بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
استنتاجات خاطئة:
الذين يرون أن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً من المنطقة (خصوصاً المشرق العربي) مخطئون. والذين يسوقون باراك أوباما وسياسته في المنطقة كـ”بطة عرجاء“ يجانبهم الصواب. والذين يصفون السياسة الأمريكية في المنطقة بالضعف والترهل، يبدو أنهم استعجلوا في استنتاجاتهم غير الصحيحة.
ما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة لا يعبِّر بالضرورة عن فشل أو عجز أو ارتباك؛ وإن قراءة متأنية للسياسة الأمريكية وعملية صناعة القرار فيها… تشير إلى أن المصالح العليا لم تختلف… وتوجيه مسار الأحداث الكلية بما يخدم السياسة الأمريكية لم يختلف… وأن محصلة تدخّل القوى الأخرى (بمن فيها الروس)… لا تبعد في النهاية عن الصبِّ في ”الطاحونة الأمريكية“!!
كل ما فعله أوباما هو أنه غيَّر أسلوب التعامل الأمريكي مع المنطقة من أسلوب التدخل الغليظ الدموي المباشر والمكلِّف إلى تحقيق المصالح نفسها من خلال أدوات القوة الناعمة… وبتكاليف أقل… وربما بنتائج أفضل… وهو ما حاول تنفيذه من خلال ”الإدارة الذكية للنزاع أو للصراع“ أو بالإنجليزية Smart Management of Crisis.
والملاحظة الثانية أن بعض الذين يتهمون أمريكا بالضعف والتردد يحاكمونها على أساس أنها القوة العظمى التي من واجبها أن تفرض الأمن والاستقرار ”في مناطق نفوذها” التقليدية. ولكن، مَنْ قال إن أمريكا في هذه المرحلة معنية بتحقيق الاستقرار، وفي المشرق العربي، وخصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة أو الكيان الصهيوني؟!… (العراق، وسورية، ومصر…). وإذا كانت أمريكا تريد تحقيق شكل من أشكال الاستقرار، فليس بالضرورة ما تريده هو استقرار يخدم تطلعات أهل المنطقة وشعوبها في الحرية والنهضة والتنمية؛ وإنما تريد استقراراً مبنياً على خدمة مصالحها، حتى لو كان قائماً على معادلات هشَّة طائفية وعرقية، أو أنظمة قمعية، أو أنظمة تابعة تدور في الفلك الأمريكي الغربي.
هذا المقال يركز فقط على العراق نموذجاً (ويتبعه مقال ثانٍ حول السياسة الأمريكية في سورية)، ويحاول أن يحدد حقيقة المنظور الأمريكي وممارساته تجاهها… وهو يرى أن أمريكا جاءت بعد نحو مائة عام على سايكس بيكو لتختط حدوداً ليست على الخرائط، وإنما حدوداً ترتفع فيها جدران الكراهية والدم، في مأساة وملهاة يشارك أبناء المنطقة أنفسهم في صناعتها!!
المصالح القومية الأمريكية:
تركز الاستراتيجية الأمريكية الدولية على المحافظة على الهيمنة الأمريكية على العالم، والبقاء كقوة عظمى وحيدة لأطول فترة ممكنة (عسكرياً، واقتصادياً، وعلمياً وتكنولوجياً…)؛ وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً للمصالح الأمريكية. وهي بشكل عام استراتيجية تتميز ببراجماتية ومرونة عالية، وقدرة كبيرة على التكيف.
وضمن هذه الاستراتيجية، وبعيداً عن الاستغراق في تصنيفات ومدارس السياسة الخارجية الأمريكية (انعزالية، وليبرالية، ومحافظة… بدرجاتها وتداخلاتها المختلفة)، فإن ثمة خطان رئيسيان يتنازعان هذه السياسة. الأول يعطي وزناً أكبر للأمن والقوة، ويعّد نفسه ممثلاً لقيم الحرية، ويميل لفاعلية أكبر في التدخل المباشر في النزاعات الخارجية ولو باستخدام القوة العسكرية، لفرض النُظم والمنظومات التي يراها متناسبة مع قيمه ومصالحه، وبما يليق مع الولايات المتحدة كقوة أولى عالمياً. أما الاتجاه الثاني فيعطي وزناً أكبر ”للقوة الناعمة“ في التغيير، ويسعى لإصلاح النظام العالمي، ويركز على آليات التفاوض والاتفاقات، ويُسوِّق اهتمامه بالتنمية وحقوق الإنسان، ويعطي اعتباراً للقوى المحلية وثقافاتها، ولاحترام الخصوصية والتعددية. ولا يميل للتدخل العسكري إلا إذا تعرضت المصالح الأمريكية العليا للخطر.
