه كان الأخلاق.

    ثمَّ انتقل بعد ذلك للحديث عن مقاصد الصَّيرفة الإسلاميَّة، وأنَّ أهمَّ مقصد من مقاصد المال في الإسلام هو: تعمير الكون بمنهج سليم لا يضرُّ الكون والإنسان والحيوان، ثمَّ يأتي من بعد ذلك التَّنمية الشَّاملة من النَّاحية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة والرُّوحيَّة، وهذه جميعها تتحقَّق بالمال.

    ثمَّ تكلَّم عن المبادئ العشر الأساسيَّة لصحَّة التَّعاقد في الإسلام، وأنَّ الاقتصاد الإسلاميَّ يدور على ثلاثة أصول هي:

    1-  المآلات.

    2-  وسدُّ الذَّرائع.

    3-  وتحقيق المناط.

    ثمَّ تحدَّث عن بيع الدُّيون، وأنَّه أحد أهمِّ أسباب انهيار النِّظام الماليِّ العالميِّ، وأنَّ الإسلام ينظر إلى النُّقود على أنَّها وسيلة وليست سلعة كما في النِّظام الرأسمالي.

    ثمَّ عرَّف البنك الإسلاميَّ والبنك التَّقليديَّ، وعدَّد أركان الصَّيرفة الإسلامية وهي:

    1-  جمع المدَّخرات.

    2-  استثمارها.

    3-  تمويل المشروعات النَّاجحة من خلال دراسة الجدوى.

    4-  تقديم الخدمات المصرفيَّة.

    5-  تحقيق التَّوازن في السُّيولة بين حاجة الفرد والمجتمع.

    ثمَّ أخذ يتحدَّث عن الفروق بين البنكين من حيث: الهدف – الأنشطة الرَّئيسيَّة – الشَّكل – ضمان الرِّبح – التَّكييف الشَّرعي.

    ثمَّ قدَّم فضيلة المحاضر بعض العروض التَّوضيحيَّة أمام الحضور، وتكلَّم عن مسألة الرِّبا والفائدة، وأنَّها في المعاملات الإسلاميَّة ليست مسألة دينيَّة فحسب، وإنَّما هي مسألة اجتماعيَّة واقتصاديَّة وإنسانيَّة في حدِّ ذاتها.

    ثمَّ تحدَّث عن التَّوازن في الاقتصاد الإسلاميِّ، وضرب أمثلة على ذلك، كلُّ ذلك من خلال قوله تعالى:﴿وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم النَّاس بالقسط، وأنَّ البنوك الإسلاميَّة قد حمتها الشَّريعة، وليس العكس.

    ثمَّ ختم فضيلة المحاضر كلامه بالحديث عمَّا تحتاجه البنوك الإسلاميَّة، وبفتح باب السُّؤال للحضور، ثمَّ أخذ بعض الأسئلة من الإخوة الحضور، وأجاب عنها.

    وفي الختام شكر رئيس الجلسة الشَّيخ "عبدالوهَّاب اكينجي" فضيلة الدُّكتور "علي القره داغي" على هذه المحاضرة القيِّمة، وشكر للحضور الكريم حضورهم اللافت، بالمناسبة قام المدير التَّنفيذي للمركز المغاربيِّ للدِّراسات الاستاذ زهير عطوف بتقديم درع المركز كتعبير عن امتنان المركز لفضيلة الدكتور المحاضر.

    المركز المغاربي للدراسات

     

  • تقرير عن محاضرة: تجربة الحركة الإسلاميَّة في تركيا

    تقرير عن محاضرة: تجربة الحركة الإسلاميَّة في تركيا

    img_0144

    نظَّم المركز المغاربيُّ للدِّراسات محاضرة تحت عنوان: تجربة الحركة الإسلاميَّة في تركيا، استضاف فيها المستشار الأوَّل لرئيس الوزراء التُّركي الدُّكتور “عمر الفاروق قورقماز”، وذلك يوم الجمعة 21/أكتوبر – تشرين الأوَّل، في إسطنبول، في مقرِّ “الأكاديميَّة الدُّوليَّة للقيادة والتَّنمية” الكائنة في منطقة “باهتشلي إفلر”.

