• Türkçe
  • العربية
Strategic Thinking Group Strategic Thinking Group
  • Home
  • Estimate Position
  • Reports
  • Books & Publications
  • Research
  • Studies
  • Seminars
  • Workshops
  • Training Courses
  • About

Sidebar

Main Menu

  • Home
  • Estimate Position
  • Reports
  • Books & Publications
  • Research
  • Studies
  • Seminars
  • Workshops
  • Training Courses
  • About
  • أزمة النخبة السياسية الفلسطينية

    قلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    عادة ما يتم تعريف النخبة السياسية بأولئك الذين يمتلكون السلطة الحقيقية في الدولة. ويمكن توسيع دائرتهم لتشمل أصحاب النفوذ، والمؤثرين في صناعة القرار، وأولئك الذين يملكون أدوات السلطة والسيطرة الدينية أو الاقتصادية أو العسكرية أو العرقية والقبلية… وغيرها.

    غير أن ما يميز النخبة السياسية الفلسطينية أنها نخبة لحركة تحرر وليس لدولة، وأنها مشتتة جغرافياً، وأن نسبة كبيرة منها تقع تحت الاحتلال الإسرائيلي، أو تحت حصاره، وأن البيئات السياسية خارج فلسطين تؤثر بدرجات متفاوتة في أفراد النخبة الذين يعيشون فيها، ويُضطرُّون إلى مراعاة سقوفها ومعاييرها.

    وتكمن أزمة النخبة السياسية الفلسطينية الحالية في أن قطاعاً كبيراً ومهيمناً فيها يمارس سلوك الدولة ولكن من دون دولة، وينسق مع الاحتلال، ويدير حالته النخبوية وفق شروط الاحتلال وتحت بيئته، ويعاني من أزمات في الرؤية والمسارات وفي القيادة والرموز والتداول القيادي والبناء المؤسسي.

    ***

    وقد تعددت الدراسات حول النخبة السياسية الفلسطينية، غير أن من أبرزها كتاب “سمات النخبة السياسية الفلسطينية: قبل وبعد قيام السلطة الفلسطينية” للدكتورة سمر جودت البرغوثي، وكتاب “توجهات النخبة السياسية الفلسطينية نحو الصراع العربي الإسرائيلي”، وكلاهما رسالة دكتوراه، وكلاهما أيضاً من إصدار مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، وكلاهما درس نخبتي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية من زوايا مختلفة. وكلتا الدراستين جديرة بالاطّلاع والاستفادة منها. وهذا المقال ليس استعراضاً لأي من الدراستين، ولكنه يستفيد من بعض معطياتهما.

    ***

    تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 بقيادة أحمد الشقيري. وفي سنة 1968 تمكنت الفصائل الفلسطينية من السيطرة على منظمة التحرير، وقامت بإعادة تشكيل جذرية لنخبتها القيادية في مجلسها الوطني وفي لجنتها التنفيذية، حيث هيمنت حركة فتح ولا تزال على النخبة السياسية للمنظمة. وعندما تشكّلت السلطة الفلسطينية سنة 1994، قادت حركة فتح عملية تأسيسها وإدارتها، لتطبع حالتها النخبوية بطابعها. غير أن انتخابات المجلس التشريعي للسلطة سنة 2006 أدخلت حماس ورموزها بقوة في النخبة السياسية للسلطة بعد فوزها بأغلبية ساحقة، وتشكيلها للوزارة العاشرة والحادية عشرة، ثم سيطرتها على قطاع غزة إثر الانقسام الفلسطيني، في مقابل سيطرة فتح على السلطة في الضفة الغربية.

    ***

    عكست أزمات منظمة التحرير آثارها على النخبة السياسية الفلسطينية، إذ دفعت أثماناً قاسية نتيجة محاولتها للعمل بِحرية في البيئة العربية المحيطة بفلسطين، في الوقت الذي لم تتحمل فيه البلاد العربية هذا “الضيف الثقيل” ولا الاستحقاقات التي يستوجبها وجود حركة تحرر في مواجهة العدو الصهيوني المدعوم بالقوى الكبرى، وحاولت تقديم نخب محسوبة عليها، وإلغاء نخبٍ تخاصمها.

    وترافق ذلك، مع عدم وجود بيئات حرة للعمل السياسي الفلسطيني، ولا بيئات صحية للتداول القيادي الفلسطيني، ولا آليات “ديمقراطية” حقيقية لتشكيل المجالس التشريعية والقيادية. وبالتالي فإن الفرز القيادي للنخبة الفلسطينية، ظلّ محكوماً بهيمنة فتح على المنظمة، وبالحسابات الفصائلية.

    ومنذ ثمانينيات القرن العشرين أخذت تظهر قوى فاعلة ووازنة في الساحة الفلسطينية دون أن يكون لها تمثيل في منظمة التحرير (حماس، والجهاد الإسلامي على سبيل المثال) ودون أن يُحتسب قادتها ورموزها ضمن النخبة السياسية “الرسمية” الفلسطينية. وهي ظاهرة اتسعت وزادت مع تنامي هذه القوى وفوزها (حماس تحديداً) في الانتخابات التشريعية للسلطة سنة 2006.

    ثمّ إن النخبة السياسية لمنظمة التحرير نفسها ظهرت عليها مظاهر الضعف والترهل وانعدام الفاعلية، مع حالة التردي والتدهور التي شهدتها مؤسسات المنظمة. ومع تعطُّل انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني لنحو 27عاماً إذ لم يعقد المجلس الوطني في الفترة 1991-2018، إلا للقاءات شكلية محدودة لتمرير بعض القرارات المسبقة أو “لشرعنة” عمل قيادة السلطة ( 1996،2009،2018).

    وقد أدى ذلك إلى “تكلُّس” البنية النخبوية للمجلس الوطني، التي فاق متوسط السنّ فيها سبعين عاماً، وتجاوزت سنّ ممثل الطلاب فيها ستين عاماً، بينما لحق عشرات بجوار ربهم. وصرنا في المنظمة أمام نخبة “مزمنة” تعيد إنتاج نفسها وإنتاج مشكلاتها، وتعاني من فشل ذريع في القدرة على إنتاج أجيال جديدة.

    ***

    من جهة أخرى، فإن إنشاء السلطة الفلسطينية أنهى حالة وجود النظام السياسي خارج أرضه، لكنه أوجد مشكلة جديدة بوجوده تحت الاحتلال الإسرائيلي وهيمنته. وقد ترافق ذلك مع تعقيدات انتقال النخب السياسية المقيمة في الخارج إلى الداخل الفلسطيني، وتحكُّم الاحتلال الإسرائيلي بالحدود والمعابر وحركة الأفراد والبضائع، وفرضه لشروط سياسية وأمنية واقتصادية على كيان السلطة.

    بينما تَحوَّل الاحتلال إلى الجهة المانحة لبطاقات الفي آي بي VIP لرجالات النخبة في السلطة، مع إمكانية اعتقال أي من شخصيات “النخبة” ممن يتجاوز خطوط الاحتلال الحمراء. ومع تعطُّل مسار التسوية، وتراجع فرص تحول السلطة إلى دولة كاملة السيادة على أرضها، نشأ نظام سياسي مُشوَّه، متموضع في بيئة الاحتلال ومرتهن لشروطه، بينما أخذت النخبة السياسية “تكيّف” نفسها وفق متطلبات “التسوية” ومتطلبات “السلطة”… لتتحول من نخبة “حركة تحرُّر” إلى نخبة سلطة تمارس سلوك الدولة ولكن تحت الاحتلال، وتُضطرّ إلى التجاوب مع أجندة الاحتلال في مطاردة المقاومة وملاحقتها ضمن “التنسيق الأمني”، بينما تتسع في أوساطها أجواء الترهل والفساد المالي والإداري، والركون إلى حالات الرفاهية… في الوقت الذي يذوي فيه الجانب “الثوري” إلا من شعارات أو مفاخرات تاريخية أو توظيف تكتيكي.

    في المقابل، تمكنت المنظومة السياسية للسلطة مع مرور الوقت من إفراز نخب سياسية أكثر تعليماً وأكثر شباباً وأكثر اندماجاً في البيئة الاجتماعية المحلية، وذلك مع انتخابات المجلس التشريعي 1996و2006، ومع تشكيل عديد من الوزارات، وتشكُّل طبقة من أصحاب النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني في أطر السلطة.

    غير أن عقلية الهيمنة واحتكار صناعة القرار التي صاحبت قيادة المنظمة والسلطة لم تمكِّنها من استيعاب نتائج العملية الديمقراطية لانتخابات 2006، ولم يكُن ثمة ترحيب أو قبول بالنخبة السياسية الجديدة (حماس) التي فرضت نفسها من خلال برنامج المقاومة أو من خلال الشرعية الشعبية. وأصبح لدينا أزمة في محاولات جهات معيَّنة “احتكار النخبة”، أو في محاولة إخراج نخب فاعلة ومؤثرة من الإطار “الشرعي” أو “الرسمي”.

    وتولدت أزمة ثانية مرتبطة بهيمنة فصيل معين على السلطة والمنظمة، مُصِرّ على مسارات سياسية معيَّنة (التسوية)، وغير راغب في عمل أي شراكات تؤثّر سلباً على هيمنته السياسية، ولا على المسارات التي اختطّها للعمل الوطني، وهو ما أدَّى إلى تعطيل الفرز الطبيعي للنخبة، وتعطيل بيئة التداول السلمي للسلطة، وغياب البيئة الصحية للتغيير والإحلال القيادي. وهذا أدى بدوره إلى إغلاق المجال أمام ظهور القيادات الشابة، ووجود فجوة كبيرة بين النخبة الحالية التي طال عليها الأمد، وبين الأجيال الصاعدة.

    من ناحية أخرى، فإن انتقال القيادة الفلسطينية إلى الداخل، وضمور دورها ودور المنظمة في الخارج، أدى إلى إهمال الشتات الفلسطيني، (أكثر من نصف الشعب الفلسطيني) المليء بالكفاءات والخبرات والطاقات، بينما تركّز أداء النخبة السياسية الحالية في رام الله، المحاطة بالاحتلال وأدواته. هذا مع إقرارنا بأن النخبة الفلسطينية في الأرض المحتلة 1948  لم تأخذ مكانها ولا دورها الذي تستحقه في المشروع الوطني الفلسطيني.

    وتعكس الدراسة التي قام بها عزام شعث لخمسين شخصية من النخبة الفلسطينية، حالة الإرباك وفقدان الرؤية المتماسكة لدى النخبة السياسية الفلسطينية.

    ففي الوقت الذي يؤيد 7ِ2% منهم إنهاء اتفاق أوسلو، ويُقِرّ 80% بأن المفاوضات هي غير ذات جدوى بعد قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ويوافق أكثر من نصفهم على أن ميزان القوى لا يسمح ببلورة مبادرة سياسية جديدة لحل الصراع، ويؤكد 72% أنهم مع هدف تحرير كل فلسطين وأشكال النضال كافة؛ فإنه من جهة أخرى يؤيد 76% منهم عقد مؤتمر كامل الصلاحية على أساس الشرعية الدولية. وعندما يتحدثون عن الوسائل الأكثر جدوى في مواجهة العدو يؤيد 28.2% المقاومة الشعبية، و17% المقاومة المسلحة، بينما يتشتت آخرون على نسبٍ أقل، كما أن ثمة انقساماً وغياب رؤية حول ما يمكن عمله في حال سقوط السلطة نفسها.

    هذا التداخل أو التفكير غير المتسق يعبِّر عن أزمة الرؤية والمسارات لدى النخبة السياسية الحالية، ولعلّ ذلك يتوافق مع حالة انسداد الأفق والإحباطات والانقسامات التي تشهدها الساحة الفلسطينية.

    وبشكل عامّ، فإن أزمة النخبة الفلسطينية هي أزمة عميقة تمسّ جوهر المنظومة السياسية وتشكيلاتها القيادية، وأدوات فرزها النخبوي، وتؤثر عليها حالة التشتت، وبيئات الاحتلال وأدوات النفوذ الخارجي العربية والدولية.

  • إنفوجراف: عدد اللاجئين الفلسطينيين في العالم في بداية سنة 2017

    يسر مركز الزيتونة أن يوفر للقارئ الكريم رسماً توضيحياً (إنفوجراف) يوضح أعداد اللاجئين الفلسطينيين في العالم في بداية سنة 2017. ويشمل هذا الإحصاء مناطق الداخل الفلسطيني (الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة عام 1948)، كما يشمل العالم العربي وباقي دول العالم.

    وتجدر الإشارة إلى أنه تم إعداد هذه المادة بالاعتماد أساساً على أرقام وتقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني  Palestinian Central Bureau of Statistics (PCBS).

    Infograph_PalPeople_Alzaytouna-PCBS_3-17

     مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 21/3/2017

  • ابرز نتائج التقرير الاستراتيجي الفلسطيني لسنتي 2018-2019

    مقدمة:

    يصدر التقرير الاستراتيجي الفلسطيني بشكل دوري منذ سنة 2005 عن مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت. وهو مركز دراسات مستقل، يهتم بالدراسات الاستراتيجية والمستقبلية، ويولي الشأن الفلسطيني تركيزاً خاصاً. وهذا الإصدار هو المجلد الحادي عشر من مجلدات التقرير الاستراتيجي؛ والذي يغطي بشكل شامل قضية فلسطين خلال سنتي 2018-2019، ويستشرف المسارات المستقبلية.

    ويعالج التقرير الاستراتيجي، الذي قام بتحريره أ. أ. د. محسن محمد صالح (الأستاذ في الدراسات الفلسطينية والمدير العام للمركز)، بالرصد والاستقراء والتحليل للأوضاع الفلسطينية الداخلية، والمؤشرات السكانية والاقتصادية الفلسطينية، والأرض والمقدسات، ويناقش العلاقات الفلسطينية العربية والإسلامية والدولية، كما يناقش الوضع الإسرائيلي وعمليات المقاومة ومسار التسوية. والتقرير موثق ومدقق وفق مناهج البحث العلمي، ومدعّم بعشرات الجداول والإحصائيات والرسوم التوضيحية.

    وقد شارك في كتابة التقرير وإعداده 14 من الأساتذة والباحثين المتخصصين، هم: أ. أشرف بدر، وأ. إقبال عميش، وأ. باسم القاسم، ود. جوني منصور، وأ. ربيع الدنان، وأ. زياد ابحيص، وأ. ساري عرابي، ود. سعيد الحاج، وأ. د. طلال عتريسي، وأ. د. معين محمد عطا رجب، وأ. هاني المصري، وأ. وئام حمودة، وأ. وائل سعد، وأ. د. وليد عبد الحي. كما يقوم بمراجعة التقرير هيئة استشارية متخصصة.

    وفيما يلي أبرز نتائج التقرير، الذي يصل حجمه الأصلي إلى 400 صفحة.

     
  • الآفاق المستقبلية لـ”صفقة القرن“ الأمريكية

    بقلم الدكتور وليد عبد الحي.

    يناقش هذا التقدير الاستراتيجي الجهود الأمريكية للإعلان عما عُرف بـ"صفقة القرن" خلال سنة 2019، كما يستعرض التحديات التي تواجهها، وإمكانات إفشالها، كما يستعرض الآفاق المستقبلية المحتملة للصفقة.

    ملخص

    يظهر أن الإدارة الأمريكية تسير نحو الكشف الرسمي عن بنود "صفقة القرن" خلال سنة 2019. وبالرغم من أن ما تسرَّب من هذه البنود لا يصل إلى الحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به أي طرف فلسطيني، بمن في ذلك الأطراف المؤيدة لمسار التسوية السلمية، إلا أن الطرف الأمريكي سيسعى جاهداً إلى إيجاد ميزان قوى محلي وإقليمي ودولي يجعل من رفض الصفقة أمراً متعذراً؛ بينما ستظل الاستجابة للمتطلبات والشروط الإسرائيلية هي جوهر الصفقة.

    ومع ذلك، فإن الصفقة تواجه تحديات كبيرة، وإمكانات إفشال حقيقية، وعلى رأسها الرفض الفلسطيني لها، وتراجع البيئة الرسمية العربية الراغبة في التجاوب معها، وعدم حماسة المجتمع الدولي وخصوصاً الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا لها؛ بالإضافة إلى المشاكل الداخلية التي يواجهها ترامب، والمشاكل الداخلية التي يواجهها نتنياهو؛ مع احتمالات تصاعد المقاومة الفلسطينية، وحدوث انفجارات في البيئة الإقليمية التي تتميز بحالة من التوتر واللا استقرار.

    مقدمة: منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب Donald Trump في تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 عن أن لديه "صفقة" لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، تتابعت النشاطات الأمريكية على الجبهات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية في هذا الإطار، دون الإعلان الرسمي عن "نص رسمي" لبنود هذا المشروع الذي أصبح معروفاً "بصفقة القرن".[1] ونتيجة لذلك، اعتمدت التحليلات السياسية لمشروع صفقة القرن، غير المعلن رسمياً حتى الآن، على بُعدين هما:

    1. التسريبات الصحفية وبعض الإشارات العامة التي ترد على لسان الفريق السياسي الذي أوكل له ترامب جهود إدارة هذا المشروع.
    2. الممارسة السياسية الميدانية للولايات المتحدة في الشرق الاوسط واعتبارها مؤشرا على المضمون الفعلي الذي ينطوي عليه ذلك المشروع.

    ويبدو أن إخفاء بنود الصفقة حتى الآن، على الرغم من مرور أكثر من سنتين على أول إشارة لها، يستهدف إيجاد بيئة سياسية مواتية في المستوى المحلي (الفلسطيني والإسرائيلي)، والمستوى الإقليمي (العربي بشكل خاص) والدولي (بشكل عام)، من خلال إقناع الأطراف بالبنود واحداً تلو الآخر، ثم الإعلان عن الصفقة بعد ضمان قدر كافٍ من الترويج لها بين القوى الأساسية في المستويات الثلاثة السابقة الذكر، وتكشف تصريحات وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو Michael Pompeo عن الترابط بين الظروف السياسية من ناحية وبين الإعلان عن الصفقة من ناحية أخرى، فقد ذكر في 23/1/2019 أنه لن يتم الإعلان عن بنود المشروع إلا بعد انتهاء الانتخابات الإسرائيلية المقررة في 9/4/2019.[2]

    التسريبات الصحفية لبنود الصفقة:

    يمكن تحديد البنود الأكثر ترداداً في التسريبات الصحفية أو الإشارات العامة التي ترد على لسان مسؤولين من ذوي العلاقة بالموضوع في البنود التالية:[3]

    1. ترك موضوع إقامة دولة فلسطينية إلى جانب "دولة إسرائيل"، أو التوجه نحو دولة واحدة لطرفي النزاع ليقررا ما يناسبهما في هذا الشأن، أي عدم التمسك بالضرورة بحل الدولتين.
    2. إن الكيان الفلسطيني، أياً كان شكله النهائي، سيقوم على مساحة تتراوح بين 40-60% من مساحة الضفة الغربية؛ غير أن تسريبات جديدة تحدثت مؤخراً عن 90% من مساحة الضفة.
    3. أن تكون بعض ضواحي القدس الشرقية هي عاصمة للكيان الفلسطيني، بينما القدس بكاملها عاصمة لـ"إسرائيل".
    4. تقع مناطق المقدسات الإسلامية في القدس ضمن السيادة الإسرائيلية، على أن تترك "إدارتها" لدول إسلامية مثل الأردن وتركيا والسعودية.
    5. يتم تقديم مساعدات دولية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول التي يتواجدون فيها، ومساعدة هذه الدول المضيفة للاجئين من خلال الاستثمارات وغيرها من الأدوات الاقتصادية لتحسين فرص دمج هؤلاء اللاجئين في هذا الاتجاه.
    6. ربط الأجزاء التي يقوم عليها الكيان الفلسطيني في الضفة الغربية بقطاع غزة، وتقديم مساعدات دولية لتحسين الظروف الاقتصادية في كل من شقَي الكيان الفلسطيني المقترح.
    7. سيكون الكيان الفلسطيني المقترح منزوع السلاح ويقتصر على أجهزة أمنية بتسليح يتناسب مع مهمات الحفاظ على الأمن الداخلي.
    8. ضم الكتل الاستيطانية الإسرائيلية الرئيسية في الضفة الغربية لـ"إسرائيل"، بينما يتم تفكيك المستوطنات "العشوائية" أو إخلائها أو خضوعها لسلطة الكيان الفلسطيني.
    9. منح الفلسطينيين في مناطق الضفة الغربية التي سيتم ضمها لـ"إسرائيل" الجنسية الإسرائيلية.
    10. تواجد عسكري إسرائيلي على طول نهر الأردن من الجانب الغربي للنهر.
    11. الاعتراف الفلسطيني بـ"إسرائيل" كـ"دولة يهودية".

    المنظور الأمريكي لتحقيق الصفقة

    يمكن تحديد عدد من المؤشرات التي تشكل البيئة التي يسعى الرئيس الأمريكي ترامب لصنعها لتوفر النجاح لمشروعه، وتتمثل هذه المؤشرات في جوهرها في إيجاد ميزان قوى محلي وإقليمي ودولي يجعل من رفض الصفقة أمراً متعذراً من ناحية، واعتبار الأمن الاسرائيلي هو الدالة المركزية للصفقة من ناحية ثانية.

    ولضمان البُعدين السابقين (ميزان القوى والأمن الإسرائيلي) اعتمد ترامب على ما يلي:

    أولاً: فريق الصفقة:

    فقد تمّ اختيار فريق أمريكي للعمل يؤمن بالمبدأين السابقين ويعمل على صياغة وطرح وتنفيذ الصفقة، ويضم هذا الفريق كلاً من:

    1. مايك بومبيو Mike Pompeo: وهو أول شخص في التاريخ الأمريكي ينتقل من رئاسة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) Central Intelligence Agency (CIA) إلى منصب وزير الخارجية الأمريكي، ويتم تصنيفه بين صقور الإدارة الأمريكية الحالية، وهو من أكثر المسؤولين الأمريكيين انتقاداً لعمليات الطعن التي يقوم بها المقاومون الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهو صاحب الدعوة الواضحة الأبعاد بأن تكون "إسرائيل" هي "النموذج المحتذى" لدول الشرق الاوسط.[4] كما أنه الاكثر رفضاً بين المشرعين الجمهوريين لسياسة الرئيس السابق باراك أوباما Barack Obama تجاه إيران لا سيّما في موضوع الاتفاق النووي.[5] وكان من بين أكثر الدعاة لإبقاء سجن جوانتنامو مفتوحاً، وهو الأكثر دفاعاً عن استخدام السي آي إيه التعذيب.[6]
    2. جاريد كوشنير Jared Kushner: على الرغم من أنه، طبقاً للصحافة الإسرائيلية، الأقل خبرة بالشرق الأوسط، فقد تمّ اختياره لمهمة تسوية الوضع في الشرق الاوسط،[7] وتشير كل من صحيفة نيويورك تايمز The New York Times الأمريكية والأندبندنت The Independent البريطانية،[8] ووسائل إعلام غربية أخرى، إلى أن كوشنير ينتمي لأسرة يهودية قدمت مؤسساتها "الخيرية" 38 ألف دولار لمساعدة مستوطنة بيت إيل Beit El اليهودية في الضفة الغربية سنة 2013، وهي المستوطنة نفسها التي قدمت لها مؤسسة ترامب 10 آلاف دولار سنة 2003، ويحظى كوشنير بشعبية كبيرة بين المستوطنين في الضفة الغربية والقدس.[9]
    3. ديفيد فريدمان David Friedman: السفير الأمريكي في "إسرائيل"، وهو يترأس مجموعة لمساندة مستوطنة بيت إيل السابقة الذكر وهي مجموعة الأصدقاء الأمريكيين لمؤسسات بيت ايل American Friends of Bet El Institutions fundraising group،[10] وكان مستشاراً لترامب في حملته الانتخابية، وهو أول من أعلن قبيل تنصيب ترامب رئيساً أن الولايات المتحدة لا تعتبر إقامة دولة فلسطينية مسألة حيوية للمصالح الأمريكية، وهي مسألة متروكة لتقديرات "إسرائيل"، كما أن ترامب لن يعارض ضم "إسرائيل" لأجزاء من الضفة الغربية لها، كما أن المصلحة الأمريكية هي ضمان أمن "إسرائيل"، وأي سياسة تؤثر سلباً على ذلك يجب تجنبها، وهو يرى أن نموذج غزة وما آلت له الأمور فيها لا يشجع على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية.[11]
    4. جيسون جرينبلات Jason Greenblatt: وهو الممثل الخاص للرئيس في المفاوضات الدولية منذ كانون الثاني/ يناير 2017 (بما في ذلك الشرق الاوسط). وهو مستشار ترامب للشأن الإسرائيلي، وهو من خصوم أي دور للأمم المتحدة United Nations في فرض حلّ الدولتين ويدعو لترك ذلك للطرفين المعنيين، وهو لا يرى أن المستوطنات تشكل عائقاً أمام "السلام"، وهو يعارض قرارات اليونسكو United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization (UNESCO) الخاصة بالقدس،[12] وتشير بعض المراجع أن مصادر معلوماته عن المنطقة والصراع العربي الإسرائيلي يتلقاها بشكل رئيسي من مصدرين هما رسائل البريد الإلكتروني القادم من اللوبي اليهودي المعروف بالآيباك American Israel Public Affairs Committee (AIPAC)، وبرنامج إذاعي يشرف عليه رئيس مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية في أمريكا، وهو من المعتقدين أن أنسب طريقة لإعادة الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات هو الضغط الاقتصادي.[13]
    5. جون بولتون John Bolton: وهو مستشار الأمن القومي الأمريكي منذ 2018، ويعد من أعتى صقور الإدارة الأمريكية الحالية، فهو معارض شرس لدور الأمم المتحدة في تسوية الصراع، كما أنه من معارضي حلّ الدولتين في الموضوع الفلسطيني، ناهيك عن تأييده لتغيير الأنظمة المعارضة بالقوة، وهو من أشد المؤيدين لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كما أنه من دعاة إعادة قطاع غزة للسيادة المصرية والضفة الغربية للأردن.[14]

    إن ما تمّ عرضه من آراء الفريق الأمريكي الذي يتولى العمل على صياغة وطرح بنود "صفقة القرن" يدل على أنه فريق يتبنى أفكاراً تتسق والنقاط سابقة الذكر التي تسربت لوسائل الإعلام، وقد تظهر بعض الاختلافات في التفاصيل لكن جوهر الاتجاه العام للصفقة سيبقى هو ذاته، خصوصاً إذا اضفنا لها مواقف الرئيس الأمريكي ذاته لا سيّما نقله السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وهو ما توقعناه في دراسة سابقة،[15] ناهيك عن توجهاته العامة تجاه الصراع والتي تقوم على:[16]

    1. أولوية ربط عدم الاستقرار الإقليمي بالدور الإيراني، وليس بانعكاسات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وهو ما يتضح في تزايد التنسيق الأمريكي العربي ضدّ إيران على حساب التنسيق الإقليمي العربي ضدّ "إسرائيل".
    2. أولوية التطبيع العربي مع "إسرائيل" على التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وهو ما تعززه وفود التطبيع وزيارات المسؤولين الإسرائيليين للدول العربية.
    3. أولوية البُعد التجاري المالي على البعد السياسي في العلاقات مع الدول العربية.

    ثانياً: تشكيل البيئة السياسية للصفقة قبل طرحها:

    من الضروري العودة إلى التحليل النفسي لشخصية ترامب خصوصاً في أدائه التفاوضي، فقد أجمعت التقارير العلمية الأمريكية المتخصصة في هذا المجال على أن ترامب "شرس في توظيف كل أدوات القوة التي لديه من بداية التفاوض، ولا يعرف تأنيب الضمير لما يصيب الآخرين من خسائر في التفاوض".[17]

    وتتجلى خطوات الإدارة الأمريكية الحالية في إعداد البيئة التفاوضية في عدد من المؤشرات التي سيكون لها انعكاسها على نتائج أي تفاوض:

    1. تشكيل فريق تفاوضي أمريكي يتبنى توجهات الرئيس كما يتضح من المواقف التي أشرنا لها أعلاه.
    2. الضغط الدبلوماسي والمالي المتواصل على كل من السلطة الفلسطينية وقطاع غزة، وهو ما يتجلى في الترتيبات التالية:
      • إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن في أيلول/ سبتمبر 2019.[18]
      • قطع المساعدات الأمريكية عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) United Nations Relief and Works Agency for Palestine Refugees in the Near East (UNRWA) والتي بلغت 359.3 مليون دولار (سنة 2017) ثم تراجعت إلى 65 مليون دولار سنة 2018 قبل التوقف عن تقديمها، ووقف مساعداتها لمشروعات الوكالة والتي تصل الى 30% من مجموع مشروعات الوكالة في المنطقة.[19]
      • إعادة النظر في المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية في ضوء سلسلة من التشريعات التي أصدرها الكونجرس الأمريكي Congress ومصادقة الرئيس ترامب عليها، وتشمل إعادة توجيه بعض المساعدات التي كانت تقدم للسلطة الفلسطينية إلى جهات أخرى، والعمل على منع وصول المساعدات لأيّ جهة أو فرد فلسطيني ممن لهم صلة بـ"الأرهاب" (أي تنظيمات المقاومة)، وحجب المساعدات عن أيّ حكومة وحدة وطنية تشارك فيها حركة حماس، وربط المساعدات بامتناع السلطة الفلسطينية عن التقدم بأيّ دعاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحجب المساعدات عن أيّ جهود تستهدف حصول السلطة على عضوية أي من وكالات الأمم المتحدة، ومنع المساعدات عن كل رجال السلطة العاملين في غزة، وعن هيئات الإعلام الفلسطيني، ناهيك عن مراقبة كل النشاطات المالية للسلطة، واستثنت كل هذه القرارات المساعدات الأمريكية ذات الصلة بنشاطات التنسيق الأمني بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية.[20]
    3. تشجيع الدول العربية خصوصاً دول مجلس التعاون الخليجي على التحلل من ربط المقاطعة العربية لـ"إسرائيل" بتسوية الموضوع الفلسطيني،[21] ولا يشترط جرينبلات قبول العرب للصفقة بل يكفي دعمهم ويقول حرفياً "أعتقد جازماً أن شركاءنا الإقليميين هم لاعبون أساسيون في جهودنا، وقد أجرينا معهم مشاورات مكثفة، ولدينا أمل في الاعتماد على دعمهم لنا، وأنا استعمل كلمة "دعمهم" support بدلاً من موافقتهم approval.[22]

    4. عرقلة القرارات الدولية في مجلس الأمن الدولي باستخدام الفيتو Veto ضدّ القرارات التي تعترض عليها "إسرائيل" كما جرى في القرار الخاص بالقدس في 18/12/2017، والقرار الخاص بغزة والقدس في 1/6/2018.
    5. تأجيل الكشف عن نصوص "الصفقة" إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية في نيسان/ أبريل القادم لعدم التأثير على احتمالات فوز بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu بالسلطة مرة أخرى، خصوصاً إذا تضمنت الصفقة تنازلات "ما" من الطرف الإسرائيلي.

    الآفاق المستقبلية للصفقة

    ثمة مجموعة من العوائق التي تواجه نقل الصفقة إلى حيز التطبيق:

    1. المشكلات الداخلية التي يواجهها ترامب لا سيّما في ظلّ استئناف التحقيقات عن علاقات انتخابه بدور روسي وعن دور مهم لكوشنير في هذا الموضوع، خصوصاً في ظلّ التوتر القائم بينه وبين الكونجرس في موضوعات عديدة أخرى مثل موضوع الجدار مع المكسيك، وموضوع التحقيقات في علاقات مالية مشبوهة على إثر التحقيقات بموضوع الصحفي السعودي جمال خاشقجي...إلخ.
    2. المشكلات الداخلية التي يواجهها نتنياهو (الفساد) إلى جانب ضعف الأغلبية له في الكنيست Knesset (مقعد واحد فقط)، ناهيك عن منافسين له أكثر يمينية منه في موضوع التسوية مع الفلسطينيين.
    3. صعوبة قبول أي طرف فلسطيني بالمشاركة العلنية في التفاوض على هذا الأساس، بالإضافة إلى أن ثمة إجماع فلسطيني شعبي على رفضها. وقد تسعى الإدارة الأمريكية لإيجاد مخرج لهذا الموضوع إما بمفاوضات سرية أو تفاوض عربي بديل للفلسطينيين، خصوصاً أن رئيس السلطة الفلسطينية في وضع صحي "مقلق" من ناحية وفي وضع داخلي مأزوم بسبب مواقف أغلب التنظيمات الرئيسية من سياساته الداخلية والخارجية.
    4. احتمالات تفجر مواجهة غقليمية بين "إسرائيل" وإيران أو في غزة أو على الجبهة اللبنانية أو السورية.
    5. الشقاق الداخلي في مجلس التعاون الخليجي يجعل الدور الخليجي أقل من المأمول أمريكياً، لا سيّما مع المشكلات الداخلية لدول الخليج وانشغالاتها المحلية.
    6. عدم حماس المجتمع الدولي خصوصاً الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين لـ"صفقة القرن"، وهو ما اتضح في توجهات هذه القوى في الأمم المتحدة.

    وفي ضوء المنظور الواقعي الذي عبَّر عنه جرينبلات بضرورة التعامل على أساس الواقع القائم على الأرض لا على أساس "ما يجب أن يكون"، وهو ما يتبناه الفريق الأمريكي المسؤول عن إدارة الصفقة بمن فيهم الرئيس ترامب، يمكن تصور الملامح التالية:

    • العمل على استنساخ نموذج قطاع غزة في الضفة الغربية من ناحيتين

      ‌أ. الانسحاب من أقل قدر من الأراضي بأكبر قدر من السكان الفلسطينيين، فالتخلي عن حوالي 365 كم2 (قطاع غزة) أدى للتخلص من قرابة 2 مليون نسمة، وعليه فإن صفقة ترامب ستحاول رسم خريطة تقوم على انسحاب إسرائيلي من الأراضي الأكثر كثافة سكانية فلسطينية في الضفة الغربية. ‌ب. استغلال موازين القوى المختلة لصالح الطرف الإسرائيلي؛ ويتضح هذا الاختلال في الانقسامات الفلسطينية وإمكانية استثمارها إسرائيلياً وأمريكياً، وفي التسلل العربي العلني والخفي باتجاه التطبيع مع "إسرائيل"، وفي النتائج الكارثية التي انتهت لها الاضطرابات السياسية العربية من نهاية 2010 إلى الآن.

    • إن نقل السفارة الأمريكية للقدس يعني أن موضوع القدس لم يعد مطروحاً على طاولة المفاوضات الأمريكية بل المطروح هو "بديل القدس".
    • العمل على تطبيق الصفقة سواء شاركت السلطة الفلسطينية في التفاوض أم امتنعت عن المشاركة، أي تطبيق الصفقة من جانب واحد، وهو ما سيضطر الفلسطينيين للتعامل معه تدريجياً وتحويله فيما بعد لواقع قائم.
    • ثمة احتمالات ما تزال قيد الدراسة؛ وهو محاولة ربط غزة بمشروعات اقتصادية مع مصر، وإنشاء منطقة تجارة حرة بين الطرفين مع مشاركة بالدعم المالي من قبل دول الخليج.
    • <.ol>

      الخلاصة

      يمكن القول بأن فرص نجاح ترامب في تطبيق صفقة القرن، لا سيّما إذا تمّ الكشف عن مضمونها بعد شهرين أو ثلاثة كما ذكرنا أعلاه، تبقى رهينة المتغيرات والمعوقات التي أشرنا لها سابقاً، مع ضرورة التنبه إلى أن الإعلان عنها والانتقال لتطبيقها قد يفصلهما فترة زمنية طويلة (على غرار اتفاق أوسلو الذي مضى على توقيعه قرابة ربع قرن ولم يتم تنفيذه)، وسيعمل ترامب على أن يحقق شيئاً ملموساً قبل انتهاء فترته الرئاسية في نهاية 2020 ليستثمر ذلك في حملاته الانتخابية إذا نجا من التحقيقات المختلفة الحالية.