وعادة ما يتركز أتباع الاتجاه الأول في الحزب الجمهوري، وأتباع الاتجاه الثاني في الحزب الديموقراطي.
وعلى هذا، فإن هناك تقلُّباً بين هذين الاتجاهين، خاصة عندما يحصل الفشل لدى أي منهما… ومثال ذلك حلول رونالد ريجان ”القوي“ مكان كارتر الذي يركز على القوة الناعمة… وحلول أوباما الذي يركز على القوة الناعمة مكان بوش الابن الذي لجأ للقوة في أفغانستان والعراق… غير أن هاتان الثنائيتان لا تخرجان عن الغاية النهائية في خدمة المصالح الأمريكية العليا.
أما الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط فتتلخص في:
1. الحفاظ على ”إسرائيل“ وأمنها كقوة إقليمية عظمى، وباعتبارها حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة.
2. الهيمنة على مناطق البترول لتأمين احتياجات أمريكا وحلفائها، وكأداة ضغط في الاستراتيجية الدولية.
3. تأمين خطوط الملاحة والتجارة الدولية في المنطقة، بما في ذلك مضائق وممرات هرمز والسويس وباب المندب.
4. دعم النظم السياسية الموالية أو ذات العلاقة الجيدة معها.
5. ضبط وتحديد أدوار ونفوذ نظم المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية، أو بما لا يتعارض معها على الأقل.
6. الاستفراد بالهيمنة على المنطقة ومنع أي قوة كبرى من المنافسة، إلا ضمن هامش لا يضر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية (بما في ذلك روسيا).
مبررات احتلال العراق:
لم تخرج السياسة الخارجية الأمريكية في العراق طوال الخمس وعشرين سنة الماضية عن المراوحة بين خطي الإضعاف والتفتيت. فبعد التدخل العسكري المباشر بقيادة جورج بوش الأب لضرب القوات العراقية وتحرير الكويت 1991، تابع الرئيس كلينتون (كانون الأول/ يناير 1993 – كانون الأول/ يناير 2001) سياسة إضعاف وإنهاك العراق بقصد إسقاط نظام صدام حسين بالطرق ”الناعمة“ مستخدماً أساليب الحصار والعقوبات الدولية، كما تابع توفير الحماية الجوية، ومنع استخدام الطيران العراقي في مناطق التَّركُز الكردي في شمال العراق. ثم جاء جورج بوش الابن ليعود للخط الأول في استخدام التدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام، وفرض بيئة تفتيت داخلي عليه، ثم لحقه أوباما ليتابع خط كلينتون في الإضعاف بالوسائل الناعمة مع تخفيف الأعباء العسكرية والمالية.
خط الإضعاف الذي اتبعه كلينتون في العراق لم يكن إنسانياً ولا رحيماً ولا منطقياً في معاقبة الشعب العراقي وتدمير اقتصاده. وعلى سبيل المثال، ففي مقابلة لوكيل وزارة الخارجية العراقية رياض القيسي مع قناة الجزيرة في 1/6/2001، قال إن معدل نصيب الفرد العراقي من الأموال التي سمحت الأمم المتحدة بصرفها (طوال السنوات الخمس السابقة) كان 125 دولاراً للفرد سنوياً. مع العلم أن الأمم المتحدة، مثلاً، استوردت لمعالجة موضوع الألغام في شمال العراق 28 كلباً صرفت على إطعامهم 33 ألف دولار خلال 11 شهراً، أي أن معدل إطعام الكلب الواحد كان حوالي 1,286 دولار سنوياً أي أكثر من عشرة أضعاف المصروف الذي سمحت به للفرد العراقي. لقد عوقب الشعب العراقي وجرت محاولات لإهانة كرامته وإذلاله، تحت شعار معاقبة النظام الذي تمكن من تكييف نفسه ومن الاستمرار حتى وقوع الاحتلال.
بعد تولي بوش الابن الرئاسة الأمريكية، حدثت نقلة نوعية في استراتيجية التعاطي الأمريكي مع المنطقة، فقام مدفوعاً بمدرسة ”الأمن والقوة“، ومحاطاً بتيار المحافظين الجدد المهيمن على السياسة الخارجية، ومستغلاً بطريقة فجة الأوضاع الناتجة عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ليطبق أجندات خاصة، ليس لها أي علاقة بالأحداث ذاتها. وكان احتلال العراق أكبر مثال على ذلك.