    بدأت المحاضرة بعد وصول الحضور الكريم ووسائل الإعلام في تمام السَّاعة السَّادسة مساءً، وقدَّم للمحاضرة نيابةً عن المركز الدُّكتور “نزار كريكش”، وتحدَّث بعد ذلك الدُّكتور “عمر الفاروق قورقماز” عن بداية تجربة الحركة الإسلاميَّة في تركيا منذ القرنيين الماضيين، منذ عصر السُّلطان عبدالحميد الثَّاني صاحب شعار “يا مسلمي العالم اجتمعوا.

    img_0118

    ثمَّ تحدَّث عن الاتِّجاهات التي وجِدَت في تركيا أواخر الدَّولة العثمانيَّة إلى وقت إلغاء الخلافة، وكيف ناضل الشَّعب التُّركي بعد إلغاء الحرف العربي في تعلُّم الإسلام، وتحدَّث عن المدارس الدِّينيَّة وكيف نشأت عندما فشلت المدارس القرويَّة في تعليم الشَّعب الثَّقافة الكماليَّة.

    ثمَّ تحدَّث عن بُروز الجيل الإسلامي الجديد، والجيل الذي خرج من البيوت التي كانت ما تزال تُعلِّم القرآن بشكلٍ سرِّيٍّ، وكيف ذهب بعض أبناء هذا الجيل للتعلُّم في سوريا ومصر، والتقوا بالمفكِّرين وأبناء الحركات الإسلاميَّة، ثمَّ كيف رجعوا إلى تركيا وبدأوا بالتَّعليم وترجمة بعض الكتب.

    img_0125

    ثمَّ انتقل للحديث عن بداية الحركة الإسلاميَّة داخل الأحزاب، وذلك بعد إعدام “مندريس”، والمناقشات التي تمَّت مع “سليمان ديميرل” ذا التَّوجُّه المحافظ، ودعم بعض المشايخ والطُّرق له، واقتراح منافس “ديميرل” في الدِّراسة “نجم الدِّين أربكان” بدخول بعض أصحاب الفكر الإسلامي في حزب “ديميرك” حزب “العدالة”.

    ثمَّ قيام “أربكان” بتأسيس حزب “النِّظام”، والذي أُغلِق بسبب خطابه السِّياسي المختلف، ليؤسِّس من بعد ذلك حزب “السَّلامة”، الذي أوصل الإسلاميِّين إلى الحكم أوَّل مرَّةٍ عام (1974م)، وذلك عن طريق التَّحالف مع “الحزب الشَّعب الجمهوري” بقيادة “بولنت أجاويد”، وقد أُسقِطت هذه الحكومة بسبب الخلاف مع الأخير بسبب دخول إلى الجيش التُّركي إلى “قبرص” بأمرٍ من “أربكان”.

    img_0127

    ثمَّ تحدَّث عن انقلاب سنة (1980م)، وأنَّه كان بسبب قيام “أربكان” وحزبه بسحب الثِّقة من وزير الخارجيَّة آنذاك بسبب إعلان القدس عاصمة “لإسرائيل”، وقيامهم بتظاهرة كبيرة في مدينة “قونيا”.

    ثمَّ تحدَّث عن نشأة حزب “الرَّفاه”، وكيف بدأ هذا الحزب بإدارة البلديَّات، وكيف غيَّر نظرة النَّاس إلى الإسلاميِّين من خلال ما قدَّموه من تجربةٍ ناجحةٍ.

    img_0129

    وكيف نجح هذا الحزب وليصبح الحزب الأوَّل بعد ذلك بنسبة (21%)، وكيف أُقصِي من الحُكم للفترة الأولى عن طريق تحالف حزب “الوطن الأم” بقيادة “توكورت أوزال” مع حزب “الطَّريق القويم” بقيادة “تانسو تشيلر”، ثمَّ كيف شكَّل الحكومة – بعد سقوط الأولى – بالتَّحالف مع حزب “الطَّريق القويم”، وكيف أُسقِطَت هذه الحكومة بشبه انقلابٍ عسكريٍّ، وأُغلِق حزب “الرَّفاه”، وكيف تشكَّل حزب “الفضيلة” وأُغلق أيضاً، وبعد هذا الإغلاق بدأت المراجعة من قبل أبناء الحركة الإسلاميَّة، ليتأسَّس بعد ذلك حزب “العدالة والتَّنمية” بقيادة “أردوغان”، وحزب “السَّعادة”.