      ومن المرجح أن يتم الإعلان عن الصفقة قبل منتصف العام الحالي (2019)، لكن تطبيقها سيستغرق فترة طويلة ستعمل "إسرائيل" على تكييف مضامينها بأكبر قدر ممكن لصالحها، وهو ما قد يتعثر في حالة حدوث تحولات عميقة في دول الإقليم باتجاه مناهضة الوجود الإسرائيلي. ثم إن شبه الإجماع الفلسطيني على رفض الصفقة سيظل عقبة كأداء في وجه الصفقة وفي وجه "شرعنتها".

      * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على إعداد هذا التقدير.

      الهوامش:

      [1] Donald Trump, in Exclusive Interview, Tells WSJ He Is Willing to Keep Parts of Obama Health Law, site of The Wall Street Journal, 11/11/2016, https://www.wsj.com/articles/donald-trump-willing-to-keep-parts-of-health-law-1478895339

      [2] US’ Pompeo says no ‘deal of the century’ until after Israel election, site of Middle East Monitor (MEMO), 23/1/2019, https://www.middleeastmonitor.com/20190123-us-pompeo-says-no-deal-of-the-century-until-after-israel-election

      [3] انظر التفاصيل في:
      • Q&A: Special envoy Jason Greenblatt details the thinking behind the Mideast peace plan, site of ISRAPUNDIT, 8/8/2018, https://www.israpundit.org/qa-special-envoy-jason-greenblatt-details-the-thinking-behind-the-mideast-peace-plan
      • Trump: ‘Deal of the Century’ to be announced within 2 or 3 months, MEMO, 27/9/2018, https://www.middleeastmonitor.com/20180927-trump-deal-of-the-century-to-be-announced-within-2-or-3-months
      • The future of Trump’s ‘Deal of the Century’, site of The Arab Weekly, 16/12/2018, https://thearabweekly.com/future-trumps-deal-century
      • Analysis: Trump’s ‘Deal of the Century’ for the Middle East Might Live or Die in Cairo, site of Haaretz newspaper, 26/6/2018, www.haaretz.com/middle-east-news/trump-s-deal-of-the-century-for-middle-east-peace-might-live-or-die-in-cairo-1.6199973
      • Report: Trump’s Mideast plan proposes Palestinian state in West Bank, site of Ynetnews, 16/1/2019, https://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-5448227,00.html
      • Clare Short, Reports Beyond Trump’s “Deal of the Century,” site of Al Jazeera Centre for Studies, 24/6/2018, http://studies.aljazeera.net/mritems/Documents/2018/6/24/2b95327ca25c4744affe7469a7342359_100.pdf

      [4] Pompeo: US-Israel Relations Stronger than Ever, site of Arutz Sheva (Israel National News), 10/11/2018, http://www.israelnationalnews.com/News/News.aspx/253067

      [5] Mike Pompeo Has Hawkish History on Israel and Iran, Haaretz, 30/11/2017, https://www.haaretz.com/us-news/mike-pompeo-has-hawkish-history-on-israel-and-iran-1.5489955

      [6] Mike Pompeo, your likely new—and Trump-friendly—secretary of state, site of vox, 12/4/2018, https://www.vox.com/world/2017/11/30/16719690/mike-pompeo-hearing-confirmation-congress

      [7] Jared Kushner’s connection to an Israeli business goes without scrutiny – imagine how different it would be if that business was Palestinian, site of The Independent newspaper, https://www.independent.co.uk/voices/jared-kushner-israel-business-connections-no-scrutiny-palestine-difference-us-relations-donald-trump-a8153411.html

      [8] Ibid.
      وانظر أيضاً التفاصيل في:
      Kushner’s Financial Ties to Israel Deepen Even With Mideast Diplomatic Role, site of The New York Times newspaper, 7/1/2018, https://www.nytimes.com/2018/01/07/business/jared-kushner-israel.html

      [9] For Hardline West Bank Settlers, Jared Kushner’s Their Man, site of Reuters, 1/2/2017, https://www.reuters.com/article/us-israel-palestinians-kushner/for-hardline-west-bank-settlers-jared-kushners-their-man-idUSKBN15G4W2

      [10] Ibid.

      [11] Exclusive: David Friedman: Trump Would Support Israeli Annexation of Parts of West Bank, Haaretz, 16/12/2016, https://www.haaretz.com/israel-news/.premium-friedman-trump-would-back-annexing-parts-of-west-bank-1.5400460

      [12] Trump Advisor: ‘West Bank Settlements are not an Obstacle to Peace’, site of The Jerusalem Post newspaper, 10/11/2016, https://www.jpost.com/Arab-Israeli-Conflict/Trump-advisor-West-Bank-settlements-are-not-an-obstacle-to-peace-472231

      [13] Meet Trump’s Israel adviser, site of Jewish Standard, 21/4/2016, http://jewishstandard.timesofisrael.com/meet-trumps-israel-adviser

      [14] Bringing in Bolton, White House appears to stiffen against Palestinians, Iran, site of The Times of Israel, 23/3/2018, https://www.timesofisrael.com/bringing-in-bolton-white-house-stiffens-stances-against-palestinians-iran

      [15] التقدير الاستراتيجي (93): آفاق السياسة الأمريكية تجاه فلسطين في عهد ترامب: 2017-2021، موقع مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، في:
      https://www.alzaytouna.net/2016/11/14/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-93-%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84/

      [16] للتفاصيل انظر: وليد عبد الحي، مقالة علمية: جولة دونالد ترامب في المنطقة العربية وانعكاساتها المستقبلية، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 25/5/2017، في:
      https://www.alzaytouna.net/2017/05/25/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D9%86%D8%A7%D9%84%D8%AF-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B7/

      [17] انظر التفاصيل في:
      Catherine Caruso, “Psychiatrists Debate Weighing in on Trump’s Mental Health,” Scientific American magazine, 15/2/2017; and May Bulman, “Donald Trump has ‘dangerous mental illness’, say psychiatry experts at Yale conference,” The Independent, 21/4/2017.

      [18] Trump administration orders closure of PLO office in Washington, site of The Washington Post newspaper, 10/9/2018, https://www.washingtonpost.com/world/national-security/trump-administration-orders-closure-of-plo-office-in-washington/2018/09/10/7410fe6c-b50c-11e8-a2c5-3187f427e253_story.html?utm_term=.90682e612edf

      [19] US ends aid to Palestinian refugee agency Unrwa, site of BBC News, 1/9/2018, https://www.bbc.com/news/world-us-canada-45377336

      [20] انظر تفاصيل القرارات وأرقام المساعدات في:
      “U.S. Foreign Aid to the Palestinians,” Congressional Research Service (CRS), 12/12/2018, pp. 2-9.

      [21] انظر تحليل وتبعات هذه السياسة في:
      Gerald M. Feierstein, Trump’s Middle East Policy at One Year, Policy Focus, site of Middle East Institute, 27/3/2018, pp. 6-9.

      [22] Trump Advisor: ‘West Bank Settlements are not an Obstacle to Peace’, The Jerusalem Post, 10/11/2016.
  • الأزمة اللبنانية تطحن اللاجئين الفلسطينيين

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    خرج اللبنانيون منذ أكثر من شهر، في حراك شعبي مستمر واسع، ضد المنظومة السياسية، وضد ما يرونه من فساد قد يؤدي لانهيار اقتصادي، بعد تفاقُم سوء الأوضاع المعيشية، وتراجعُ القدرة الشرائية إلى مستويات غير مسبوقة.

    فإذا كانت هذه معاناة اللبناني، ابن البلد، الذي يتمتع بكافة الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية، وبالرعاية الصحية والضمان الاجتماعي؛ فكيف باللاجئ الفلسطيني في هذا البلد، الذي كان يعيش أصلاً في أوضاع بائسة، قبل اندلاع الأزمة وتفجُّر الحراك الشعبي؛ وفي بيئة تحرمه بقوة القانون من العمل في الكثير من الوظائف، وتحرمه من حقوق مدنية معتادة تسمح له بعيش كريم. لقد جاءت الأزمة الحالية لتعصف حتى بالقليل الذي يحصل عليه أولئك الفلسطينيون الذين كانت لديهم فرص عمل، ولتضُمَّهم إلى "مطحنة" البطالة والفقر التي تَتغوّل على أغلبية فلسطينيي لبنان وتسحقهم.

    حسب دراسة منشورة للأونروا، بالتعاون مع الجامعة الأمريكية سنة 2015، فإن نسبة الفقر وسط اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حوالي 65 في المئة، ونسبة البطالة 56 في المئة؛ وهناك نحو 62 في المئة يعانون من انعدام الأمن الغذائي المتوسط أو الحاد. ووسط 81 في المئة من الأسر الفلسطينية في لبنان، يوجد فرد واحد على الأقل يعاني من مرض مزمن.

    وخدمات الأونروا لا تكاد تفي بالحد الأدنى من احتياجات الفلسطينيين. وهناك نقص كبير في الاحتياجات التعليمية والصحية والاجتماعية وخدمات البنية التحتية في المخيمات.

    وقد جاء قرار وزير العمل اللبناني بشأن التشدد في رخص العمل في صيف 2019، وتفسير القانون بشكل يشدد الخناق على اللاجئ الفلسطيني، الذي كان ينتظر بدلاً من ذلك انفراجة تجاهه، بعد توافق الأحزاب اللبنانية على تحسين أوضاع اللاجئين وحل معظم مشاكلهم، في الوثيقة الصادرة عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، التي نشرت في كانون الثاني/ يناير 2017. هذا القرار تسبب بحالة إحباط واسعة، وبمزيد من التضييقات التي خسر بسببها العديد من الفلسطينيين مصادر رزقهم، وهو ما أدى إلى موجة احتجاجات مدنية واسعة شهدتها مخيمات اللاجئين، طوال ما يزيد عن شهرين.

    تفاقم المعاناة

    أما الأزمة الاقتصادية الحالية التي سبقت الحراك الشعبي وترافقت معه، فقد كانت ضربة قاسية لما تبقى من قدرة الفلسطينيين على الصمود. فخلال ما يزيد عن شهر من الأزمة انخفضت قيمة العملة اللبنانية بنحو الثلث مقابل الدولار، وتعطلت في معظمه حركة التنقل، وأغلقت في معظم أيامه البنوك، ولم يعد الناس قادرين إلا على سحب مبالغ محدودة من حساباتهم البنكية، ولم يعودوا قادرين على استلام كامل التحويلات التي تأتي من أقاربهم من الخارج. وفي الوقت نفسه قام الكثير من أرباب العمل بتسريح موظفيهم الفلسطينيين، نتيجة تراجع حركة المبيعات أو نتيجة تعطل أعمالهم. وقد ترافق ذلك كله مع زيادة الأسعار، وتدهور القوة الشرائية، وعدم توفّر بعض السلع. أما المؤسسات التي أبقت على موظفيها فهي إما أنها لم تتمكن من تسليمهم رواتبهم، أو أعطتهم نصفها أو نحو ذلك.

    وبالتالي، فإن تراكم معاناة فلسطينيي لبنان، وزيادة التدهور إلى الوضع المتدهور أصلاً، أوجد آلافاً جديدة من الحالات الإنسانية، التي انضمت إلى فئة الفقر المدقع، والتي لا تكاد تجد وجبة الطعام أو رغيف الخبز. وانضمت إليهم أيضاً أعداد كبيرة ممن لا يملكون نفقات العلاج، وممن يموتون ببطء نتيجة عدم القدرة على تغطية بعض الأمراض المستعصية كالسرطان والفشل الكلوي، وأعداد ممن طردوا أو من المهددين بالطرد من الشقق التي يستأجرونها، بالإضافة إلى آلاف حالات العجز عن تسديد رسوم المدارس والجامعات.

    استحقاقات ومخاطر

    وفي مثل هكذا أوضاع، هناك خشية أن يتضاعف نزيف الوجود الفلسطيني في لبنان من خلال الهجرة، بعد أن فقد هذا الوجود نحو 300 ألف من أبنائه، أو بعبارة أخرى أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا في لبنان (المسجلون يزيدون عن 540 ألفاً، وتقديرات الموجودين بحدود 250 ألفاً).

    وهناك من جهة ثانية، خشيةٌ من أن يواصل الأمريكان ضغوطهم باتجاه إنفاذ "صفقة القرن"، والسعي لتوطين ما يتبقى من الفلسطينيين في لبنان، باتجاه إغلاق ملف اللاجئين.

    ومن ناحية ثالثة، فإن حالة الفقر والبطالة والبؤس والإحباط وإغلاق الأبواب في وجه اللاجئ الفلسطيني، يُخشى أن تؤدي إلى تفشي المشاكل الاجتماعية والنفسية، والانحراف الأخلاقي والسلوكي، وإلى التعبير عن نفسها من خلال الانتماء إلى اتجاهات متطرفة.

    ومن ناحية رابعة، فقد يُسهل ذلك على بعض الاتجاهات محاولة استغلال أوضاع الناس في تجنيد الشباب العاطل عن العمل لأجنداتها الخاصة، أو ليكونوا وقوداً لحالة التنافس والاحتراب الداخلي والخارجي. مع العلم أن الوجود الفلسطيني أثبت حتى الآن وعياً عالياً في النأي بالنفس عن الشأن الداخلي اللبناني.

    الدور المطلوب

    إذا كانت حالة اللاجئين الفلسطينيين تستحق أصلاً اهتماماً كبيراً من البيئة العربية والإسلامية والدولية لحل معضلاتهم، فإن الحاجة الآن أصبحت حاجة ماسة، وتستدعي منظومة طوارئ عاجلة على الأقل لتدارك آلاف العائلات التي تسحقها المعاناة.

    والمطلوب من الأونروا أن تستنفر جهودها وتدعو الجهات المانحة لتقديم معونات طارئة للاجئين، بما يكفي احتياجات ستة أشهر على الأقل.

    وعلى الجهات الخيرية والمعنية بالشأن الفلسطيني في لبنان أن تسارع بتقديم مشاريع محددة للجهات الخيرية العربية والإسلامية والدولية، لتقوم بدعمها؛ كمشاريع السلة الغذائية للفقراء، ومشاريع الإغاثة الطبية، وتغطية تكاليف التعليم، والمشاريع الإنتاجية، وكفالات الأيتام وغيرها.

    إن دعم فلسطينيي لبنان ليس مجرد حالة دعم إنساني، بل هو دعم لصمود أحد أهم تجمعات اللجوء الفلسطيني، وأحد أبرز التجمعات الفلسطينية الحيوية التي صبرت وضحّت وعضت على جراحها على مدى عشرات السنين، وظلت أحد أكبر الشواهد على جريمة العدو الصهيوني في تهجير الشعب الفلسطيني، وأحد أكبر الشواهد على تمسك فلسطينيي الخارج بحقهم في العودة إلى بيوتهم التي أخرجوا منها. وهو دعم ضروري في مواجهة "صفقة القرن" ومؤامرات "التوطين" والتهجير. ثم إن الضربات القاسية التي تعرَّض لها الوجود الفلسطيني في العراق وسوريا (وقبل ذلك في ليبيا) يزيد من أهمية وحيوية الحفاظ على الوجود الفلسطيني في لبنان.

    المصدر: موقع عربي21، 25/11/2019

  • التقدير الاستراتيجي (100): تداعيات الأزمة الخليجية على القضية الفلسطينية

    تقدير استراتيجي (100) – تموز/ يوليو 2017. 

    ملخص:

    تمس الأزمة الخليجية القضية الفلسطينية بطرق مباشرة وغير مباشرة، نظراً لوجود أبعاد مرتبطة بمواقف دول الحصار لقطر من تنظيمات ”الإسلام السياسي“، ومواقفها من مسار التسوية السلمية، والمقاومة الفلسطينية، ومواقفها من إيران، وكذلك مواقفها من الإعلام والسياسات الإعلامية القطرية.

    وثمة رغبة إسرائيلية قوية في الاستفادة من الأزمة في تطبيع علاقاتها مع دول الخليج قبل الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية؛ وفي اللعب على وتر ”محاربة الإرهاب“ وعلى وتر مواجهة النفوذ الإيراني للظهور كشريك طبيعي لهذه الدول؛ مع سعي إسرائيلي لتقليص نفوذ حماس وقوى المقاومة، وقطع الطريق على إيران في استثمار الأزمة.

    ويبدو السيناريو الكارثي المرتبط بشن دول الحصار لحرب ضدّ قطر احتمالاً مستبعداً لأسباب عديدة. وما يزال السيناريو الديبلوماسي هو الأقرب للتحقق عن طريق إيجاد تسويات مقبولة في النهاية لهذه الأطراف، ويكون ثمنها بعض التنازلات القطرية، والتي قد تحتمل بعض الخسائر لقوى المقاومة الفلسطينية، خصوصاً مع تصاعد الدور الأمريكي الغربي في حلّ الأزمة. ولذلك فعلى قوى المقاومة أن تبذل ما بوسعها لإفشال محاولات وضعها على ”قوائم الإرهاب“، ومحاولة إعادة ترتيب أوراق القوة لديها، مع تجنب الدخول في أي اصطفافات حاسمة لصالح أي من أطراف الأزمة؛ والدعوة إلى الحل السياسي بين ”الأشقَّاء“ العرب.

    أولاً: مقدمة:

    لم تكن الأزمة الخليجية التي انفجرت بين ثلاث دول خليجية (السعودية، والإمارات العربية، والبحرين) ومعها مصر يوم 5/6/2017 مُنبتَّة الصلة عن أزمات سابقة عرفها مجلس التعاون الخليجي وجرى سحب سفراء فيها، وكان بعضها معلناً، كما في سنة 2002 وفي سنة 2014، وبعضها كان صامتاً يمكن تلمُّسه من خلال فتور العلاقات بين بعض دول مجلس التعاون أو رفض إنشاء مزيد من الإجراءات التكاملية بين دول المجلس، ويتمحور جوهر هذه الأزمات حول أربعة أبعاد رئيسية يَمسُّ كل منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة الموضوع الفلسطيني، وتتمثل في الآتي:

    1. حدود العلاقة الخليجية مع إيران، وهذه العلاقة مع إيران لها بعدان، هما: السياسة الإيرانية تجاه الدول العربية بشكل عام من ناحية، والسياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية من ناحية ثانية.

    2. حدود العلاقة الخليجية مع تنظيمات ”الإسلام السياسي“، وخصوصاً جناح الإخوان المسلمين، حيث تنظر دول خليجية محددة (السعودية والإمارات بشكل خاص) إلى أن الإخوان المسلمين يشكلون التنظيم الأكبر حجماً والأكثر خبرة سياسية في العالم العربي، وأن هذا التنظيم يسعى لتولي السلطة في الدول العربية، وقد كان دوره السياسي بارزاً وبأشكال مختلفة في مصر، وتونس، والمغرب، وفلسطين، والأردن، وسورية…إلخ. وهو ما يعني —من وجهة نظر السعودية— احتمال انتقال تأثير هذا التيار للمجتمع الخليجي، خصوصاً السعودي، وهناك جذور تاريخية وبنية مجتمعية خليجية قابلة للإنصات للأدبيات السياسية لهذا التنظيم، وهو ما ينطوي، بناء على هذا الفهم، على احتمال ”القفز على السلطة في هذه الدول الخليجية خصوصاً في السعودية“. ومن هنا لا بدّ من وأد هذا التيار. ولما كانت القوى الفلسطينية الأكثر نشاطاً في الصراع مع ”إسرائيل“ ذات صلة تاريخية بالإخوان المسلمين، فإن ظلال الأزمة الخليجية امتدت لتصيب هذه التنظيمات، وخصوصاً حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

    3. حدود سياسة الحريات الإعلامية الخليجية وفي قلبها السياسة التحريرية لقناة الجزيرة القطرية. إذ ترى دول الخليج (خصوصاً السعودية والإمارات) أن قناة الجزيرة تمثل منبراً ”تحريضياً“، وأنه الأكثر تعبيراً ضمنياً عن توجهات الإخوان المسلمين، ناهيك عن أنه يتجاوز الكثير من السياسات التحريرية الإعلامية التقليدية التي اعتاد عليها الإعلام العربي، وهو ما يشكل ”خضاً“ للمياه الراكدة في اتجاهات الرأي العام العربي، وبدا أثر ذلك كله خلال الفترة الممتدة من بداية الثورات والتغيرات العربية مع نهاية 2010 إلى الآن، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه السياسة التحريرية للجزيرة تجعل من الموضوع الفلسطيني مادة رئيسية لها.

    4. مركزية الدور السعودي في القرار السياسي في مجلس التعاون الخليجي: منذ أن نشأ مجلس التعاون الخليجي سنة 1981 كرد فعل على قيام الثورة الإيرانية سنة 1979، كانت السعودية ترى فيه أداة للجم تداعيات الثورة الإيرانية في الخليج، وبأن الدور السعودي يجب أن يكون مركزياً، في هذا المجال، بحكم الثقل السعودي في الإقليم الخليجي. وبعد الإعلان عن المبادرة العربية لتسوية القضية الفلسطينية سنة 2002، والتي كانت السعودية مهندسها الرئيسي، تعزز الإحساس السعودي بمركزية دور المملكة في صياغة التوجهات الاستراتيجية العربية بشكل عام وليس الخليجية فقط، وهو ما اصطدم بنوع من ”القلق“ بين دول خليجية محددة أبرزها قطر، وعزوف عُماني عن مجاراة النزعة المركزية السعودية، مضافاً إليه قدر من الحرج الكويتي من هذه النزعة. ولما كان الموضوع الفلسطيني يشكل أحد أهم ملامح الاستراتيجيات العربية (بغض النظر عن جدواها) فإن السعودية رأت ضرورة تطويع الموضوع الفلسطيني لصالح توجهات أخرى، وهو ما لم يَرُق لعدد من دول الخليج أو الدول العربية الأخرى.

    ثانياً: التصور الإسرائيلي للأزمة الخليجية:

    من الضروري فهم العلاقة الإسرائيلية الخليجية ومن منظور تاريخي ومعاصر لفهم الموقف الإسرائيلي من الحصار الخليجي المصري لقطر ومن ملابسات الأزمة الخليجية، وتتمثل هذه العلاقة الخليجية الإسرائيلية في جوانبها العامة في الآتي:

    1. العلاقات الخليجية الإسرائيلية (علاقات السعودية والإمارات العربية مع ”إسرائيل“):

    يمكن اعتبار سنة 1990 نقطة تحول في الجهود الأمريكية لتقريب دول مجلس التعاون الخليجي من ”إسرائيل“. ولعل انتقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أيار/ مايو 2017 من السعودية مباشرة لـ”إسرائيل“ في رحلته الأخيرة للخليج يمثل جزءاً من علاقات خليجية إسرائيلية ”صامتة“. وتتجلى هذه العلاقات في عدد من المؤشرات مثل ظهور شخصيات أكاديمية سعودية ذات صلات سابقة بالأجهزة الأمنية السعودية في ”إسرائيل“، وما ذكرته صحيفة هآرتس عن مشاركة الإمارات العربية في مناورات عسكرية مع ”إسرائيل“ والولايات المتحدة ودول أوروبية في اليونان. وقبل ذلك بعام شاركت الإمارات في مناورات أخرى مشتركة مع ”إسرائيل“ ودول غربية في نيفادا في الولايات المتحدة، كما أن ”إسرائيل“ فتحت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015 مكتباً ديبلوماسياً في أبو ظبي تحت ظل الوكالة الدولية للطاقة المتجددة، وذكرت بلومبرج بيزنس ويك Bloomberg Businessweek في شباط/ فبراير 2017 أن هذا المكتب يمكن أن يقوم بدور السفارة لتعميق العلاقة بين ”إسرائيل“ وبقية دول الخليج. كما أشارت صحيفة تايمز أوف إسرائيل Times of Israel إلى سلسلة لقاءات سرية سعودية إسرائيلية [1]؛ ناهيك عن أن قسم وسائل الاتصال في وزارة الخارجية الإسرائيلية بدأ منذ فترة في توظيف وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر…إلخ)، حيث أنشأ سفارة ”افتراضية“ virtual embassy لـ”إسرائيل“ في كل دولة خليجية (اسمها السفارة الافتراضية في دول الخليج) منذ 2013. ويتم التواصل مع أفراد في الخليج من خلال هذه السفارة الافتراضية التي يديرها السفير الإسرائيلي ييغال بالمور. ويتم في عمليات التواصل هذه التشجيع على العلاقات التجارية —عبر طرف ثالث— وهو ما جعل حجم التبادل التجاري (عبر طرف ثالث بين الخليج و”إسرائيل“) يصل إلى نحو نصف مليار دولار طبقاً لتقديرات يتسحاق غال أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة تل أبيب في حوار له مع صحيفة فايننشال تايمز [2] .

    2. العلاقات القطرية الإسرائيلية:

    من المعروف أن العلاقات التجارية بين ”إسرائيل“ وقطر بدأت في سنة 1996 وبحضور الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريز والذي عاد لزيارة قطر سنة 2007. وعلى الرغم من إغلاق المكتب التجاري الإسرائيلي سنة 2008 إلا أن قطر استقبلت في سنة 2013 وفداً تجارياً إسرائيلياً. وفي سنة 2008 التقى وزير الدفاع الإسرائيلي حينها إيهود باراك مع الشيخ عبد الله بن خليفة آل ثاني في سويسرا خلال مؤتمر دافوس، كما التقت الوزيرة الإسرائيلية تسيبي ليفني أمير قطر سنة 2008 في مؤتمر للأمم المتحدة، وقامت ليفني بزيارة الدوحة في السنة نفسها، والتقت بعدد من المسؤولين القطريين. كما أبدت قطر ترحيبها بمشاركة ”إسرائيل“ في مباريات كأس العالم 2022 في قطر في حالة تأهلها رياضياً، وأسهمت قطر في بناء استاد رياضي بالاتفاق مع ”إسرائيل“ في مدينة سخنين الفلسطينية في أراضي 1948، ناهيك عن التواصل بين الطرفين لترتيب سبل إيصال المساعدات القطرية لقطاع غزة في ظلّ الأزمة المصرية مع حماس. وذكرت صحيفة ديلي تلغراف أن قطر أسهمت في ترتيبات وقف إطلاق النار بين حماس و”إسرائيل“ في غزة. كما تشير مصادر إسرائيلية إلى دورٍ قطري في ترحيل عدد من يهود اليمن ونقلهم لـ”إسرائيل“ سنة 2013 [3] .

    وفي المقابل أبدت “إسرائيل” قدراً من الامتعاض من دعم قطر لحماس، وحقّ حماس في المشاركة في النظام السياسي الفلسطيني، وجهودها لفك الحصار عن قطاع غزة، وفي إعادة إعمار القطاع. حيث يُعدُّ الموقف القطري من أكثر المواقف العربية تقدماً في دعم القضية الفلسطينية. ولعل أكثر المنتقدين لهذا الدور القطري هو وزير الخارجية أفيجدور ليبرمان.

    ولكن ما علاقة الأزمة الخليجية بكل ذلك من المنظور الإسرائيلي؟

    تنظر ”إسرائيل“ للأزمة (طبقاً لأغلب توجهات محلليها والذي يمكن اعتبار التقرير الذي صدر عن معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي INSS في جامعة تل أبيب الأكثر وضوحاً وعمقاً بينها) [4] من زاويتين، هما انعكاسات الأزمة الخليجية على حماس من ناحية، وعلى إيران من ناحية أخرى على النحو التالي:

    1. اعتبار الأزمة من وجهة النظر الإسرائيلية مؤشراً على تصدع الجبهة ”الُسُنية“ في مواجهة إيران، لذا فإن ”إسرائيل“ تشجع بل وتضغط على الإدارة الأمريكية للعودة للوساطة لكي لا ينفرط هذا العقد المواجه لإيران. وترى ”إسرائيل“ أن الوساطة الأمريكية التي عرضها ترامب على أمير قطر في حزيران/ يونيو 2017 يجب أن تنجز عدداً من الأهداف أهمها (من المنظور الإسرائيلي) ما يلي:

    أ. أن الوساطة الإمريكية يجب أن تُربط بتقليص دعم قطر ”لحماس تحديداً“، وهو ما يزيد من الضغوط المالية على غزة، ويجعلها أكثر قابلية للقبول بعودة السلطة الفلسطينية إليها، ونسخ نموذج الضفة الغربية (خصوصاً التنسيق الأمني في قطاع غزة) وهو الأمر الذي تحبذه كل دول مجلس التعاون الخليجي ومصر.

    ب. قطع الطريق على إيران لاستثمار الأزمة القطرية، لأن الضغط المستمر على قطر سيقود لدفع قطر نحو روسيا وإيران بل وسورية والعراق. وهو ما يتضح في فتح المجال الجوي الإيراني لقطر، وإرسال الأغذية، واستقبال مسؤولين إيرانيين من مستوى رفيع في العاصمة القطرية.

    ج. في المقابل، هناك رغبة لدى أطراف إسرائيلية بأن يكون هناك دور قطري في ”تكييف“ مواقف حماس. كما أن إبعاد قطر (طبقاً للتقارير الإسرائيلية) لبعض قيادات حماس من الدوحة مؤشر على أن الضغط على الدوحة قد يعرقل المسار التدريجي الهادئ في التراجع القطري عن دعم حماس [5] .

    2. ترى ”إسرائيل“ أن رأب الصدع في مجلس التعاون الخليجي مهم للغاية، لضمان استمرار دعم المعارضة السورية، التي بدأت ظلال الأزمة الخليجية تمتد نحوها، و”إسرائيل“ تريد امتداد الأزمة السورية لأطول فترة ممكنة.

    3. تلمح الدراسات الإسرائيلية في معرض التحليل للأزمة إلى أن هناك أبعاداً شخصية فردية بين القيادتين القطرية والسعودية، مما يحتاج لدراية ديبلوماسية عالية لمعالجتها، ولا بدّ من توظيف هذه الحساسيات الفردية بشكل يخدم الأهداف الإسرائيلية.

    4. من جهة أخرى، فإن الأزمة الخليجية تشكل فرصة مهمة لاستنزاف دول الخليج سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ومدخلاً للابتزاز الأمريكي الغربي لأطراف الأزمة؛ وبالتالي يمكن توظيفها إسرائيلياً في تطبيع العلاقات مع ”إسرائيل“ كمدخل للرضا الأمريكي، وكجزء من صراع النفوذ مع إيران.

    ثالثاً: سيناريوهات الأزمة الخليجية وانعكاساتها من المنظور الفلسطيني:

    يمكن تحديد سيناريوهات الأزمة الخليجية في السيناريوهات التالية:

    1. السيناريو الكارثي:

    ويتمثل هذا السيناريو في استمرار التعقيد في الأزمة بشكل يدفع كل طرف نحو مزيد من الإجراءات العقابية للطرف الآخر، وصولاً لمرحلة المواجهة العسكرية لا سيّما أن 20% من مبيعات السلاح في العالم ذهبت سنة 2015–2016 إلى دول مجلس التعاون الخليجي، وتضاعف حجم مشتريات السلاح الخليجي خلال الفترة من 2011–2016 [6] .

    لكن هذا السيناريو سيؤدي لخسائر مادية تجعل استمرار الدعم المادي لفلسطين يتراجع بقدر كبير من ناحية، كما سيلقي بظلال قاتمة للغاية على أولوية القضية الفلسطينية في نشاط الديبلوماسية العربية. غير أن أسوأ تطور في هذا السيناريو أن تستثمر ”إسرائيل“ حالة الحرب هذه من خلال تنافس الأطراف الخليجية المتصارعة على استرضاء ”إسرائيل“ كجسر لتوظيف اللوبي اليهودي في الدوائر الأمريكية لجر الموقف الأمريكي لصالح هذا الطرف أو ذاك. وسيكون ذلك مدخلاً لـ”إسرائيل“ لتطبيع العلاقة مع دول عربية أكبر، خصوصاً أن هناك توجهاً إسرائيلياً متزايداً نحو تسوية تقوم على أساس أولوية التطبيع العربي بأوسع قدر ممكن مع ”إسرائيل“ على حساب أولوية تسوية الموضوع الفلسطيني. إذ تبدو ”إسرائيل“ على ثقة من أن مكانة القضية الفلسطينية تراجعت في ”الوجدان والحساب العقلي“ السياسي لدى شريحة واسعة من المجتمع العربي، وعليه فهي ترى أن الباب أصبح أكثر قابلية لتوسيع ظهورها في العواصم العربية. وهو ما يعني أنها ستجعل التفاوض على التطبيع معها يسبق تحديد ماهية التسوية الفلسطينية، وبالتالي تحقيق المزيد من الخلل في موازين القوى بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي، مما يعني الاستمرار في تهويد الضفة الغربية وحلّ الصراع لاحقاً على حساب الجوار العربي.

    معوقات حدوث هذا السيناريو:

    يبدو أن احتمال هذا السيناريو (الحرب) ما زال ضعيفاً، ولا أحد يستطيع تقديم إجابة قطعية بأن الحرب ستشتعل أم لا تشتعل، فقد يغير حدث ما وغير متوقع أو طارئ المسارات كلها (مثل حدوث صراع على السلطة في إحدى دول الحصار لقطر). لذا فإن الإجابة عن احتمال اشتعال الحرب يبقى ضمن نظرية الاحتمالات ”العقلانية“، وما زال المشهد الخليجي يشي بأن احتمالات إعلان الحرب على قطر ما تزال ضعيفة ومستبعدة. وقد تأخذ طابع ما يسمى ”ديبلوماسية عرض العضلات“ مثل إرسال القوات من قبل دول الحصار قريباً من حدود قطر، أو إرسال المزيد من القوات التركية لقطر، أو القيام بمناورات حربية على الحدود أو قبالة الشواطئ القطرية، أو خرق المجال الجوي لقطر؛ دون الوصول لمرحلة الغزو العسكري الذي يبدو مستبعداً للأسباب التالية:

    أ‌. عدم وجود رغبة جدية لدى دول الحصار بالذهاب إلى سيناريو الحرب، كما يظهر من السلوك السياسي والميداني لهذه الدول
    .
    ب‌. أسعار البترول: إذا نشبت الحرب فإن حركة النقل في منطقة الخليج ستتوقف بشكل كامل طيلة فترة الحرب، فإذا علمنا أن الخليج يقدم نحو 24 مليون برميل يومياً وهو ما يعادل 30% من الناتج العالمي تقريباً، فإن اشتعال الحرب سيرفع أسعار البترول بشكل يجعل المستفيد الأول منه روسيا وإيران وفنزويلا، وهي دول لا يبدو أن الدول الغربية حريصة على تنامي اقتصادها، ناهيك عن أن ذلك سيكلف أوروبا الكثير، فالنفط ومشتقاته يمثل 78,2% من الواردات الأوروبية من الخليج، كما أن تعطل حركة التجارة سيضر أوروبا التي يصل حجم تبادلها التجاري مع دول مجلس التعاون قرابة 138,6 مليار دولار، ويمكن تطبيق النظرة نفسها على الصين والهند واليابان، حيث تشكل أوروبا والصين والهند واليابان 49,5 % من إجمالي تجارة الخليج.

