د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
عادت إلى واجهة الأحداث أخبار قرار قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي. ويشير القرار الذي أعلنه الرئيس عباس في 25 تموز/ يوليو 2019 إلى تشكيل لجنة لتنفيذ القرار.
تشي اللغة القوية التي تحدث بها عباس بمدى الإحباط، الذي وصل إليه وفريقه، من مسار التسوية ومن الأمريكان والإسرائيليين، وبمحاولة التأكيد على جدية القيادة الفلسطينية الرسمية في رفض ما يسمى “صفقة القرن”، ورفض الإملاءات الإسرائيلية الأمريكية وسياسة الأمر الواقع وبناء الحقائق على الأرض، والتي أدت عملياً إلى انهيار “حلّ الدولتين” وتفريغه من مضامينه الأساسية. ويرتبط خطاب عباس كذلك بتأكيد أن الموقف الفلسطيني لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه عبر مسارات التطبيع، ومحاولة عزل الفلسطينيين والاستفراد بهم؛ وتأكيد قدرة الفلسطينيين على إفشال أي مخطط يستهدف “تسوية” أو “تصفية” قضيتهم على حسابهم، ودون تطلعاتهم، حتى لو كان “المتعهدون” حكومات وأنظمة عربية.
وبحسب عباس فـ”فلسطين ليست للبيع”، و”لن نرضخ للإملاءات”، و”لا سلام ولا استقرار في منطقتنا والعالم، دون أن ينعم شعبنا بحقوقه كاملة”.
إذا كان ثمة وقفات مع هذا القرار، فيمكن أن نلخصها فيما يلي:
الوقفة الأولى: أن القرارات الرسمية الفلسطينية المتعلقة بوقف التنسيق الأمني وتجميد الاعتراف بـ”إسرائيل” هي قرارات عديدة. وقد أحصى بعض الباحثين حسبما نقل الأستاذ معين الطاهر 58 قراراً وتصريحاً رسمياً فلسطينياً في هذا الشأن، خلال السنوات الماضية. وكان من أوائلها قرار المجلس المركزي الفلسطيني المنعقد في آذار/ مارس 2015 بوقف التنسيق الأمني. وكان من المحطات البارزة قرار المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في رام الله في الفترة 30/4 حتى 3/5/2018، والذي قرر تكليف اللجنة التنفيذية بتعليق الاعتراف بـ”إسرائيل” إلى حين اعترافها بالدولة الفلسطينية، ووقف التنسيق الأمني، والتحرر من بروتوكول باريس الاقتصادي. وبالتالي فالقرار ليس جديداً، وينضم إلى “أرشيف” كبير من القرارات المشابهة، التي لم تجد طريقها للتنفيذ، وتم توظيفها إعلامياً وسياسياً بصورة مؤقتة.
الوقفة الثانية: هي أن القرار يفتقر إلى آلية تنفيذ محددة، واللجنة التي تمّ الحديث عنها لم يحدد رئيسها ولا أعضاؤها ولا صلاحياتها ولا مداها الزمني.
الوقفة الثالثة: أن هذا القرار وكل القرارات السابقة، لم تُتبع بإجراءات عملية على الأرض. فبالرغم من أن عُمر قرار وقف التنسيق الأمني يزيد عن أربع سنوات، وتكرر عدة مرات، إلا أنه لم يُنفذ منه شيء على الأرض. وما زال الطرف الإسرائيلي ينعم بخدمات تنسيق أمني “خمس نجوم”، وما زال يعلن أن تعاون السلطة معه في مطاردة المقاومة أدى إلى إحباط عشرات العمليات والقبض على كثير من الخلايا… ثم إن قيادة المنظمة والسلطة التي تُحال إليها هذه القرارات “المُلزمة” لا تفسر لنا سبب تجاهلها لها على مدى أربع سنوات. وهو وضع يجعلها في مكان المساءلة عن أسباب تقصيرها وضعفها وترددها وتجاوزها لقرارات “المؤسسات التشريعية السيادية”، وليس في موقف تسويق “الأداء الوطني”…. بعد “خراب مالطة”!!
الوقفة الرابعة: دعا عباس في كلمته مرة أخرى لإنهاء الانقسام، وطالب بتنفيذ اتفاق القاهرة الموقع في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وهي دعوة يجب تشجيعها طالما تصب بشكل جاد في إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني. غير أن هذه الدعوة لم تخلُ من مغالطات ومن تعريض سلبي بحماس؛ حيث ادعى عباس أن حماس رفضت في لقاء موسكو في شباط/ فبراير 2019 الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، مضيفاً أن ذلك كان تساوقاً مع “إسرائيل” وأمريكا!!
