يثار في هذه الأوقات جدل عريض بين مكونات الثورة السورية، و تتباين المواقف فيه إلى درجة جعلت تلك المكونات تبتعد عن ثوابتها، و تخبط في مواقفها، و تصبح أقرب إلى الخصومة فيما بينها، بدلا من المواقف المشتركة، التي تحتم عليها العمل المشترك. تجاه عدو يتأذنها بالحرب، بل و توجب عليها فضّ مابينها من خصومة. استعدادا لتلك المواجهة التي كانت و لاتزال الأكثر دموية في التاريخ.
و الغريب في هذه المسألة أن تسارع شخصيات سياسية و إعلامية و اجتماعية لتكون طرفا في الخصومة الدائرة بين تلك المكونات و أن تلحق بها شخصيات أخرى من أهل العلم الديني، لتكون بمثابة المضاف إلى هذه الخصومة، و لتسبغ الشرعية على بعضها، مع أنها جمعيا في حمأة الخصومة تفقد شرعيتها، و تصبح جهودها جميعا أكثر ضررا بالسوريين، الذين وجدوا أنفسهم و بعد ست سنوات من الاقتتال الدامي في موقف لايحسدون عليه، و قد صبت أفعالهم جميعا في خانة عدوهم، و أصبح جهدهم بمثابة الجهد المضاف لكل مافيه القضاء على الثورة مع العلم أن المعارك في سورية ذهبت إلى أبعد ماكان متصورا قبل قيام الثورة و أن سورية اليوم تخضع لمخططات ثلاثة، هي اليوم قيد التنفيذ، و هذه المخططات باختصار:
- مخطط التقسيم: حيث تتعرض سورية لتنفيذ مخطط التجزئة الذي يضطلع به التحالف الدولي( ينظر المشروعان الصهيوني الصليبي و الصفوي الإيراني الذي سبق نشرها في مركز أمية) و المشروع الصهيوني الصليبي هو الذي يوضع اليوم موضع التنفيذ، و هو الذي تتولى كبره اليوم الولايات المتحدة الأمريكية، ناسية أو متناسية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته في الأربعينيات، و كذلك مصالحها القومية في المنطقة فضلا عن مصداقية سياستها التي توضع على المحك اليوم.
- مخطط تغيير البنية الديموغرافية في سورية: وهذا المخطط أكثر خطورة من سابقه فهو يدخل سورية كلها في خانة حرب إبادة. و ماجرى في حلب و الوعر و القصير و مضايا و الزابداني و داريا، و ماتتعرض له حاليا الغوطتان الشرقية و الغربية يقيم الدليل على المضي قدما من أجل ذلك المخطط الذي تتولى كبره إيران الصفوية و روسيا الصليبية فضلا عن النظام الذي من أهدافه القضاء على مكوّن العرب السنة في سورية كلها، و قد مضى عليه أكثر من نصف قرن و هو يخطط لذلك. و طائفية الجيش، و إثارة المعارك الجانبيةمع الإسلاميين يعًدان مقدمة لماجرى و لما يجري على الساحة السورية منذ الثامن من آذار سنة 1963م، و إلى اليوم.
- مخطط استبدال الهوية السورية. و هي هوية عربية إسلامية بأخرى تفترض العداء مع الهوية العربية الإسلامية حيث يراد لسورية أن تكون دولة ديمقراطية علمانية متعددة الأجناس و الأعراق فيدرالية تقوم على اللامركزية، و تجعل من الجنس العربي مدانا و متهما و موضوعا تحت المراقب وذلك للقضاء و بشكل دائم على الحراك الثوري الذي قد ينطلق في سورية حتى بعد الترتيبات النهائية التي يراد لها أن تكون حاكمة و دائمة و مصيرية.
و عودا على بدء، تكون المكونات المختلفة و المتحالفة فيما بينها على الساحة السورية مع من ناصرهم، بحكم المخطئ الذي يتحمل مسؤولية مايحدث في سورية كلها. فليس أخطر من الاقتتال بين الإخوة و من الاختلاف و التنازع الذي من شأنه أن يذهب ريح الجماعة، و أن يمكن عدوها منها ففي الحديث الشريف” إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل و المقتول في النار.” قالوا يارسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول ؟! قال: إنه كان حريصا على قتل أخيه”
وفي تقديرنا أن هذا الحديث يتضمّن مجموعة من الأفكار التي يجب أن تعرف بالضرورة. و هذه الأفكار:
أولها- تقول بحرمة الدم المسلم.فـ” كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه و ماله و عرضه.” بل هدم الكعبة حجرا حجرا أهون عند الله من قتل امرىء مسلم.”
و ثانيها- تقول: بالمسؤولية المشتركة، حين الاقتتال بين المسلمين. فالمسلم لايحق له بحال من الأحوال أن يبادر إلى قتال أخيه المسلم. و هذا لعموم اللفظ، لقوله صلى الله عليه وسلم.” فالقاتل و المقتول في النار.
و ثالثها تقول: بضرورة أن يكون المسلم أحرص على سلامة أخيه المسلم.، فهو لايظلمه و لايخذله؛ إذ أن حرصه على قتله يوقعه في غضب الله سبحانه؛ و هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إنه كان حريصا على قتل أخيه.