    ج. المخاطر على الأجانب والاستثمارات الأجنبية في دول الخليج: يشكل الأجانب نحو 48% من سكان الخليج الذي يصل إجمالي عددهم (مواطنين وأجانب) قرابة 51 مليون نسمة، فإذا علمنا أن 90% من سكان قطر هم من الأجانب فإن المخاطرة على حياة هؤلاء ستكون عالية. أما الاستثمارات الأجنبية (وأغلبها من أوروبا وأمريكا) فعلى الرغم من تراجع وتيرة الاستثمار الأجنبي من نحو 58 مليار دولار سنة 2008 إلى أقل من 25 مليار سنة 2016، فإن الحرب تعني تعريض هذه الاستثمارات للخطر، وهو ما لا تقبله الدول المالكة لهذه الاستثمارات.

    د. وجود القواعد الأمريكية أو القوات الأمريكية لدى طرفي الصراع (قرابة 35 ألف عسكري أمريكي في دول مجلس التعاون) سيضع هذه القوات في موقف حرج، فإذا تدخلت في الصراع فذلك يعني تدخلاً متعاكساً، وإذا لم تتدخل للدفاع عن مناطق وجودها وخصوصاً في قطر، فقدت قيمتها للدولة الحاضنة لها. ففي التدخل خسارة أمريكية وفي عدم التدخل خسارة أخرى، وهو ما ينطبق على بقية الدول التي لها وجود عسكري في الخليج مثل بريطانيا وفرنسا بشكل خاص.

    ه. إن الحرب الخليجية تعني مكاسب استراتيجية لإيران تتمثل في إضعاف دول الخليج، ودفع بعض الأطراف الخليجية للاستعانة بها في المواجهة سواء للدعم اللوجيستي أم لغيره طبقاً لتطورات المعركة، وهو أمر ليس في صالح الدول الغربية ولا دول المجلس في ضوء مواقفها من إيران، فليس من مصلحة الولايات المتحدة تحطيم حلفائها في ظلّ ظروف كتلك القائمة في الخليج.

    و. إن الحرب في الخليج تعني صرف الأنظار عن الأزمة السورية وهو ما يضر باستراتيجية دول الخليج، لا سيما السعودية التي تسعى لتغيير النظام في سورية.

    2. السيناريو الديبلوماسي:

    ويعني استمرار الجهود الديبلوماسية الأمريكية تحديداً، مضافاً لها الجهود العربية والأوروبية وغيرها، بهدف الوصول لتسوية يحقق كل طرف فيها قدراً من المكاسب، تتوازى مع موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية من ناحية، ولا تهدر ماء وجه أيّ منهما. ولا شكّ أن هذا السيناريو هو الأنسب للطرف الفلسطيني لأنه يقلص من الآثار الكارثية للسيناريو الأول، لكن ذلك لا يعني “نجاة” القضية الفلسطينية من بعض الخسائر من تداعيات الأزمة الخليجية في هذا السيناريو، مثل:

    أ. ربما ستكون السنوات القادمة هي الفترة الأكثر عسراً للحركات الإسلامية ولا سيّما الإخوان المسلمين، نظراً لأربعة عوامل رئيسية هي: فقدان هذه الحركة لأي سند إقليمي فاعل في مواجهة الضغوط عليها، فهذه الحركات —خصوصاً الإخوان— لم تعد قادرة على توظيف التناقضات العربية لصالحها، على غرار ما كان عليه الحال في الفترة الناصرية أو ما بعدها، نظراً لتضييق مجال المناورة السياسية عليها. كما أن عدداً من التنظيمات الإسلامية المسلحة المشاركة في الحراك العربي منذ 2010 وحتى الآن شوهت صورة “الجهاد” وجعلته أقل جاذبية جماهيرية، وخصوصاً تناحراتها الداخلية، وهَوَجِ عملياتها الخارجية والداخلية. يضاف لذلك الخناق الدولي عليها وطبيعة التطور الإنساني في مشهده العام. وأخيراً عداءُ المؤسسات العسكرية العربية للتيارات الإسلامية، ولا شكّ أن بيئة كهذه لن تكون مواتية للتنظيمات الفلسطينية ذات الصبغة الإسلامية خصوصاً حركتي حماس والجهاد الإسلامي.

    ب. من الواضح أن تصنيف الحركات الجهادية (إرهابية أو غير إرهابية) اتسع بشكل عام من نطاق الحركات الإسلامية العربية ليمتد نحو الحركات الإسلامية الفلسطينية، وهو أمر سعت له ”إسرائيل“ والولايات المتحدة وبريطانيا منذ بدء الحديث عن قوائم الحركات الإرهابية. وشكل اصطفاف السعودية والإمارات بشكل خاص مع فكرة دمج حركة حماس ضمن قوائم الإرهاب أحد أسوأ التطورات المعاصرة في الموقف العربي من الموضوع الفلسطيني، ويبدو أن حذف اسم حماس أو أي من أسماء شخصيات فلسطينية مقاومة للاحتلال الإسرائيلي من القائمة الأخيرة (قائمة الـ 59) التي أعلنتها دول الحصار، جاء نتيجة مسعى مصري أكثر منه توجهاً خليجياً، نظراً لملابسات كثيرة في العلاقات المصرية الفلسطينية، خصوصاً بروز بوادر على رتق بعض الفتق في العلاقات المصرية مع حماس.

    ج. وضعت الأزمة الخليجية صناع القرار الفلسطيني —خصوصاً تنظيمات المقاومة المسلحة— في مأزق يتمثل في جعلها أمام خيار العلاقة مع إيران أو العلاقة مع دول الخليج، ولعل الدعم المالي القطري، وبعض الدعم الشعبي من دول الخليج الأخرى، والدعم الإيراني المادي والمعنوي هما الرافدان الأكثر أهمية لحركات المقاومة الفلسطينية، وخسارة أي منهما يمثل مزيداً من الضغط المادي والمعنوي على المقاومة المسلحة من ناحية وعلى جمهورها الفلسطيني، الذي يعاني من سياسات التضييق الإسرائيلية، وسياسات القضم المادي التدريجي للسلطة الفلسطينية في رام الله من ناحية ثانية. وتبدو المعطيات الأولى أن الطرف الفلسطيني سيعرف خلال الفترة القادمة قدراً أكبر من التضييق المالي خصوصاً في ظلّ الضغوط العربية والأمريكية (لا سيّما دور جناح الرئيس الأمريكي والبيت الأبيض مقارنة بتوجهات الخارجية الأمريكية) وبعض الدول الأوروبية. وقد يكون مطلب مدّ نفوذ السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة وتعميم التنسيق الأمني من الضفة لقطاع غزة هو الهدف المركزي المباشر لكل هذه الضغوط. ويبدو أن قدرة إيران في المرحلة القادمة على تجاوز أسوار الحصار العربي والدولي لتنظيمات المقاومة ستكون أضعف من المراحل السابقة، لأسباب دولية وإقليمية وداخلية إيرانية. فإيران تتنازعها في الأزمة الخليجية الحالية رغبتان: الأولى تعميق العلاقة الإيرانية القطرية بهدف تحقيق ضغط أكبر على السعودية، والثانية توظيف العلاقة الإيرانية القطرية في حال تطورها في تعديل الموقف القطري في سورية… ويبدو أن إيران معنية في الظرف الحالي بالرغبة الأولى بشكل أكبر… لكنها ستعمل في مرحلة لاحقة بعد نجاحها في الرغبة الأولى على توظيفها في تحقيق الثانية [7] .

    رابعاً: السيناريو الأرجح:

    إذا استبعدنا احتمال الحرب، فإن مصلحة الدول الغربية لا سيما أمريكا وبريطانيا وفرنسا استمرار الأزمة ضمن قيود معينة مما يدفع نحو العسكرة (بمزيد من صفقات التسلح، أو استحضار المزيد من القوات الأجنبية الغربية خصوصاً للمنطقة، وهو ما يشكل غطاء لمزيد من التطويق لإيران وممارسة الضغط عليها عبر تكثيف الوجود العسكري الغربي حولها) ولكن دون الوصول لمرحلة الحرب، وقد تندفع دول خليجية نحو انفتاح أكبر على ”إسرائيل“ بغرض ضمان وقوف اللوبي اليهودي في المؤسسات الأمريكية لجانبها في الصراع الخليجي كما أشرنا سابقاً.

    وتدل معاينة تطورات الأزمة على الملامح التالية:

    1. لا يبدو أنه سيكون هناك أي حلّ خارج الرؤية الأمريكية، وسيعمل الوسطاء (أمريكيون أو عرب) ضمن الحدود التي تضعها الولايات المتحدة لتسوية الأزمة، ولن تكون أي تسوية تشرف عليها الولايات المتحدة معنية بتحقيق أي مصلحة فلسطينية في العلاقات الخليجية الفلسطينية.

    2. من المستبعد أن يكون هناك حلّ عسكري للأزمة لا سيّما أن القوات الأمريكية (قرابة 35 ألف عسكري أمريكي) موجودة، ولو بمستويات مختلفة على أراضي جميع أطراف الأزمة، كما أن من مصلحة القوى الكبرى جميعاً عدم تصاعد الأزمة لما لذلك من آثار سلبية على سياسات الطاقة وعلى فرص الاستثمار لدى الطرفين، وهو أمر يقع في صالح الطرف الفلسطيني بشكل غير مباشر.

    3. يبدو أن تلبية مطالب السعودية والإمارات ستعلو على تلبية المطالب المصرية المتمثلة بشكل خاص في تسليم بعض الأشخاص للسلطات المصرية. وهو ما يعني أن انعكاسها على الجانب الفلسطيني سيظل محدوداً؛ إلا إذا كان ثمة إصرار على الاستقواء بالأمريكان بشكل كبير لتحقيق مطالب حاسمة من قطر.

    4. قد تكون الفترة القادمة هي أكثر الفترات حرجاً وتضييقاً على حركة الإخوان المسلمين بشكل خاص و”الإسلام السياسي” بشكل عام في كل العالم العربي، لكنه سيكون أكثر وضوحاً في ليبيا وسورية وفلسطين.

    5. إذا ما وافقت قطر على بعض التنازلات، فإن الأرجح أن قناة الجزيرة لن تغلق، ولكن قد يجري تغيير في مجلس إدارتها وربما استبعاد لبعض كبار مذيعيها وتغيير تدريجي هادئ وطويل المدى في توجهاتها الإعلامية وبشكل لا يحرج الديبلوماسية القطرية، وهو أمر أقل فائدة للطرف الفلسطيني.

    6. من المستبعد أن تتجاوز الضغوط على حماس حدود ما هو قائم حالياً، ولكنها قد تُدفع نحو “التواري التدريجي” في المشهد القطري. ولعل من مصلحة حماس في الظرف الحالي القيام بتصعيد “مدروس ومحدود” للتوتر مع الجيش الإسرائيلي لإرباك العرب الساعين للتطبيع مع ”إسرائيل“، لا سيّما في المناخ الذي أفرزته أزمة السياسات الإسرائيلية الأخيرة تجاه المسجد الأقصى مثل إخضاع المصلين للتفتيش الإلكتروني وغيره، نظراً للمكانة الكبيرة التي يحتلها المسجد.

    7. من المتوقع أن تبقى العلاقات القطرية الإيرانية في حدودها الحالية مع تأكيدات قطرية على “فكرة عدم التدخل الإيراني في الشأن العربي والالتزام بعروبة الجزر الثلاث” لكن العلاقات الاقتصادية ستبقى على حالها، وهو أمر لا يضير الشأن الفلسطيني.

    8. يبدو أن الأزمة ستؤدي في المدى المتوسط والبعيد إلى تحجيم نسبي للدور القطري في التفاعلات الإقليمية، وهو ما قد يفقد حماس وقوى المقاومة الفلسطينية داعماً رسمياً عربياً مهماً.

    9. يبدو أن عملية تأجيج الصراع بين السنة والشيعة (وإشكالات الصراع الطائفي والعرقي) قد بدأت تستنفد أغراضها، وهناك فرص لأن تتوارى تدريجياً؛ غير أن هناك قوى عربية وإقليمية ودولية ستسعى لتأجيجها. وبشكل عام، فإن تراجع الصراع الطائفي والعرقي في المنطقة يصب في مصلحة القضية الفلسطينية.

    خامساً: التوصيات:

    في ظلّ المشهد السابق، قد يكون من الأجدى لو اشتملت الاستراتيجية الفلسطينية على ما يلي:

    1. على تنظيمات المقاومة المسلحة أن تعمل على جعل جهودها الديبلوماسية تنصب في المرحلة القادمة وبكل جهد شعبي ورسمي على المستوى المحلي والإقليمي والدولي نحو عدم إدراجها ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية، لأن الإدراج سيمثل غطاء شرعياً لـ”إسرائيل“ ولدول عربية عديدة لنزع سلاح المقاومة، ومدّ التنسيق الأمني لغزة.

    2. من الضروري أن تعمل المقاومة الفلسطينية على رأب الصدع مع حلفائها السابقين ولكن بشكل تدرجي وعبر توظيف القوى الإقليمية العربية أو غير العربية المستفيدة من إعادة ترميم جبهة المقاومة (مثل إيران، وتركيا، وحزب الله، وبعض التيارات العلمانية العربية المساندة للمقاومة، وبعض الدول العربية كالجزائر)، إذ إن المرحلة القادمة ستشهد على الأغلب ضغطاً متصاعداً لا سيّما من الناحية المادية والعسكرية على المقاومة الفلسطينية خصوصاً في غزة.

    3. من الضروري ألا تقوم التنظيمات الفلسطينية المقاومة بالاشتراك في أي اصطفافات حاسمة لصالح أي من أطراف الخلاف الخليجي، والتركيز على ضرورة الحل الديبلوماسي “بين الأشقاء”، وبعيداً عن تصريحات قابلة للتأويل المباشر.

    4. الدفع باتجاه حلّ مشاكل المنطقة بشكل سلمي بين الدول المعنية، وإبعاد الأطراف الأمريكية الإسرائيلية عن التدخل في إدارة و”معالجة” أزمات المنطقة.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (100): تداعيات الأزمة الخليجية على القضية الفلسطينية Word (15 صفحة، 98 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (100): تداعيات الأزمة الخليجية على القضية الفلسطينية  (15 صفحة، 779 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 20/7/2017

  • التقدير الاستراتيجي (101): مستقبل العلاقة بين حماس ومصر في ضوء تفاهمات القاهرة الأخيرة

  • التقدير الاستراتيجي (102): القمة الإفريقية-الإسرائيلية ومستقبل العلاقات المتبادلة

    تقدير استراتيجي (102) – آب/ أغسطس 2017.

    ملخص:

    على الرغم من أن الكيان الإسرائيلي منذ تأسيسه كان مدركاً لأهمية القارة الإفريقية، سياسياً واقتصادياً وأمنياً واستراتيجياً، إلا أن الظروف السياسية آنذاك لم تسمح له بتحقيق اختراق واسع في العلاقات مع دول القارة، باستثناء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وعلى ما يبدو بأن الظروف السياسية والأمنية التي تمر بها المنطقة العربية وما تعانيه من ضعف وتفكك، وما تتعرض له القضية الفلسطينية من تهميش، جعلت الساحة الإفريقية ملائمة لتفعيل الديبلوماسية الإسرائيلية في إفريقية، لذا أتت التحركات الإسرائيلية خلال سنة 2016 في الشرق الإفريقي، والمؤتمر المنوي عقده خلال الفترة 23-27 /2017/10 في توجو، التي تقع غرب القارة، لتتويج الاختراق الصهيوني للقارة الإفريقية.

    هناك العديد من العوامل المتداخلة التي قد تسهم في تحقيق السيناريوهات المحتملة لهذه القمة والتي هي: نجاح كامل للقمة وتكريس الاختراق الإسرائيلي، أو فشل القمة وعدم عقدها بتاتاً، أو تحقيق نجاح جزئي للقمة وهو السيناريو المرجح.

    مقدمة:

    تعمل دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل حثيث لإنجاح مشاركتها في مؤتمر ”قمة إفريقيا – إسرائيل“ الذي دعت إليها جمهورية توجو، والمنوي عقده خلال الفترة 23–27 تشرين الأول/ أكتوبر من هذه السنة. وبالرغم من الأصوات المعارضة من القارة الإفريقية لمشاركة ”إسرائيل“ في المؤتمر، وخصوصاً الدول العربية والإسلامية منها، إلا أن شعوراً بالارتياح النسبي لدى ”إسرائيل“ يدفعها بالسير قدماً نحو المشاركة. ولعل الترحاب الذي شهده نتنياهو من بعض قيادات القارة في أثناء جولته في سنة 2016، هو ما يعطي هذا الشعور بالارتياح ولو نسبياً.

    وفي المقابل فإن الأطراف المعارضة لمشاركة ”إسرائيل“ لم ترفع رايات الاستسلام، بل ما زالت تسعى بقوة نحو إفشال المؤتمر أو على الأقل إضعاف مستوى نجاحه.

    أولاً: القمة الإفريقية الإسرائيلية وتناقضات الموقف حولها:

    تعدّ دولة توجو من أكثر الدولة في القارة الإفريقية قرباً من دولة الاحتلال الإسرائيلي. وعلى ما يبدو فإن الرئيس التوجولي فور غناسينغي لم يَحِد عن الخط الذي سار عليه والده سابقاً؛ حيث استقبل الرئيس السابق لجمهورية توجو غناسينغي إياديما رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير سنة 1987، ومن الملفت للنظر بأن هذه الزيارة سبقها زيارة سرية قام بها بناد أفيتال مدير شعبة إفريقيا بوزارة الخارجية الإسرائيلية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ إياديما في كانون الأول/ ديسمبر 1986، وهو ما يوحي بدور أمني لـ ”إسرائيل“ في توجو .

    وفي السياق نفسه قام الرئيس فور غناسينغي خلال الشهر الحالي (آب/ أغسطس 2017) بزيارة إلى تل أبيب هي الرابعة له، حيث استُقِبل من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفي ردّ للرئيس فور في أثناء زيارة سابقة له إلى ”إسرائيل“ حول ما إذا كانت توجو تخشى الانتقام من دول شمال إفريقيا أو الدول العربية، قال إن توجو بلد صغير ولا تحصل على مليارات الدولارات من السعودية وقطر، وإن السكان المسلمين في البلاد صغيرون وغير نشطين، وبالتالي فإن الخطر السياسي منخفض.

    ومن المتوقع أن يشارك في المؤتمر حسب التقديرات الإسرائيلية والدولة المضيفة للقمة ما بين 20–30 دولة إفريقية، ومنها كينيا، وتنزانيا، ورواندا، وأوغندا، وساحل العاج، وغينيا الاستوائية، وغانا، وزامبيا، وهي دول تسعى ديبلوماسياً إلى نجاح المؤتمر بين ”إسرائيل“ والقارة الإفريقية.

    في المقابل، فقد أبدت المغرب معارضتها إلى جانب السودان وجنوب إفريقيا لعقد هذه القمة، إلا أن هناك بعض المؤشرات التي توحي بأن ”إسرائيل“ تسعى إلى تخطي هذه العراقيل، وذلك من خلال خطوات قامت بها ”إسرائيل“ وأخرى ما تزال تقوم بها ومنها: مشاركة نتنياهو في القمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إيكواس في حزيران/ يونيو 2017، وقد ألقى فيها خطاباً والتقى بعدد من القادة الأفارقة. مع الأخذ بعين الاعتبار بأن هناك بعض الدول التي ما يزال قرارها متأرجحاً، وأخرى قد تخضع لبعض الضغوط أو تجري تفاهمات مع جهات معارضة للقمة.

    ثانياً: الخلفية التاريخية للعلاقات الإسرائيلية الإفريقية:

    نشطت الديبلوماسية الإسرائيلية منذ نشأتها في استخدام نظرية شدّ الأطراف؛ والتي عمدت إلى إقامة علاقات بالدول المحيطة بالعالم العربي، ومن بينها الدول الإفريقية، وهو ما حاولت ”إسرائيل“ القيام به في خمسينيات القرن الماضي، حيث عاشت هذه العلاقة منذ قيام دولة الاحتلال سنة 1948 فترة مزدهرة وصولاً إلى حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وفي هذه المرحلة بدأت العلاقات الإسرائيلية تتضعضع مع العديد من الدول الإفريقية، ومنها أوغندا، وغينيا، والكونغو، وتشاد.

    أتت الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1973 لتشكل نقطة تحول جديدة في العلاقات الإفريقية الإسرائيلية، حيث استخدمت الديبلوماسية العربية نفوذها في الحدّ من الطموح الإسرائيلي في القارة الإفريقية، فقطعت معظم الدول الإفريقية علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي باستثناء جنوب إفريقيا، التي كانت ما تزال تحت حكم نظام الفصل العنصري.

    ومن جهة أخرى لم تيأس ”إسرائيل“ من محاولات إعادة ترميم علاقاتها بالدول الإفريقية، ولعل من أبرز ما نجحت فيه هو استثمارها لتوقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع مصر، مما فتح لها العديد من الأبواب الموصدة أمامها في القارة الإفريقية، التي لطالما انحازت للعالم العربي في صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، فوقّعت اتفاقية تعاون عسكري مع زائير (الكونغو الديمقراطية حالياً) سنة 1981، والتي مهّد لاستئناف العلاقات الديبلوماسية وتطوير تعاونهما عسكرياً وأمنياً. وبعد ذلك توالت الدول التي أعادت علاقاتها مع الكيان الإسرائيلي ففي ثمانينيات القرن العشرين، استُؤنفت العلاقات الديبلوماسية بين ”إسرائيل“ وزائير في أيار/ مايو 1982، وليبيريا في آب/ أغسطس 1983، وساحل العاج في شباط/ فبراير 1980، والكاميرون في آب/ أغسطس 1980، وتوجو في حزيران/ يونيو 1987، قبل أن تستعيد العلاقات الرسمية، في تسعينيات القرن العشرين، مع نحو أربعين بلداً من إفريقيا.

    ومن الجدير بالذكر، فإن الكيان الإسرائيلي استخدم خلال حقبة الثمانينيات أراضي السودان في زمن الرئيس جعفر النميري لنقل الآلاف من يهود الفلاشا، وذلك بمساعدة وضغط أمريكي. أما منطقة البحيرات العظمى فقد لعبت ”إسرائيل“ دوراً بارزاً في الحرب الأهلية بين قبيلتي التوتسي والهوتو، فزودت الجيش البورندي والرواندي بالسلاح. وفي السياق نفسه، دعمت ”إسرائيل“ الحركة الانفصالية في جنوب السودان الذي انفصل لاحقاً عن السودان. كذلك ساندت ”إسرائيل“ أثيوبيا في صراعها مع الصومال. وقبيل إعلان استقلال أريتريا سنة 1993، قامت ”إسرائيل“ بافتتاح سفارة لها في العاصمة أسمرا. ولحقتها بعد ذلك أوغندا التي استأنفت علاقتها سنة 1994، وتنزانيا سنة 1995، بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عاماً.

    ثالثاً: البعد السياسي والديبلوماسي في العلاقة الإسرائيلية الإفريقية:

    تسعى الديبلوماسية الإسرائيلية خلال السنوات القليلة القادمة إلى العودة إلى القارة الإفريقية، وتحقيق أعلى درجات النفوذ، حيث قام رئيس الوزراء الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2016 بجولة التقى خلالها برؤساء كل من أوغندا، وكينيا، وجنوب السودان، وزامبيا، ورواندا، ورئيس الوزراء الإثيوبي، ووزير الخارجية التانزاني، وهي كلها باستثناء زامبيا تقع على حوض النيل، الذي يُعدّ شريان الحياة لمصر، وهو ما يعدّ أحد المؤشرات لما تسعى إليه ”إسرائيل“ من محاصرة لمصر.

    حددت الديبلوماسية الإسرائيلية على لسان نتنياهو غاياتها السياسية، إذ صرح بأنه يسعى من خلال تطوير علاقاتها مع دول القارة إلى حشد التأييد الديبلوماسي الإفريقي في المحافل والمؤسسات الدولية، وقد لمست ”إسرائيل“ بعض النجاحات في هذا الصدد، حيث صوتت نيجيريا وبعض الدول الإفريقية الأخرى لصالح المرشح الإسرائيلي لرئاسة اللجنة القانونية في الأمم المتحدة خلال شهر حزيران/ يونيو 2016، كما امتنعت نيجيريا خلال سنة 2014 عن التصويت على مشروع القرار العربي بمجلس الأمن، الداعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي في مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وهو ما أسهم في إفشال تبني الأمم المتحدة لهذا القرار.

    وفي هذا السياق، ومما يدلّ على أن الاعتبارات الديبلوماسية تقع على رأس أولويات نتنياهو، فقد نقل أنه طالب السفراء الأفارقة في تل أبيب صراحة بالتصويت بشكل جماعي لصالح ”إسرائيل“ في المحافل الدولية. وكان ذلك في أثناء مشاركتهم في حفل نُظّم، خلال سنة 2016، في الكنيست بمناسبة تدشين ”لوبي إفريقيا“ في البرلمان حيث قال ”أعي أنّ ممثلي دولكم سيصوّتون في المحافل الدولية بما يتماشى مع مصالح إفريقيا، وأنا أرى أن مصالح إسرائيل ومصالح إفريقيا تقريباً متطابقة، ما يعني أن التصويت لصالح إسرائيل هو بالضرورة تصويت لصالح إفريقيا“ .

    رابعاً: البعد الأمني والعسكري في العلاقة الإسرائيلية الإفريقية:

    سعت ”إسرائيل“ إلى مدّ نفوذها الأمني في القارة الإفريقية بما يتوافق مع استراتيجيتها في توسعة دائرة الحماية إلى خارج حدود دائرة صراعها الجغرافية، حيث قامت ”إسرائيل“ بتأسيس قواعد عسكرية بحرية، ومراكز للمراقبة في أريتريا وأبرزها في أرخبيل دهلك. وحسب تقرير لوكالة الاستخبارات المدنية الأمريكية (ستراتفور) فإن ”الوحدات البحرية الإسرائيلية تتمركز في جزيرة دهلك وميناء مصوع في البحر الأحمر، وهي مواقع تتسم بقدرة استراتيجية متميزة على رصد التحركات البحرية في مدخل البحر الأحمر“، مضيفة أن لـ”إسرائيل” أيضاً قاعدة تنصّت على قمة أعلى جبل في أريتريا ”أمبا سواره“، الذي يرتفع عن سطح البحر نحو ثلاثة آلاف متر، وقد وصل عدد القواعد العسكرية الإسرائيلية في أريتريا إلى ستة قواعد. وتأتي أهمية التواجد الإسرائيلي في هذه المناطق من القارة الإفريقية لما يحققه من قدرات لمنع وصول السلاح إلى حركات المقاومة الفلسطينية، وكذلك لمراقبة الدول المعادية لها بما فيها إيران .

    وعلى المستوى العسكري، سجلت السنوات الطويلة من العلاقات الظاهرة والخفية بين ”إسرائيل“ والعديد من الدول الإفريقية تعاوناً عسكرياً متصاعداً، يتلمس المراقب لهذا التعاون دور ”إسرائيل“ في تثبيت بعض الأنظمة القمعية في القارة، ولو على حساب حياة المدنيين، وفي إشارة إلى أسباب إطالة أمد الحرب الأهلية في جنوب السودان، فقد ذكر تقرير بعثة مجلس الأمن الدولي إلى جنوب السودان في آب/ أغسطس 2015، بأن البعثة قد وجدت أسلحة إسرائيلية الصنع . أضف إلى ذلك السنوات الطويلة من التعاون بين الدولة ذات الصراعات الداخلية والخارجية و”إسرائيل“، حيث تمكنت شركة يافنيه الإسرائيلية —المتخصصة في صناعة الطائرات دون طيار— في سنة 2006 من إبرام صفقة مع نيجيريا، وقد تضمنت الصفقة تزويد نيجيريا بـ 15 طائرة حربية، وتدريب طيارين نيجيريين، وقد ألمح البعض بأن هذه الصفقة هدفت إلى حماية منطقة غرب إفريقيا حيث تتوسع فيها أنشطة الشركات النفطية الأجنبية .

    خامساً: القوى الفاعلة في إفريقيا:

    استُخدِمت القارة الإفريقية خلال سنوات الحرب الباردة كمنطقة تنافس أمريكي روسي، إذ سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاصرة الشيوعية من خلال تعزيز تواجدها في إفريقيا. وما زال النفوذ الأمريكي في القارة متصاعداً إلى جانب النفوذ الفرنسي الذي كان متواجداً كقوة استعمارية في القارة. ويتمثل هذا النفوذ بوجود عسكري في المناطق الإفريقية التي تعدّ دول مصدرة لما يسمى بالإرهاب كمالي التي تنشط فيها فرنسا، هذا بالإضافة إلى المصالح الغربية المشتركة كحماية مصادر الطاقة في القارة.

    من جهة أخرى تسعى دول أخرى إلى مدّ نفوذها إلى القارة الإفريقية منها المنافس الصيني، إذ تعمل على إنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي، التي تعدّ مركزاً للقوات العسكرية الأجنبية. بالإضافة إلى نشاطها الاقتصادي المتنامي في القارة الإفريقية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الدول الغربية المتعاونة مع الاحتلال استخباراتياً وخصوصاً أمريكا وفرنسا قد لا تمانعان من الدفع في تجاه إنجاح القمة الإفريقية، وهو ما قد يتعارض مع المنافس التقليدي للغرب أي الصين.

    من جهة أخرى، نرى بأن النفوذ المغربي خلال السنوات القليلة الماضية بدأ يستعيد حضوره في القارة، وقد وقفت المغرب أمام التمدد الإسرائيلي، إذ رفضت في القمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) المشاركة بسبب حضور نتنياهو. وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي تعمل بشكل ناعم لإثبات حضورها في القارة اقتصادياً وأمنياً، فقد بلغ عدد السفارات التركية في إفريقيا أربعين سفارة، إضافة إلى أربع قنصليات عامّة، ولم يكن لتركيا حتى سنة 2002 إلا سبع سفارات فقط في كلّ إفريقيا، بالإضافة إلى الوجود الديبلوماسي فقد دشنت تركيا سنة 2016 قاعدة عسكرية في الصومال على خليج عدن الاستراتيجيّ (مدخل باب المندب والبحر الأحمر)؛ لتكون أول قاعدة عسكرية تركية في القارة السمراء.

    ومن الجدير بالذكر بأن مصر لعبت دوراً مهماً في منع تغلغل النفوذ الإسرائيلي إلى القارة على مدى سنوات طويلة بالإضافة إلى دور دول المغرب العربي، كما عملت ليبيا دوراً مهماً في ذلك، إلا أن الواقع الحالي في ظلّ غياب الراعي العربي والإسلامي لدول القارة الإفريقية، التي تنتظر مزيداً من الدعم في سبيل إخراجها من حالة الفقر وانعدام الأمن، قد تجد في ”إسرائيل“ ضالتها طالما لم تجد ذلك عند الدول العربية والإسلامية.

    سادساً: العوامل الدافعة في تحقيق التقارب الأفريقي الإسرائيلي:

    يوجد في المنطقة العربية والساحة الدولية مجموعة من العوامل التي قد تشكل قوة دافعة لتحقيق التقارب الإفريقي الإسرائيلي ومنها:

    • استمرار حالة السيولة في المنطقة وحالة الاحتراب بين ثورات الشعوب العربية والثورات المضادة، في اليمن وليبيا وسورية.

    • الأزمة الخليجية، وما تلقيه من عبء واصطفاف في الساحة العربية، وغياب وحدة الموقف حول العديد من القضايا العربية.

    • غياب الدول العربية عن قضايا القارة الإفريقية، وخصوصاً مصر وما لها من وزن كدولة إفريقية لطالما كانت قادرة على توجيه دفة القرار الإفريقي في كثير من القضايا.

    • غياب الاستراتيجية العربية الموحدة تجاه القارة الإفريقية.

    • غياب الإطار الفلسطيني المرجعي الجامع، والذي تمثل سابقاً بمنظمة التحرير الفلسطينية.

    • التقارب العربي الإسرائيلي، سواء من خلال اتفاقيات التسوية السلمية الموقعة أم من خلال التفاهمات غير المعلنة، والتي تستغلها ”إسرائيل“ في تطوير علاقاتها مع الدول المساندة للقضية الفلسطينية.

    • تقارب المصالح الإفريقية الإسرائيلية في العديد من القضايا، وخصوصاً الأمنية منها والعسكرية، وحتى التنموية التي تستطيع ”إسرائيل“ الإسهام فيها بشكل أو بآخر.

    • النفوذ الغربي، وخصوصاً الأمريكي في القارة الأفريقية، التي تدفع أحياناً باستخدام طرف ثالث هو ”إسرائيل“ في تثبيت أو إزاحة بعض الأنظمة بشكل غير مباشر.

    • اللوبي اليهودي الصهيوني النشط، والمكون من رجال الأعمال الإسرائيليين، ومن أبناء البلدان الإفريقية من اليهود.

    سابعاً: العوامل المانعة من تحقيق التقارب الإفريقي الإسرائيلي:

    في المقابل، هناك الكثير من العوامل التي قد تتشكل كقوة مانعة من حدوث هذا التقارب بين الدول الإفريقية و”إسرائيل“ ومنها:

    • الإرث النضالي التاريخي لدول وشعوب القارة الإفريقية في وجه الاستعمار الغربي.

    • صورة الكيان الإسرائيلي، الذي لطالما ساند وتعاون مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

    • الممارسات الإسرائيلية كدول فصل عنصري واضطهاد للآخرين، بما في ذلك العنصرية تجاه اليهود من أصول إفريقية، وتجاه اللاجئين الأفارقة.

    • التواجد التركي والإيراني النشط في السنوات الأخيرة في القارة الإفريقية.

    • رغبة وتحرك بعض الدول العربية خلال السنوات السابقة نحو تطوير العلاقة مع القارة، ومنها قطر والمغرب، هذا بالإضافة إلى تواجد الجزائر وما لها من وزن في القارة الإفريقية.

    • وجود العديد من الدول الإفريقية سواء العربية أم غير العربية، التي ما تزال تساند القضية الفلسطينية والتوجهات العربية ولها وزنها في القارة، مثل جنوب إفريقيا وغيرها.

    • تقاطع مصالح عدد من الدول الإفريقية مع دول عربية.

    • التواجد الإسلامي في القارة الإفريقية، وما يمكن أن يلعبه من دور في تحقيق المساندة للقضايا العربية في القارة الإفريقية.

    ثامناً: السيناريوهات المستقبلية المحتملة:

    ظهر خلال الأسابيع القليلة الماضية حراك فلسطيني وعربي وإسلامي للدفع نحو إفشال عقد المؤتمر الإفريقي الإسرائيلي في توجو خلال الفترة 23–27 تشرين الأول/ أكتوبر القادم، في المقابل ما تزال الجهود الإسرائيلية من جهة وجمهورية توجو من جهة أخرى تعمل على الحشد لإنجاح هذه القمة. أمام هذه التحركات سنحاول أن نرسم السيناريوهات المحتملة لهذه القمة والتي هي:

    السيناريو الأول: فشل المؤتمر بشكل كامل:
    أي بمعنى آخر تفشل توجو و”إسرائيل“ في الحشد الإفريقي للمشاركة في المؤتمر، وبالتالي لا يتم عقده بتاتاً، إلا أن بعض المؤشرات والتحركات التي قامت بها ”إسرائيل“ ومنها: الزيارات التي قام بها أفيجدور ليبرمان سنة 2009 وسنة 2014، بصفته وزيراً للخارجية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الجولة التي قام بها نتنياهو خلال سنة 2016 في شرق إفريقيا، ومشاركته في القمة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ومشاركة دول من غرب إفريقيا في مؤتمر زراعي عُقِد في ”إسرائيل“ في كانون الأول/ ديسمبر 2016. كل ذلك يجعل من سيناريو الفشل الكامل أمراً مستبعداً في الوقت الراهن، ما لم يقع تغيُّر استراتيجي غير متوقع يغير في مسارات الأحداث.