الحجتان الرئيسيتان اللتان سعت الإدارة الأمريكية لتسويقهما لتبرير احتلال العراق كانتا:
1. حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، أو على الأقل قيامه ببرنامج لحيازة هذه الأسلحة بما يخالف التزاماته الدولية، وبما يشكل تهديداً على دول المنطقة.
2. دعم النظام العراقي للإرهاب؛ وإيواء الإرهابيين.
في 6/7/2016، أعلنت نتائج تقرير جون تشيلكوت الخاص بالمسؤولية عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق، والذي يؤكد على كذب الأسباب المعلنة لاحتلال العراق، وأنها واهية أو منعدمة، ويتضح من التقرير أن المطلوب لم يكن مجرد استهداف صدام حسين ونظامه، وإنما العراق نفسه، دون أسباب حقيقية معلنة. ولكن لم تظهر مطالبة جادة بمحاسبة ومعاقبة من كذبوا وقاموا بالحرب ودمروا العراق. ولم يحدث التقرير الأثر والضغط الإعلامي الكافي لمحاسبة المسؤولين، حيث سيدفن كغيره من التقارير.
لقد ثبت قطعاً كذب الادعاءات الأمريكية بشأن وجود أسلحة دمار شامل في العراق. أما حكاية دعم الإرهاب… فقد كان واضحاً أنها مجرد فقاعة إعلامية… فالنظام العراقي لم يكن فيه أحد من تنظيمات القاعدة أو ما شابهها… وكان أحد أنجح الأنظمة في قمع تيارات ”الإسلام السياسي“…. ولم يخرج منه شخص واحد ليشارك في هجمات 11 سبتمبر… أو في الاعتداء على المصالح الغربية…. إذاً، فالسؤال ببساطة إذا كان هذان السببان غير صحيحان وادعاءان كاذبان… فلماذا قامت أمريكا باحتلالها للعراق؟!
تهاوي المبرر الاقتصادي:
اتجهت معظم التحليلات التي رفضت المبررات الأمريكية للاحتلال إلى أن الجانب الاقتصادي المتمثل في السيطرة على ثروات العراق وخصوصاً النفط ونهب خيراته، هو السبب الحقيقي للاحتلال… وما تزال هذه المدرسة هي الأكثر رواجاً حتى أيامنا هذه. غير أن قراءة متأنية لتكاليف الحرب الأمريكية على العراق تكشف أن النفقات والخسائر المالية الأمريكية كانت أكبر بكثير من حصول الأمريكان على النفط العراقي ولو بأسعار تفضيلية أو شبه مجانية!! ومع ذلك فالإدارة الأمريكية لم تنهب نفط العراق، كما لم تهبط أسعار النفط في أثناء احتلال الأمريكان للعراق.
من جهة أخرى، فقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية أن نفقاتها المباشرة على الحرب في الفترة 2003-2010 بلغت نحو 758 مليار دولار. أما الدراسة التي أعدها معهد واتسون للدراسات الدولية في جامعة براون (وهي جامعة أمريكية) فقد أظهرت أن تكاليف الحرب للفترة نفسها تزيد عن 1,100 مليار دولار، أي بما معدله ملياران و640 مليون دولار أسبوعياً. الخبير الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، أعد بالتعاون مع ليندا بيلميز من جامعة هارفارد، دراسة قالت إن تكاليف الحرب على العراق ستكلف الاقتصاد الأمريكي نحو ثلاثة تريليونات دولار (ثلاثة آلاف مليار) في المعدل المتوسط، وبأرقام متحفظة.
وأشارت وحدة البحوث في الكونجرس الأمريكي إلى أن تكاليف الحرب على العراق ستصل إلى نحو تريليون و700 مليار دولار في سنة 2017، بما في ذلك جوانب الرعاية الصحية للجرحى والمصابين من الجنود الأمريكان وفوائد القروض… وغيرها.
وقبل أقل من أسبوع من العدوان على العراق (آذار/ مارس 2003)، أعلن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني أن الحرب في سنتها الأولى ستكلف ثمانين مليار دولار، وأن هناك حاجة لإنفاق نحو عشرين مليار دولار على مدى سنتين ليتعافى الوضع في العراق، غير أنه لم يتحدث عن تكاليف بقاء الجيش الأمريكي في العراق. فهل تعمد عدم التحدث عن تكاليف البقاء المحتملة للجيش حتى لا يؤثر سلباً على الرأي العام الأمريكي، أم أن سوء التقدير بلغ به أنه لم يكن يتوقع البقاء لأكثر من سنتين في العراق؟!