    img_0123

    ثمَّ تحدَّث عن المعايير أو سرِّ نجاح الحركات الإسلاميَّة في تركيا، وهي أربعة أمورٍ:

    • لم تصطدم مع التَّقاليد المحلِّيَّة.
    • حاولت أن تحتضن الجميع.
    • لم تصطدم مع الدَّولة.
    • ركَّزت على ثلاثة أمورٍ وهي: الإعلام، والاقتصاد، والتَّعليم.

    img_0129

    ثمَّ تحدَّث عن الجماعات الإسلاميَّة التي تُنعِش العمل الإسلاميَّ في تُركيا وهي: الطُّرق الصُّوفيَّة، وجماعة النُّور، وجماعة سليمان أفندي، والمدارس الدِّينيَّة التَّقليديَّة، وكلِّيَّات الإلهيَّات، والبيوت الطُّلَّابيَّة.

    ثمَّ تحدَّث عن النَّتيجة من ذلك، وأنَّ أكثر من (50%) من الشَّعب التُّركي يُصوِّت لأبناء الحركة الإسلاميَّة، وأنَّ المشكلة مع العلمانيَّة أنَّها مستوردة وليست محلِّيَّة، وأنَّ حزب “العدالة والتَّنمية” قد انتقل إلى العلمانيَّة “الأنجلو سكسونيَّة” التي توفِّر حرِّيَّةً أكثر.

    img_0131

    ثمَّ طرح بعض الأفكار والمميِّزات والإشكاليَّات الكبيرة التي تعترض الحركة الإسلاميَّة في تركيا وتؤثِّر عليها، ثمَّ اختار بعد أَنْ صلَّى الحضور صلاة المغرب ثلاثة قضايا ممَّا طرحه وناقشها، وهي:

    • ما تميَّز به “نجم الدِّين أربكان” أبو الحركات الإسلاميَّة في تركيا.
    • المشاكل التي جاءت من الكتب المترجمة.
    • خصائص “أردوغان” ابن الحركة الإسلاميَّة.

    ثمَّ ختم هذه المحاضرة الشَّيِّقة، ليشكر رئيس الجلسة الدُّكتور “نزار كريكش” الدُّكتور “عمر الفاروق قورقماز” على ما قدَّمه من معلوماتٍ مهمِّةٍ، ويشكر الحضور الكريم على حسن الاستماع.

    أعدَّ هذا التَّقرير: مصطفى دقَّاق.

    المصدر: المركز المغاربي للدِّراسات.