و هذا هو الذي يجب أن يخاف منه المجاهدون بعامة.
إن هذه الأفكار العامة توقفنا أمام حقائق ثلاث كل واحدة منها مقدمة لسابقتها.
الحقيقة الأولى- تتعلق بشمولية النظر في الإسلام . و الذين تخطوا هذه الحقيقة إلى الجزئيات. فجعلوا منها أصولا يحتكم إليها. قد يكونون ممن رتعوا في الفتنة- و العياذ بالله- و هذا يأتي في سياق قوله تعالى.” و اتقوا فتنة لاتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة.”
الحقيقة الثانية- تتعلق بالاحتكام في المسألة. و الاحتكام في المسألة فتوى. و الفتوى التي تقدر زمانا و مكانا و نصا تتطلب فهما عاما يتصف بالخصوصية و الشمولية معا. و هاتان الصفتان جعلتا كثيرا من العلماء يهربون منها. لخوفهم من تبعاتها؛ كأن يجانبهم الصواب، أو أن يشعروا أن مالديهم من ذخيرة، لايكفي لحل الإشكال في المسائل المعضلة. و المشاكل السورية اليوم تتطلب النطاسي الحكيم الأكثر! إحاطة بأسبابها و بواعثها و ماتنطوي عليه من خطورة، و بمايجب أن تقوله تجاهها.
الحقيقة الثالثة- تتعلق بالترجيح وقوانينه، و بفقه المستجدات ، و بفقه المصالح المرسلة. التي يجب أن يعرفها بالضرورة الذين يتصدرون للفتوى سيما في أوقات الفتن، التي يكثر فيها الدخن و ينتشر فيها الغبش، و يشيع فيها المنكر الذي قد يغدو عند بعضهم مستحبا.
وقد يكون واقعنا اليوم هو الأقرب إلى هذا التوصيف.فبأي سنلاقي الله، وقد أفتى بعضنا بقتل بعض. بل وأجاز الاقتتال أخذا بظاهر الأية من قوله تعالى:” و إذا بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله” ناسيا أن العدو واحد و أن المسلمين بعامة يتعرضون لمؤامرة كبرى صليبية صهيونية و صفوية إيرانية، و أن الجميع يضمهم تحالف دولي، و أن هذا التحالف لم و لن يفرق بين زيد أو عبيد منهم، إلا بقدر استعداده للتبعية و التعاون، ضد إخوانه المسلمين.
فهل فقه ذلك الفقهاء..؟
وهل علم ذلك العلماء..؟
وهل عرفه العارفون ممن يرون بنور الله.؟ أم لازلنا بعد في حاجة إلى أن يفتح الله على بصائرنا فنكون من أهل التقوى فيما نذهب إليه من فتوى، و أن نحاذر الانسياق وراء مخططاتهم، و أن تكون جهدا مضافا إلى جهودهم التي تعد عدوة بامتياز، و التي يجب أن نخشاها، و أن نبتعد عنها، و أن نعمل ضدها، بمحض الفهم و العلم و المعرفة الواسعة، و ليس بالآراء المجزوءة التي لم و لن تأتي بخير.
و إذا ماعدنا إلى التاريخ فسنجد مثلا و عبرة. ففي النصف الثاني من القرن الخامس الهجري الخلاف ذر قرنه بين ملوك الطوائف و قد أصبحوا إلبا على بعضهم، و بعضهم كان لا يتورع أن يعقد التحالفات مع أعدائه ضد أبناء ملته. و قد بلغ بهم الأمر أن أخذت قوات ألفونسو السادس تجتاحهم ولاية بعد ولاية و مدينة بعد أخرى إلى أن وصلت أشبيلية كبرى ممالك الطوائف فاستنجد زعيمها المعتمد بن عباد الأشبيلي بزعيم المرابطين في المغرب يوسف بن تاشفين الذي سرعان مالباه و تقدم بجيشه الضارب، و هزم ألفونسو في معركة الزلّاقة المشهورة. و التي قال بعدها المؤرخون إن ابن تاشفين مد بعمر الإسلام في الأندلس أربعة قرون و بعد عودة ابن تاشفين إلى المغرب عادوا إلى سياساتهم القديمة و بعضهم أخذ ينسق مع الأسبان، وقد تعاهدوا معهم على أن يقاتلوا ابن تاشفين مشتركين فيما لو عاود اقتحام الجزيرة مرة ثانية. و لما علم ابن تاشفين بالخبر أرسل إلى بغداد يطلب الفتوى هل يجوز قتال المسلم المسلم، و كان صاحب الفتوى أبو حامد الغزالي ت 505هـ. فكانت فتواه:” أن إذا ثبت تعاون المسلم مع الكافر جاز قتاله.” فبأي آلاء ربك تكذب بعد، أيها المتآمر على بلده، الذي أشعل نارا بينه و بين إخوانه بل وقبل أن يكون ظهيرا و تابعا لأعدائه، ينفذ سياساتهم على وفق مخططاتهم، و يجري خلفهم، و يأتمر بأمرهم، و هو يعرف حق المعرفة أن بئس المصير ينتظرهم جميعا، إن لم يكن اليوم فغدا.