ربما ساعد الحصول على النفط العراقي بأسعار تفضيلية، وعقود إعادة الإعمار في العراق، وحتى دفع دول المنطقة لشراء الأسلحة الأمريكية… في خدمة الاقتصاد الأمريكي… ولكنها كلها عوامل غير كافية لتبرير احتلال العراق، ودفع تلك الأثمان الهائلة… فيما يبدو استثماراً خاسراً.
إذاً، لا مكاسب اقتصادية من الحرب على العراق… بل تكاليف هائلة أسهمت بشكل أو بآخر في الإضرار بالاقتصاد الأمريكي… وصرفت الناخب الأمريكي لاختيار المرشح الديموقراطي أوباما.
الأبعاد الجيوستراتيجية والخلفيات الدينية والثقافية:
ما هو أقرب للصحة أن الخلفية الدينية والثقافية للمحافظين الجدد الذين أحاطوا بالرئيس بوش الابن، والرغبة في الاستفادة من البيئة العالمية المعادية لـ”الإرهاب“ والتي نشأت وجرى تعزيزها بعد أحداث 11 سبتمبر، قد دفعت صانع القرار الأمريكي لتبني رؤى إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، بما يسهل مزيداً من الهيمنة الأمريكية عليها، وبما يخدم الكيان الإسرائيلي. ومن المفكرين الكبار الذين دعوا إلى تفتيت العالم العربي المؤرخ اليهودي الصهيوني المشهور برنارد لويس؛ والذي كان له تأثير مهم على مدرسة المحافظين الجدد، وعلى الرئيس جورج بوش الابن نفسه، من أبرز من دعا إلى تفتيت العالم العربي، معترضاً على أخطاء سايكس بيكو التي لم تراع الأسس الطائفية والعرقية. وقد بنى الكاتب الأمريكي رالف بيترز Ralph Peters على دراسات لويس ودعا إلى تقسيم الشرق الأوسط في مقاله ”حدود الدم“، التي نشرها في مجلة الجيش الأمريكي Armed Forces Journal في حزيران/ يونيو 2006. الذي تحدث بشكل فجِّ عن تقسيم العراق والسعودية، فاقترح دولة للشيعة العرب في جنوب العراق تمتد لتضم منطقة الإحساء وجنوب غربي إيران المطلة على الخليج وخصوصاً مناطق الأهواز وعربستان. كما اقترح دولة للعرب السنة وسط العراق وأخرى للأكراد تمتد شمالي العراق وشمال غربي سورية وشرقي تركيا وشمال غربي إيران. ولذلك، كان ثمة رغبة في ضرب العراق وتفتيته داخلياً، بغض النظر عن أي مبررات حقيقية قانونية أو مسوغات تمس الأمن القومي الأمريكي.
معالم السلوك الأمريكي المعاصر في المنطقة:
دَشَّن الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 في عهد بوش الابن مرحلة جديدة في الانغماس الأمريكي المباشر في إعادة تشكيل أو تطويع النُّظم السياسية في المنطقة، ثم جاء أوباما ليتابع خط الإضعاف والتطويع بالوسائل الناعمة. غير أن السلوك الأمريكي ظلّ يسير ضمن عدد من المحددات والمعالم أبرزها:
1. إضعاف أنظمة المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بحيث يسهل إخضاعها، ولا تشكل أي خطر على الكيان الإسرائيلي وعلى المصالح الأمريكية.
2. لم يكن المطلوب بالضرورة رسم حدود سياسية جديدة، ولكن تأجيج الصراع الطائفي والعرقي بشكل يمزِّق النسيج الاجتماعي؛ داخل الدولة الواحدة، وبما يرفع جدران الحقد والكراهية بين الناس.
3. إيجاد بيئات لتزايد الحساسيات والعداوات الإقليمية بين دول وشعوب المنطقة، على أسس طائفية ومذهبية وعرقية (سنة وشيعة، عرب وفرس وأتراك وأكراد…) بحيث تُستهلك في هكذا عداوات، بعيداً عن العدو المشترك ”إسرائيل“.
4. قطع الطريق على أي مشروع نهضوي وحدوي في المنطقة، يمكن أن يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية أو للكيان الإسرائيلي.
ولم يكن هذا السلوك الأمريكي ليجد لنفسه سوقاً، لولا أن الأنظمة الفاسدة والمستبدة والقمعية في المنطقة فشلت في مشاريعها النهضوية والوحدوية، كما فشلت في بناء الدولة القطرية الحديثة، وفي تقوية البنى الاجتماعية وتنمية الشعور بالمواطنة والولاء لدى شعوبها، بعيداً عن العصبيات الدينية والعرقية.