  • مقاربة في الإفتاء السياسي بقلم الشيخ ونيس المبروك

    هذه بعض الأفكار والآراء، رأيت نشرها سريعاً دون تفصيل وتنزيل، أداء لواجب النُّصح، ورغبة في إثراء الفكر، وتشجيعاً على الحوار العلميِّ حول قضيَّة هي من أخطر القضايا المطروحة على السَّاحة اللِّيبيَّة، وضعتها في نقاط متفرِّقة، لا يصل القارئ للمراد منها – في تقديري – إلَّا بإمعان النَّظر فيها، بعيداً عن الأحكام الفقهيَّة المسبقة، والقوالب الفكريَّة الجامدة، والمواقف السِّياسيَّة المتصلِّبة، كتبتها في عجالة على هذا النَّحو ، ملتمساً من كلِّ ناصح إثراء الحديث فيها، أو نقدها بعلم. لا يشكُّ صاحب فطرة سويَّة في مشروعيَّة بل وجوب مقاومة الطُّغيان ومناهضة الظُّلم والاستبداد، وصدُّ “أيّ” عدوان فرديٍّ أو جماعيٍّ على النَّفس والمال والعرض، واعتبار من مات دفاعاً عن هذه المقاصد ومنع هذه المفاسد شهيداً حميداً. ويزداد هذا الأمر وضوحاً وجلاءً إذا كان هذا العدوان على يد من عُرفت سيرتهم ومسيرتهم، وكانت كلُّ الدَّلائل والقرائن تشير لعلاقتهم المشبوهة بأعتى وكالات المخابرات العالميَّة، وكان الأغلب الأعمُّ من حلفائهم وأنصارهم؛ هم من قوى الشَّرِّ والفساد المحلِّيَّة والعربيَّة. إنَّ الجهاد المشروع في الإسلام فريضة ماضية شأنها شأن الصَّلاة والزَّكاة والصِّيام والحجِّ، وهو ذروة سنام الأمر، ولكنَّه ليس مغامرةً لشجاع، ومتنفساً لموتور، وتحقيقاً لمأرب مشتت قاصر، أو نصر مؤقت عابر؛ بل هو منظومة فقهيَّة متكاملة، تستجمع شروطها، وتتغيَّا مقاصدها، وتتخطَّى موانعها، في نسقٍ علميٍّ موضوعيٍّ بعيداً عن نزوات العواطف ولهب الثَّارات، ذلك أنَّ موضوعه هو أغلى ما في الوجود على الإطلاق؛ وهي النَّفس البشريَّة؛ قاتلة كانت أو مقتولة. كما أنَّ الموت في سبيل الله ليس غاية ومقصد في حدِّ ذاته، بل لم يشرع الله تعالى الموت إلَّا لمنع الموت، ولم يبح القتال إلَّا لنشر الحياة الكريمة، وكثير من المخلصين يصبر على الموت في سبيل الله، ولا يصبر على الحياة في سبيله. السِّياسة هي فعل جماعيٌّ مركَّبٌ معقدٌ يستهدف تدبير الشَّأن العامِّ نحو تحقيق المقاصد والمصالح العليا؛ ولأنَّها “فعل” إنسانيٌّ، فإنَّ الحكم الشَّرعيَّ يتناولها باعتبار أنَّ الحكم الشَّرعيَّ هو خطاب لله تعالى متعلقٌ بـ”أفعال” المكلَّفين؛ اقتضاءً أو تخييراً أو وضعاً، ولكنْ للفتوى السِّياسيَّة خصوصيَّة لا تنطبق على غيرها من الأحكام، كونها فعلٌ معقَّدٌ غايةَ التَّعقيد، يدور في فلك المصالح والمفاسد، ويجب على المجامع والمؤسَّسات المتصدِّرة للحديث عن السِّياسة الشَّرعيَّة والفتاوى السِّياسيَّة – بخاصة فيما يتعلَّق بدماء النَّاس وأموالهم – أَنْ تتورَّع في القطع بأحكامها، وتبذل قصارى جهدها في جمع المادَّة التي بها تُصنَع الفتوى في هذا المجال الخطير، ولا تتسرَّع في البتِّ في الفتوى مادامت لم تبذل وسعها الجادَّ في الاستقصاء والاستحصاء والاستقراء وقول الخبراء، ولا يصحُّ أَنْ تؤسِّس كلامها على ثقتها في بعض الفضلاء أو على مجرَّد “الانطباعات”، ولو جاءت عن ثقة، كما لا يحسن بطالب العلم أَنْ يتحدث في هذا الشَّأن وهو و لا يفرِّق بين الحكم الشَّرعيِّ والوضعيِّ، وبين السَّبب الشَّرعيِّ والسَّبب القدريِّ، وبين فقه التَّنزيل وفقه التَّنجيز، وبين فقه الواقع والتَّوقُّع، وبين الذَّريعة