    السيناريو الثاني: نجاح كامل للمؤتمر:
    وبالتالي تكريس الاختراق الإسرائيلي للقارة الإفريقية، بمعنى حضور واسع للدول الإفريقية، وتوسيع دائرة اللقاءات بين القيادات الإسرائيلية والإفريقية على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والشبابية. إلا أن ذلك يتعارض مع مواقف دول فاعلة في القارة من بينها جنوب إفريقيا، والمغرب والجزائر، كما أن دولاً من خارج القارة مثل تركيا وإيران قد تتعاونان في سبيل الوقوف أمام المد الإسرائيلي في القارة الإفريقية. وقد كان لبعض هذه الدول وغيرها من الدول العربية دوراً في الوقوف أمام رغبة ”إسرائيل“ بالدخول كعضو مراقب في الاتحاد الإفريقي ونجحت في عدم تحقيق هذه الرغبة حتى الآن.

    السيناريو الثالث: نجاح جزئي للمؤتمر:
    وهو السيناريو المرجح وفق المؤشرات المتوفرة في الوقت الحاضر، ما يعني انعقاد المؤتمر بمشاركة معقولة من الدول التي باتت مرتبطة عملياً بعلاقات مباشرة مع ”إسرائيل“، مع عجز الكيان الإسرائيلي من تحقيق الأهداف الاستراتيجية للمؤتمر، والتي منها حشد الأصوات الإفريقية لصالحه في المحافل الدولية، أو الدفع نحو تواجد دائم في المنظومة الإفريقية (عضو مراقب في الاتحاد الإفريقي). إذ ما تزال القوى الفاعلة في القارة قادرة على التعطيل في هذا الاتجاه. وقد كانت الخطوة التي قامت بها السنغال في مجلس الأمن أواخر السنة الماضية، وقيامها بإعادة تقديم مشروع قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي بعد أن كانت مصر قد سحبته، مثالاً على قدرة العمل الديبلوماسي سواء من دول عربية أم إسلامية، وبالفعل فقد أقر القرار الذي حصل على 14 من أصل 15 صوتاً بعد امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن التصويت.

    تاسعاً: التوصيات:

    • تشكيل إطار برلماني عربي إسلامي يعمل على الحشد الديبلوماسي ضمن الأطر الرسمية العربية والإسلامية والدفع نحو اتخاذ إجراءات مباشرة.

    • مطالبة مصر بلعب دورها الإقليمي في القارة الإفريقية، والدفع نحو منع عقد المؤتمر لما فيه من خطر على مستقبل مصر بعد تعاظم نفوذ ”إسرائيل“ في دول حوض النيل.

    • الترتيب لمؤتمر فلسطيني إفريقي يحشد الدول الإفريقية لصالح القضية الفلسطينية ويكشف المطامع الإسرائيلية في القارة.

    • التوجه نحو الدول القادرة على إفشال المؤتمر، مثل جنوب إفريقيا، ومصر، وتركيا، وقطر، والسعودية، والمغرب، والجزائر، وغيرها من الدول للتواصل مع الدول التي من المحتمل أن تشارك لثنيها عن ذلك.

    • دعم تحركات المؤسسات المناهضة للعنصرية في الدول الإفريقية للكشف عن حقيقة وطبيعة الاحتلال من خلال برامج توعوية للنخب الإفريقية وللشعب.

    • ترتيب حملة إعلامية في إفريقية مناهضة للمؤتمر.

    • وفي حال عقد المؤتمر، يتم الدفع باتجاه قيام مظاهرات مباشرة أمام مكان انعقاد المؤتمر.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ وائل سعد بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.


     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (102): القمة الإفريقية – الإسرائيلية ومستقبل العلاقات المتبادلة Word (12 صفحة، 99 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (102): القمة الإفريقية – الإسرائيلية ومستقبل العلاقات المتبادلة  (12 صفحة، 579 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 31/8/2017

  • التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية

    تقدير استراتيجي (103) – أيلول/ سبتمبر 2017.

    ملخص:

    سمحت الوضعية القانونية للفلسطينيين في سورية بممارسة وطنية شكلت الشخصية السياسية لهم من خلال تطور دورهم الريادي في مراحل النضال الفلسطيني المختلفة.

    لقد انقسم فلسطينيو سورية بوتيرة مشابهة لحال المجتمع السوري في اصطفافهم السياسي خلال الحرب الدائرة هناك، ووثقت التقارير الحقوقية حالة قتل واعتقال وتهجير مشابهة تقريباً للحالة السورية بالعموم.

    بعد ستة أعوام فإن سؤال المستقبل ما يزال يلقي بظلال ثقيلة وغامضة على وضع فلسطينيي سورية، خصوصاً مع تركز أكثر من ثلاثة أرباعهم في العاصمة دمشق التي تضاعف عدد سكانها من 4.4 ملايين في 2010 إلى 8 ملايين في 2016، وشهدت تحولات ديموجرافية نوعية. وهو ما يضعنا أمام ثلاث سيناريوهات محتملة، وهي:  السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. السيناريو الثاني هو عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011. وأما السيناريو الثالث فهو تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد. وعلى ما يبدو وفق المعطيات المتوفرة فإن السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحاً.

    أولاً: الفلسطينيون في سورية قبل الأزمة:

    يعتقد كثير من المراقبين لأحوال اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة أن أوضاع فلسطينيي سورية كانت الأوضاع الأفضل نسبياً من الناحية القانونية والسياسية والاجتماعية. فالمقارنة مع أوضاع اللاجئين في الدول المجاورة وخصوصاً لبنان، تُظهر فارقاً واضحاً لصالح الوضع القانوني الذي يتمتع به اللاجئ الفلسطيني في سورية. ففي سنة 1956 صدر القانون 260 الذي عدَّ اللاجئ الفلسطيني في سورية مساوياً للمواطن السوري في كافة الحقوق والواجبات ما عدا حقَي الترشح والانتخاب. وعُدَّ هذا القانون معياراً في السنوات اللاحقة لكثير من القوانين الصادرة عن الحكومات السورية المتعاقبة. وبالرغم من التفريق بين شرائح متنوعة من اللاجئين الفلسطينيين داخل سورية على قاعدة تاريخ اللجوء إلى البلاد، فقد بقي أكثر من 85% من فلسطينيي سورية مشمولين بوضع قانوني معادل للمواطن السوري في أغلب الحقوق والواجبات على أساس القانون 260.

    بقي المكون الفلسطيني في سورية يحمل طبيعة سياسية داخل البلاد بحكم الموقع الجيو-سياسي لسورية من جهة. وبحكم طبيعة النظام السياسي الذي حكم البلاد غالبية العقود الماضية منذ سنة 1963 حتى اليوم؛ فقد قامت الأسس المعيارية لنظام البعث في سورية على تبني موقف سياسي يجعل من القضية الفلسطينية في قلب خطابه وتحركاته كأحد أهم مكتسبات الشرعية السياسية داخلياً وعلى مستوى الإقليم. وهو ما جعل البيئة الوطنية بالنسبة للفلسطينيين في مخيماتهم تحظى بما هو أكثر من المسموح به على مستوى البلاد، فأسهم ذلك في بناء الشخصية الوطنية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، الذين طوروا دورهم في مختلف مراحل النضال الفلسطيني كطليعة استقطبت مستوى عالٍ للعمل الفلسطيني الفصائلي والشعبي والسياسي العام.

    ثانياً: الفلسطينيون في بدايات الأزمة السورية:

    ألقت حالة الاندماج المجتمعي بين الفلسطينيين والسوريين ظلالها على كل مفاصل الحياة العامة. ويبدو أنها كانت استحقاقاً لا مفر منه مع اندلاع الأحداث في الشارع السوري سنة 2011. فقد عاش الفلسطينيون في سورية في ترقبٍ قلقٍ من تطور أحداث الشارع السوري خلال الأشهر الأولى للأزمة في 2011، خصوصاً مع تعمد بعض الأطراف الرسمية الزجّ بالفلسطينيين في الأحداث في درعا واللاذقية، كمحاولة بدت لتطويق الاحتجاجات في الأحياء السورية، والإيحاء إعلامياً أنها ذات هوية غير محلية، كما حدث في التقارير الإعلامية للصحافة الرسمية وشبه الرسمية حول أحداث درعا في 21 آذار/ مارس 2011، وفي المؤتمر الصحفي لمستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان حول أحداث اللاذقية في 26 من الشهر نفسه. ومع امتداد الاحتجاجات السورية على مستوى البلاد ووصولها إلى مناطق بعيدة عن مركز الوجود الفلسطيني في العاصمة والمدن الرئيسية، بات رهان البعض على تصدير الأزمة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين غير ذي جدوى، فتعاملت السلطات مع الواقع كما هو، وقامت بمحاولة تحييد المخيمات خلال المرحلة التالية. فقد اجتاحت قوات النظام السورية مدينة درعا في شهر نيسان/ أبريل 2011 ودخلت كافة أحياء المدينة، باستثناء مخيم درعا، الذي اضطلع بدور إغاثي مشهود في الأشهر التي تلت احتلال المدينة وعسكرتها. تكرر الأمر في مخيم اللاذقية الذي تمّ تهجير سكانه في آب/ أغسطس 2011 خلال قصف حي السكنتوري السوري المتاخم للمخيم، والذي قاد أول احتجاجات شعبية في المدينة، ولم يتم استهداف المخيم لذاته حينها، وإنما دفع المخيم فاتورة الجغرافيا.

    ثالثاً: دخول الفلسطينيين إلى قلب الأزمة والآثار الحالية:

    على الرغم من دخول عدد من النشطاء الفلسطينيين مبكراً على خطّ الثورة السورية، خصوصاً في مخيمي درعا واليرموك، إلا أن الانخراط الفعلي للمخيمات الفلسطينية في الأحداث لم يبدأ قبل شهر تموز/ يوليو 2012، بعد حادثة إعدام 14 جندياً من مجندي جيش التحرير الفلسطيني في منطقة إدلب، الحادثة التي خضعت لجدل كبير حول هوية الفاعل بين اتهام النظام بافتعالها أو المعارضة بارتكابها. ومع دخول دمشق، حيث يسكن ثلاثة أرباع الفلسطينيين في سورية، قلب الاضطرابات بعد تفجير مبنى الأمن القومي في حي الروضة في 18 تموز/ يوليو 2012، كانت المخيمات الفلسطينية في العاصمة تدخل مرحلة دموية قاسية.

    بدأ دخول المخيمات الفلسطينية إلى الأحداث بطابع إغاثي إنساني، حين هَجَر سكان الأحياء الدمشقية، خصوصاً الميدان والزاهرة، مساكنهم نتيجة الحملة العسكرية المكثفة هناك. ونزح إلى مخيم اليرموك وحده خلال تلك الفترة قرابة 250 ألف نازح سوري. وهي الفترة التي بدأ فيها الجدل حول تشكل قوة فلسطينية موالية للنظام بالظهور إلى السطح، حيث نفذت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة مشروع اللجان الشعبية المسلحة، بالتنسيق مع السلطات وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى داخل مخيم اليرموك في مرحلة شديدة التوتر، أدت إلى انهيار الأوضاع الأمنية كلياً مع نهاية سنة 2012، حين دخلت كتائب المعارضة المسلحة مخيم اليرموك، وترافق ذلك مع نزوح أهلي كبير لسكان المخيم خوفاً من القصف والأعمال الحربية المتوقعة.

    خلال هذه المرحلة، كانت الأوضاع الميدانية في العاصمة تتدهور بشكل دراماتيكي، فقد دخلت المعارضة المسلحة أكبر مخيمين بعد اليرموك في دمشق وهما الحسينية والسبينة الذي يبلغ تعداد الفلسطينيين فيهما مجتمعين قرابة 90 ألفاً. وأدى هذا إلى تهجير كبير للسكان. وبفعل الأعمال العسكرية اللاحقة فقد استعاد النظام في أواخر سنة 2013 المخيمَين، لكنه منع الأهالي من العودة إلا بشكل محدود، اعتباراً من النصف الثاني من سنة 2016.

    رابعاً: فلسطينيو العاصمة:

    وقع مخيم اليرموك الذي كان يبلغ تعداد سكانه من الفلسطينيين نحو 220 ألفاً تحت ظروف مأساوية، شهد فيها حصاراً أودى بحياة 196 جوعاً ومرضاً. وعبر المراحل المختلفة لم يتبقَ في مخيم اليرموك إلا قرابة ثلاثة آلاف نسمة فقط.

    إن القراءة العامة لأوضاع الفلسطينيين في سورية يمكن التقاطها من خلال الوجود الفلسطيني في العاصمة دمشق التي كانت حتى قبيل الأزمة موطناً لنحو ثلاثة أرباع فلسطينيي سورية أو يزيد. وعلى الرغم من حضور مخيمات درعا والرمل وحندرات بقوة في مشهد الأزمة، إلا أن التعداد العام لسكان هذه المخيمات يجعل القراءة من خلالها مسألة جزئية بالرغم من أهميتها.

    فبالنظر إلى المخيمات الكبرى في دمشق يمكن ملاحظة التراجع الحاد في التعداد السكاني الفلسطيني كما يلي:

    مخيم اليرموك من 220 ألفاً بقي داخله نحو 3 آلاف فقط.

    مخيم الحسينية من 65 ألفاً، سُمح لنحو 30 ألفاً بالعودة حتى اليوم.

    مخيم السبينة من نحو 33 ألفاً، سُمح لـ 3 آلاف فقط بالعودة حتى اليوم، ويتوقع أن يسمح لألفين آخرين. كما أن السماح بالعودة تتم فقط للقسم الجنوبي من المخيم الذي يقترب من الريف الحوراني، وما يزال سكان القسم الشمالي المتصل بأحياء القدم والعسالي القريبة من مركز العاصمة محظرواً عليهم العودة.

    لا بدّ من ملاحظة أن أكثر من نصف الفلسطينيين في سورية يسكنون هذه المخيمات الثلاث (بحدود 310 آلاف)، والباقي يتوزع على عشرة مخيمات أخرى، والأحياء والمدن السورية خارج المخيمات.

    لقد وصل الوضع الميداني في مخيم اليرموك حيث باتت كل الفصائل المسلحة داخل المخيم بما فيها تنظيم داعش الذي يطلق على نفسه تنظيم الدولة الإسلامية، على استعداد لتوقيع أيّ تسوية للخروج الآمن من المخيم، ولكن كل هذه الاتفاقيات فشلت في التوصل إلى صيغة نهائية، حتى اليوم، دون وجود أسباب جوهرية لذلك. وهذا يضع مستقبل مخيم اليرموك تحديداً (الأقرب لقلب العاصمة؛ ستة كيلومترات) أمام سؤال كبير. وبالرغم من أن مخيم خان الشيح شهد تطورات مأساوية، إلا أن سيطرة سلطات النظام عليه في أواخر سنة 2016 بعد التسوية التي أبرمت مع الجماعات المسلحة والإغاثية داخل المخيم لم تدفع بالمخيم إلى مصير مشابه لمخيمات اليرموك والحسينية أو السبينة، حيث عاد حتى اليوم قرابة نصف سكان المخيم، ورُفعت القيود تقريباً عن النازحين من سكانه في المناطق المجاورة. إن الفارق الجوهري الوحيد بين وضع مخيم خان الشيح ومخيمات جنوب العاصمة (اليرموك، والسبينة، والحسينية) هو موقعه الجغرافي الطرفي، حيث يقع على بعد 25 كم جنوب غرب العاصمة.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل لفلسطينيي سورية:

    الأمر الأهم في تصوراتنا للاحتمالات المستقبلية هو التغيرات الجوهرية التي طرأت على البنية الديموجرافية في مدينة دمشق، حيث يسكن نحو ثلاث أرباع اللاجئين الفلسطينيين، ثلثاهم في المخيمات الثلاث (اليرموك، والحسينية، والسبينة) التي يفرض النظام قيوداً صارمة على عودة أهاليها.
    بناءً على ما سبق فإن الاحتمالات قد تنحصر في ثلاثة سيناريوهات:

    السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“:

    وهذا يلبي التطلعات الأمنية للسلطات التي تبدو في دمشق قائمة على أساس وقائع التحولات الديموجرافية التي خلفتها الحرب.

    لقد شهدت العاصمة دمشق هجرات واسعة بالاتجاهين، إلى خارج وإلى داخل المدينة، إلا أن عدد سكانها تضاعف تقريباً منذ بداية الأزمة حتى اليوم. ففي سنة 2010 قدر الإحصاء الرسمي للمدينة عدد سكانها بـ 4.4 مليون نسمة، وفي سنة 2016 تضاعف هذا العدد ليصبح 8 ملايين نسمة وفق تأكيدات عضو مجلس محافظة دمشق حسام البيش، وهذا بالرغم من حالة التهجير التي حدثت لسكان المدينة خلال سنوات الحرب (بلغت تقديرات اللاجئين السوريين كافة خارج البلاد 6 ملايين، أي ربع السكان). هذه الزيادة الهائلة في تعداد سكان العاصمة تعني بالضرورة أزمة سكن خانقة (كانت العاصمة تعاني منها قبل الأزمة). وهي أزمة تتناقض بشكل مباشر مع سلوك النظام تجاه مخيمات فلسطينية كبرى في العاصمة ما تزال مساكنها خالية في أجزاء كبيرة منها، على الرغم من الهدوء التام فيها منذ سنة 2013.

    إن المخيمات ذات الكثافة السكانية العالية والقريبة من مركز العاصمة والتي تعرضت لتطورات ميدانية خلال فترة الأزمة، قد لا يكون بالإمكان إعادتها كما كانت عليه قبل سنة 2011. وعليه فإن السلوك الحالي للسلطات تجاه هذه المخيمات ومنع أيّ تسويات فيها تسمح بعودة طبيعية للسكان خصوصاً في مخيم اليرموك، قد يعني مشروع إعادة توزيع الفلسطينيين داخل العاصمة بما يخدم الاحتياجات الأمنية للنظام. يقترب هذا الاحتمال مع تسريبات ما تزال تحتاج إلى تأكيد حول مشروع ناقشته محافظة دمشق حول إعادة تخطيط منطقة جنوب العاصمة (جنوب المتحلق الجنوبي) من المنطقة الممتدة من داريا حتى طريق المطار الدولي، وهي منطقة تقع فيها كبرى مخيمات العاصمة التي تعاني من عدم السماح للأهالي بالعودة الطبيعية (اليرموك، والحسينية، والسبينة). إذ تقول التسريبات أن المشروع يهدف لتأمين جنوب العاصمة، الذي كان البوابة الأوسع للاضطرابات العسكرية خلال الأزمة، من خلال إعادتها عمرانياً.

    السيناريو الثاني: عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011:

    وهو سيناريو يرى أن قدرة النظام على الصمود ارتكزت أساساً على قدرته على اجتراح جدلية قائمة على تفسير أو تبرير، أحياناً، سلوكه القمعي ارتكازاً على موقفه السياسي الذي يطرح القضية الفلسطينية في صلب خطابه العام.

    على الرغم مما يحمله هذا الطرح من موضوعية في تفسير المآلات التي وصل إليها الوضع السوري، إلا أنه يفسر جزءاً يسيراً من النتيجة التي ربما نجحت في صناعة حكاية متداولة في مستوى القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام السوري لا أكثر. ويبقى شكل التحالفات والتحولات الإقليمية وتداعيات الثورة المضادة بعد الربيع العربي وحجم إمكاناتها إطاراً تفسيرياً أوسع مما يمكن اختزاله في الحالة الفلسطينية. خصوصاً بالنظر لما تعرض له الفلسطينيون في سورية حيث وثّقت المؤسسات الحقوقية 3,580 قتيلاً فلسطينياً، تتحمل السلطات مسؤولية وفاة ثلاثة أرباعهم تقريباً، فيما ما يزال ملف أكثر من 1,600 معتقل فلسطيني مجهولاً لديها. ولو نظرنا في بعض التحولات القانونية التي شهدتها المرحلة الماضية، مثل استثناء الفلسطينيين من إعلان توظيف قدمته وزارة التربية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2012، واستثناء الفلسطينيين من الاستفادة من مرسوم الابتعاث العلمي لسنة 2013 كما كان معمولاً به في السابق، فإن كل هذا قد يعني استعداداً حكومياً كبيراً لاتخاذ إجراءات تعسفية بحق الفلسطينيين لإعادة إنتاج وضعيتهم القانونية، كأقلية تحتاج حماية السلطة في أي منعطف.

    السيناريو الثالث: تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد:

    على الرغم من التداول المستمر لهذا السيناريو بشكل شعبوي، وبروز مؤشرات ما في اتجاهه، إلا أن الوقائع بعد ستة أعوام من الحرب لا تكفي للركون لهذا الاحتمال. فبالرغم من الحقيقة التي تقول إن الصراع السوري بات ملفاً إقليمياً ودولياً، ومن الصعب الوصول إلى حلّ كامل بدون نقاش كافة المسائل المرتبطة بوجود الكيان السياسي لنظام سورية المرتبط بفكرة ”القضية الفلسطينية“ وبالتالي قضية اللاجئين الفلسطينيين كجوهر للصراع، فالواقع ما يزال يشير إلى وجود أكثر من 400 ألف فلسطيني داخل سورية. والعدد المهجّر خارج البلاد من فلسطينيي سورية البالغ تقديراً 175 ألفاً يقترب من نسبة المهجرين السوريين التي تبلغ ربع التعداد العام للسكان، وهو مؤشر إلى أن عملية التهجير نتجت عن إجراءات واحدة تخص كل السكان في البلاد. أضف لكل ذلك أن فكرة ”القضية الفلسطينية“ في خطاب النظام شكلت مستنداً لا بدّ من الإقرار بثبوته لدى شريحة ليست قليلة، ولن يتم التخلي عنه إذا أثبت نجاعته.

    وعليه، فإن السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة المقبلة قد ترجح السيناريو الأول على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. وهو سيناريو قد يعطي تفسيراً لتباين التعامل العام للسلطات في إعادة المهجّرين الفلسطينيين إلى مخيماتهم المختلفة بعد استقرار وضعها، إذ يُظهر الرصد تساهلاً في السماح بالعودة إلى المخيمات الطرفية مثل خان الشيح في العاصمة، ومخيمات حمص، وحماة، واللاذقية خارج العاصمة. فيما يبدو التشدد واضحاً في مخيمات الخط الجنوبي من العاصمة والتي تقترب من مركز دمشق أكثر من غيرها مثل اليرموك، والحسينية، والسبينة. وبالنظر إلى ما يتردد حول مشروع ”سورية المفيدة“، فإن ”الفلسطيني المفيد“ هو جزء من هذه الرؤية إن صدقت، وستضع الاعتبار الأمني لوجوده من عدمه معياراً للسلوك العام للسلطات في هذا الملف.

    سادساً: توصيات ومقترحات:

    1. التأكيد دوماً على ضرورة الالتزام بالقانون 260 لسنة 1956 وعدم المساس به في أي تطور لوضع الفلسطينيين في سورية.

    2. مع تآكل السيادة الوطنية للدولة السورية، فإن أي تطور على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية ينبغي ألا يكون مسألة سوريّة داخلية، بل لا بدّ من إشراك الفلسطينيين (كافة مستوياتهم) في بلورة مستقبل مخيماتهم في سورية.

    3. في ظلّ الانسجام الطارئ بين موقف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع النظام السوري، فإن التوافق الفلسطيني – السوري الرسمي قد يبدو متاحاً تجاه أي رؤية مستقبلية. وهذا يطرح مخاطر الاتفاق على شكل يخدم التسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي كانت وما زالت تصطدم بعقبة اللاجئين، خصوصاً كتلة الفلسطينيين في سورية، بحكم الدور والموقف ضدّ التسوية خلال الفترة الماضية. هذا لا بدّ أن يستدعي دوراً للمستويات غير الحكومية فلسطينياً في تقرير أي تطور محتمل.

    4. ضرورة أن تولي الجهات الفلسطينية الفاعلة (فصائل ومؤسسات) أولوية لوضع ومستقبل فلسطينيي سورية، والتأكيد على نقطة الحياد التام كمحطة انطلاق في أي نقاش حول المسألة مع الجهات ذات الصلة.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ طارق حمود بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.


     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية Word (10 صفحات، 94 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية  (10 صفحات، 559 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 29/9/2017

  • التقدير الاستراتيجي (115): إجراءات وزارة العمل اللبنانية والحراك الفلسطيني: الخلفيات والسيناريوهات المحتملة

    تقدير استراتيجي (115) – آب/ أغسطس 2019.

    ملخص:

    تسببت خطة وزارة العمل اللبنانية لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية، والتي طال تطبيقها العمل وأرباب العمل الفلسطينيين، بحراك عفوي احتجاجي عارم وشامل في وسط اللاجئين الفلسطينيين، الذين يشعرون بالقهر والظلم نتيجة سياسات حكومية متراكمة على مدى 70 عاماً.

    لم تأخذ خطة وزارة العمل بعين الاعتبار التعديلات التي طرأت على قانون العمل، وخصوصاً قانوني 128 و129؛ ولم تراع مخرجات لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، التي وافقت عليه الأحزاب والقوى اللبنانية. بالإضافة إلى ذلك وهو الأهم أن الوجود الفلسطيني في لبنان لا يشكل عبئاً، وهو ليس عنصر منافسة، بل من الممكن الاستفادة من خبراته وإمكانياته لخدمة الاقتصاد اللبناني.

    أمام اختلاف المقاربات نحن أمام ثلاث سيناريوهات محتملة، إما "الكل يخسر": أي التشبث بقرار "إنفاذ القانون" من جهة الوزارة واستمرار التحركات الشعبية المطالبة بكافة الحقوق، في المقابل استمرار التصعيد المتبادل. وأما السيناريو الثاني: الاستفادة من تركز الأنظار وانشغال الساحة بالحراك الشعبي وتفاعلاته لتصحيح واقع اللاجئين الفلسطينيين بشكل مستعجل وكامل. وأما السيناريو الثالث فهو الوصول إلى خريطة طريق من خلال مقاربة تنصف اللاجئين الفلسطينيين ولا تحرج الوزارة، وتتوافق في الوقت نفسه مع مخرجات لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وتبني عليها.

    من الواضح بأن السيناريو الثالث هو السيناريو الأقرب للواقع، والذي يتطلب من لجنة الحوار اللبناني ومن القوى الفلسطينية واللبنانية ومن الوزارة القيام بمبادرات، تستند إلى تعاون فعال، وإلى إحصائيات دقيقة، وتسعى إلى قوننة وتنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان إلى حين عودته إلى فلسطين.

    مقدمة:

    قام وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان، في تموز/ يوليو 2019، بوضع خطة لمكافحة العمالة الأجنبية غير الشرعية في لبنان، وسرعان ما أخذ هذا الملف مَنْحىً سياسياً، كما هي الحال في معظم الملفات في لبنان، بغض النظر عن نوعية الملف سواء أكان اقتصادياً أم بيئياً أم اجتماعياً. وقد طالت هذه الخطة على صعيد التطبيق العمال وأرباب العمل الفلسطينيين.

    من هنا أتت التحركات الفلسطينية التي أخذت شكل الهبة الشعبية العفوية العارمة الرافضة لإجراءات وزير العمل، والتي نجحت في تنظيم نفسها ذاتياّ وعكست حالة الاحتقان المتزايد في صفوف الفلسطينيين على أوضاعهم المعيشية والإنسانية في لبنان، على مدى سبعين عاماً، وطوال ثلاثة أجيال. وفي هذا الإطار هناك مجموعة من الملاحظات:

    • إن التحركات الشعبية الفلسطينية أتت بشكل عفوي، وقد لوحظ أن الشارع الفلسطيني سبق قياداته في تحركاته، واضطرت بعض القوى الفلسطينية المترددة للحاق بالتحركات الشعبية. وأظهرت التحركات بالرغم من شمولها وعنفوانها مقداراً عالياً من الانضباط والسلوك الحضاري. ثم إن الشارع الفلسطيني وضع سقوفاً قد تكون أكثر علواً من سقوف قيادته أحياناً كثيرة؛ فالشارع لا يراعي متطلبات الدبلوماسية السياسية، ولا يمعن في قراءة وتحليل الواقع كما يفعل السياسي.

    • من المستغرب وضع خطة "لمكافحة" العمالة الأجنبية في لبنان دون الاعتماد على إحصائيات واضحة ودقيقة، أو حتى تقريبية، توضح عدد العاملين من الفلسطينيين أو باقي الجنسيات، وتوزيعاتهم على قطاعات العمل، وحاجات سوق العمل.

    • بغض النظر عن النوايا، ومن وجهة نظر مؤيدة للقضية الفلسطينية، يطرح مراقبون تساؤلات حول توقيت هذه الإجراءات، والتي أتت في ظل الضغوط الأمريكية لإلغاء الأونروا وتصفية قضية اللاجئين، وإنفاذ ما يعرف بـ "صفقة القرن". مع ملاحظة أن وزير العمل اللبناني نفى لذلك تماماً، وأكد عدم الترابط بينهما.

    خلفيات المشهد:

    من الواضح بأن لبنان قد دخل في استحقاقات داخلية سياسية واقتصادية حساسة؛ وهو ما انعكس سياسياً بتفاهمات داخلية على قانون انتخابات جديد؛ أتاح للقوى السياسية الأساسية تقاسم السلطة فيما بينها، ومحاولتها تجاوز التعطيل السياسي الذي أصاب البلد، كما حدث في انتخابات الرئاسة لمدة عامين، إلا أن تعقيدات الوضع السياسي انعكست على تشكيل الحكومة وعلى اعتماد ميزانيتها، وعلى حالة من "التنافس الشعبوي" من بعض الأطراف في ملفات عديدة بيئية واقتصادية وسياسية، أدت إلى تعطيل الحكومة في فترة اقتصادية حساسة يمر بها لبنان.

    بالإضافة إلى الواقع السياسي المتأزم، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الفترة هي من أخطر الفترات التي يتأزم بها الوضع الاقتصادي اللبناني، حتى باتت تهدد تصنيفه الائتماني العالمي وتهدد استقرار وضعه النقدي. ومن أبرز هذه الحقائق:

    • تصاعد الدَّين العام اللبناني إلى نحو 87 مليار دولار أمريكي، وهو ثالث أعلى نسبة دين إلى الناتج المحلي في العالم. كما إن خدمة الدَّين العام تشكل نحو 35% من الموازنة العامة التي أقرت في مجلس النواب لسنة 2019.

    • تقدَّر الأموال المحولة من لبنان إلى الخارج بنحو مليار دولار شهرياً، وهو رقم يشكل تهديداً على الاستقرار النقدي في لبنان، وفي هذا الإطار هناك من يعزو هذا الأمر إلى العمال الأجانب، وهو أمر لا ينطبق على العمال الفلسطينيين الذين ينفقون ما يجنونه في لبنان؛ بسبب لجوئهم إليه منذ أكثر من سبعين عاماً، بل إنهم يستقبلون تحويلات مالية من الخارج بمئات الملايين من الدولارات مما يعدّ عنصر تنمية ودعم للاقتصاد اللبناني.

    • ارتفاع نسبة العجز في الموازنة العامة لسنة 2018 حتى وصلت إلى نحو 11.5%. وتزايد الاحتجاجات الشعبية على تقليصات الموازنة، التي مسَّت شرائح مختلفة من اللبنانيين، بما في ذلك المتقاعدين العسكريين وغيرهم.

    المقاربة اللبنانية:

    نظم لبنان عمل الأجانب بمرسوم حمل رقم 17561 - صادر في 18/9/1964، ويتضمن هذا المرسوم ثلاث قواعد للعمل في لبنان وهي: شرط الحصول على إجازة عمل. القاعدة الثانية: الأفضليّة للعامل اللبناني. القاعدة الثالثة: مبدأ المعاملة بالمثل. كما يقع وفق المرسوم على عاتق وزير العمل خلال شهر كانون الأول/ ديسمبر من كل عام تحديد المهن والأعمال التي يجب أن تحصر باللبنانيين، وتتراوح هذه المهن 50-70 مهنة.

    وفي هذا الإطار، فإن وزراء العمل المتعاقبين في الحكومات السابقة لاحظوا عدم الإنصاف في تطبيق هذه المعايير بحذافيرها وأدركوا استحالة تطبيقها على اللاجئ الفلسطيني، باعتبار لجوئه القسري، الذي ينشئ له حقوقاً قانونية وفق المعايير والأنظمة الدولية؛ مما لم يلتزم به القانون اللبناني الذي تعامل معه كعامل أجنبي أحياناً، وكلاجئ أحياناً أخرى. وبالتالي لجأ بعض وزراء العمل إلى محاولة التخفيف من معاناة اللاجئ الفلسطيني بقرارات خففت بعض من الضغط عن العامل الفلسطيني، ومنها ما قام به وزير العمل طراد حمادة سنة 2005، الذي خفف من قيود العمل على بعض المهن، وكذلك القرارات الصادرة عن وزير العمل بطرس حرب والوزير محمد كبارة، والتي أعفت العامل الفلسطيني من بعض متطلبات استخراج إجازة العمل واستثنت الفلسطينيين المولودين على الأراضي اللبنانيّة، والمسجّلين بشكل رسميّ في سجلّات وزارة الداخليّة، من ممارسة المِهن المحظورة على الأجانب.

    وقد أقر البرلمان اللبناني في آب/ أغسطس 2010 تعديلات على المادة 59 من قانون العمل والمادة 9 من قانون الضمان الاجتماعي وأٌقر القانونين 128 و129، وبناء على هذه التعديلات ألغي مبدأ المعاملة بالمثل للفلسطيني، كما أعفي من دفع رسوم اصدار إجازة العمل. أما ما يخص الضمان الاجتماعي فقد سمحت هذه التعديلات للعامل الفلسطيني الحاصل على إجازة عمل أن ينتسب إلى صندوق الضمان الاجتماعي على أن يدفع 23.5% من الأجر وحصر الاستفادة بتعويضات نهاية الخدمة (8%) وطوارئ العمل، دون الاستفادة من التعويضات الأخرى (العلاج الصحي والأمومة) التي يقدمها الصندوق للمنتسبين إليه من اللبنانيين.

    وبالرجوع إلى خطة وزارة العمل التي أعلنها الوزير أبو سليمان في حزيران/ يونيو 2019، يلاحظ المراقبون عدداً من الإشكاليات التطبيقية منها:

    • أن الخطة لم تُميّز بين العامل الأجنبي والعامل الفلسطيني، ولم تأخذ بعين الاعتبار أن العامل الفلسطيني لا ينطبق عليه مبدأ المعاملة بالمثل، وفق التعديلات سالفة الذكر.

    • أن وزير العمل لم يصدر يُحدد فيها المهن والأعمال المحصورة باللبنانيين، كما يفعل وزراء العمل كل عام وفق اختصاصاتهم، وذلك قبل تطبيق خطة "مكافحة العمالة الأجنبية".

    • لم تراعِ الخطة مخرجات لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني والتي صدر عنها وثيقة وقعت عليها القوى اللبناني الرئيسة، ومنها حزب القوات اللبناني الذي ينتمي إليه وزير العمل، وقد أكدت هذه الوثيقة في توصياتها على ضرورة إصدار مراسيم تطبيقية لقانوني العمل المعدل رقم 128 و129. تشكِّل هذه الوثيقة أرضية جيدة في سبيل الوصول إلى مقاربة تخدم تنظيم العمالة الفلسطينية في لبنان وتنصفهم بما يخدم لبنان واقتصاده.