السلوك الأمريكي كان معنياً بإيجاد البيئات المناسبة لتصاعد التوتر الطائفي والعرقي، دون أن يقوم بدور فظٍّ مباشر في هذا الإطار، لأن ذلك قد يفسد عليه خطته، وسيوجِّه أسهم الاتهام إليه. كان عليه فقط أن ”يكشف الغطاء عن الطنجرة”، ليجد ما يكفي من تيارات واتجاهات وقوى في الساحة العراقية مستعدة لصبِّ الزيت على النار الطائفية والعرقية.
ومن أمثلة الإجراءات والسياسات التي اتبعها الأمريكان:
1. القيام بحلِّ الجيش العراقي بطريقة كيفية؛ والسماح بإنشاء جيش جديد هيمنت على الكثير من مفاصله قوى طائفية.
2. توفير الغطاء للأكراد في شمال العراق لتعزيز حكمهم الذاتي، وتكريس البنى التحتية للابتعاد عن الدولة المركزية والانفصال.
3. السكوت عن تشكيل مليشيات عسكرية طائفية، مارست التحريض، وكانت جزءاً أساسياً من صراعات دموية طائفية تحت سمع الأمريكان وبصرهم.
4. ترك مظاهر الفساد الإداري والمالي والسياسي تتفشى في كل مفاصل الدولة، وتكريس المحاصصات الطائفية والعرقية في البنى التحتية… وإغماض العين عن سرقة جهات وشخصيات عراقية متنفذة للمليارات من ثروات العراق وشعبها. فحسب عادل عبد المهدي، وزير النفط العراقي السابق، فإن الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار منذ 2003 وحتى 2015. كما أن الناطق باسم هيئة النزاهة في العراق عادل نوري أبلغ البرلمان العراقي عن اختفاء نحو 500 مليار دولار من الخزينة العراقية خلال فترة حكم المالكي 2006–2014. أما رئيس هيئة النزاهة الأسبق رحيم العكيلي فقد قال إنه قد تمّ عمل 6 آلاف عقد وهمي بـ 227 مليار دولار… وكان تقرير سابق للجنة المالية في البرلمان العراقي قد قال إن الهدر المالي خلال فترة حكومة المالكي قد بلغ 109 مليارات دولار. كل ذلك وضع العراق خلال ”العهد الأمريكي“ ضمن قائمة أكثر الدول فساداً في العالم، وضمن آخر خمسة دول في العالم في مؤشر الشفافية.
5. السياسة الأمريكية والغربية التي بنت وكرست خطاباً إعلامياً يتحدث بشكل متواصل وبكافة الوسائل المؤثرة عن الجنوب الشيعي والوسط السني والشمال الكردي… بحيث أصبح ذلك أمراً عادياً منطبعاً في الوعي واللا وعي العراقي والعربي والدولي.
6. هناك علامات استفهام حقيقية عن ترعرع ظواهر التطرف وانتشارها تحت الاحتلال الأمريكي… وتزايد أعداد المنتمين إلى الجماعات المتطرفة بالآلاف، بعد أن لم يكن لهم وجود تحت حكم صدام حسين. أي أن نمو قوى ”التطرف” حدث فعلاً تحت الاحتلال الأمريكي… ليس بالضرورة لأن أمريكا هي التي تصنعهم، وإنما لأن الاحتلال نفسه يؤجج المشاعر ضدها بكافة الأشكال المنضبطة وغير المنضبطة. وقس على ذلك ظاهرة صعود داعش، والتراخي النسبي في التعامل معها.
7. التقصير المتعمد أو غير المبرر في حماية التراث والآثار والتاريخ العراقي والهوية الوطنية العراقية… بما في ذلك السكوت عن نهب المتحف الوطني.
لقد تسبب الاحتلال الأمريكي وسياساته بأحد أعظم الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر، فخلال عشر سنوات من الاحتلال تم إحصاء مقتل نحو 134 ألف مدني، ولعله تسبب الاحتلال بوفاة أربعة أضعاف هذا العدد (بحسب تقديرات ”معتدلة“ لجامعة براون)؛ ومئات الآلاف من الجرحى، بالإضافة إلى ملايين المهجَّرين، والأهم من ذلك ارتفاع جدران الدم بين مكونات المجتمع العراقي.
نواصل الحديث في مقال قادم حول السياسة الأمريكية في سورية
هذا المقال هو نسخة معدلة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 30/7/2016