والمآل، وغير ذلك ممَّا يحتاجه من يتسوَّر هذا الصَّرح الكبير، ويتصدَّر لهذا المقام الخطير. إنَّ الحرب ضرر وشرٌّ، والإسلام لا يتطلَّع إليها أو يبيحها إلَّا بقدر ما تدفع من شرٍّ أكبر وضررٍ أعمَّ، وإذا أباحها الإسلام فإنَّما يبيحها في إطار ما أعدَّ لها المحارب من عدَّة وعتاد، وما أحاط ببيئتها من متغيرَّات، وما غلب على عقل الفقيه من مآلات، وما توفَّر لديه من ذرائع، وبُعد حسابات “معقَّدة” متغيِّرة على الدَّوام، أو ما يسمَّى اليوم بـ”موازين القوى” وتدابير الصِّراع بشقَّيه؛ القصير والطَّويل، والمحيط السِّياسيِّ والاجتماعيِّ المحليِّ القريب، والمناخ الإقليميِّ والدَّوليِّ البعيد، وحتَّى إِنْ أباحها؛ فإنَّه يبيحها في إطارٍ منضبطٍ من القيم الإنسانيَّة الثَّابتة، والأخلاق الإسلاميَّة الهادية، دون تعسُّف ولا تكلُّف إو إسراف وإجحاف. ليس كلٌّ من خفض السَّلاح جباناً، ولا كلُّ متحيزٍ إلى فئة خائناً، ولا كلُّ متحرِّفٍ لقتال غادراً، ولا كلَّ مهاجرِ بدينه وماله وعرضه متولِّيَّاً يوم الزَّحف!! فقد تكون الشَّجاعة والحكمة في إنقاذ الأنفس وصيانة الأعراض، وتحمُّل الضَّرر الأقلِّ، ودفع المفسدة الأكبر، وتقليل الضَّرر، وقديماً قال شيخ الإسلام: ” ليس الفقيه الذي يعرف الخير من الشَّرِّ، بل الفقيه من يعرف خير الخيرين وشرَّ الشَّرين”. وقد خاطب القرآن على لسان الملائكة نفراً من الطَّيِّبين العجزة وسمَّاهم “ظالمي أنفسهم” عندما رضوا بالإقامة بين أظهر الظَّالمين دون حيلة، فقال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” ومحلُّ الاستدلال ليس بإطلاقه، فليس كلُّ من صبر أو عجز ظالم لنفسه مستحقٌّ لوعيد هذه الآية، كلَّا، ولكن محلُّ الشَّاهد هو أنَّ في الهجرة مندوحةٌ للمظلومين والمقهورين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً، وأمَّا المحاربين فقد قصَّت علينا الآثار ما وقع لسلفهم من حرج مع النَّاس يومها ، فإنَّه لـمَّا كان يوم مؤتة ، وأخذ الموتُ الأجلَّاءَ ؛ زيدَ بن حاثة وجعفرَ بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة – رضي الله عنهم – اصطلح النَّاسُ على خالد بن الوليد رضي الله عنه، فانسحب – رضي الله عنه – بمن بقي من المسلمين بعد أَنْ رأى غلبة العدوِّ، واختلال ميزان القوى، فلمَّا دخل الجيش المدينة، استقبله النِّساء والأطفال بالحجارة والهتاف؛ “يا فرَّار فررتم في سبيل الله”، فردَّ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بلْ هم الكُرَّار إِنْ شاء الله”. وقصَّت علينا الآثار أيضاً موقف الفاروق الملهم الرَّاشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الذي سمع بموت عدد كبير من الصَّحابة في معركة الجسر بقيادة أبي عُبَيْدٍ الثَّقفيِّ ، بكى عمر – رضي الله عنه – وقال كلمته الخالدة: “رَحِمَ الله أبا عُبَیْد! لو لم یستقتل وانسحب لکُنَّا له فئة، ولکنْ قدَّر الله وما شاء فعل”. لقد أظهرت ثورات الرَّبيع العربيِّ أفضل وأعظم ما في شعوبنا من خصائص ومواهب وخير، ولكن ما فتيئت الثَّورات المضادَّة أَنْ كشفت اللِّثام عن مستنقع من العلل والأمراض الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والدِّينيَّة، وهتكت الأستار على نخبةٍ من العملاء والأنذال من بني جلدتنا، وأظهرت لنا كيف أنَّ سنوات التِّيه والاستبداد