    المقاربة الفلسطينية:

    • هذه المعاناة التي يمر بها الفلسطيني منذ 70 عاماً أدت إلى نزيف كبير في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ فهاجر الكثيرون وخصوصاً من خريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات بحثاً عن الرزق، وتقلّصت أعداد الفلسطينيين في لبنان؛ إذ إن أعداد اللاجئين المسجلين لدى الأونروا في لبنان يصل إلى 530 ألفاً؛ غير أن العدد الحقيقي لا يكاد يصل إلى نصف ذلك (نحو 220 ألفاً). مع الإشارة إلى أن الإحصاء اللبناني الذي شملهم سنة 2017 قدَّر أعدادهم بنحو 175 ألفاً.

    • يرى مراقبون أن توقيت هذه الإجراءات قد يصب عملياً، بغض النظر عن النوايا، في صالح "صفقة القرن"؛ في وقت يتوحد فيه الفلسطينيون واللبنانيون ضدها.

    • وترى القوى الفلسطينية أن التأكيد على أن الفلسطيني أجنبي يحتاج إلى إجازة عمل، قد يسهم في إسقاط صفة اللجوء، ولا يتسق مع تعريفه كلاجئ جاء قسراً إلى لبنان. وهو ما يسعى إليه الكيان الإسرائيلي وأمريكا سواء لتمرير "صفقة القرن" أم لإنهاء دور الأونروا مستقبلاً.

    • تقدَّر القوى العاملة الفلسطينية في لبنان بنحو 90 ألف عامل فلسطيني وهي في إطارها الفعلي بحدود 51 ألف عامل، وتقدَّر نسبة البطالة بنحو 56%، ويعمل 41% من القوى العاملة فعلياً بالأعمال الحرة (معظمها في المخيمات أو التجمعات الفلسطينية)، و37.8% أجراء، ويقدر عدد العاملين في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) بنحو ثلاثة آلاف موظف وعامل؛ فالحديث هنا عن قوى عاملة نشطة تتجاوز عملياً 10-20 ألف عامل فلسطيني في الهيئات والمؤسسات والشركات في لبنان التي تحتضن ما بين 200-275 ألف عامل (باستثناء العمال الفلسطينيين والسوريين) وفق الإحصائيات الرسمية، من بينهم نحو 155 ألف عاملة منزل.

    • الشعب الفلسطيني في لبنان لا يشكل عبئاً اقتصادياً على الدولة اللبنانية ولا تنفق من موازنتها المالية عليه، حيث إن إدارة معظم شؤونه في المخيمات تقع تحت وصاية وكالة الأونروا، بما فيها التعليم والصحة وحتى البنية التحتية. وبمعنى آخر فإن القوى العاملة الفلسطينية تدخل إلى سوق العمل اللبناني بلا تكلفة مالية على الدولة ومؤسساتها الرسمية.

    • ترى القوى الفلسطينية أن الصيغة المطروحة بفرض إجازة عمل على الفلسطينيين؛ هي صيغة غير واقعية، ولا يمكن تطبيقها على شريحة واسعة من العمال الفلسطينيين، وستسهم بمزيد من البطالة في الوسط الفلسطيني، وهي نسبة مرتفعة أصلاً، وستجعل من العامل الفلسطيني إما مخالفاً للقانون أو عاطلاً عن العمل.

    • لا تُعدُّ التحركات الشعبية الفلسطينية ثورة على قرار الوزير أبو سليمان، بقدر ما هي ثورة على حالة الظلم والحرمان التي يُعاني منها الفلسطينيون في لبنان على مدى سنوات طويلة بحرمانهم من العمل بعشرات الوظائف ومنعهم من التملك، وثورة على حالة العزل والتضييق في المخيمات، وهي لا تستهدف شخص الوزير ولا حزبه، ولا الخروج على القانون والأنظمة، ولذلك عبرت عن نفسها بشكل سلمي حضاري. فالمقاربة حقوقية إنسانية أخلاقية بأن من حقهم أن يعيشوا بكرامة وأن يعاملوا بإنسانية.

    • أن دمج العامل الفلسطيني في سوق العمل اللبناني يسهم بشكل كبير في تجاوز مشاكل اجتماعية واقتصادية وأمنية وسياسية، وفي منع استغلال اللاجئ الفلسطيني بما لا يخدم المصالح اللبنانية واستقرار لبنان.

    • أن التخفيف على العامل الفلسطيني يسهم في قطع الطريق على صفقة القرن؛ وأي تسويات تستهدف توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

    قراءة بين المقاربتين:

    يرى وزير العمل اللبناني أنه بتطبيق قانون العمل ستعود الفائدة على خزينة الدولة وعلى العمّال اللبنانيين بفتح فرص العمل لهم. ولكن نلاحظ وفق الأرقام السابقة؛ بأن القوى العاملة الفلسطينية التي من المحتمل أن تنافس العامل اللبناني جلهم من الأجراء الذين يعملون كمياومين، ووفق ما قال الوزير حسن منيمنة، رئيس لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني: "في حالة اللاجئ الفلسطيني، يبدو أن الحصول على عقد عمل أمامه صعوبة تقارب حد الاستحالة. إذ من المعلوم أنّ المؤسسات الصغرى في لبنان تتهرب كلها تقريباً من تسجيل العاملين فيها في الضمان الاجتماعي لكي لا تدفع الرسوم والمترتبات المالية الأخرى الواجبة". وهنا التساؤل كيف يمكن لمن يعمل بالمياومة في مجالات التطوير العقاري أو الزراعة أو الخدمات الأخرى أن يلزم رب العمل بعقد عمل تفرضه وزارة العمل لاستخراج إجازة العمل؟

    إن الإجراءات التي يريد وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان تطبيقها لا تُسهم في حل المشاكل الاقتصادية التي يمر بها لبنان للاعتبارات التالية:

    • إن فرض إجازة العمل على الفلسطينيين المقيمين في لبنان لن يزيد من مداخيل خزينة الدولة اللبنانية على اعتبار أن الفلسطيني معفي من رسوم الإجازة.

    • إن هذه الإجراءات تشكل بيئة طاردة لأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين الفلسطينيين، وهو ما قد ينذر بنزيف مزيد من رؤوس الأموال، والتي لا يمكن تقدير حجمها لاعتبارات كثيرة، إلا أنه من المؤكد أنها ستنعكس سلباً على الاقتصاد اللبناني.

    • إن هذه الإجراءات التمييزية بحق الفلسطينيين في لبنان ستزيد من معاناتهم الاقتصادية، خصوصاً أن 62% من فلسطينيي لبنان يعانون من فقدان الأمن الغذائي، وهؤلاء في غالبيتهم من الطبقة العاملة بالمياومة؛ أي الشريحة المستهدفة في قرارات الوزارة، وهو ما قد يسهم بإيجاد بيئة اجتماعية غير مستقرة يسهل الاستثمار السلبي فيها.

    • تطرقت دراسة قامت بها المؤسسة الوطنية للاستخدام بالتعاون مع بنك "سوسيته جنرالSociété Générale" في لبنان، وبإشراف الوزير سجعان قزي، حول اليد العاملة في المؤسسات التجارية والخدماتية صدرت سنة 2016، إلى تأثير العمالة الأجنبية على سوق العمل، وقد حصرت في الدراسة باليد العاملة السورية ودون التطرق إلى تأثيرات العمالة الفلسطينية. ومن اللافت أن الدراسة حددت مجموعة من متطلبات النهوض بسوق العمل والحد من البطالة ومنها رفع الكفاءة وتطوير البنية التعليمية المهنية، وهو ما قد يتوفر عند العديد من العمال الفلسطينيين؛ خريجي المعاهد والجامعات التخصصية، وقد يسهم في سد ثغرة غير متوفرة من حاجة سوق العمل لكوادر متخصصة وفق الدراسة.

    الأسئلة الحرجة:

    قبل البدء من بالحديث عن السيناريوهات المحتملة لحل إشكالية تنظيم اليد العاملة الفلسطينية في لبنان، تطرح مجموعة من الأسئلة الحرجة:

    • هل المطلوب اليوم هو تنظيم العمالة الفلسطينية؟ أم منعها من العمل والتضييق عليها؟

    • هل يمكن الاستفادة من القوى العاملة الفلسطينية في تطوير البنية الاقتصادية اللبنانية للخروج من الأزمة الاقتصادية؟ وكيف؟

    • هل الفلسطيني المقيم في لبنان منذ أكثر من سبعين عاماً هو أحد أسباب تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان؟

    • ما مدى إسهام استخراج إجازات العمل للفلسطيني وفق طرح وزارة العمل بحل أزمة البطالة في لبنان؟

    • هل الإسهام في زيادة نسبة البطالة في الوسط الفلسطيني هو في صالح لبنان اقتصادياً وأمنياً وسياسياً؟

    السيناريوهات المحتملة:

    السيناريو الأول: الكل "يخسر": أي التشبث بقرار "إنفاذ القانون" وتطبيقه من قبل وزارة العمل وتجاوز قانون 128 و129 لسنة 2010، ومخرجات لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني: أي أن تستمر وزارة العمل بملاحقة العمال الفلسطينيين ومخالفتهم، مقابل تشبث الفلسطينيين باستمرار تحركاتهم الاحتجاجية، والمطالبة بحقوقهم الاقتصادية والإنسانية. وهو ما قد يؤدي إلى حالة شدّ متبادل قد تنعكس سلباً على حالة الاستقرار على لبنان وعلى الشعب الفلسطيني، كما أنه قد يؤدي:

    • استمرار استنزاف البيئة السياسية واستنزاف القوى الأمنية والجيش اللبناني وإرهاقه في ظل التحركات الفلسطينية الرافضة لقرار الوزارة.

    • استمرار حالة التوتير والتحشيد الإعلامي الذي أخذ أشكالاً عنصرية وطائفية تضر بالتعايش الفلسطيني اللبناني والسلم الأهلي. وإمكانية استخدام بعض القوى هذه الأجواء كفرصة "شعبوية" لتحقيق حسابات حزبية سياسية. وهو مشهد ينذر بإمكانية الاستثمار السلبي لمزيد من التفكيك في العقد الاجتماعي اللبناني ذاته.

    السيناريو الثاني: الاستفادة من الواقع واعتبار أن ما جرى "فرصة" في سبيل تصحيح واقع العمالة الفلسطينية في لبنان بشكل كامل: أي أن يتم طرح جميع القضايا المتعلقة بالعمال الفلسطينيين على طاولة الحوار، وأن تسهم وزارة العمل بالتنسيق مع لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني والقوى الفلسطينية واللبنانية بتقديم مقترح لتنظيمهم بما يتيح لجميع الفلسطينيين العمل دون استثناءات، كما تسهم بتنظيمهم في النقابات. إلا أن هذا السيناريو "المتفائل" ما تزال موانعه قائ

  • التقدير الاستراتيجي (116): العلاقات الصينية الإسرائيلية وآفاقها

    تقدير استراتيجي (116) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.

    ملخص:

    تنامت العلاقات الصينية الإسرائيلية بشكل كبير في السنوات الماضية؛ حيث سعت "إسرائيل" على الاستفادة من تنويع وتوسيع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع إحدى الدول الكبرى، ومع أسرع اقتصادات العالم نمواً؛ بينما تسعى الصين للاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيلية. غير أن الطرف الإسرائيلي لا يريد لهذه العلاقات أن تتسبب بأضرار على علاقته الاستراتيجية الحيوية مع الولايات المتحدة، والتي تبرز خطوطها الحمراء كمحدد رئيسي لهذه العلاقة. أما الصين فترغب بعلاقات نشطة ولكن في "الظلّ"، وبما لا ينعكس سلباً على علاقاتها العربية والإسلامية، حيث السوق الهائل لتجارتها الخارجية، كما تحافظ على موقفها التقليدي في دعم قضية فلسطين.

    على المدى القريب، من المرجح استمرار وتيرة العلاقات الاقتصادية والسياسية نفسها؛ أما على المدى المتوسط والبعيد فإن سيناريو التراجع والبرود التدريجي في العلاقة ستزداد حظوظه نتيجة تصاعد التنافس المحتمل بين الصين والولايات المتحدة، وبالتالي سعي الأمريكان لكبح العلاقات الإسرائيلية مع الصين. كما ستزداد حظوظه مع تصاعد احتمالات التغيير في المنطقة العربية باتجاه بيئات أكثر دعماً لقضية فلسطين، ومراعاة الصين لحجم مصالحها الأكبر في المنطقة العربية والإسلامية.

    مقدمة:

    أصدرت مؤسسة راند، وهي من أبرز مراكز التفكير الأمريكية والعالمية، في آذار/ مارس 2019 دراسة مفصلة حول "العلاقات المتطورة بين إسرائيل والصين". وهي دراسة مهمة تلفت الأنظار إلى تنامي هذه العلاقات في جوانبها المختلفة؛ وقد قام مركز الزيتونة بعمل ترجمة مكثفة للنص باللغة العربية.

    ومع ذلك، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ ما كُتب حتى اليوم عن هذه العلاقة باللغة العربية، يُعد قليلاً مقارنة بأهميتها وخصوصاً مع تصاعد الدور الصيني وتأثيراته المتنامية على المنطقة العربية، وهو ما يستدعي اهتماماً من الباحثين والدارسين في المنطقة العربية.

    وعند دراسة العلاقة بين الصين و"إسرائيل" فلا يمكن إغفال التفاوت في حجم الطرفين، فالصين التي تقع على أقصى الطرف الشرقي من قارة آسيا يبلغ تعداد سكانها حوالي 1.4 مليار، بينما يبلغ عدد السكان في الكيان الإسرائيلي حوالي 8.4 مليون نسمة أي نحو 170 ضعفاً، أما على صعيد المساحة فتبلغ مساحة الصين 434 ضعف المساحة التي تسيطر عليها "إسرائيل". ومع ذلك، فإنّ الطرفين وجدا جملة من المصالح والاهتمامات المشتركة التي دفعتهما إلى إقامة علاقة نشطة. ويمكن القول بإيجاز أنّ هدف الصين الرئيس من هذه العلاقة، كما صرح بنيامين نتنياهو رئيس وزراء "إسرائيل"، هو التكنولوجيا، بينما هدف "إسرائيل" الرئيس هو تنويع أسواق تصدير بضائعها واستثماراتها الخارجية.

    أولاً: تاريخ العلاقات الإسرائيلية – الصينية:

    يعود تاريخ العلاقة بين الطرفين إلى البدايات، حيث كانت "إسرائيل" هي أول من اعترف بجمهورية الصين الشعبية في المنطقة، عند إعلانها سنة 1949 وأيّدت سياسة "الصين الواحدة"، ولكن العلاقة توتّرت خلال فترة الخمسينيات والستينيات ثم عاد التواصل بينهما فعلياً سنة 1979، وكان ذلك متأثراً بعاملين رئيسين يومئذ، هما احتلال الاتحاد السوفييتي لأفغانستان، وبدء مسيرة "السلام" المصرية الإسرائيلية. وبدأ الدفء يدبّ في هذه العلاقة تدريجياً، مع لقاءات دبلوماسيين من الطرفين في الأمم المتحدة، ثم في اجتماع بين وزير خارجية الاحتلال شمعون بيريز ونظيره وو جوجيان سنة 1987، وتدفق الوفود السياحية الإسرائيلية على الصين سنة 1988، وهي السنة نفسها التي اعترفت فيها الصين بدولة فلسطين. غير أنه لم يتم الإعلان عن العلاقات الرسمية بين الطرفين إلا سنة 1992.

    يمكن القول إنّ نقل التكنولوجيا العسكرية من "إسرائيل" إلى الصين، كان أساس هذه العلاقات منذ سنة 1979 وحتى سنة 2005، إذ حصلت في تلك الفترة أكثر من 60 صفقة لنقل التكنولوجيا من "إسرائيل" إلى الصين، بقيمة تقدر بمليارَي دولار. ولكنّ العلاقة تلقت ضربتين موجعتين بسبب الضغط الأمريكي على "إسرائيل"، مما أدى إلى تراجعها، حيث أفشل الأمريكان صفقتين بين الطرفين هما صفقة نظام الرادار المتقدم المحمول جواً المعروف باسم فالكون سنة 2000، وصفقة طائرات بدون طيار هاربي التي تمت سنة 2005. وقد أدى هذا الضغط إلى وضع خطوط حمراء أمريكية في علاقة "إسرائيل" بالصين، أنتجت مجموعة من الضوابط، التي تتصل بنظام مراقبة التصدير في "إسرائيل" إلى الصين.

    من جهة أخرى، فإن التعاون الاقتصادي نما بشكل غير مسبوق، وخصوصاً بعد زيارة نتنياهو إلى الصين سنة 2013، إذ أصدر أمراً حكومياً بتوسيع العلاقات في جميع الجوانب غير الحساسة، فقامت وزارة الاقتصاد الإسرائيلية بفتح مكاتب في الصين، وقدَّمت تنازلات للصين بخصوص بنك الصين، المتهم بغسيل الأموال لصالح إيران وحزب الله وحماس، ما جعل الصين، حسب الاعتقاد الأمريكي، قادرة على الضغط على "إسرائيل"، وهو ما أثار حفيظة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه هذه العلاقة.

    ثانياً: المصالح الصينية في "إسرائيل":

    يمكن القول أن الصين ترى "إسرائيل" شريكاً مهماً لأربعة أسباب:

    1. تعد الصين "إسرائيل" جهة تساعدها على تحفيز الابتكار المحلي والبحث والتطوير، ومجالات التعاون في هذا السياق، تتضمن التكنولوجيا، والطاقة، والبيئة، وتكنولوجيا الزراعة، والتمويل وخصوصاً للشركات الناشئةstart-ups.

    2. تنظر الصين إلى "إسرائيل" كمصدر لسد حاجاتها الأمنية والعسكرية.

    3. ترى الصين في "إسرائيل" لاعباً سياسياً مهماً في الشرق الأوسط، لا يمكن تجاوزه.

    4. ترى الصين في "إسرائيل" مكوناً مهماً في مبادرة الحزام والطريق، وهي خطة اقتصادية صينية عالمية طموحة، وتريد لـ"إسرائيل" أن تكون صلة الوصل بين خليج العقبة وقناة السويس. مع ملاحظة أن الصين تطرح "مبادرة الحزام والطريق"، وسيلة لتعزيز التقارب بين دول المنطقة ومكوناتها، وأداة لجلب "الاستقرار والرخاء للجميع" وهو تصور مرتبط بمنظور المصالح الاقتصادية الصينية، أكثر من ارتباطه بتحقيق العدالة، وإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي بما يحقق تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.

    ومع ذلك، فإن الصين التي تدرك حساسيات المنطقة تجاه الكيان الإسرائيلي، و"تعقيدات" القضية الفلسطينية، ترغب أن تبقى شريكاً "هادئاً" مع "إسرائيل". وهي لا ترغب أن تثير علاقاتها بـ"إسرائيل" حالة غضب عربية وإسلامية تجاهها، تؤثر رسمياً أو شعبياً على علاقاتها السياسية ومصالحها الاقتصادية في المنطقة. ولذلك أبقت الصين على خطوط السياسة العامة في الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة على حدود سنة 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وحرصت الصين على أن تقيم علاقات حسنة مع الجميع، وأن تظهر بمظهر الشريك المحايد مع دول الشرق الأوسط والذي لا يتدخل في الخلافات البينية. وهي تحظى بعلاقات مميزة مع إيران ولا تعد حماس وحزب الله ضمن المنظمات الإرهابية. ولقد كان لعلاقة الصين بإيران تأثيرها السلبي على علاقتها مع "إسرائيل"، وذلك بسبب صفقات السلاح التي عقدتها مع إيران والتي تضمنت التعاون مع طهران في برامجها الصاروخية والنووية، وتزويدها بمئات من صواريخ كروز المضادة للسفن والمضادة للطائرات، حتى صارت المورد الثاني بعد موسكو للسلاح إلى إيران.

    ثالثاً: قياس العلاقات الإسرائيلية – الصينية:

    يمكن القول أنّه بالرغم من ازدياد مستوى النظرة الإيجابية لـ"إسرائيل" بين النخبة الصينية إلا أن عامة الصينيين، كما تكشف استطلاعات الرأي، لا تشاركها هذه النظرة إذ بلغت النظرة السلبية 57% سنة 2017. ولقياس مستوى عمق العلاقة بين الطرفين يمكن فحص عدة مؤشرات أهمها، تطور العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين، ومتانة العلاقة العسكرية، والعلاقات الاقتصادية، والسياحة، والتأثير الثقافي.

    على صعيد العلاقات الدبلوماسية، بقي مستوى الزيارات المتبادلة ثابتاً في الفترة 1992-2018، ولكنّها في المقابل زادت قوة مع كل من السعودية وإيران. أمّا في مجلس الأمن فقد سجل تصويت الصين فيه استمرار سلوكها السياسي المعتاد، إذ أنّ الصين في القرارات التسع المتعلقة بقضية فلسطين، والتي تُطرح سنوياً على المجلس قد صوتت في الفترة 1992-2016، باستمرار مع الصياغات المعتادة الداعمة لفلسطين، والتي تدين "إسرائيل".

    أما على صعيد العلاقات العسكرية، فخلافاً لعلاقات الصين بإيران والسعودية، فليس لها علاقات عسكرية قوية مع "إسرائيل"، ويمكن قياس ذلك من خلال الطرق التالية:

    • الزيارات العسكرية رفيعة المستوى؛ ونلاحظ أنّ عدد الزيارات الخاصة ذات الطبيعة العسكرية رفيعة المستوى بين الطرفين هي أقل من الزيارات المدنية رفيعة المستوى، فعدد 4 زيارات من أصل 13، بالمقابل كانت هناك 3 زيارات لكبار القادة الإسرائيليين من أصل 19، وينطبق الوضع نفسه تقريباً على كل من السعودية وإيران.

    • صفقات الأسلحة؛ وفي هذا المجال من المستبعد أن تكون "إسرائيل" استوردت أيّاً من الأسلحة الصينية، فهي تحصل على كل ما تريده من الولايات المتحدة الأمريكية، أمّا بخصوص حصول الصين على أسلحة إسرائيلية فلا يوجد أي معلومات عن حصول أي صفقة سلاح بعد سنة 2001، على الرغم من أنّ المعلومات المتوافرة تفيد أنّ أيّاً من البلدين لا يربطا ذلك بعدم بيع الأسلحة إلى طرف مخالف، مثل بيع الصين السلاح لإيران، أو بيع "إسرائيل" السلاح للهند.

    • التمارين المشتركة ونقل التكنولوجيا؛ ومن الملاحظ أنّ هناك حضوراً عسكرياً متصاعداً للصين في الشرق الأوسط، فقد قامت الصين بإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع كل من إيران والسعودية، أمّا "إسرائيل" فلا يبدو أن الصين قامت بأي مناورات معها. أما الاختلاف الأبرز فكان على صعيد نقل التكنولوجيا، فقد قامت شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية بإقامة مشروع مشترك مع مجموعة لينجيون لتأسيس أول مؤسسة صينية مدنية للصيانة والإصلاح والترميم في إقليم هوباي.

    العلاقات الاقتصادية:

    يمكن القول أن العلاقات الاقتصادية بين الطرفين مزدهرة، خلافاً للعلاقات العسكرية والسياسية، وفي طليعتها منتجات الملكية الفكرية والابتكار.

    يلاحظ أنّ النشاط في مجال التبادل التجاري بين الطرفين، قد نما بشكل كبير إذ بلغت الصادرات الصينية سنة 2017 حوالي 9 مليارات دولار، والصادرات الإسرائيلية حوالي 3.3 دولار، وأصبحت الصين ثالث أكبر شريك تجاري لـ"إسرائيل" بعد الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. وقد أصبحت "إسرائيل" عضواً في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتيةAIIB، وهو البنك الذي يعد واحد من العمادات الأساسية لمبادرة الحزام والطريق الصينية سنة 2013 على الرغم من عدم رضا الولايات المتحدة الأمريكية. وقد بلغت الاستثمارات الصينية في شركات التكنولوجيا الإسرائيلية 40% من الحجم الكلي من رأس المال الاستثماري الخارجي. ولعل من أبرز محطات هذه العلاقة زيارة نتنياهو إلى الصين في آذار/ مارس 2017 والتي قام خلالها بتوقيع اتفاقيات بلغت قيمتها 25 مليار دولار.

    ويعتبر محتوى الملكية الفكرية المتمثل ببراءات الاختراع في البضائع الإسرائيلية، الجزء الأكبر من التبادل التجاري بين الطرفين، ويميل ذلك بشدة تجاه "إسرائيل"، فقد بلغ ما سجلّته "إسرائيل" في الصين من براءات اختراع في الفترة 1994-2015 ما مجموعه 283 براءة؛ بينما كان ما سجلته الصين في "إسرائيل" 21 براءة فقط، ممّا يشير إلى أن "إسرائيل" تعد الصين سوقاً مهماً لبيع المنتجات والخدمات المتعلقة بالملكية الفكرية.

    على صعيد العلاقات التعليمية والثقافية، فإنّ لهذا النوع من العلاقة تأثيرات عميقة وبعيدة المدى، على الأرجح، وتكمن أهميتها في أنّ نشأة الابتكار عادة ما تكون في الجامعات والمؤسسات العلمية، كما أنّ التبادل العلمي والثقافي يتيح المجال واسعاً للتعرف عن قرب على البلد، ويمكن أن يساعد المؤسسات العلمية والثقافية الموجودة في البلد المضيف على نشر قيم البلد المصدر.

    ويمكن قياس هذا النوع من العلاقة من خلال، عدد معاهد كونفوشيوس في "إسرائيل"، حيث يوجد معهدان في كل من جامعة تل أبيب، والجامعة العبرية في القدس، وهو بالمناسبة العدد نفسه في إيران. وعن طريق عدد طلاب التبادل العلمي في البلدين، تعكس الأرقام التي يصدرها الطرفان أنّ عدد الطلاب الصينيين الذين يدرسون في "إسرائيل" هو أضعاف عدد الإسرائيليين الذين يدرسون في الصين، وهو يقترب من ألف طالب، بينما يصل عدد الإسرائيليين إلى نحو مئة طالب. وكذلك عدد البرامج الأكاديمية والجامعات المتبادلة، ويمكن ملاحظة أنّ عدد الجامعات الإسرائيلية في الصين أكبر من تلك الصينية الموجودة في "إسرائيل"، فبينما هناك أربع جامعات إسرائيلية تعمل في الصين هي؛ جامعة تل أبيب، ومعهد تخنيون، وجامعة بن جوريون، وجامعة حيفا، فإنّ هناك جامعة صينية واحدة في "إسرائيل"، بينما يعد عدد التبادلات الأكاديمية العليا والزيارات بين الطرفين، مؤشراً مهماً في هذا المجال، ويمكن رصد زيارة لوزيرة التعليم الصيني سنة 2000، وزيارة لوزير التعليم الإسرائيلي إلى الصين سنة 2015 نتج عنها العديد من الاتفاقيات بين الطرفين.

    وتعدّ السياحة باباً مهماً للتبادل الثقافي بين الشعوب، وتشير الأرقام في هذا المجال، إلى أنّ عدد السياح الصينيين إلى "إسرائيل" تضاعف أربع مرات في الفترة 2014-2017، ليرتفع من 32,400 سائح إلى 123,900 سائح سنوياً، وهو ما يُعدّ نمواً كبيراً.

    وأخيراً هنالك أنواع أخرى من العلاقات الثقافية والتي يمكن أن تساعد على التقييم في هذا المجال، مثل:

    التقارب الإعلامي؛ حيث أصدرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، نسخاً باللغة الصينية، وقامت بالمقابل الإذاعة الصينية شانيا بلسChina Plus، بإطلاق قناة باللغة العبرية. وتمت إقامة الفعاليات الثقافية كالمهرجانات، حيث أقام مهرجان شنغهاي "أسبوع إسرائيل الثقافي" سنة 2017 للاحتفال بالذكرى 25 لـتأسيس العلاقة بين الطرفين.

    رابعاً: الآثار المترتبة على تنامي العلاقات الإسرائيلية – الصينية:

    بالرغم من أن العلاقات الإسرائيلية المتنامية مع الصين تقدم فوائد اقتصادية وسياسية وأمنية للطرفين، إلا أنه قد ينشأ عنها عدد من التحديات أبرزها:

    1. يشكّل هذا التعاون مساحة قد تفترق فيها المصالح الإسرائيلية عن مصالح الولايات المتحدة، خصوصاً انشغال الصين بقطاع التكنولوجيا الإسرائيلي، وبناء وتشغيل مشاريع البنية التحتية الرئيسة.

    2. بالإضافة إلى القضية الفلسطينية، فإنه بحكم أن الصين تعتمد على الطاقة من خصوم "إسرائيل" كإيران، فإنّ مواقف الصين السياسية وأهدافها يمكن أن تتعارض مع المصالح الإسرائيلية، وقد يجد الطرفان نفسيهما على طرفي نقيض في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة.

    3. هناك تهديد حقيقي للأمن التكنولوجي الإسرائيلي والآفاق المستقبلية لاقتصادها، مثل تعامل الصين مع الحقوق الفكرية، والاستحواذ على الشركات الإسرائيلية الكبرى، وقدرة الصين على اختراق السوق الإسرائيلية.

    4. إن قيام الشركات الصينية ببناء وتشغيل المرافق الإسرائيلية قد يمكّن الصين من التجسس على الأرض، وفي العالم الرقمي.

    وتثير مشاركة الصين في المشاريع الكبرى أسئلة حول قدرة السوق الإسرائيلي على منافسة الشركات الصينية المدعومة حكومياً. وعلى الرغم من أن الهدف هو تحسين المنافسة إلا أن خطر الاستيلاء الصيني يبقى قائماً.

    في المقابل، تدرك "إسرائيل" حساسية الموقف الأمريكي تجاه تنامي علاقاتها مع الصين؛ ولذلك تبقى الخطوط الحمراء الأمريكية محدداً رئيساً لهذه العلاقات، حيث تظل الولايات المتحدة الشريك الاستراتيجي الأول لـ"إسرائيل".

    فالولايات المتحدة الأمريكية هي المصدر الأول للدعم العسكري، وهناك المساعدات الاقتصادية الضخمة التي تتلقاها "إسرائيل" كل سنة والتي تصل إلى 3.8 مليار دولار سنوياً. أما الدعم السياسي الأمريكي الذي تحظى به "إسرائيل" فهو لا يقل أهمية عن السببين السابقين.

    خامساً: السيناريوهات المحتملة:

    السيناريو الأول: تنامي العلاقات الاقتصادية والسياسية نتيجة استمرار الصعود الاقتصادي الصيني العالمي، وتراجع الدور الأمريكي في المنطقة، واستمرار حالة الضعف والأزمات لدى الأنظمة العربية التي تسعى لعلاج مشاكلها من خلال تطبيع علاقاتها مع "إسرائيل".

    السيناريو الثاني: استقرار العلاقات على مستواها الحالي، بسبب وضع الأمريكان لمزيد من الضوابط والخطوط الحمراء التي تمنع تنامي العلاقات، مع تزايد الرغبات الداخلية لدى قطاعات إسرائيلية فاعلة بضبط مستوى العلاقات بما يمنع "التغوّل" الصيني، وبما لا يغضب الجانب الأمريكي. مع بقاء البيئة العربية في الوقت نفسه عنصراً غير فاعل في التأثير على هذه العلاقات.

    السيناريو الثالث: التراجع والبرود التدريجي لهذه العلاقات، نتيجة تصاعد التنافس والخصومة الأمريكية الصينية، وازدياد الضغوط الأمريكية على "إسرائيل" لتخفيض مستوى العلاقات وإيجاد بدائل أخرى. كما قد يصب في هذا الاتجاه وقوع تغييرات في المنطقة العربية والإسلامية المعادية للكيان الإسرائيلي، بحيث تدفع الصين لإعادة حساباتها وترتيب مصالحها حتى لا تقع بخسائر أكبر بكثير مما تجنيه من علاقاتها بـ"إسرائيل".

    وفي المدى القريب يبدو السيناريو الثاني المتعلق باستقرار العلاقات هو الأرجح، وقد تتزايد حظوظ السيناريو الثالث على المدى الوسيط والبعيد باتجاه التراجع والبرود التدريجي لهذه العلاقات.

    سادساً: التوصيات:

    1. تشجيع الدراسات والتخصصات في الشأن الصيني، باعتبارها قوة عالمية صاعدة، لفهم أفضل لطريقة التعامل معها.

    2. تعزيز التواصل مع الصين سياسياً وثقافياً وإعلامياً بما يؤثر إيجاباً على موقفها من قضية فلسطين، ويُصلِّب موقفها تجاه "إسرائيل".

    3. مطالبة الدول العربية والإسلامية (وخصوصاً تركيا وإيران والباكستان وإندونيسيا) بممارسة كافة أشكال التواصل والضغط مع الصين لإدراك أن مصالحها مرتبطة بشكل أكبر مع الأمة العربية والإسلامية من مصالحها مع "إسرائيل".

  • التقدير الاستراتيجي (93): آفاق السياسة الأمريكية تجاه فلسطين في عهد ترامب: 2017-2021

    تقدير استراتيجي (93) – تشرين الثاني/ نوفمبر 2016.

    ملخص:

    يصعب العثور على فروقات جدية بين الرؤساء الأمريكيين العشرة الجمهوريين والديموقراطيين، الذين حكموا الولايات المتحدة طوال الخمسين سنة الماضية، تجاه قضية فلسطين؛ فقد ظلت “إسرائيل” حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة، وظلّ الانحياز لها وتغطية احتلالها وممارساتها، ورفض الضغوط عليها الطابع العام لهذه السياسة.

    وتفتح الطبيعة الشخصية الجدلية والبراجماتية لترامب آفاقاً مختلفة للسيناريوهات المستقبلية؛ غير أن الوعود التي يطلقها المرشحون في الانتخابات لا تجد طريقها للتنفيذ دائماً… حيث تتمتع الولايات المتحدة ببنى مؤسسية قوية ومستقرة ومؤثرة في صناعة القرار. ومع ذلك فإن ثمة هامش مؤثر لحركة الرئيس وسياساته، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار أن الحزب الجمهوري يتمتع بالغالبية في مجلسي النواب والشيوخ، وهو الحزب الذي جاء ترامب على بطاقته.

    مقدمة:

    مع تولي المرشح الجمهوري دونالد ترامب لمنصب الرئيس الأمريكي في مطلع سنة 2017، يكون الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة قد مضى عليه نصف قرن، تولى خلاله عشرة رؤساء أمريكيون السلطة، منهم أربعة رؤساء ديموقراطيون وستة رؤساء جمهوريون، وحكم الجمهوريون 28 سنة بينما حكم الديموقراطيون 26 سنة، أي أن الحكم كان مناصفة بين الطرفين من الناحية الزمنية منذ جونسون وانتهاء بترامب.

    وعند رصد الملامح الاستراتيجية للسياسة الأمريكية التي اتنتهجها الرؤساء العشرة، يصعب العثور على تباينات ذات معنى فيما بينهم في الموضوع الفلسطيني، وشكل الانحياز الخشن والناعم لـ”إسرائيل” السمة المشتركة فيما بينهم، فهل ستعرف فترة ترامب الجمهوري تغيراً تكتيكياً أو استراتيجياً في الاتجاه السائد في السياسة الأمريكية خلال نصف القرن الماضي؟ علماً أن القسمات الأساسية لبنية القوى السياسية الأمريكية لم تتغير تغيراً جذرياً، كما أن الصلاحيات الدستورية للرئيس لم يصبها تغير ذو دلالة مهمة.

    يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات مستقبلية في الإجابة عن هذا السؤال:

    السيناريو الأول: السيناريو المرغوب فلسطينياً:

    ويقوم هذا السيناريو على عدد من الافتراضات أهمها:

    1. أن يفي الرئيس الأمريكي ترامب بما نُقل عنه في حوار صحفي بأنه سيكون وسيطاً “محايداً” بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي من ناحية، وشعوره بأن عدم تقديم “إسرائيل” لتنازلات لن يؤدي لسلام في المنطقة من ناحية ثانية، ففي حوار له مع وكالة أسوشييتد برس في كانون الأول/ ديسمبر 2015 ادعى أنه سيكون “محايداً”، ثم أضاف متسائلاً “ما إذا كانت إسرائيل مستعدة للتضحية بأشياء محددة”، ويجيب بقوله: “ربما لا، وأنا أتفهم ذلك، وليس لدي مشكلة في ذلك، ولكن لن يكون هناك سلام”. وفي آذار/ مارس 2016 أشار ترامب إلى أن موضوع الاستيطان في الضفة الغربية هو “نقطة خلاف” مع “إسرائيل”، وهو أمر يراه الطرف الفلسطيني موقفاً إيجابياً مع أنه استمرار للموقف الأمريكي التقليدي في هذه النقطة تحديداً.

    2. أن تتناغم السياسة الأمريكية والروسية في الشرق الأوسط، خصوصاً أن ترامب أبدى قدراً من “التفهم والاحترام” للرئيس الروسي بوتين، وهو ما يعني أن الطرفين قد ينسقا مواقف ضاغطة على “إسرائيل” في إطار عمل اللجنة الرباعية، وعبر مجلس الأمن، وعبر الحوار الديبلوماسي الثنائي الأمريكي الروسي مع “إسرائيل”.

    3. أن تمارس الدول الأوروبية المتضررة من موجات الهجرة، خصوصاً الناجمة عن الاضطرابات العربية، إقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بأن الشرق الأوسط غير قابل للاستقرار دون تسوية الصراع العربي الصهيوني.

    4. تشير توجهات ترامب إلى أولوية المصالح الاقتصادية والمالية لديه في نطاق العلاقات الخارجية، وهو ما يتضح في تركيزه على تحميل دول الخليج أعباء الوجود الأمريكي في المنطقة، وفي مطالبته الملحة للدول الأوروبية بتحمل مزيد من الأعباء في نفقات الناتو، وهو ما قد ينطوي على احتمال بأنه سيقلص المساعدات الأمريكية للخارج، وهو ما قد يمتد للمساعدات الأمريكية لـ”إسرائيل”.

    السيناريو الثاني: السيناريو الممكن:

    وهو السيناريو الذي يفترض أن السياسة الأمريكية ستبقى على حالها، وافتراضات هذا السيناريو تقوم على الآتي:

    1. تأكيد الانحياز الأمريكي المعلن، وهو ما يتضح في تصريحات ترامب المختلفة عما سبق وروده في السيناريو السابق، حيث أكد ترامب في عدد من المناسبات على:

    ‌أ.  موضوع الاستيطان: قال ترامب لصحيفة ديلي ميل في آذار/ مارس 2016 أنه “قد يكون الحياد أمراً غير ممكن، وعلى إسرائيل السير قدماً في بناء المستوطنات في الضفة الغربية”، وهذا التصريح من ترامب أمر يتناقض مع السياسة الأمريكية المعلنة ومع رأي المستشار القانوني للحكومة الأمريكية منذ ظهور مشكلة المستوطنات، ففي السابق كانت الولايات المتحدة تعلن رفضها لسياسة الاستيطان، لكنها لم تتخذ أي إجراء عملي للضغط على “إسرائيل” لوقف هذه السياسة، وهنا نجد أن ترامب قد انتقل خطوة أكثر استرضاء لـ”إسرائيل”.

    ‌ب.  كان ترامب في سنة 2013 من المؤيدين لترشيح بنيامين نتنياهو لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، وهو ما يعني أن موقفه سيكون استمراراً لموقفه السابق في ظلّ هذا السيناريو.

    2. أن الكونجرس الأمريكي والذي يسيطر الجمهوريون على جناحيه له دور كبير في السياسة الخارجية الأمريكية، ولا تشير مواقف هذا الحزب لأي تغير تجاه الموقف من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما يجعل قدرة الرئيس على إحداث تغير استراتيجي أقل إمكانية حتى لو افترضنا أن لديه رغبة في ذلك.

    السيناريو الثالث: السيناريو الأسوأ فلسطينياً (والأفضل إسرائيلياً):

    وتتمثل افتراضات هذا السيناريو بما يلي:

    1. أن يتجه ترامب نحو تغيرات استراتيجية في تعامله مع أبعاد الموضوع الفلسطيني على النحو التالي:

    ‌أ. القدس: نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والإقرار بالقدس كاملة عاصمة لـ”إسرائيل”، وهو ما وعد به خلال حملته الانتخابية، مع الأخذ في الاعتبار أن عدداً من الرؤساء الأمريكيين السابقين وعدوا خلال الحملات الانتخابية بنقل السفارة لكنهم لم يفعلوا ذلك.

    ‌ب.  التخلي عن فكرة حلّ الدولتين: فقد أبلغ مستشار ترامب للشؤون الإسرائيلية ديفيد فريدمان صحيفة هآرتس الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 2016 أن ترامب “قد يؤيد فكرة ضمّ بعض أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل وأن إقامة الدولة الفلسطينية ليست أمراً حتمياً على الاطلاق”. وأضاف فريدمان “لست معنياً بدولة ثنائية القومية لأن أحداً لا يعرف بالضبط كم من الفلسطينيين يعيشون هناك”، وهو تصريح يشكل خروجاً ثانياً عن السياسة الأمريكية المعلنة منذ الرئيس الجمهوري الأسبق جورج بوش.

    2. اتساقاً مع توجهاته لتخفيض المساعدات الخارجية للدول الفقيرة، قد تطال هذه السياسة المساعدات الأمريكية للفلسطينيين لا سيّما للسلطة الفلسطينية، وهو أمر قد يجد دعماً كبيراً من الكونجرس الأمريكي، الذي كثيراً ما ربط بين التنازلات من الطرف الفلسطيني وبين المساعدات في الفترات السابقة خصوصاً منذ توقيع اتفاقية أوسلو.

    3. إن معارضة ترامب للاتفاق النووي مع إيران يتلاقى مع الرغبة الإسرائيلية، وقد تجد “إسرائيل” في ذلك فرصة للانقضاض على قوى المقاومة “ذات العلاقة بمستوى أو آخر مع إيران”، مثل حزب الله والجهاد الإسلامي وحركة حماس، وهو ما يعني أن غزة قد تشهد عدواناً إسرائيلياً جديداً متدثراً بضرب امتدادات إيران في المنطقة، وهو أمر سيجد له هوى لدى ترامب.

    عوامل الترجيح بين السيناريوهات الثلاثة:

    ثمة سلسلة من العوامل المتداخلة التي قد ترجح بين السيناريوهات، وهذه العوامل تتمثل في الآتي:

    1. مدى استمرار الاضطراب في البيئة الإقليمية، وهو أمر مرجح ونافع لـ”إسرائيل”، بل حتى أن تراجع الاضطراب سيؤدي إلى انكفاء الدول العربية نحو الداخل لفترة لا تقل عن خمس سنوات قادمة، لترميم أوضاعها الداخلية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، مما يجعل الطرف الفلسطيني شبه معزول عن بيئته الإقليمية التقليدية، وسينعكس ذلك على أدائه التفاوضي السري أو العلني، وسيتيح المجال لـ”إسرائيل” لاستثمار هذه الحالة إلى أبعد الحدود.

    2. استمرار الانقسام الفلسطيني وعدم القدرة على بلورة رؤية واحدة ليتعامل معها المجتمع الدولي باعتبارها الاستراتيجية الفلسطينية المعتمدة.

    3. الضغوط المالية الأمريكية على دول البترول العربي لمزيد من الإسهام في أعباء النفقات الأمريكية العسكرية في المنطقة، ناهيك عن تدهور سعر البترول، وتزايد الضغوط على ميزانيات دول الخليج قد يؤثر على حجم المساعدات العربية للسلطة الفلسطينية.

    السيناريو الأكثر احتمالاً:

    نظراً لأن القضية الفلسطينية أصبحت أقل مركزية على الصعيد العربي، كما أنها لا تشكل قضية ملحة لروسيا في المدى الزمني القريب —على الأقل—، فإن مبررات انتظار التغير الاستراتيجي في التوجهات الأمريكية في الموضوع الفلسطيني لن يتجاوز الاتجاه التاريخي للسياسة الأمريكية المعتمدة منذ 1967.

    كما أن تزايد الاتجاهات الأمريكية نحو الباسيفيكي على حساب الأقاليم الجيو-سياسة في العالم، يعني تراجع مكانة الشرق الأوسط (لأسباب كثيرة لا مجال لتعدادها هنا) في الاستراتيجية الأمريكية، وهو ما أكدت دلالاته صحيفة نيويورك تايمز، لكن هذا التراجع يأتي في وقت تَمزَّق فيه النظام الإقليمي العربي، وهو ما يسمح لـ”إسرائيل” لتعميق تغلغلها في المنطقة العربية، وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تتزايد في عدد من الدول العربية إضافة للمعاهدات المعروفة مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.

    وعلى الرغم من أن تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية تحمل إشارات متناقضة، إلا أن الواضح من توجهاته العامة طغيان النزعة البراجماتية على فهمه للسياسة الدولية، وهو ما يعني أن مبادئ الحق والعدالة والمساواة لن تجد عنده أيّ هوى، فإذا أضفنا لذلك طبيعة مستشاريه وتوازنات القوى في جسد هيئات صنع القرار الأمريكية، يصبح أي توقع لتغير ذو دلالة في الموقف الأمريكي من الموضوع الفلسطيني ليس مستنداً على أسس متينة.

    توصيات:

    1. عدم المراهنة على الإدارة الأمريكية في إحداث أي تغيرات إيجابية لصالح الفلسطينيين أو في الضغط على “إسرائيل”.

    2. التأكيد على تقوية الصف الداخلي الفلسطيني وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني حمايةً للحق الفلسطيني في مواجهة الضغوط المحتملة.

    3. تنشيط العمل السياسي والإعلامي لدعم القضية الفلسطينية عربياً وإسلامياً ودولياً، وإيجاد بيئة إيجابية أوسع مناصرة للحقوق والثوابت الفلسطينية.

    المراجع:

    للاطلاع على تصريحات ترامب الواردة في هذا التقدير الاستراتيجي يرجى العودة للمراجع التالية:

    1. Site of The Washington Times, 3/12/2015
    2. Site of theguardian, 6/9/2016
    3. The Independent newspaper, London, 20/5/2016
    4. Sultan Al Qassemi, What a Trump Presidency Means for the Gulf, site of The Middle East Institute, 25/2/2016.
    5. Haaretz newspaper, 9/11/2016.
    6. The Independent, 9/11/2016.
    7. The New York Times newspaper, 9/11/2016.

    * يتقدم مركز الزيتونة للدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (93): آفاق السياسة الأمريكية تجاه فلسطين في عهد ترامب: 2017-2021 Word (8 صفحات، 88 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (93): آفاق السياسة الأمريكية تجاه فلسطين في عهد ترامب: 2017-2021  (8 صفحات، 542 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 14/11/2016

  • التقدير الاستراتيجي (96): سيناريوهات ترامب لنقل السفارة الأمريكية للقدس

    ملخص:

    يظهر أن تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة سيعطي مسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس زخماً جديداً، بالنظر إلى وعوده الانتخابية ووجود ميول قوية لدى قيادات في إدارته لتنفيذ هذه الوعود.

    غير أن السياسة الرسمية الأمريكية طوال السنوات الماضية، وحتى تلك التي مارسها رؤساء سابقون وعدوا بنقل السفارة، كان يميل إلى مراعاة الجوانب القانونية والدستورية والقرارات الدولية التي لا تُقر الضمَّ الإسرائيلي لشرقي القدس، وتعدها من قضايا الحل النهائي؛ وتحاول تجنب إغضاب الأطراف الفلسطينية والعربية والإسلامية، وبالتالي احتمال إفشال مسار التسوية.

    وتتضمن السيناريوهات أن يقوم ترامب بنقل السفارة في بداية ولايته أو في وقت لاحق خلالها، أو أن يُحوّل أحد مكاتب خدمات السفارة في غربي القدس (وليس شرقي القدس) إلى سفارة، أو تبقى السفارة في تل أبيب وينتقل السفير إلى القدس، أو يقوم بخطوة مزدوجة بنقل السفارة للقدس مع الإعلان في المقابل عن الاعتراف بدولة فلسطين لامتصاص ردات الفعل. وفي كل الأحوال فإن هذا التقدير يميل إلى أن ترامب سيأخذ خطوة متقدمة في هذا المجال، مما يستدعي تحركاً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً استباقياً ومكثفاً، لإفشال أو تعويق هذه الخطوة.

    مقدمة:

    يُجمعُ المتابعون للشأن الشرق أوسطي بشكل عام، والشأن الفلسطيني بشكل خاص، أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب هو صاحب الموقف الأكثر وضوحاً وقوة بخصوص موضوع نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. فقد سبقه رؤساء أمريكيون -جمهوريون وديموقراطيون-أعلنوا عن عزمهم على نقل السفارة، لكنهم لم ينفذوا هذه الوعود، فهل تعكس التزامات ترامب استناداً لتصريحاته -خلال الحملة الانتخابية وبعد الفوز-وتصريحات مساعديه، وعلى رأسهم سفيره الجديد في ”إسرائيل“ ديفيد فريدمان تغيّراً في الموقف الأمريكي، واحتمالاً بتنفيذ الوعد، خلافاً لسابقيه من الرؤساء خصوصاً بيل كلينتون وجورج بوش؟

    لتحديد السيناريوهات المختلفة لهذا الموضوع لا بدّ من رسم ملامح بيئة القرار المحتمل على النحو التالي:

    أولاً: البعد الدستوري والقانوني في القرار الأمريكي في موضوع القدس:

    تُقرُّ الولايات المتحدة من الناحية القانونية، وعبر مواقفها المعلنة في المنظمات الدولية، وخصوصاً مجلس الأمن الدولي، وفي بيانات اللجنة الرباعية المختلفة، وفي تأييدها لما ورد في المعاهدات العربية الإسرائيلية (مع الأردن ومع مصر)، وفي اتفاق أوسلو على:

    1. عدم الاعتراف بقرار الضمّ الإسرائيلي لمدينة القدس، وهو ما تجلى في امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على القرار رقم 478 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بموافقة 144 دولة، وهو القرار الذي يُعدُّ الضم الإسرائيلي مخالفاً للقانون الدولي.

    2. أن التصريحات الأمريكية المختلفة تؤكد أن موضوع القدس هو من ضمن مواضيع الحل النهائي، مما يعني أنه ليس لأحد الأطراف أن يقرر فيه  منفرداً.

    لكن المشهد القانوني ينطوي على بعد آخر، وهو ما صدر في 23/10/1995 عن الكونجرس الأمريكي من قانون عُرف باسم ”قانون سفارة القدس لسنة 1995“ ”Jerusalem Embassy Act“ والذي نصّ وبأغلبية كبيرة (93 مقابل 5 في الشيوخ، 374 مقابل 37 في النواب) على الشروع بتمويل عملية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس على أن يتم ذلك في حدّ أقصى هو 31/5/1999، والتأكيد على بقاء القدس مدينة موحدة كعاصمة لـ”إسرائيل“، مع الإشارة أن الأمر متروك للرئيس لتقدير ما إذا كان ذلك يضر المصالح العليا للولايات المتحدة أم لا، إذ إن الأمر يقع ضمن صلاحيات الرئيس كأعلى سلطة تنفيذية.

    لكن هذا القانون لم ينتقل إلى حيّز التنفيذ لسببين، هما أن المستشار القانوني لوزارة العدل الأمريكية رأى أن هذا القانون غير دستوري، وينتهك صلاحيات الرئيس في مجال السياسة الخارجية من ناحية، وأن الرؤساء الأمريكيين منذ تلك الفترة وحتى الآن رفضوا ”التخلي“ (waiver) عن مسؤوليتهم الدستورية في هذا الجانب من ناحية ثانية، وامتنع كل من الرئيسين بيل كلينتون وجورج بوش عن تنفيذه، وعمل باراك أوباما على تناسيه، على الرغم من أن الأول والثاني وعدا بذلك خلال الحملات الانتخابية.

    ثانياً: البعد الدولي والإقليمي في موضوع القدس:

    بعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 478 المشار له سابقاً، قامت 13 دولة أغلبها من أمريكيا اللاتينية، بنقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب، وعلى الرغم من أن هناك الآن 86 سفارة في ”إسرائيل“، لا يوجد أي منها في القدس، وهو ما يشكل ”نوعاً من الحرج“ للديبلوماسية الأمريكية، خصوصاً أن كافة دول الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والصين، واليابان، واللجنة الرباعية، لا تميل لقرار النقل دون تسوية الموضوع الفلسطيني.

    ويحذر العديد من الخبراء والديبلوماسيين الأمريكيين من أن نقل السفارة سيقود لردات فعل عربية وإسلامية نظراً للقيمة الدينية للقدس، ناهيك عن أن البعض يرى أن القرار سيعزز ”أدبيات“ التيارات السياسية العربية والإسلامية المشككة في النوايا الأمريكية وجديتها في مساعي التسوية السلمية. وهو أمر قد يضر بالمصالح الأمريكية من زاوية إضعاف مواقف حلفائها في المنطقة، وإضعاف موقفها كوسيط في محاولات التسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، ويعزز ما يصفه هؤلاء الخبراء بالتيارات المتطرفة، وستجد فيه قوى مثل حماس والجهاد الإسلامي وإيران تأكيداً لمواقفها في الشارع العربي والإسلامي. ولعل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري من أن نقل السفارة سيقود إلى ”انفجار على مستوى الإقليم“ مؤشر على مثل هذه التوجهات المحذرة من النتائج.

    ويستدل هؤلاء على هذه الهواجس بما أعلنته الحكومة الأردنية عن طريق الناطق بلسانها في كانون الثاني/ يناير 2017 من التحذير من نتائج ”كارثية“ في حال الإقدام على نقل السفارة، وبأن الأردن ستستخدم كل إمكانياتها السياسية والديبلوماسية لمنع تنفيذ القرار، لا سيّما تأكيد الأردن على ما ورد في الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية من دور للأردن في رعاية المقدسات في القدس.

    مقابل هذه الصورة، هناك من يرى أن مجموعة من العوامل المقابلة تسير في اتجاه دعم احتمالات نقل السفارة وأهمها:

    1. أن الفريق السياسي الذي اختاره ترامب لإدارته القادمة يتبنى في معظمه قرار النقل، فوزير خارجيته ريكس تيليرسون يَعدُّ ”إسرائيل“ ”الحليف  الأكثر أهمية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط“، على الرغم من إشارات حول علاقاته بجماعات المصالح البترولية. أما السفير المقترح للإدارة الجديدة في ”إسرائيل“ وهو ديفيد فريدمان فهو الأكثر انحيازاً لـ”إسرائيل“، وهو من أكثر الشخصيات الأمريكية المساندة لنقل السفارة، بل وله صلات طويلة بالمستوطنين. وهو من الداعين لضم الضفة الغربية لـ”إسرائيل“ ناهيك عن عدم اقتناعه بحل الدولتين. وقد قال في أحد تصريحاته بعد ترشيحه للسفارة، إن ترامب ”سينفذ النقل“، وإنه يأمل أن يقوم بمهمته ”من سفارة الولايات المتحدة في عاصمة إسرائيل الأبدية“.

    لكن يمكن تلمس بعض البون بين مواقف السفير المرشح (فريدمان) وبين مواقف تيليرسون ووزير الدفاع المرشح جيمس ماتيس؛ وخصوصاً حذرهما من الإدلاء بمواقف واضحة في هذا السياق، لا سيّما أن لهما خبرة واسعة في الشرق الأوسط ويدركان التعقيدات أكثر من السفير المرشح.

    2. أن الظروف العربية بشكل خاص، وظروف الدول الإسلامية لا تشير إلى أن لديها القدرة على التأثير على القرار خارج نطاق الاحتجاجات اللفظية  أو اللجوء للمنظمات الدولية للحصول على قرارات جديدة، خصوصاً أن أغلب هذه الدول منغمسة في مشكلات دولية أو داخلية تضعف من استدارتها نحو الشأن الفلسطيني، وبالذات في ظلّ ظروف الاضطرابات الداخلية، أو الاختناق الاقتصادي المتزايد بعد انهيار أسعار النفط الذي يشكل العمود الفقري لاقتصاديات الكثير من الدول العربية أو الإسلامية الأهم.

    ثالثاً: السيناريوهات المحتملة:

    1. السيناريو الإسرائيلي:

    وهو أن يقوم ترامب بتنفيذ وعده باعتبار نقل السفارة أولوية قصوى كما ردد بعض مستشاريه، لكن هذا السيناريو قد يأخذ مسارين: أحدهما تنفيذ الوعد خلال فترة قصيرة بعد توليه المسؤولية، والآخر أن يؤكد على قرار النقل تاركاً موضوع الموعد ”إلى حين الوقت المناسب“، وقد قال جاسون ميللر الناطق بلسان الرئيس المنتخب في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2016 إن تحديد موعد تنفيذ النقل هو ”أمر سابق لأوانه“.

    2. السيناريو المراوغ: ويتمثل هذا السيناريو في أشكال مراوغة عديدة منها:

    ‌أ. لما كان للولايات المتحدة الآن ثلاثة مكاتب تؤدي خدمات ديبلوماسية في مدينة القدس، أحدها في غربي القدس، والآخر في شرقي القدس، وثالث في  منطقة وسطى بين شرقيها وغربيها، فإن ترامب يمكنه نقل السفارة لغربي القدس أو تحويل المكتب الموجود فعلاً لسفارة، مدعياً أن العرب والعالم يعترفون بأن غربي القدس جزء غير متنازع عليه، وأن من حقّ الولايات المتحدة أن تضع سفارتها هناك، متجاهلاً موضوع الضمّ الإسرائيلي للقدس واعتبارها عاصمة موحدة.

    ‌ب. أن تبقى السفارة الأمريكية في تل أبيب، بينما يقيم السفير في القنصلية الأمريكية في القدس ويبدأ بممارسة أعماله تدريجياً في القدس، وهو حلّ قد  يقبله الإسرائيليون في المرحلة الأولى، على أمل تطويره لاحقاً لنقل كامل.

    ‌ج. قد يقوم ترامب بخطوة مزدوجة، فيعلن عن نقل السفارة الأمريكية للقدس من ناحية، ويعلن عن اعتراف أمريكي بدولة فلسطين في الوقت نفسه  كترضية للطرف الفلسطيني وامتصاص لردات الفعل العربية والفلسطينية.

    رابعاً: الخلاصة:

    إن الظروف العربية والإسلامية، وطبيعة القوى الدافعة في المؤسسات السياسية الأمريكية تجاه نقل السفارة، وفريق العمل الذي اختاره ترامب لإدارته، ستدفعه نحو خطوة متقدمة عن الرؤساء الأمريكيين السابقين في اتجاه النقل بكيفية أو أخرى، وقد تكون أحد جوانب السيناريو المرواغ ضمن مكونات القرار.

    خامساً: التوصيات والمقترحات:

    من الضروري أن تتكثف الجهود الفلسطينية لمنع القرار قبل صدوره، وفي حالة صدوره العمل على عرقلة تنفيذه، ومع الإقرار بالخلل الكبير في موازين القوى لصالح الطرف الصهيوني، فإن الأدوات السياسية والديبلوماسية هي الأدوات المتاحة، بقدرٍ ما، في الظروف الحالية لمنع صدور القرار أو وقف تنفيذه، هو ما يستدعي:

    1. العمل على انعقاد الجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وحركة عدم الانحياز لإصدار بيانات تحذر من خطورة الإقدام على قرار نقل السفارة  الأمريكية للقدس، وذلك بهدف التأثير على صانع القرار الأمريكي.

    2. العمل على التواصل مع الاتحاد الأوروبي، لا سيّما البرلمان الأوروبي، لإصدار بيان يدعو فيه للامتناع عن نقل السفارة، لما في ذلك من مخاطر  على أمن منطقة البحر المتوسط، بشكل خاص والعالم بشكل عام، وأن تتعهد الدول الأوروبية بالامتناع عن الإقدام على الخطوة الأمريكية.

    3. العمل مع الأمم المتحدة بوكالاتها المختلفة للتحذير من خطورة الخطوة.

    4. مطالبة اللجنة الرباعية بعقد اجتماع طارئ لاتخاذ موقف ينذر بأن نقل السفارة سيقود إلى نتائج خطيرة على جهود اللجنة في نطاق مساعي التسوية  السلمية.

    وعلى الجانب الفلسطيني، من الضروري أن تصدر المنظمات الفلسطينية، خصوصاً منظمة التحرير، بياناً واضحاً بأن نقل السفارة سيقود لسحب السلطة الفلسطينية كافة تعهداتها السابقة باعتبار نقل السفارة خروجاً على الالتزامات المتفق عليها في اتفاقات السلام.

    كما أن الفعاليات الشعبية لا سيّما في الدول العربية وفلسطين يمكن أن توجد جواً ضاغطاً لإعادة النظر في احتمالات أخذ قرار النقل للسفارة.

    ذلك يعني أن على الطرف الفلسطيني أن يستخدم الديبلوماسية الوقائية؛ بأن يعمل على منع صدور القرار، فإذا صدر عمل على منع تنفيذه، فإن جرى تنفيذه يتم على أن لا تحذو الدول الأخرى حذو الولايات المتحدة.

    يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ الدكتور وليد عبد الحي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (96): سيناريوهات ترامب لنقل السفارة الأمريكية للقدس Word (16 صفحة، 112 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (96): سيناريوهات ترامب لنقل السفارة الأمريكية للقدس  (16 صفحة، 612 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 17/1/2017

  • التقدير الاستراتيجي (97): مخيم عين الحلوة … إلى أين؟

    تقدير استراتيجي (97) – آذار/ مارس 2017. 

    ملخص:

    اندلعت جولة جديدة من الاشتباكات في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان أواخر شهر شباط/ فبراير 2017، أسفرت عن مقتل شخصين وجرح ما يزيد عن عشرة وتخريب في الممتلكات.

    وجاءت هذه الجولة من العنف إثر انسحاب فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من اللجنة الأمنية العليا والقوة الأمنية المشتركة. ووقع الاشتباك بين مجموعات من حركة فتح ومجموعات إسلامية لكنها لم تؤد إلى نتائج حاسمة لأي من الطرفين.

    ترتبط الأزمة في مخيم عين الحلوة بالأوضاع السياسية المحلية والإقليمية، وخصوصية قضية حقّ العودة وموقع المخيم في جنوب لبنان. كما ترتبط بالصراعات القديمة الدائمة بين حركة فتح ومجموعات إسلامية، ووجود مطلوبين فلسطينيين ولبنانيين داخل المخيم، والأوضاع الإنسانية الصعبة، والاهتمام الدولي بمكافحة الإرهاب. وبذلت جهود كثيرة لوقف العنف كانت تنجح أحياناً وتفشل أحياناً. وهناك عدة سيناريوهات للأزمة أهمها سيطرة الجيش اللبناني بالكامل على المخيم، أو سيطرة قوة فلسطينية مشتركة. لكن أمام التعقيدات السياسية والأمنية المحلية والإقليمية، من المرجح بقاء الأزمة وأن يراوح الوضع بين التوتر والهدوء، مع رغبة أهم الأطراف الفاعلة في محاصرة النيران، تحت سقف “المبادرة” التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية سنة 2014 لحماية المخيمات.

    مقدمة:

    تجددت الاشتباكات في مخيم عين الحلوة أواخر شهر شباط/ فبراير 2017، وشهد المخيم جولة جديدة من الصراع المسلح هي الأعنف ربما منذ فترة طويلة، وسقط فيها قتيلان، هما الفتى ماهر دهشة (16 عاماً) وأحمد خليل (أبو عائشة)، وأصيب عدد بجروح، ووقعت خسائر مادية كبيرة في المباني السكنية، والمحلات التجارية، والسيارات، وأنابيب المياه، والكهرباء وأدت إلى توقف المدارس والمراكز الصحية، خصوصاً أعمال وكالة الأونروا الدولية. لكن الخسارة الأكبر كانت على المستويات السياسية والأمنية بين الفلسطينيين أنفسهم، أو بين الفلسطينيين واللبنانيين، إذ أضربت مدينة صيدا احتجاجاً على الاقتتال بين الفلسطينيين، الذي وصلت شظاياه من الرصاص والقذائف الصاروخية إلى المدينة.

    الموقع والمحطات:

    يقع مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين شرق مدينة صيدا، في محور بين مناطق لبنانية سنية وشيعية ومسيحية، على الأوتوستراد المؤدي إلى جنوب لبنان، ترتاده القوات الدولية المنتشرة في لبنان منذ سنة 1978، وعلى مقربة من الاكتشافات البترولية في البحر المتوسط.

    يضم المخيم مع الأحياء المجاورة قرابة 70 ألف نسمة، وشهد في الماضي أحداثاً كثيرة أهمها الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 والمعارك بين الفلسطينيين وأحزاب لبنانية، ثم شهد صراعاً مسلحاً بين جماعة فتح عرفات والمجلس الثوري (أبو نضال). وفي أعقاب اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب في لبنان سنة 1989 تمّ تسليم الأسلحة الثقيلة من داخل المخيم إلى الجيش اللبناني.

    ويُتَّهم أفراد من المخيم بأعمال تفجير داخل مناطق لبنانية، وبقتل أربعة من القضاة في صيدا سنة 1999، وبإيواء عناصر “إرهابية” من خارج لبنان (تابعة للقاعدة)، وشاركت عناصر فلسطينية من المخيم في المعارك في العراق وسورية. وحين توقفت الحرب الداخلية في لبنان سنة 1990، هدأت الأحداث في مخيم عين الحلوة، وعاش المخيم مثل باقي المناطق اللبنانية فترة من الهدوء إلى سنة 1997، حين عادت أعمال الاشتباكات والتفجير، وضرب الجيش اللبناني طوقاً على المخيم وظلت الأمور متوترة إلى وقتنا هذا.

    عوامل أساسية:

    هناك مجموعة من العوامل التي تلعب دوراً أساسياً في أزمة مخيم عين الحلوة أهمها:

    1. البعد السياسي:

    مخيم عين الحلوة هو من أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان ودول اللجوء، وهذا له علاقة مباشرة بقضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم وديارهم الأصلية، ومرتبط بمفاوضات التسوية السياسية للقضية الفلسطينية ومصير اللاجئين الفلسطينيين. فالأحداث الأمنية في مخيم عين الحلوة انطلقت سنة 1997، بعد هدوء دام سنوات، وذلك بعد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، واتفاق أوسلو سنة 1993، وتأسيس السلطة الفلسطينية سنة 1994، وبروز توجه دولي وإقليمي لتصفية القضية الفلسطينية وإسقاط حقّ العودة وفرض التوطين في لبنان.

    2. البعد الأمني:

    من الملاحظ أن هناك جهات دولية وإقليمية ومحلية أرادت أن يبقى مخيم عين الحلوة مساحة لتصفية الحسابات، وصندوقاً لتبادل الرسائل، ومكاناً تأوي إليه العناصر المطلوبة. إذ ليس من المنطق أن تشهد جميع الأراضي اللبنانية هدوءاً أمنياً لا مثيل له من سنة 1990 إلى سنة 2005 عندما تمَّ اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، ويبقى مخيم عين الحلوة وحده يعيش توترات أمنية من عمليات تفجير واغتيال في بقعة لا تزيد عن 2 كم2.

    3. البعد اللبناني:

    رفض الدولة اللبنانية بسط سلطتها الأمنية على مخيم عين الحلوة وباقي المخيمات الأخرى، فالدولة اللبنانية ترفض إدخال الجيش اللبناني إلى داخل المخيمات مع العلم أنها تحتفظ بوجود قوي في محيطها خصوصاً عين الحلوة. وهذا يترك المخيم في فوضى أمنية ويعزز الخلاف مع الجهات الرسمية في لبنان، ويظهر مخيم عين الحلوة أنه منطقة تعيش خارج القانون.

    4. البعد الإنساني والاجتماعي:

    يعاني مخيم عين الحلوة —مثل باقي الوجود الفلسطيني في لبنان— من أزمات اقتصادية وإنسانية واجتماعية، فالسلطة اللبنانية تمنع اللاجئين من العمل والتملك، والتعليم ضعيف، والرعاية الصحية سيئة، والبنية التحتية (ماء، وكهرباء، وصرف صحي) سيئة للغاية، ولا تتوفر في السكن أي مواصفات صحية أو بيئية، حيث يقل عدد الشوارع، ولا توجد ساحات عامة أو أماكن ترفيه أو ممارسة هوايات، وتنتشر الأزقة، وتتراجع فرص التعليم والانضمام للجامعات، وترتفع معدلات الفقر والبطالة والأمية.

    ويوجد في المخيم أكثر من خمسة آلاف مطلوب للدولة اللبنانية بتهم معظمها باطلة أو مضى عليها الزمن، ويفرض الجيش اللبناني طوقاً أمنياً قاسياً حول المخيمات، ويفتش الداخلين والخارجين ويحصر الدخول والخروج بمناطق محددة، ويقيم سواتر ودشم وحواجز في محيط المخيم، ويمنع الإعمار، وهناك قيود على عمل وتحرك وكالة الأونروا الدولية.

    عناصر مؤثرة:

    هناك مجموعة من العناصر تؤثر في الصراع في مخيم عين الحلوة:

    1. غياب المرجعية السياسية والعسكرية والأمنية الفلسطينية الواحدة القادرة على فرض الأمن، فهناك حالة من الصراع بين الفصائل الفلسطينية، وبين  حركة فتح والمجموعات الإسلامية بسبب محاولات فتح ضرب هذه الجماعات.

    2. عدم وجود اهتمام رسمي لبناني بأوضاع اللاجئين الفلسطينيين عموماً وأوضاع المخيم، مثل تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ووقف  الإجراءات الأمنية، وإنهاء هذه الأزمة من خلال قرارات سياسية وأمنية وتنموية فاعلة.

    3. وجود فكر متشدد داخل مخيم عين الحلوة، له ارتباطات خارج المخيم، ويتأثر بأحداث المنطقة وصراعاتها وانقساماتها، ويدخل أحياناً عنصراً  للمشاركة فيها، ويقبل منطق إيواء مطلوبين.

    4. وجود ارتباط وثيق بين مجموعات عاملة في المخيم مع أجهزة أمنية محلية وإقليمية، تتأثر بقراراتها وتنفذ توجهاتها.

    5. دخول عدد من المطلوبين إلى مخيم عين الحلوة، مثل بديع حمادة الذي قتل ثلاثة جنود من الجيش اللبناني سنة 2002، وتمّ تسليمه للسلطات اللبنانية وأعدم؛ وفضل شاكر الذي دخل إلى المخيم بعد أحداث منطقة عبرا سنة 2013، وشادي المولوي الذي دخل إلى المخيم سنة 20144، وتصر الدولة اللبنانية على تسلم هؤلاء في المخيم، في حين لا يوجد أي سبب لبقاء هؤلاء في المخيم، وتعجز الفصائل الفلسطينية عن اعتقالهم، ويحظون بدعم مجموعات داخل المخيم.

    6. اكتشاف النفط في البحر المتوسط قبالة السواحل اللبنانية، ووجود القوات الدولية في جنوب لبنان وخشية القوات الدولية من استخدام مخيم عين الحلوة  ضدها في أعمال عنف، وخشية شركات النفط من السبب نفسه.

    7. إن وجود عدد من المطلوبين الإسلاميين في المخيم يجعل المخيم مرتبطاً بالملف الدولي المسمى “مكافحة الإرهاب”. وهناك محاولات كثيرة  خصوصاً من جهات مرتبطة بالأمن الفلسطيني في رام الله بملاحقة هؤلاء وقتلهم أو اعتقالهم.