فمن ناحية أولى يعلم عباس أن سبب عدم توقيع حماس على البيان الختامي للقاء موسكو مرتبط أساساً بتغيير نصوص البيان التي قام بها ممثلو فتح دون علم باقي الوفود. ومن ناحية ثانية يعلم أن حماس موافقة منذ سنوات طويلة على دخول منظمة التحرير والمشاركة في مؤسساتها بشكل “ديموقراطي تمثيلي” يعكس إرادة الشعب الفلسطيني، وأن الكرة في ملعب عباس وحركة فتح منذ إعلان القاهرة في آذار/ مارس 2005 مروراً بوثيقة الوفاق الوطني في حزيران/ يونيو 2006، واتفاق المصالحة في أيار/ مايو 2011. وأن عباس لم يأخذ إجراءً حقيقياً واحداً لشراكة فاعلة لحماس والجهاد الإسلامي وغيرها في منظمة التحرير ومؤسساتها. كما يعلم من ناحية ثالثة أن “التساوق” مع الإسرائيليين والأمريكان هو في الأساس تساوق من خاض مسار التسوية واعترف لـ”إسرائيل” بمعظم فلسطين، وأوقف العمل المقاوم وطارده، وألغى الميثاق الوطني الفلسطيني؛ وليس تساوق المقاومة المسلحة “المغضوب عليها” و”المحاصرة” والموصوفة بـ”الإرهاب” من الإسرائيليين والأمريكان وحلفاؤهم. وأن سبباً رئيسياً لتعطيل المشاركة الفاعلة لحماس والجهاد في المنظمة هو أن سقفها أعلى بكثير من سقف قيادة السلطة وفتح، وأن هناك فيتو أمريكي إسرائيلي عليها.
الوقفة الخامسة: إذا كان ثمة جدية من طرف عباس وقيادة المنظمة والسلطة في مواجهة “صفقة القرن” وتحقيق وحدة وطنية فلسطينية فعالة، فإنهم المطالبون أولاً (ما دامت القيادة الرسمية بأيديهم) أن يقوموا بعدد من الإجراءات، أولاها التوقف عن مجموعة القرارات والإجراءات التي اتخذوها على مدار العامين الماضيين، والتي زادت من توتير وانقسام الساحة الفلسطينية، وأدت حتى إلى انفضاض فصائل منظمة التحرير عن فتح وسياساتها. ويدخل في ذلك العقوبات على قطاع غزة، وحل المجلس التشريعي الفلسطيني، وتشكيل حكومة فتحاوية حزبية، بالإضافة إلى متابعة سياسة الهيمنة والاستئثار بصناعة القرار الفلسطيني، والإصرار على الاستمرار في التحكم بمؤسساته التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن توظيف الصندوق القومي الفلسطيني لأغراض الضغط والابتزاز السياسي.
وعلى الرئيس عباس وقيادة السلطة أن تتوقف عن “إدارة” المصالحة وعن “الانتقائية” في اختيار ما تريد تنفيذه وما لا تريد تنفيذه. فالمصالحة الموقع عليها منذ 2011 ليست مجرد تسليم المقاومة لقطاع غزة؛ بل هي أوسع وأشمل من ذلك بكثير، وفيها مجموعة من الخطوط المتوازية التي يجب أن تُنفذ كرزمة واحدة… وعلى رأسها مسار منظمة التحرير، التي يُصر عباس على الحديث عن شرعيتها وتمثيلها، دون أن ينظر إلى حالتها البئيسة التي تسبب هو وقيادته في وصول المنظمة إليها، سواء في مؤسساتها المهترئة، وانزوائها الشعبي، وغيابها عن صناعة الأحداث، ووجودها في غرفة الإنعاش، مع تعطيل أي إجراءات حقيقية لإعادة بنائها وتفعيل مؤسساتها.
أما إذا كان ثمة حديث جاد عن وقف العمل بالاتفاقيات مع العدو الإسرائيلي، ووقف التنسيق الأمني، وسحب الاعتراف بـ”إسرائيل”؛ فإن هذا يعني مجموعة من الاستحقاقات الكبرى أبرزها إعادة تعريف (أو إنهاء) السلطة الفلسطينية، وبناء استراتيجية فلسطينية جديدة على برنامج سياسي جديد، يتجاوز مسار التسوية واتفاقات أوسلو السابقة. وهذا قد يفتح فرصاً كبيرة لترتيب البيت الفلسطيني ولانضمام حماس والجهاد وقوى المقاومة لمنظمة التحرير وإعادة بنائها على أساس العودة للثوابت. وهو ما يفتح في الوقت نفسه مجموعة من التحديات والمخاطر نتيجة التموضع الجديد المحتمل. وهذا يستدعي مجموعة من ورش العمل والخطط التي يشارك في إعدادها خبراء ومختصون أَكْفاء، لوضع البدائل والمسارات الأنسب لإدارة المرحلة، ومتابعة استراتيجية المقاومة والتحرير.
أما متابعة التصريحات والتعبير عن “القهر” وتفريغ المشاعر، والتهديدات الكلامية… فلا تفيد إلا في مزيد من الإحباط… وفي مزيد من انهيار الثقة بالقيادة السياسية الفلسطينية، والشعور بضعف كفاءتها، وعدم ارتقائها إلى مستوى المرحلة. كما سيصب أكثر في لا مبالاة وسخرية واستخفاف الأمريكان والصهاينة بهكذا قيادة فلسطينية.