أوجدت في شعوبنا القابليَّة للاستعمار والاستعباد والانقياد والاستغفال؛ نتيجة غياب المدنيَّة وآدابها، والثَّقافة ومؤسَّساتها، والمعارف وأعلامها، في مجتمعنا اللِّيبيِّ الطَّيِّب. وقد استطاعت القنوات الفضائيَّة والمخابرات العربيَّة إعادة تشكيل عواطف النَّاس وأفكارهم، وتوجيه مسارات اختياراتهم وأفعالهم، وسحرت أعين النَّاس واسترهبتهم، فجعلت من النَّذل مثقَّفاً، ومن العالم أحمقاً، ومن المصلح هادماً، ومن الرُّويبضة حاكماً، ومن المجرم صنديداً، ومن الفارس مجرماً، وسمَّت الأشياء بغير اسمها ولا وسمها، فانقلبت الموازين، وعمَّت الفوضى، وأمسى الحليم حيراناً، وفقد الأحرار مساحةً كبيرةً جدَّاً من حاضنتهم الاجتماعيَّة، وتقطَّعت جسور الثِّقة بينهم وبين النَّاس. لقد تشظَّى تيَّار الثَّورة المعتدل، ولم يتمكَّن من تجميع الصَّفِّ على رؤية واحدة وميثاق وطنيٍّ جامع – حتَّى كتابة هذه السُّطور على الأقلِّ – ونبتت فيه بعض العلل والمظاهر الخطيرة، واعتمد بعض الفضلاء في دعمهم لبعض الجهات على الشَّرعيَّة لا المشروعيَّة، وأهميَّة وجود مؤسَّسة شرعيَّة على أولويَّة قدرتها على الإنجاز وتقديم حلول حقيقيَّة، وعلت أصوات التَّخوين والتَّجريم، والتَّصويب على النَّوايا لكلِّ من اجتهد خارج السِّرب، وخالف ما اعتاده النَّاس، وطفح التَّشهير بالأخطاء والخطايا، وتصفية الحزازات الشَّخصيَّة، والانتقاص من بعض الشَّخصيَّات، تحت عناوين برَّاقة من اختلاف الرَّأي ومشروعيَّة النَّقد. إنَّ هذه الحروب وإِنْ كانت بين فريق مصيبٍ ومخطئٍ، إلَّا أنَّها حرب بين أبناء الملَّة الواحدة، والوطن المشترك، والنَّسب الواحد، وليست حرباً بين مؤمن ومشرك، أو سنِّيٍّ وخارجيٍّ، أو متَّبع ومبتدع، كما توصف جهلاً ومكراً. واستمرار هذه الحرب على هذه النَّحو، هو مزيد من تقطيع أواصر الرَّحم، ونسيج المجتمع، وتفاقم الثَّارات؛ لأنَّ مجتمعنا الليبي هو مجتمع يقوم في أساسه على رابطة الدِّم والقبيلة، ولا يهدأ المرء إذا رأى قاتل أخيه أو أبيه – ولو كان محقِّاً – دون أن يأخذ بثأره، أو تأخذ الدَّولة حقَّه، ولهذا استحسن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قول عُتبة بن ربيعة عندما قال لقومه من المشركين قبيل بدر محذِّراً: “والله لئن لقيتم المسلمين، لا يزال الرَّجل ينظر في وجه الرَّجل قتل ابن عمه أو أخاه أو رجلاً من عشيرته”. فقال عنه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: “إِنْ يكن في القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر؛ إِنْ يطيعوه يرشدوا”. فوقف طوفان الثَّأر، والثَّأر المقابل مقصدٌ شرعيٌّ وحقٌّ اجتماعيٌّ وواجب إنسانيٌّ، وستنتهي مآرب مسعِّري الحروب، وتتهاوى حججهم الواهية لإيقادها، ويعودوا رميماً تحت التُّراب، ولكنْ تبقى آثار حربهم وجراحها وآلامها بين النَّاس حيناً من الدَّهر. إنَّ تكاليف الشَّرع تقوم على ركني الطَّاعة والاستطاعة، وقد قضى الله بحكمته ورحمته أَنْ لا يكلِّف نفساً إلَّا وسعها وما آتاها، وخاطب المجاهدين وخفَّف عنهم عندما علم فيهم ضعفاً بقوله تعالى: “الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ”. وهي إشارة – في تقديري – إلى تعلُّق الأحكام بمآل حال المكلَّف، وبيان أقلِّ نصاب الفريضة والوجوب، وهذا أصلٌ في فقه السَّادة المالكيَّة، فقد روى ابن