    8. رغبة حركة فتح في استعادة نفوذها في المخيم واستعادة السيطرة على جميع أحيائه، بصفته أهم المخيمات وأهم مناطق نفوذها سابقاً. وهنا تدخل في  صراع مع جميع المجموعات التي تتناقض فكرياً وسياسياً واجتماعياً مع حركة فتح، وترفض سياسات وبرامج منظمة التحرير الفلسطينية.

    السيناريوهات المتوقعة:

    أولاً: بسط سيطرة الجيش اللبناني على المخيم:

    وهذا يعني أن يقوم الجيش اللبناني بالحصول على موافقة فلسطينية وإقليمية ودولية بدخول المخيم وبسط سلطته داخله، سواء بالتفاهم أم بالقوة.
    إن هذا السيناريو مستبعد، على الأقل في المستقبل القريب، بسبب غياب الإرادة الداخلية اللبنانية، وصعوبة الحصول على تأييد إقليمي ودولي نظراً لحساسية القضية الفلسطينية ومستقبل ملف اللاجئين وحقّ العودة. فالدولة اللبنانية تخشى مشاريع التوطين، ولا تريد تحمل المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية لجميع اللاجئين.

    ثم إن هناك خشية من صدام عسكري لبناني فلسطيني يعيد الحرب بين الطرفين، وهي فكرة مرفوضة، وتكاليفها البشرية عالية وغير مضمونة، وآثارها ليست بسيطة. لذلك سيبقي الجيش اللبناني على إجراءاته الأمنية حول المخيم، ويعمل على معالجة ملف المطلوبين، ويحارب “الإرهاب” وقائياً، ويمنع تمدد الأحداث والاشتباكات، دون أن تتحمل الدولة اللبنانية العبء السياسي والاقتصادي لملف اللاجئين.

    ثانياً: موقف فلسطيني قوي ينهي الأزمة:

    وهذا يعني بروز موقف سياسي فلسطيني قوي يؤدي إلى توافق على إنهاء الصراع بالقوة أو بالتفاهم.

    حاولت جهات فلسطينية وضع حدّ للصراع داخل عين الحلوة، وأطلقت الفصائل الفلسطينية مبادرة موحدة في آذار/ مارس 2014 لمنع العنف، وشكلت لجنة أمنية خاصة من 250 عنصراً في عين الحلوة. لكن ذلك لم يَحلْ دون استمرار العنف، فشهد المخيم أعمال تفجير واغتيال وإطلاق نار، كان أشدها في صيف سنة 2014، كما شهد المخيم عمليات تصفية طالت عناصر محسوبة على “سرايا المقاومة” المتهمة باستهداف إسلاميين.
    وحصلت عمليات اغتيال ومحاولات اغتيال بين عناصر من فتح وعناصر إسلامية.

    وبالرغم من محاولات فلسطينية كثيرة لمنع العنف إلا أنها لم تصل للنجاح المطلوب، وذلك بسبب تعقيدات الأوضاع السياسية والأمنية في عين الحلوة، وتعدد اللاعبين، واتساع نفوذ القوى المؤثرة، واستمرار الخلافات الفلسطينية، وتردد المسؤولين القائمين على اللجنة الأمنية، واتساع الخلاف داخل حركة فتح، ما أدى لانسحابها من اللجنة الأمنية المشتركة في شباط/ فبراير الماضي. ولا يبدو أن هناك قدرة فلسطينية على حسم الأوضاع داخلياً في عين الحلوة، على الرغم من محاولة جهات فلسطينية كثيرة معالجة الصراع المسلح وإنهاء ظاهرة المطلوبين.

    ثالثاً: استمرار الأزمة:

    وهذا يعني بقاء الوضع في مخيم عين الحلوة على ما هو عليه، من انقسامات وصراعات وعنف مسلح. هذا السيناريو هو المرجح في المستقبل القريب، بسبب ارتباط قضية مخيم عين الحلوة بعدد من الملفات السياسية المحلية والإقليمية والدولية، ومستقبل القضية الفلسطينية وحقّ العودة، والصراعات في المنطقة، وملف مكافحة الإرهاب. وبسبب عدم قدرة الفصائل الفلسطينية على حسم الواقع العسكري داخل المخيم وتسليم المطلوبين، وعدم وجود إرادة لبنانية قوية لمعالجة أسباب الأزمة، وتحمل المسؤوليات السياسية والقانونية والاجتماعية، مع بقاء رغبة حركة فتح في السيطرة الكاملة على المخيم ومحاربة الإسلاميين ضمن ملف مكافحة الإرهاب، وخشية الإسلاميين من دور حركة فتح الأمني في ملاحقتهم.

    إن بقاء الأزمة يعني استمرار المعاناة الإنسانية في المخيم والإساءة للقضية الفلسطينية وللوجود الفلسطيني، وهذا يعني وجود برميل من البارود يهدد بالانفجار، وربما يهدد بالإطاحة بالمخيم بالكامل. ويرى الفلسطينيون أنه وبغض النظر عن الإشكالات الأمنية في مخيم عين الحلوة، ومدى خطرها، أن الفلسطينيين نجحوا في تحييد المخيم عن الصراعات الإقليمية والفتن الطائفية والانقسامات المحلية والخارجية، منذ اندلاع أزمات المنطقة والأزمة في سورية، ولم تخرج من مخيم عين الحلوة أي عملية اعتداء خارجه.

    التوصيات:

    1. السعي لتعاون فلسطيني لبناني جاد ومشترك للوصول إلى حلّ جذري للأزمة وإطلاق حوار لبناني فلسطيني مشترك حول جميع نقاط العلاقة  الفلسطينية اللبنانية والتوصل لحلول فاعلة.

    2. فصل ملف مخيم عين الحلوة عن جميع الملفات السياسية وتعقيدات المنطقة.

    3. التعامل مع موضوع المطلوبين بالحكمة والحزم اللازمين، وإيجاد تسويات سياسية وقانونية لمعالجة قضاياهم كلما أمكن ذلك. وتطبيق سياسات تؤكد  على احترام القانون، وعدم تحميل المخيم مسؤوليات خارجة عن طاقته وإمكاناته.

    4. وضع خطة تنموية لعين الحلوة.

    5. تشكيل قوة أمنية فلسطينية مشتركة ضاربة، تضع حداً للعنف وتحفظ النظام في المخيم.

    6. تخفيف الإجراءات الأمنية في محيط عين الحلوة.

    يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ رأفت مرة بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (97): مخيم عين الحلوة … إلى أين؟ Word (10 صفحات، 87 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (97): مخيم عين الحلوة … إلى أين؟  (10 صفحات، 545 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 6/3/2017

  • التقدير الاستراتيجي (98): مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء.. إلى أين؟

    تقدير استراتيجي (98) – آذار/ مارس 2017. 

    ملخص:

    ظهرت تسريبات إسرائيلية حول انعقاد مؤتمر قمة سرِّي، مصري إسرائيلي أردني، في مدينة العقبة الأردنية، وبمشاركة وزير الخارجية جون كيري، قبل نحو عام في شباط/ فبراير 2016. كما رافقتها تسريبات وشائعات حول عرض قدمه الرئيس المصري السيسي لتوطين الفلسطينيين في أجزاء يتم اقتطاعها من سيناء بين رفح والعريش (نحو 1,600 كم2). وبالرغم من نفي رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو لوجود هذا الاقتراح المصري، إلا أنه أقر بانعقاد مؤتمر العقبة. أما الطرف المصري الذي تجنب الحديث عن المؤتمر، فقد نفى أيضاً وجود هذا الاقتراح.

    غير أن هناك ثمة ما يثير القلق من وجود مخططات إسرائيلية لتوطين الفلسطينيين في سيناء؛ ومن احتمال تعرض النظام المصري لضغوط متزايدة للقبول بها، خصوصاً وأنه يعاني من ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة.

    تتلخص السيناريوهات في احتمال قيام الجيش الإسرائيلي بحرب مدمرة على قطاع غزة تؤدي إلى تهجير أعداد منهم إلى سيناء، وثانياً في احتمال أن يحدث قبول مصري عربي بفكرة التوطين بما يوفر التسهيلات والمغريات اللازمة لذلك، وثالثاً في احتمال أن يتمكن الشعب الفلسطيني، وبدعم بيئته العربية والإسلامية، من إفشال مخطط التوطين؛ وهذا هو الاحتمال الأقوى والمرجح.

    أولاً: توطين الفلسطينيين في سيناء بين التأكيد والنفي:

    تناقلت الأنباء في 14/2/2017 أن الوزير الإسرائيلي، بلا حقيبة، وعضو حزب الليكود الحاكم نشر تغريدة على تويتر قال فيها إن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد اتفقا على تبني ما وصفها بخطة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإقامة دولة فلسطينية في غزة وسيناء بدلاً من الضفة الغربية، وأنه بذلك يتم تعبيد طريق “السلام الشامل” مع ما وصفه بـ”الائتلاف السنّي”. وجاءت هذه التغريدة قبيل لقاء يجمع نتنياهو بترامب في واشنطن.

    وأعادت هذه التغريدة إلى الأذهان خبراً عن إذاعة الجيش الإسرائيلي جالي تساهال، في 8/9/2014، أن الرئيس المصري السيسي اقترح على الرئيس الفلسطيني محمود عباس إقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح على قطاع غزة ونحو 1,600 كم2 من سيناء يتم ضمّها للقطاع. وعلى أبي مازن إذا ما وافق على المقترح أن يتنازل عن المطلب الفلسطيني بدولة فلسطينية على حدود الخامس من حزيران/ يونيو 1967؛ غير أن عباس رفض هذا الاقتراح.

    وصرح أيوب القرا لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أنه ناقش هذا المقترح يوم الأحد 12/2/2017 مع نتنياهو، وأن نتنياهو أبلغه بنفسه أنه سيثير المقترح مع ترامب.

    وبعد بضعة أيام، وتحديداً في 19/2/2017، كشفت صحيفة هآرتس عند انعقاد مؤتمر سرّي في 21/2/2016 في مدينة العقبة في الأردن بمشاركة نتنياهو، وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي، والملك عبد الله ملك الأردن، والرئيس عبد الفتاح السيسي؛ أي قبل نحو عام من تاريخ الخبر. حيث امتنع نتنياهو عن الموافقة على مشروع تسوية قدمه جون كيري يتضمن، حسب هآرتس، اعترافاً بـ”إسرائيل دولة يهودية”، واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين بدعم الدول العربية. غير أن الصحيفة لم تشر إلى مقترح للرئيس السيسي بشأن توطين الفلسطينيين في أجزاء من سيناء وضمها للدولة الفلسطينية المقترحة.

    وبالرغم من أن مصر والأردن لم تؤكدا حدوث مؤتمر العقبة، إلا أن نتنياهو نفسه أكد انعقاده، وأكد المشاركة في قمة مصرية إسرائيلية أردنية، مبرراً حالة الاستهجان من كتمان لقاء رفيع المستوى كهذا مع الرئيس المصري والملك الأردني، بقوله “أفعل الكثير من أجل عملية السلام، لكنني لا أستطيع أن أكشف كل شيء”.

    غير أن نتنياهو نفى تصريحات أيوب قرا بأنه كان ينوي بحث إقامة جزء من الدولة الفلسطينية في سيناء في لقائه مع ترامب.

    وقد كان لافتاً غياب أو تغييب المشاركة الفلسطينية الرسمية عن المؤتمر بالرغم من التزامها بمسار التسوية السلمية؛ وبالرغم من كونها الجهة المعنية أساساً بأي اتفاق متعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني.

    وبعد نفي نتنياهو لمشروع توطين الفلسطينيين في سيناء، قام النائب السابق الجنرال أريه إلداد بالتصريح لموقع صحيفة معاريف أن الرئيس المصري السيسي اقترح فعلاً منح الفلسطينيين مساحة في شمال سيناء لإقامة دولتهم.

    أما في مصر فقد أكد المتحدث باسم الرئاسة المصرية السفير علاء يوسف أن “ما تردد مؤخراً عبر وسائل الإعلام بشأن وجود مقترحات لتوطين الأخوة الفلسطينيين في سيناء، هو أمر لم يسبق مناقشته أو طرحه على أي مستوى من جانب أي مسئول عربي أو أجنبي مع الجانب المصري”. وأضاف: “من غير المتصور الخوض في مثل هذه الأطروحات غير الواقعية وغير المقبولة، خاصة وأن أرض سيناء جزء عزيز من الوطن”. كما نفت وزارة الخارجية المصرية ما ذكرته القناة الصهيونية السابعة عن توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء واصفة إياه “بجملة من الأكاذيب”، وفي يوم المعلم نفى الرئيس السيسي هذه التصريحات بقوله “إن أحداً لا يملك أن يفعل ذلك”.

    ومما سبق لا تعكس التقارير والأخبار المتداولة معلومات دقيقة يمكن البناء عليها فيما يتعلق بمشروع لتوطين الفلسطينيين في سيناء ضمن عملية اقتطاع أجزاء منها لقطاع غزة. غير أن الطريقة التي ظهرت فيها هذه الأخبار تثير مجموعة من التساؤلات المشروعة… .

    فهل يمكن لوزير في الحكومة الإسرائيلية وعضو في حزب الليكود الحاكم ومقرب من رئيس وزرائه أن يكون مجرد “كذّاب”؛ ومجرد “مشاغب” يُحبُّ لفت الأنظار إلى نفسه حتى ولو بإفساد العلاقة مع دولة كمصر ذات قيمة كبرى في الاستراتيجية الإسرائيلية؟! ولماذا لم يقم رئيس الوزراء الإسرائيلي إلا بعملية نفي للخبر… دون أن يقوم بتوبيخ أو معاقبة الوزير الإسرائيلي أيوب قرا؟!

    ولماذا سكتت مصر والأردن وأمريكا عن عقد مؤتمر العقبة واحتفظت بسره تماماً؛ ولم ينكشف إلا إسرائيلياً، ومن أعلى مستوى، بعد عام على انعقاده؟!
    وهل بالتالي هناك نقاط وأجندات أخرى سرية لم تنكشف حتى الآن؟! وهل كان موضوع توطين الفلسطينيين في سيناء من بينها؟! وهل ما فعله القرا لم يكن سوى “بالون اختبار” بإذن من القيادة الإسرائيلية لجس نبض الرأي العام والتعرف على ردود الفعل المحتملة؟! ثم التقدم بخطوات عملية إلى الأمام إذا لم يكن هناك ثمة ما يثير القلق.

    ثانياً: دور الولايات المتحدة الأمريكية:

    بعيداً عن النظرة الأمريكية لـ”إسرائيل” بأنها أحد الركائز الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؛ فقد أصبح واضحاً للعيان أن السياسة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب، ربما ستكون من أكثر الحكومات الأمريكية دعماً للأطماع الإسرائيلية في المنطقة، وسنداً لها في تحقيق ذلك؛ والمؤشرات هنا كثيرة أهمها:

    1. وعود ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.

    2. تقرب دونالد ترامب ومعظم أعضاء إدارته العاملون في المناصب العليا إلى اليمين الصهيوني المتطرف.

    3. في سابقة خطيرة ولها دلالات مهمة وجّه ترامب دعوة لزعماء مجالس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية للمشاركة في حفل تنصيبه رئيساً  للولايات المتحدة.

    4. تحميل ترامب الفلسطينيين فشل العملية السلمية، وتحميل السلطة الفلسطينية مسؤولية “نشر الكراهية” وتبني بيان جاء فيه “أن الولايات المتحدة  الأمريكية لن تدعم إقامة دولة إرهابية في الأراضي المحتلة”، “وأن حلّ الدولتين أصبح على ما يبدو مستحيلاً الآن”.

    5. لا يمكن إغفال أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من أوائل الدول التي دعت إلى فكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين؛ عبر خطة مستشار وزير الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط مالك غي، سنة 19499.

    ثالثاً: المخططات الصهيونية وفكرة توطين الفلسطينيين في سيناء:

    فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء، لم تغب عن أذهان القادة الصهاينة ولا من خططهم الاستراتيجية، فهي فكرة تعدّ تطبيقاً للحكم الصهيوني بالتخلص من الشعب الفلسطيني وتوطينه وذوبانه في بيئات خارجية. وقد ظهر في ذلك عدة مشروعات، منها:

    1. مشروع إيجال آلون والذي ظهر سنة 1967، والذي دعى إلى فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء استغلالاً لظروف “عجز السلطات المصرية في  فرض سيطرتها الأمنية في سيناء” وهي الحالة التي تشبه الأوضاع الحالية.

    2. مشروع مستشار الأمن القومي الصهيوني جيورا أيلاند سنة 2004، والذي دعى إلى تنازل مصر عن 600 كم2 من سيناء بغرض توطين اللاجئين. مقابل أن يتنازل الكيان الصهيوني عن 200 كم22 من أراضي صحراء النقب لصالح مصر، ومنحها بعض المكاسب الاقتصادية.

    3. خطة يوشع بن آريه سنة 2013، والتي تنص على أن تُمدَّد حدود قطاع غزة إلى حدود مدينة العريش لتضم مدينتي رفح والشيخ زويد لقطاع غزة،  ومن ثم توطين اللاجئين الفلسطينيين فيها.

    وهو ما يعني أن موضوع توطين الفلسطينيين في سيناء حاضر حتى الآن في العقل الإسرائيلي.

    رابعاً: دور مصر:

    بالرغم من النفي المصري الرسمي لوجود مقترحات لتوطين الفلسطينيين في سيناء؛ إلا أنه يجب متابعة السلوك الرسمي للتأكد أنه ليست هناك ثمة أجندات غير معلنة، وأن النظام لن يخضع لأي ضغوط خارجية في سبيل الوصول إلى تسوية سلمية للقضية الفلسطينية تكون على حساب الشعب الفلسطيني وحقه في العودة وإنهاء الاحتلال.

    فقد سبق للنظام المصري تحت قيادة عبد الناصر أن تعامل بإيجابية مع فكرة توطين نحو 50–60 ألف فلسطيني في سيناء، وأخذ الأمر شكلاً جاداً عندما تعاون مع الأونروا في الفترة 1953–1955 لتجهيز هذا المشروع. غير أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة نجح في إسقاط المشروع وإلغائه.

    كما أن هناك عوامل مهمة يجب أخذها بعين الاهتمام أبرزها العلاقة المتميزة والتعاون غير المسبوق بين نظام السيسي وبين الجانب الإسرائيلي، وقيامه بدور أساسي في حصار قطاع غزة، وهشاشة الوضع السياسي في مصر، وانفراد السلطة الحاكمة بالقرار مع تغييب وضرب قوى المعارضة الفاعلة، والأزمة الاقتصادية المتصاعدة في مصر، وحاجة النظام المصري الماسة للدعم الأمريكي والغربي لمواجهة مشاكله السياسية والاقتصادية والأمنية…؛ وبالتالي سهولة وضع النظام تحت الضغط في سبيل البقاء؛ على الأقل وفق الحسابات الإسرائيلية الأمريكية.

    خامساً: فلسطينياً:

    من يتابع التصريحات الصادرة عن القيادات الفلسطينية من كافة الاتجاهات حول فكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء يجد بأن هناك إجماعاً على رفض الفكرة. وفي الحقيقة فمن الصعب الجزم بإمكانية تطبيق خطة توطين الفلسطينيين في سيناء من الناحية المنطقية والعقلانية. وحتى الآن، فقد تمكن الفلسطينيون رسمياً وشعبياً من إفشال كافة مشاريع التوطين التي استهدفتهم.

    سادساً: السيناريوهات المحتملة:

    1. محاولة تهجير الفلسطينيين في قطاع غزة إلى سيناء من خلال حرب مدمرة:

    ترتفع مؤشرات شنّ عدوان شرس على غزة وبوتيرة متسارعة. عدوان قد تكون أحد نتائجه تهجير عدد كبير من سكان قطاع غزة إلى سيناء، سواء من خلال اتفاق إسرائيلي مصري أم دون ذلك. فقد تقوم “إسرائيل” بهذه الخطوة استناداً على ما يلي:

    ‌أ. وجود قيادة صهيونية يمينية عنصرية متطرفة تتولى زمام الحكم.

    ‌ب. القوة العسكرية الإسرائيلية، خصوصاً في ظلّ الحديث عن توقعات بتوفير غطاء ودعم أمريكي غير مسبوق.

    ‌ج. عجز المؤسسات العربية والدولية في حلّ الأزمات الإقليمية.

    ‌د.  يجب الأخذ في الاعتبار حمامات الدم في منطقة الشرق الأوسط وتحديداً في سورية واليمن وليبيا، والتي قد تشكل دافعاً للكيان الصهيوني لارتكاب مذابح مشابهه في حقّ سكان غزة لتشكل ضغطاً عليهم تجبرهم للفرار إلى سيناء.

    ‌ه. الحالة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها سكان قطاع غزة، والتي قد تضطر أعداداً منهم للسكن في سيناء إذا ما أتيح لهم ذلك في وجود بدائل وحوافز  حياتية أفضل.

    ‌و. تنامي أفكار الهجرة والبحث عن حياة في مكان آخر لدى أوساط الشباب من سكان القطاع. فقد أشارت إحدى الدراسات أن 24% من الشباب لديهم  الرغبة في الهجرة للخارج.

    في حال أراد الكيان الصهيوني تهجير فلسطيني غزة، ليس المقصود كل سكان غزة وإنما جزء منهم بهدف إيجاد بذرة التوطين، خصوصاً وأن الفارين لسيناء من سكان القطاع من المتوقع بأنهم سيحصلون في البداية على خدمات ومساعدات من قبل منظمات دولية تعزز وجودهم، ليتسلل إليهم بأن الأوضاع في سيناء أفضل من غزة، وليتحول الاستقرار المؤقت إلى استقرار دائم.

    غير أن هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، وقد يأخذ شكل مغامرة إسرائيلية غير معروفة العواقب؛ إذ قد ترتد هذه المحاولة بآثار عكسية واسعة على المشروع الصهيوني، فينهار مسار التسوية السلمية، وتكتسب قوى المقاومة مزيداً من الشرعية، كما أن صمود الشعب الفلسطيني ووعيه بمخططات التوطين سيسهم في إفشالها، كما أنه قد تتشكل بيئة عربية وإسلامية قوية تدفع النظام المصري لعدم التعاون على تنفيذ هذا المخطط، بالإضافة إلى الوجه البشع لـ”إسرائيل” الذي سينكشف بشكل أكبر، مما يتسبب لها بمزيد من العزلة والفشل.

    2. إمكانية القبول العربي بالتوطين:

    وهذا السيناريو يعتمد على أن تقبل الأنظمة الحاكمة في الدول العربية في نهاية المطاف بحلول قد تذهب إلى تصفية القضية الفلسطينية وذلك للعوامل التالية:

    ‌أ. انشغال العديد من الدول العربية في إشكالياتها التي لا حصر لها، والتي كانت تعدُّ سابقاً دول مناصرة للقضية الفلسطينية.

    ‌ب. تعاني عدد من الأنظمة الحاكمة في البلاد العربية حالة يمكن وصفها بـ”الرعب” من المجهول، جعلها تخشى على مستقبلها ومستقبل بلدانها، مما  يجعلها تتفهم أي حلول يضمن استقرار أنظمتهم ووحدة أراضيهم، معتقدين بأن العلاقات العربية الجيدة مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية تضمن لهم ذلك.

    ‌ج. انشغال الأحزاب والقوى الشعبية العربية والإسلامية بإشكالياتهم الخاصة بشكل يبعدهم عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية.

    ‌د. من المتوقع أن تكون مرحلة ما بعد محمود عباس في غاية الصعوبة؛ وذلك لاستمرار الانقسام، وغياب دور المؤسساتية. مما يغيّب أي دور فلسطيني  فعال ومؤثر مستقبلاً ويدخل السلطة الفلسطينية في مربع النزاعات الداخلية، لتعود القضية الفلسطينية إلى أحضان الدول العربية وبالتحديد مصر مرة أخرى. والتي يعاني نظامها السياسي من مجموعة من المشاكل الكبيرة التي قد تجعله قابلاً للضغط والابتزاز.

    إلا أن احتمال حدوث هذا السيناريو ضعيفة، وذلك لأنه من المتوقع أن يرفض الشعب الفلسطيني وكذلك الشعوب العربية مخططات توطين اللاجئين الفلسطينيين، مما يجعل الأنظمة العربية الحاكمة تخشى من ردّ فعل الشارع العربي؛ حيث ما زال موضوع التوطين “محرقة” لشعبية الأنظمة وحتى لشرعيتها في البيئة العربية.

    3. فشل مشروع التوطين:

    من المتوقع أن يفشل سيناريو توطين الفلسطينيين في سيناء، فعلى مدى سبعين عاماً تمكّن الفلسطينيون من إفشال عشرات مشاريع التوطين؛ وما زال ثمة إجماع فلسطيني على رفض التوطين وعلى حقّ العودة. وهو السيناريو الأرجح، فكلاً من الشعبين المصري والفلسطيني، يمثلان عقبة حقيقية أمام تنفيذ خطة الوطن البديل. وإن الروح الوطنية والقومية والإسلامية، مع تكريس حدود الدولة القُطرية تشكل موانع ودوافع حقيقية ضدّ التوطين.

    إضافة الى حرص السلطة الفلسطينية على عدم التطرق للمسائل الحساسة وعلى رأسها قضية اللاجئين، كما أن المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي لن تسمح بمرور مخططات كهذه بكافة الطرق.

    ثم إن السياسات الرسمية العربية ما تزال ملتزمة حتى الآن برفض التوطين وبحق العودة للاجئين.

    سابعاً: الخلاصة:

    على الرغم من عقود التهجير الطويلة ما زالت ثقافة العودة ورفض التوطين تشكل قلقاً كبيراً للدولة الإسرائيلية؛ إلا أنها تسعى دائماً لإيجاد ثغرات تحقق لها أهدافها في التخلص من ملف اللاجئين الفلسطينيين. ونظراً للظروف الفلسطينية والعربية والإسلامية الصعبة، جراء ما تعينه المنطقة من إشكاليات ما بعد ثورات ما يُعرف بـ”الربيع العربي” فإنها ستسعى إلى تسليم فلسطيني وعربي بقبول فكرة التوطين في سيناء. إلا أن الشواهد التاريخية تقول إن المخططات الصهيونية تجاه القضايا الفلسطينية المصيرية تمّ مواجهتها من قبل الشعب الفلسطيني بقوة من خلال الانتفاضات الفلسطينية المتكررة؛ والتي دائماً ما كانت تقف أمام أيّ تهديد صهيوني حقيقي؛ وما تزال جذوة المقاومة قوية في نفوس الشعب الفلسطيني، والتي كان من أبرز نماذجها الانتفاضة المباركة 1987–1993 وانتفاضة الأقصى 2000–2005، وصمود غزة في حروب ثلاث 2008/2009 و2012، و2014؛ بالإضافة إلى انتفاضة القدس. كما أن ثقافة الصمود على أرض الوطن، وثقافة العودة ما تزال تجد أرضاً صلبة في الوسط الفلسطيني.

    ثامناً: التوصيات والمقترحات:

    من الضروري أن تتكثف الجهود الفلسطينية لمنع تطبيق خطة توطين الفلسطينيين في سيناء والعمل على عرقلته؛ مع الإقرار بالخلل الكبير في موازين القوى الإقليمية لصالح الطرف الصهيوني، فإن الأدوات السياسية والديبلوماسية والإعلامية هي الأدوات المتاحة، وهذا يستدعي ما يلي:

    1. تكثيف النشاط الإعلامي والتوعوي في الوسط الفلسطيني حول مؤامرات التوطين ومخاطرها.

    2. إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية والنظام السياسي الفلسطيني بشكل يستوعب كافة القوى والشرائح، وبما يعمق البناء المؤسسي الذي لا يتأثر  بوفاة الأشخاص وتغير القادة.

    3. مطالبة الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر التعاون الإسلامي، وحركة عدم الانحياز باتخاذ مواقف حاسمة، وإصدار بيانات تحذر من تصفية قضية  اللاجئين الفلسطينيين من خلال مشاريع التوطين.

    4. دعم أي توجه قضائي للناشطين الحقوقيين في مصر يرفض فكرة توطين الفلسطينيين في سيناء.

    5. التوجه للمنظمات الفاعلة في المجال الإنساني والحقوقي واستصدار بيانات تحذر من توطين الفلسطينيين خارج ديارهم.

    6. التأكيد على الوحدة الجغرافية لفلسطين وأن الضفة الغربية وقطاع غزة هما جزءان لا يتجزآن منها.

    يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ محمد أبو سعدة بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (98): مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء.. إلى أين؟ Word (11 صفحة، 94 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (98): مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء.. إلى أين؟  (11 صفحة، 564 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 29/3/2017

  • الحراك الشعبي اللبناني.. إلى أين؟

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    عندما ينطلق حراك شعبي لبناني واسع وشامل، عابر للطوائف و الأطياف والأحزاب السياسية، فهي لحظة تاريخية استثنائية في تاريخ لبنان.

    إنها حالة شعبية وحَّدها "الوجع" والمعاناة وتراكم الضغوط، ووحَّدها الغضب تجاه الطبقة السياسية التي يتهمونها بالفشل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ولتفشي الفساد الذي ينخر أجهزة الدولة ومؤسساتها.

    لبنان المتميز دائماً بالاصطفافات الطائفية والحزبية طوال سبعين عاماً؛ أعاد عملية الاصطفاف هذه الأيام، لتتوحّد الجماهير الغاضبة ضدّ رؤسائها وزعمائها ورموزها على طريقة "كلن يعني كلن".

    كان إقرار مجلس الوزراء لمشروع الضريبة على استخدام الواتس آب ووسائل الاتصال المجانية (6 دولارات شهريّاً) الشرارة التي أطلقت الاحتجاجات، بعد أن شعر الناس أن الدولة تلاحقهم على آخر متنفساتهم، بينما يستمرّ الهدر المالي والإسراف والاستنفاع من المواقع القيادية والإدارية لمصلحة هذه الطبقة السياسية.

    مظاهر الحراك:

    تميز الحراك الشعبي اللبناني بمشاركة فئات المجتمع كافة، خصوصاً الشباب، واتسم بالجرأة الشديدة على رموز النظام السياسي، بأشكال النقد كافة، وحتى الشتائم الجارحة والكوميديا الساخرة، وتَعرَّض النظام السياسي الطائفي والحزبي لنقد قاسٍ باعتباره سبباً للفساد وحامياً له ومعوقاً حقيقياً لأي حالة نهضوية في البلد.

    واتخذ الحراك نكهة لبنانية خاصة، فلم يخلُ من مظاهر الغناء والفرح والدبكة، بطريقة عبّرت عن "إنسانية" الحراك، وسلمية التظاهرات، وحب اللبنانيين للحياة. غير أن محاولة بعض وسائل الإعلام تعميم بعض المظاهر الاستثنائية لم يكُن صحيحاً.

    رافق الحراك تعطل التعليم وإغلاق البنوك وقطع الشوارع بين المناطق والمدن مما تسبب في شبه شلل للحياة الاقتصادية ولحركة المواصلات، وهو ما تسبب بضغط هائل على الحكومة.

    اللافت للنظر أن القيادات السياسية والحزبية أخذت تشارك في الهجوم على الفساد والهدر المالي، بينما هي نفسها التي تتولى إدارة المنظومة الحكومية والسياسية المتهمة بالفساد.

    فساد وغلاء ومديونية:

    حسب تصنيف منظمة الشفافية الدولية، فإن لبنان يحتل المرتبة 138 بين دول العالم في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2018، ولم يحصل إلا على 28 نقطة من أصل 100 نقطة. وتشير الدراسات إلى أن "كلفة الفساد" المالي السنوية في لبنان تبلغ نحو ثلاثة مليارات دولار. ويعتقد 92% من اللبنانيين أن الفساد زاد في البلد.

    الفساد جعل بلداً مليئاً بالأنهار والينابيع يعاني انقطاع المياه، والمياهَ المالحة، في كثير من مناطقه بما في ذلك العاصمة بيروت، وجعله بلداً يعاني انقطاعات الكهرباء لفترات طويلة يوميّاً تصل إلى 12 ساعة في بعض المناطق.

    وعلى الرغم من أن البلد زاخر بالطاقات والكفاءات والخبرات، وشعبه مليء بالنشاط والحيوية، فإنه يعاني بنى تحتية متخلفة، وتردِّياً في الخدمات، مع غلاء فاحش في الأسعار جعل بيروت ثاني أغلى عاصمة عربية.

    وهو ما يتسبب في حالات إحباط واسعة تدفع إلى الهجرة، ليجد اللبناني مجالاً واسعاً لإبداعه خارج وطنه. وحسب الخبراء فإن بنية النظام السياسي الطائفي، وأساليب المحاصصة، وشراء الموالين، قد أدّت إلى توفير بيئة مناسبة للفساد، مع توفير الحماية للمتهمين به، لذلك لم يُحاسَب أحد من كبار المسؤولين بتهم الفساد منذ إنشاء الدولة اللبنانية.

    الهدر المالي وسوء الأداء الاقتصادي أوقع لبنان في أزمة ديون خانقة، إذ بلغت نحو 85 مليار دولار (بعد أن كانت سنة 2007 تبلغ 40 ملياراً)، وبكلمة أخرى يُولَد كل لبناني وفي رقبته نحو 15,450دولاراً (على اعتبار أن عدد اللبنانيين حاملي الجنسية بلغ في نهاية 2018 نحو 5.5 مليون نسمة)، وهي ديون تُقدَّر بنحو 140% من حجم الاقتصاد اللبناني، مما جعل لبنان الثالث عالمياً من حيث نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي. وأصبحت خدمة الدَّين تستهلك مبالغ هائلة، في الوقت الذي يزداد فيه الدّين بنحو ستة مليارات دولار سنوياً.

    صعوبات وتحديات:

    يعاني الحراك عدداً من التحديات أبرزها أن البنية الطائفية السياسية في البلد متجذرة وعميقة في المنظومة السياسية، ولدى الأحزاب المستندة على قواعد طائفية بنى تحتية قوية وقدرات تعبوية كبيرة، مما يعطيها الفرصة لإعادة إنتاج نفسها في أي انتخابات حرة نزيهة قادمة.

    ومن ناحية ثانية، فالحراك نفسه لا رأس ولا برنامج محدداً له. وبالرغم من أن ذلك من مزاياه المهمة في البداية، إلا أنه إن لم تتصدره قيادات شعبية حقيقية، تعبر عن هموم الجماهير وتلقى قبولهم، فقد يتراجع وينطفئ تدريجياً قبل أن تتحقق مطالبه.

    وإذا كان ثمة انعدام ثقة بالحكومة وأحزابها في تنفيذ مطالب الإصلاح، فليس ثمة جاهزية لدى الحراك في المقابل للحلول مكان الحكومة. وهو ما قد يتسبب من جهة ثالثة في حالة من الفراغ أو فتح المجال أمام مخاطر الانفلات والفوضى.

    ولأن الناس، من جهة رابعة، خرجت أساساً لعلاج مشاكلها الاقتصادية؛ فإن أيّة جهة ستتولى الحكم مهما كانت كفاءتها وإخلاصها ستحتاج وقتاً غير قصير لتدوير عجلة الاقتصاد بشكل صحيح. كما يبرز احتمال وجود قوى "دولة عميقة" معطِّلة لإصلاحاتٍ تراها تضر بمصالحها، ووجود قوى فساد تحاول المحافظة على نفوذها أو الهروب برؤوس أموالها، فضلاً عن تدخل قوى دولية وإقليمية في السياسة المحلية وممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية مختلفة لرعاية مصالحها.

