د.ياسين أقطاي
لا بد من مزيد من التقييم حول لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الأمريكي جو بايدن، ضمن قمة زعماء حلف الناتو في بروكسل مؤخرًا، لا سيما وأن نتائج اللقاء كانت عكس ما توقع الجميع بأن تكون سلبية ومتوترة.
يمكن النظر لهذه النتائج في الواقع على أنها أول علامة على تموضع جديد في كل من العلاقات التركية-الأمريكية من ناحية، ونظام العلاقات الدولية الجديد لدى تركيا من ناحية أخرى.
وبالمناسبة يمكن كذلك حتى في العلاقات الدولية بين الدول بشكل عام أن تحدث بعض التغييرات الجذرية في وقت أقصر بكثير مما كان متوقعًا.
إن مسألة تسليم إدارة مطار حامد كرزاي في العاصمة الأفغانية كابل لأنقرةن بعد انسحاب القوات الأمريكية، هي نتيجة للتقييمات الطويلة حول الفرص والإمكانيات الحالية لدى تركيا.
لقد ذكرنا سابقًا أن تركيا على الرغم من أنها كانت في أفغانستان ضمن حلف الناتو، إلا أن نظرة الشعب الأفغاني لها تختلف تمامًا عن نظرته أو تعامله مع بقية قوات حلف الناتو الأخرى.
لقد رحب الشعب الأفغاني وحتى طالبان كذلك بالجنود الأتراك، وكأنهم مستقلون عن حلف الناتو تمامًا، بل تعاملوا معهم كجنود من شعب شقيق ودولة شقيقة، ولا يزالون يتعاملون على هذه الأساس.
ولا شك أن هذا الموقع الذي تحظى به تركيا يعتبر فرصة لا تحظى بها أي قوة بحلف الناتو أو أي جهة فاعلة هناك. وبالطبع يرجع ذلك إلى الجذور والروابط التاريخية بين تركيا وأفغانستان من جهة، إضافة إلى أن سجلها التاريخي خال من أي ممارسات سلبية بحق هذا الشعب عبر التاريخ مقارنة مع بقية الفاعلين هناك. ولذلك نجد أن هناك دولًا هي أقرب لأفغانستان جغرافيًا أو عرقيًا إلا أنها لا تتمتع بمثل هذا التقارب على الإطلاق.
إن تركيا قريبة للغاية من أفغانستان على الصعيد الثقافي والروحي، وعلى الرغم من أنها ليست قريبة منها بشكل جغرافي؛ لكن ذلك بحد ذاته يعتبر ميزة حين الحديث عن جغرافي يمكن أن يؤدي دائمًا إلى حدوث صراعات.
وبالطبع لا يتوقف الوجود التركي في أفغانستان خلال المرحلة المقبلة على ذلك فحسب، بل هناك سمة مشتركة في جميع العمليات خارج الحدود التي نفذتها تركيا في الأونة الأخيرة، وتعتبر هذه السمة المشتركة هي الأهم في الوجود التركي في العديد من المناطق؛ وإن هذه السمة هي إرساء “الاستقرار” في المناطق التي تدخلها، على العكس تمامًا من الأداء الذي يمثله بقية الفاعلين الدوليين.
كل مكان تدخله تركيا سرعان ما تبدأ الحياة في العودة إلى طبيعتها وتبدأ مرحلة استقرار ملموسة.
في سوريا، يعيش الآن ما لا يقل عن 5 ملايين من أبناء الشعب السوري في أمان واستقرار ضمن المناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا مع عملية درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، في بلد يعيش فوضى غير مسبوقة.
في قطر، كان توقيع تركيا على اتفاقية التعاون الأمني المشترك مع قطر، بمثابة تنبيه “قف” لأي نوع من أنواع الفوضى التي كان يمكن أن يشهدها الخليج. وبهذه الطريقة تمكنت دول الخليج الآن من رسم ملامح مرحلة جديدة كادت أن تكون مغلقة تمامًا.
في الصومال، من خلال العمليات الشهيرة التي قامت بها تركيا هناك أحيت دولة من العدم وأعادت لجميع مؤسساتها الروح من جديد كي تنهض على رجليها، بل أعادت دمج الصومال في المجتمع الدولي بعد أن كان ينظر لها كمركز للإرهاب.
في ليبيا، حينما جاءت تركيا إلى هناك بدعوة رسمية من قبل الحكومة الشرعية المنتبخة، لمواجهة الإرهاب الذي تسبب به الانقلابي حفتر مقاول الجرائم ضد الإنسانية في ليبيا؛ بات من الممكن اليوم الحديث عن بلد مستقر يمكن أن يدخل في عملية انتخابية. ولو أن تركيا لم تدخل على خط الصراع لكانت ليبيا الآن مرتعًا للحرب الأهلية الشاملة أو تحت طغيان الانقلابي وأمراء الحرب الذي أرهبوا الجميع. لكن ليبيا اليوم قد دخلت في عملية ديمقراطية مستقرة يمكن أن تحدد من خلالها مستقبلها.
وفي أذربيجان، يمكن أن نقول الشء ذاته أيضًا. حقبة من 30 عامًا من الاحتلال الأرمني تنتهي على الفور بفضل دعم تركيا المباشر، وبفضل ذلك يمكن الآن الحيدث عن تعاون إقليمي ونظام استقرار بمشاركة 6 دول بما فيها أرمينيا.
من جميع هذه الأمثلة يتضح جليًّا أن تركيا لا تسعى على الإطلاق لاحتلال أي منطقة من هذه المناطق والاستقرار فيها. بل كل ما تسعى إليه هو تحقيق اسقرار في تلك المناطق وتسليمها لشعبها آمنة غير مقسّمة. من الواضح جدًا أن تركيا تلعب دورًا بناء في تأسيس نظام يضمن الأمن والاستقرارن ويمكن للجميع أن يرى ذلك.
ولذلك السبب كان النموذج السياسي الذي أثبتته تركيا على الأرض في تحقيق استقرار ملموس، وراء جعل بايدن يصل بهذه السرعة إلى هذه النقطة من الاتفاق على بقاء تركيا في أفغانستان، حينما التقى أردوغان، على الرغم من موقفه السلبي سابقًا إزاء أردوغان.
أما محاولة النظر إلى ذلك على أنه عقد مقاولة تسلمته تركيا، فهي نابعة من نظرة غير قادرة على رؤية الجوانب الفعالة والمناسبة للمهمة التركية في هذه الصفقة.
هذا لا يعني على الإطلاق أن تركيا تخلت عن سعيها لتحقيق الاستقرار ووحدة الأرض وتسليم المناطق لأهلها وشعبها في كل ركن من أركان العالم الإسلامي. وذلك فإن تركيا تؤسس علاقاتها الدولية وأطر التعاون والتضامن على هذا الأساس.
تركيا بلد يستمثر في السلام لا في الحروب. ولو أن تركيا لم ترى نفسها مضطرة للدخول في مناطق الصراع لم تكن لتدخل. ولأن اقتصادها يعتمد على التصدير يتعين عليها دائمًا أن تستثمر في السلام والاستقرار ضمن سياستها الخارجية. ويعتبر ذلك ميزة وسيلة لنباء موقع خاص لتركيا ضمن النظام العالمي الجديد الذي يتوق إلى بعض الاستقرار.
وللحديث بقية..