وهب عن الإمام مالك في الرَّجل يلقى عشرة، فقال: واسعٌ له أَنْ ينصرف إلى معسكره إِنْ لم تكنْ له قوَّة على قتالهم”. وروى أَشْهَب عن مالك عند تأويله لهذه الآية: “فكان كلُّ رجلٍ باثنين”. وروى عكرمة، عن ابن عبَّاس – رضي الله عنهما – أنَّه قال: فرض على المسلمين أَنْ لا يفرَّ رجل من عشرة، ولا عشرة من مائة، فجهد النَّاس وشقّ عليهم، ففُرِض عليهم أَنْ لا يفرَّ رجل من رجلين، ولا قوم من مثلهم؛ (فنقُص من النُّصرة بقدر ما نَقَص من العدد). وروى عطاء، عن ابن عبَّاس قال: “من فرَّ من رجلين فقد فرَّ، ومن فرَّ من ثلاثة لم يفرِّ”. وهذا الكلام هو في نوع الحروب الماضية، فكيف إِنْ كان الأمر يتعلَّق بحروب اليوم التي تتعلَّق بمنظومة دوليَّة متماسكة متكاملة متواطئة وموزَّعة المهام والأغراض في تراتبيَّة معقَّدة، وواهم من يظنُّ أنَّ ثوَّار الشَّرق يقاتلون رجلاً يحيط به أتباع، بل هم يواجهون دولاً متستِّرة، وجيوشاً متربِّصة، ومخابرات مندسَّة، وأساطين إعلام قذرة، … يستخدمون بني جلدتنا خنجراً للقتل، ومنشاراً للتَّقسيم، وأبواقاً لإثارة الفتن وتفريق المسلمين، ولا أبالغ في الوصف لو قلت: بأنَّ الغرب سيحافظ على موازين الحرب على نحوٍ غير محسوم، حتَّى لا ترجح كفَّة فريق على آخر، وذلك تحقيقاً لأكبر قدرٍ ممكنٍ من هدرِ دماء وأرواح اللِّيبيِّين من كلا الطَّرفين، وإنهاك اللِّيبيِّين، وتهيأتهم لقبول “أيِّ” نموذج للحكم، بل حتَّى الوصاية أو استعمارٍ مقنَّعٍ جديدٍ، طلباً للعيش الآمن على أيِّ نحوٍ. لقد استطاعت بعض الدُّول اختراق الهويَّة الدِّينيَّة لمجتمعنا اللِّيبيِّ التي تشكَّلت عبر سنين طويلة، على ما قاله ابن عاشر – رحمه الله – في متنه الماتع: “عقد الأشعريِّ، وفقه مالك، وفي طريقة الجنيد السَّالك”، وتمكَّنت بما تملك من إمكانات مادِّيَّة كبيرة، وآلة إعلاميَّة ضخمة، وخبرة أمنيَّة واسعة، أَنْ تزرع تيَّاراً دينيَّاً دخيلاً على مجتمعنا المسلم، وتمكِّنه من المنابر، وتطلق يده في المساجد والمؤسَّسات، فزاد من فتيل هذه الفتنة العامَّة، وبدَّع العلماء، وفسَّق الدُّعاة، وحيَّر الشَّباب، وساهم في التَّحريض على القتل، بل مارسه بشكلٍ مباشرٍ تحت مبرِّرات دينيَّة، وصاحب ذلك وجود قرارٍ “كونيٍّ” ودوليٍّ موحدٍ لاجتثاث التَّيَّار الوسطيِّ المعتدل، وتحجيم دوره، وتشويه دُعاته، وتجفيف منابعه، واغتيال رموزه جسديَّاً وأدبيَّاً، كلُّ هذا يحدث في وسط مجتمعٍ بسيطٍ لم يعرف يوماً الحياة الحزبيَّة، ولا يؤمن بأيِّ نظام أو تجمُّع إلَّا نظام السُّلطة الحاكمة، وتجمُّع القبيلة الحاضنة؛ فوفَّرت هذه الظُّروف وغيرها بيئة مناسبة لنجاح كيدِ هؤلاء، ونفاذ مخطَّطاتهم، وبلوغ أهدافهم. وبعد؛ فتلك عَشَرةٌ، لا أقول كاملة، بل هو الرَّأي والظَّنُّ، فمن وجد فيها نقصاً بسبب صحَّة الدَّليل أو حسن الاستدلال؛ فليسارع بتدوينه، وإلَّا فهي مقاربة أو مطارحة في الفكر السِّياسيِّ من منظور مقاصديٍّ أحببت طرحها بين يدي إخواني في هذا الظَّرف الحَرِج الذي تمرُّ به البلاد، وانطبع فيه الخطاب الدِّينيُّ بالحدِّيَّة والظَّاهريَّة، بل واستدرج في بعض الأحيان كي يكون قطباً في الصِّراع لا موئلاً وحكماً بين المتصارعين. والله أعلم، وعلمه أحكم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم. قونيا – تركيا الأربعاء 3 اغسطس 2016م.