    وثمة تحدٍّ خامس مرتبط بالمحافظة على بوصلة الحراك في تحقيق أهدافه، وقطع الطريق أمام أيّة قوى تسعى لركوب الموجة، أو لتغيير البوصلة، لتصفية حسابات سياسية، أو لخدمة أجندات تصبّ في مصلحة قوى خارجية متربصة بلبنان.

    الحراك إلى أين؟:

    حاولت الحكومة، التي اعترفت بالأزمة وبالمطالب المُحقَّة للمتظاهرين، تقديمَ برنامج لحلول مستعجلة تثبت من خلاله جديتها في الاستجابة لمطالب المتظاهرين؛ فأكدت على تخفيض مظاهر الإنفاق، وعلى عدم فرض ضرائب جديدة، وعلى حلّ مشكلة الكهرباء، وإطلاق قانون الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وقانون استعادة الأموال المنهوبة، وخفض رواتب الوزراء والنواب والرؤساء بنسبة 50%. كما تبنى رئيس الجمهورية العديد من قضايا المتظاهرين وهمومهم وطالبهم بتقديم رؤاهم الإصلاحية، للتوصل إلى تفاهم بشأنها.

    وكان من الواضح أن العديد من القوى النافذة في الدولة والمجتمع (حزب الله، وأمل، والتيار الوطني الحر،...)، تتبنى العديد من المطالب الاقتصادية والاجتماعية، لكنها ترفض إسقاط الحكومة والرئاسة، كما ترفض إغلاق الشوارع وتعطيل الحياة العامة. ويجري النقاش في أوساطها حول إنزال جماهيرها وأنصارها، لمواجهة ما ترى أنه استهداف لها ولبرامجها ومواقفها السياسية.

    وبالتالي، فإن الحراك يسير باتجاه أحد السيناريوهات التالية:

    السيناريو الأول: الاستجابة لمطالب المتظاهرين المتعلقة بحزمة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بمكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وتحسين الخدمات ورفع المعاناة عن المواطنين، مع توفير ضمانات لتنفيذها، كإعادة تشكيل الحكومة وتطعيمها.

    السيناريو الثاني: الاستجابة للسقف العالي لمطالب قطاع فاعل من المتظاهرين، بإسقاط الرئاسة والحكومة، وتشكيل حكومة انتقالية جديدة، وعمل انتخابات مبكرة على أسس غير طائفية، بالإضافة إلى حزمة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية.

    السيناريو الثالث: إصرار الطرفين على مواقفهما، وإنزال الطرف المؤيد للحكومة أنصارَه إلى الشارع، بما قد يُهدد (لا قدر الله) بتعطُّل البلد أو بالفوضى، وبمزيد من التردي والانهيار الاقتصادي.

    السيناريو الرابع: تراجع الحركة الاحتجاجية، ونجاح القوى الرسمية في امتصاصها واحتوائها، ومتابعة القوى الحاكمة لسياساتها المعتادة، مع بعض الديكورات الجديدة؛ مع بقاء جوهر الأزمة في البنية الطائفية السياسية.

    تجدر الإشارة إلى أننا نكتب هذا المقال في خضم الحراك، وفي أوضاع متحركة ومتغيرة يصعب توقعها. غير أن السيناريو الأول ربما كان هو الأقرب للتحقق حتى الآن.

    ولكن ما قد يعيقه أن هناك أزمة ثقة لدى الحراك الشعبي في القيادة السياسية، باعتبار أن أولئك المسؤولين عن الفساد أو الساكتين عنه غير قادرين أو غير مؤهلين لمحاربته، ولا لتقديم علاجات جذرية لمشاكل البلد.

    وربما لو نجح أنصار الحراك الشعبي في إدارة برنامجهم ومفاوضاتهم، لتحسنت فرصهم في تحقيق بعض المطالب في السيناريو الثاني كالانتخابات المبكرة، والحكومة الانتقالية، ووضع أسس جديدة للانتخاب تتجاوز، ولو جزئياً، المحاصصة الطائفية لتعطي فرصة لإنتاج أسس أفضل للدولة الحديثة.

    كما يجدر الانتباه إلى أن العقلية السياسية اللبنانية تجيد لعبة "حافة الهاوية"، وليس من السهل دفع أيّة قوة كبيرة، خصوصاً المستندة إلى أرضية طائفية، إلى التنازل، إلا ضمن حسابات وتوافقات وتحالفات صعبة ومتداخلة، وقد تستغرق زمناً طويلاً. وبالرغم من ذلك، فإن الحراك وفّر فرصة استثنائية للإصلاح السياسي والاقتصادي.


    المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا، 27/10/2019

  • المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج وقفة مراجعة وتقييم

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    تمر هذه الأيام ذكرى مرور عامين على إطلاق “المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج” الذي شارك في تأسيسه نحو ستة آلاف فلسطيني، جاؤوا من مختلف بقاع العالم إلى إسطنبول، حيث اجتمعوا في 25/2/2017؛ مؤكدين على الارتباط المقدس لنحو ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني بفلسطين، ومعبرين عن تطلعات الشعب الفلسطيني في الخارج في تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، وفي عودة اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم التي أخرجوا منها.

    سعى القائمون على المؤتمر الشعبي إلى إنشاء هيئة شعبية مدنية مستقلة، غير حزبية، تقوم بتحشيد واستيعاب وتأطير مختلف قوى وشرائح الشعب الفلسطيني، وتطلق طاقاتهم بشكل منظم فعال في كافة جوانب العمل الشعبي، وبما يسهم في إيجاد بيئة صحية ناضجة تشارك في مجالات العمل الوطني، وصناعة القرار الفلسطيني، وتدعم صمود الشعب الفلسطيني في الداخل. وفي الوقت نفسه، فإنه وإن كان للمؤتمر مهمة سياسية فهو ليس حزباً سياسياً، ولا يخضع للمحاصصات والحسابات الحزبية، وليس لرموز وقيادات الفصائل حضور فيه، وإن كان المجال مفتوحاً للأشخاص من مختلف التوجهات أن يشاركوا كأفراد، دون أن يكونوا ممثلين لفصائلهم. والمؤتمر كذلك، وإن كان يسعى لخدمة الشعب الفلسطيني، إلاّ أنه ليس مجرد جمعية خيرية.

    وقد شكلت عملية إطلاق المؤتمر دفعة معنوية كبيرة للقائمين عليه، نظراً للمشاركة الواسعة ولنوعية الحضور المميزة التي شهدها المؤتمر. فألقيت في الافتتاح كلمات لشخصيات كان لها مواقعها في منظمة التحرير أو في السلطة الفلسطينية مثل عبد المحسن القطان، وأنيس فوزي قاسم، وسلمان أبو ستة، ومنير شفيق، وفؤاد بسيسو؛ بالإضافة إلى مشاركة مجموعة كبيرة من الشباب الفلسطيني الواعد.

    المؤتمر ضرورة وطنية:

    أجمع المشاركون على ضرورة إنشاء هذا المؤتمر في ظلّ تراجع وتدهور منظمة التحرير الفلسطينية وتعطّل مؤسساتها في الخارج، وغيابها طوال 25 عاماً عن فلسطينيي الخارج وهمومهم، وعدم تجديدها لِبُنَاها التشريعية والقيادية، وهيمنة فصيل واحد عليها، مع غياب أو تغييب قوى فاعلة وذات حضور شعبي واسع عن العمل والمشاركة في أطرها.

    كما لاحظوا من ناحية ثانية، حالة الضعف والانزواء التي تشهدها الاتحادات والنقابات الفلسطينية في الخارج وفشلها في تمثيل وتفعيل أبناء شعبها في مجال عملهم واختصاصهم.

    ومن ناحية ثالثة، نبهوا إلى خطورة المرحلة وما يحاك ضد قضية فلسطين، ومحاولة طي ملفها، وتضييع حقوق الشعب الفلسطيني والعبث بثوابته، وعلى رأسها حقه في تحرير كامل أرضه ومقدساته، وفي سيادته عليها، وحقه في العودة؛ وبالتالي ضرورة استنهاض وتحشيد كافة قوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مدعوماً بأمته العربية والإسلامية، وبأحرار العالم، لمواجهة المشروع الصهيوني، وكل المشاريع التي تستهدف تصفية قضيته.

    ولذلك، كان ثمة إدراك عميق بضرورة وأهمية استعادة فلسطينيي الخارج لدورهم الأساس في المشروع الوطني الفلسطيني، والحفاظ على الثوابت. ولم يكن ذلك جديداً ولا غريباً عن دورهم الرائد منذ نكبة 1948 وكارثة 1967. فإنشاء الفصائل الفلسطينية الرئيسية وقيادتها كانت على أيديهم، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها كانت على أيديهم كذلك، وقيادة المقاومة والعمل العسكري المقاوم، والمشروع الوطني الفلسطيني منذ 1948 وحتى 1993 كانت على أيديهم، وهو ما ينطبق على الاتحادات والنقابات الطلابية والمهنية والشبابية والنسائية. فحيثما كان الاحتلال الصهيوني يجثم على صدر الداخل الفلسطيني، ويمنع القدرة على العمل والمقاومة ويسحقها، كان الخارج يقوم بواجباته ومسؤولياته، فيتولى المبادرة، ويمدّ إخوانه وأهله في الداخل بعناصر الصمود والقوة والثبات.

    أما بعد اتفاقات أوسلو 1993، فإن قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية تتحمل وزر تغييب فلسطينيي الخارج، وتقزيم أدوارهم، وتعريض حقوقهم وثوابتهم للخطر والضياع.

    نجاحات… ولكن:

    خلال العامين الماضيين، وبالرغم من الصعوبات والعوائق وشحّ الإمكانات، نجح المؤتمر الشعبي في تجاوز العقدة التي صاحبت العديد من المبادرات المشابهة السابقة، والتي كانت تتبخر أو تذوي بُعيد قيامها بقليل؛ فتمكن المؤتمر من تشكيل هيئاته القيادية، ومن عقد هيئته العامة، ومن اعتماد نظامه الأساسي، ومن إعداد رؤيته وخطته الاستراتيجية لسنوات عشر قادمة، ومن تشكيل العديد من لجانه التي بدأت عملها على الأرض، ومن تنفيذ العديد من الفعاليات في لبنان وتركيا وقطر والأردن وغيرها. كما عقدت أمانته العامة نحو عشرة اجتماعات على مدى السنتين للمتابعة التنفيذية للبرامج والتصورات، ونمت بشكل عام أجواء إيجابية وصريحة وقاعدة فهم وعمل مشترك بين أعضائه، على اختلاف خلفياتهم السياسية والأيديولوجية.

    وهكذا، أثبت القائمون على المؤتمر جديتهم في العمل، واستعدادهم لتحمل الكثير من الصعاب، والعمل على تذليلها لإنجاح الفكرة ونموها واتساعها؛ وأخذ المؤتمر يثبت نفسه كرقم صعب في أوساط فلسطينيي الخارج.

    وفي المقابل، فيظهر أن ما تمّ إنجازه كان أقل من طموحات الكثيرين ممن شاركوا في إطلاق المؤتمر:

    – فما زالت العضوية في المؤتمر متواضعة، قياساً بأعداد الفلسطينيين في الخارج، وما زال نموها ضئيلاً.

    – وما زالت القدرة على تحقيق دور فاعل في الجاليات محدودة.

    – وما زال المؤتمر غير حاضر بقوة في أوساط الاتحادات والنقابات المهنية.

    – وما زال المؤتمر يُمثل حالة نخبوية، لم يتفاعل معها الجمهور الفلسطيني في الخارج بالشكل المطلوب.

    – وما زال هناك الكثير من الرموز والشخصيات والكفاءات الفلسطينية ممن لم تنضم للمؤتمر، أو تتردد في المشاركة الفاعلة فيه.

    – ولم ينجح المؤتمر حتى الآن في توفير التمويل والإمكانات الذاتية، التي تمكنه من تنفيذ برامجه على الأرض.

    صعوبات ومعوقات:

    وككل المشاريع الكبيرة التي تواجهها العقبات والصعوبات، فإن هناك أسباباً ذاتية وأخرى موضوعية تجعل المنجز دون طموح القائمين على المشروع.

    ومن الأسباب الذاتية أن هذا المشروع شاركت فيه شخصيات بخلفيات سياسية شتى، وجاؤوا من بيئات جغرافية متنوعة، ولديهم درجات متفاوتة من الرؤى والطموح، ودرجات متفاوتة من الاستعداد للعمل، ولديهم وجهات نظر متنوعة حول أولويات المرحلة وطرق الوصول إلى الأهداف. فهناك من يحاول تجميع الجهود باتجاه انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير، وهناك من يحاول تركيز الجهود باتجاه دعم الداخل الفلسطيني وانتفاضته لدحر الاحتلال؛ وهناك من يرى أولوية تفعيل الجاليات والنقابات والاتحادات المهنية، وتعبئة الشعب الفلسطيني في الخارج للحفاظ على الثوابت وعلى رأسها حقّ العودة؛ وهناك من يحاول المزج بين هذه النقاط. وقد انعكس ذلك على عملية بناء التصورات والخطط والمسارات، التي احتاجت وقتاً غير قصير من النقاش والتداول في أروقة الأمانة العامة والهيئة العامة للمؤتمر.

    ولعل حاجة المؤتمر، من ناحية ثانية، إلى مزيد من الرموز والشخصيات الفاعلة في أوساط الجاليات الفلسطينية تضاف إلى العوامل الذاتية. كما أن ضعف الإمكانات المالية وقلة المتفرغين لهذا العمل، تضاف إلى العوامل المعوِّقة لقدرة المؤتمر على الانطلاق والتوسع السريع.

    أما العوامل الموضوعية فلها تأثير كبير في عملية التعويق. ولعل أولها أن أعضاء المؤتمر منتشرون في الخارج في أرجاء الكرة الأرضية، من أستراليا إلى الأمريكيتين الجنوبية والشمالية. وبالرغم من توفر وسائل التواصل عبر الانترنت، إلا أن الكثير من القضايا التي تحتاج نقاشاً معمقاً خصوصاً في مرحلة التأسيس، تستدعي الحضور والاجتماع، وهو أمر يستهلك المال والجهد، ولا يمكن أن يتم إلا بضع مرات في السنة، وعلى مستوى الأمانة العامة.

    من ناحية ثانية، تقف قيادة منظمة التحرير (التي هي قيادة السلطة وحركة فتح) ضدّ المؤتمر، وتعمل جاهدة على تعطيله وإفشاله؛ بدل أن تجد فيه رافعة للمشروع الوطني، وأداة لتفعيل فلسطينيي الخارج، وللحفاظ على الثوابت. وعوضاً عن ذلك، ترى فيه خروجاً عن شرعيتها، وإحراجاً لها وللمسارات التي اختطتها، ودعماً للقوى السياسية المنافسة لها، وخصوصاً التيارات الداعمة للمقاومة ولـ”الإسلام السياسي” وتحديداً حماس.

     وبالرغم من أن أداء قيادة المنظمة البئيس في الخارج تسبب في فراغ هائل، وفي مخاطر مستقبلية كبرى على فلسطينيي الخارج؛ إلا أن هذه القيادة لا تريد أن تعمل… ولا يبدو أنها تريد لغيرها أن يعمل. ولذلك حاربته في إعلامها، وتواصلت مع العديد من الدول محذرة من المؤتمر وأنشطته، متهمة إياه بأنه يسعى إلى تشكيل بديل عنها؛ مع أن المؤتمر أكد في كل أدبياته أنه ليس بديلاً عن المنظمة، ولا يسعى أن يكون كذلك. وقد تسبب سلوك قيادة المنظمة في تعطيل انعقاد الهيئة العامة في إسطنبول في آذار/ مارس 2018، عندما قام الرئيس عباس بنفسه بالتواصل مع وزير الخارجية التركي لمنع انعقادها، كما تسبب في تعطيل عقده لمؤتمر موسع في بيروت. كما تسبب في التعامل الحذر مع المؤتمر من عدد من الدول التي لا ترغب في إغضاب قيادة المنظمة. ثم إن العديد من الشخصيات الفلسطينية ترددت في المشاركة في عضوية المؤتمر، نتيجة حملات التحريض والتشويه التي قامت بها قيادة المنظمة والسلطة.

    أما من الناحية الثالثة، فإن البيئة العربية الرسمية، وحيث يتواجد الثقل الشعبي الفلسطيني، هي بيئة ذات سقف سياسي منخفض وذات بيئة حريات منخفضة؛ وهي في الوقت نفسه بيئات تتعامل إما بخصومة أو بحذر مع التيارات المؤيدة للمقاومة أو تيارات “الإسلام السياسي”؛ وهي بيئات متساوقة مع مسارات التسوية السلمية، ولا ترغب في إغضاب قيادة فتح والمنظمة، كما لا ترغب في إغضاب الأمريكان. وبالتالي؛ فإن سقف عمل المؤتمر الشعبي يظل محدوداً في هذه البيئات، التي يعيش فيها أكثر من 80% من فلسطينيي الخارج. ويكون تفعيل الجاليات وإعادة تنظيم وتنشيط الاتحادات والنقابات، وأوجه النشاط السياسي والإعلامي والتعبوي محكومة بسقف النظام وشروطه. ومع ذلك، فإن هناك مجالات لعمل معقول، وإن بدرجات متفاوتة، في عدد من البلدان العربية كلبنان وقطر والكويت والأردن وفي بلدان إسلامية كتركيا وماليزيا، وفي معظم بلدان العالم الغربي.

    وتُعدُّ إشكالية التمويل وتوفير المال الكافي لإطلاق الأنشطة والفعاليات والوصول إلى الناس عقبة رابعة، تحول دون تنفيذ الكثير من الأفكار والبرامج. وهي من التحديات التي يجب على المؤتمر تجاوزها من خلال الوصول إلى رجال الأعمال الفلسطينيين المؤمنين بالفكرة، ومن خلال توسيع دائرة العضوية والاشتراك، ليتمكن المؤتمر من تغطية تكاليفه من خلال أنشطته.

    خلاصة:

    أما وقد مضى عامان على المؤتمر، وقد استقر بنيانه، ونضجت إلى حدّ كبير تصوراته ومساراته؛ فإن العمل الرتيب لم يعد كافياً، حتى لا يتسرب الإحباط والضعف في نفوس المشاركين. وآن الأوان لانطلاقة قوية ممنهجة، تتعامل بواقعية مع الحقائق على الأرض، ولكن لديها من الإرادة والطموح، والقدرة على المبادرة، وتحمل الأعباء ودفع التكاليف، بما يكفي لتجاوز العقبات، وتحقيق نتائج ملموسة، تكون حافزاً للكفاءات والخبرات والطاقات المذخورة في الشعب الفلسطيني للانضمام للمسيرة ودعمها. كما لا بدّ من طمأنة المتشككين والمترددين قولاً وعملاً، من أن هذا الإطار ذو أجندة وطنية خالصة، ومفتوح للجميع ومنفتح على الجميع، وليس بديلاً عن أحد، ولكنه إطار جامع لإطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج والمحافظة على ثوابته.

    المصدر: هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في موقع ”TRT“ عربي ، 2019/2/15

    موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا

  • المسارات المتوقعة لقضية فلسطين في سنة 2019

     

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    حملت سنة 2018 تصاعداً في أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وتدهوراً في مسار المصالحة، وفشلاً في مسار التسوية، ومزيداً من الضغوط الأمريكية لفرض التصورات الليكودية الصهيونية لحل القضية الفلسطينية. وحملت في الوقت نفسه صموداً للمقاومة، وإبداعاً في مسيرات العودة، وثباتاً للشعب على أرضه في وجه برامج التهويد والاستيطان.

    لا يبدو أن سنة 2019 تحمل اختلافاً كثيراً عن سابقتها.. وفي ما يلي استشراف لعدد من المسارات المتعلقة بقضية فلسطين لهذه السنة:

    أولاً: تفاقم أزمة المشروع الوطني الفلسطيني: عقَّدت التطورات الداخلية الفلسطينية في السنة الماضية من أزمة المشروع الوطني الفلسطيني المثقل أصلاً بأزماته، وهي أزمات مرشحة للتفاقم بشكل أكبر سنة 2019. فبالإضافة إلى الأزمات المزمنة في القيادة وفي المؤسسات التمثيلية الفلسطينية (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية،) وفي التنازع على الأولويات بين مساري التسوية والمقاومة؛ يظهر أن سلوك محمود عباس وقيادة فتح يميل إلى مزيد من التأزيم في الساحة الفلسطينية، من خلال محاولات فرض الهيمنة وتطويع قطاع غزة وحركة حماس؛ وذلك بعد أن تجاوزت هذه القيادة التوافقات السابقة مع باقي الفصائل الفلسطينية، فأصرت على عقد المجلس الوطني للمنظمة تحت الاحتلال في رام الله، وعلى استمرار العقوبات على القطاع، وقامت بحلِّ المجلس التشريعي بشكل غير دستوري ومتعسف. ويظهر أنه طالما ظلّ عباس على رأس المنظمة والسلطة وفتح، فإن مسار التأزيم سيستمر ويتصاعد. وسيتابع عباس محاولة الاستقواء ببيئة عربية ودولية مخاصمة أو معادية لتيارات "الإسلام السياسي" ولخط المقاومة.

    ثانياً: لا أفق للمصالحة... ولا فرصة لانتخابات جديدة: السلوك التأزيمي لعباس وخصوصاً حلّ المجلس التشريعي، بخلاف اتفاق المصالحة الذي يدعو إلى تفعيله، وضع مزيداً من الزيت على نار الانقسام، وأدى إلى تراجع مسار بناء الثقة، وأوجد أجواء موبوءة، لا تسمح بعقد انتخابات حقيقية نزيهة وشفافة، وضرب الأسس التي يمكن أن تبنى عليها الشراكات الوطنية والتعددية وتداول السلطة تحت مظلة منظمة التحرير.

    أما الانتخابات التي تمت الدعوة لها خلال ستة أشهر، فتكاد تكون فرص إقامتها معدومة؛ فليست قيادة فتح والسلطة جادة في إنفاذها، إذا ما توفر الحد الأدنى لإمكانية فوز حماس بها. كما أن الطرف الإسرائيلي نفسه يملك القدرة على تعطيل هذه الانتخابات في القدس وباقي الضفة الغربية؛ وهو أيضاً غير مستعد لقبول فوز جديد لحماس. ثمّ إن حماس وعدداً من الفصائل ستقاطعها، إذا لم تتوفر الضمانات الكاملة لبيئة صحية وحرة تسبق الانتخابات، مع ضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، هذا مع المطالبة بتزامنها مع الانتخابات لرئاسة السلطة، وللمجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما لم يدعُ إليه عباس.

    ثالثاً: مزيد من العزلة الداخلية لحركة فتح: يظهر أن إصرار عباس وحركة فتح على متابعة الانفراد بالهيمنة على الساحة الفلسطينية، وتطبيق سياسات مخالفة للتوافقات الفلسطينية، وحتى للرأي العام الفلسطيني، بما في ذلك العقوبات على قطاع غزة، ومتابعة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي وغيرها؛ سيتسبب بمزيد من العزلة لحركة فتح، خصوصاً بعد أن قاطعت الفصائل والقوى الرئيسية الأخرى في منظمة التحرير الاجتماع الأخير للمجلس المركزي الفلسطيني، بالإضافة إلى عدم مشاركة حماس والجهاد الإسلامي فيه أصلاً. ومع إصرار فتح على السلوك نفسه بعد ذلك بحل "التشريعي"، فإن "العزف المنفرد" سيستمر في سنة 2019، مع اتساع دائرة المُنفَضِّين عنه.

    رابعاً: استمرار العمل المقاوم... مع تصاعد التحديات التي تواجهه: مع استمرار الاحتلال والحصار، وانسداد آفاق التسوية، وفشل السلطة سياسياًواقتصادياً؛ فإن البيئة الخصبة للمقاومة ستظل حاضرة، وستتابع إبداعاتها بأشكال مختلفة... ولا يُستبعد أن تتشكل في رحم 2019 بيئة انتفاضة جديدة. كما أن استمرار محاولات تطويع قطاع غزة ونزع سلاح المقاومة، ينذر بتفجير الوضع في غزة، وبحربٍ جديدة.

    ومع وجود بيئة عربية ودولية معادية (أو على الأقل غير داعمة) للمقاومة، فإن الصعوبات المالية التي تواجهها قوى المقاومة وخصوصاً حماس والجهاد، ستستمر وتتزايد. كما أن محاولات تهميش هذه القوى وإضعافها سياسياً وشعبياً ومحاصرتها إعلامياً ستستمر. غير أن الأزمات التي تعاني منها القوى المنافسة أو المعادية للمقاومة (داخلياً، وإسرائيلياً، وعربياً، ودولياً)، ستُمكن المقاومة من تجاوز عنق الزجاجة في النهاية.

    خامساً: فوز الليكود، وتصاعد الهجمة الصهيونية على القدس، وزيادة وتيرة الاستيطان: إذ إن الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة في المجتمع الصهيوني ما تزال تمثل الأغلبية وهي في تزايد واتساع. ويتوقع لها أن تفوز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.

    ثم إن وجود دعم أمريكي قوي، في ظلّ إدارة ترامب، لهذه الاتجاهات، مع غياب الدور العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية دعماً جاداً، مع دخول عدد من الأنظمة العربية في مسار التطبيع، سيدفع الطرف الإسرائيلي للاندفاع بشكل أكبر نحو مزيد من برامج التهويد خصوصاً في القدس، ومحاولات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.

    سادساً: مبادرات فلسطينية وتزايد الدور الشعبي: إن تفاقم أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وتراجع آفاق المصالحة، وتدهور دور المنظمة والسلطة في حمل هموم الشعب الفلسطيني، ومعاناة برنامج المقاومة؛ سيدفع باتجاه قيام رموز وقوى شعبية فلسطينية بمبادرات، سواء لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، أم للمحافظة على الثوابت والحقوق الفلسطينية، أم لتفعيل أدوار القوى الشعبية والمستقلة في الشأن الفلسطيني.

    ولعل المبادرة الشعبية التي أطلقت مسيرات العودة في قطاع غزة، وكذلك المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وكذلك مبادرة القوى اليسارية الفلسطينية لتوحيد جهودها ضمن "التجمع الديموقراطي الفلسطيني".. كل ذلك يصب في هذا الاتجاه، وهي مبادرات مرشحة للتزايد والاتساع في داخل فلسطين وخارجها في ظلّ عجز وضعف القيادة الفلسطينية. وفي هذا الإطار، فإن دور فلسطينيي الخارج ربما يملك فرصاً وآفاقاً أوسع مع غياب المنظمة والسلطة عملياً عن تمثيلهم وعن قضاياهم وهمومهم.

    سابعاً: بيئة عربية عاجزة وغير مستقرة: لا يبدو أن تغييراً كبيراً مؤثراً على القضية الفلسطينية؛ سيحدث في البيئة العربية خلال الأشهر القادمة. فقد حملت سنة 2019 أزمات السنوات السابقة، حيث انشغلت العديد من الأنظمة العربية بمشاكلها الداخلية. وما تزال الشعوب تدفع فواتير محاولات الثورة والإصلاح والتغيير، كما أن بعض الأنظمة يظن أن حالة استقراره مرهونة بالرضا الأمريكي عبر البوابة الإسرائيلية (التطبيع)، وهو ما ينعكس سلباً على قضية فلسطين.

    ومن جهة أخرى، فإن صمود الشعب الفلسطيني، وصمود المقاومة وإبداعها، وانكشاف الوجه الصهيوني القبيح، واستمرار عدوانه على الأقصى والمقدسات، وعلى الأرض والإنسان؛ ووجود حاضنة شعبية عربية وإسلامية واسعة داعمة للقضية؛ سيبقى عدداً من الأنظمة متردداً في الاندفاع نحو التطبيع. كما أن الأنظمة التي تتعاطف مع المقاومة، ستجد في تصاعد المقاومة، فرصة لتجاوز الضغوط الأمريكية الغربية، ورفع وتيرة دعمها للمقاومة. ثم إن الأنظمة العربية المحبطة من سوء الأداء الأمريكي قد تجد فرصة للالتفات بشكل أفضل إلى مصالحها وفق أجندتها الوطنية وأمنها القومي، مما قد يعزز من دعمها لقضية فلسطين.

    ثامناً: تواصل الدعم الأمريكي لليمين الإسرائيلي، وتضعضع "صفقة القرن": يبدو أن إدارة ترامب ستواصل دعمها لليمين الإسرائيلي ولرؤيته لمسار التسوية، وستسعى لتوفير الغطاء الدولي لشرعنة سيطرة الكيان الإسرائيلي على القدس؛ ولإغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين. غير أنها قد تجد نفسها أكثر انشغالاً بمشاكلها الداخلية بعد فوز الديموقراطيين في مجلس النواب؛ وفي وضع أضعف فيما يتعلق بفرض إرادتها على البيئة الدولية، مع تزايد القوى الدولية المستاءة من سياساتها. كما ستصطدم بأن ما يسمى بـ"صفقة القرن" هو عملياً غير قابل للتنفيذ، مع وجود الرفض الفلسطيني، والبيئة العربية المترددة في دعمها، أو المعارضة لها (وإن كانت غير راغبةٍ في مواجهة "الكاوبوي" الأمريكي بشكل مباشر)، فضلاً عن عدم رغبة الطرف الإسرائيلي نفسه في دفع أي أثمان أو استحقاقات جادة مرتبطة بالتسوية. وبالتالي، فإن أفق التسوية سيظل مسدوداً.

    * * *

    وهكذا، فلعل قضية فلسطين تواجه سنة صعبة في 2019، لكنها سنة مخاض، تصبُّ في بيئة انتقالية، تدفع باتجاه انهيار مسار التسوية وتجربة "أوسلو"، وتُعزّز من فرص صعود خط المقاومة بالرغم من الصعوبات التي يواجهها.

    المصدر: موقع "عربي21"، 20/1/2019

  • اليوميات الفلسطينية: كانون الثاني/ يناير 2019

    أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات في بيروت تقريراً بعنوان ”اليوميات الفلسطينية: كانون الثاني/ يناير 2019“. وهو تقريرٌ شهريٌ يتناول أبرز الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ويُعدّ مادةً توثيقيةً للأحداث الفلسطينية التاريخية، والسياسية، والقرارات المهمّة.

    ويتميز التقرير في أنه يتناول الأحداث المهمّة، والقرارات والمواقف، التي تعبر عن طبيعة المرحلة، أو تعكس التحولات في المسارات السياسية، وتحديداَ مواقف القوى الفاعلة فلسطينياً وإسرائيلياً وعربياً وإسلامياً ودولياً. ويتم انتقاء الأحداث التي يتناولها التقرير؛ حيث يقوم فريق التحرير بالاطلاع على عشرات المصادر اليومية والدورية.

    ويعرض التقرير للمعلومات والإحصائيات ذات الدلالة المتعلقة بالجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وكل ما يرتبط بالصراع مع الاحتلال الإسرائيلي عربياً وإسلامياً ودولياً. وتتضمن المعلومات فلسطينياً مختلف جوانب الأداء السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي والتعليمي والقدس وأداء المقاومة والوضع الداخلي... وغيرها. كما يغطي التقرير ما يتعلق بـ”إسرائيل“ اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً وعسكرياً، وما يتعلق بالاستيطان وبرامج التهويد والاعتداء على المقدسات ومسار التسوية السلمية.

    ويُعدُّ تقرير ”اليوميات الفلسطينية“ أحد أهم الملفات الدورية التي يصدرها مركز الزيتونة، معتمداً آلية دقيقة في اختيار الأخبار وفق أهميتها، ودورها في تشكيل خريطة الأحداث والتطورات المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

    وتبرز أهمية التقرير في إسهامه بإغناء المكتبة العربية بمرجع يخدم الباحثين والمهتمين بالدراسات الفلسطينية، فضلاً عن الجامعات ومراكز الأبحاث ومؤسسات الدراسات.

    وتجدر الإشارة إلى أن تقرير ”اليوميات الفلسطينية“ هو من إعداد وتحرير د. محسن محمد صالح، مدير عام المركز، وربيع الدنان ووائل وهبة.

    ويُنشر التقرير بشكل شهري على الموقع الإلكتروني لمركز الزيتونة، وسيتم إصداره ككتاب مطبوع بشكل سنوي، ويوفر للتحميل المجاني عبر الموقع.

  • انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني.. قفزة في الهواء

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    بكل صراحة، فإن عقد انتخابات للمجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، في بيئة سياسية ومؤسساتية فلسطينية مهترئة، وغياب المرجعيات المشتركة الناظمة والحاكمة للعمل الوطني، وغياب ضمانات الحرية والنزاهة، وتعارض البرامج السياسية والأولويات، ليس أكثر من "وصفة للفشل"؛ وإعادة تدوير لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني.

    إن الانتخابات هي مجرد آلية تأتي مُكللة لمجموعة من المنظومات والقواعد والأسس والضوابط والضمانات التي يُستند إليها، بما يضمن حدا معقولا من تحقيق الأهداف التي تعقد من أجلها. أما أن تكون مجرد كسر للجمود أو هروبا من الواقع، أو توظيفا لأجندة أحد الأطراف، فلن تنقل الوضع إلا إلى مزيد من الإحباط، ومما هو سيئ إلى ما هو أسوأ.

    أين المشكلة؟

    1. عندما تكون المظلة الجامعة للشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) في حالة بئيسة من الضعف والتردي والانزواء، ومن الفشل في استيعاب مكونات وقوى أساسية في الشعب الفلسطيني، ومن الفشل في عدم القدرة على تجديد مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، ومن هيمنة فصيل فلسطيني عليها على مدى أكثر من نصف قرن.

    2. وعندما يتنازع الساحة الفلسطينية برنامجان سياسيان متعارضان، أحدهما يدعم مسار التسوية السلمية مدعوما بشرعية الرئيس وباتفاقاته مع الاحتلال الإسرائيلي، وبالدعم الرسمي العربي والدولي، والآخر يستند إلى برنامج المقاومة المستند إلى قاعدة شعبية واسعة وإلى شرعية المجلس التشريعي المنتخب 2006.

    3. وعندما يسيطر على مناطق السلطة في الضفة الغربية التيار المؤيد لمسار التسوية وحركة فتح، بينما يسيطر على قطاع غزة التيار المؤيد لمسار المقاومة وحركة حماس.

    4. وعندما يكون الطرف الإسرائيلي لاعبا فاعلا في البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية للضفة والقطاع؛ وقادرا على تعطيل الانتخابات، وإفشال نتائجها، واعتقال الفائزين ممن لا يرضى عنهم؛ وإفشال عمل أي حكومة، واعتقال وزرائها.

    5. وعندما تكون أطراف عربية ودولية جاهزة للضغط باتجاه سير الانتخابات إلى نتائج تخدمها، حتى لا تقع في تكرار "الخطأ" الذي حدث سنة 2006.

    6. وعندما لا يكون ثمة خريطة طريق فلسطينية متفق عليها، للتعامل مع ما سبق.

    عند ذلك، لن تكون المشكلة هي في الهرب إلى الانتخابات، في الوقت الذي تبقى فيه عناصر الاختلاف والتفجير كافة قائمة، وسيكون الإصرار على مجرد الانتخابات خداعا للذات، إن لم يكن خداعا للشعب الفلسطيني، وهروبا من الدَّلف إلى المزراب!!

    ما الجديد؟!

    ما الجديد الذي ستقدمه الانتخابات، بحيث يجنبنا المشاكل والانقسامات التي حصلت بعد انتخابات 2006، بينما البيئة السياسية الفلسطينية، والإسرائيلية والعربية والدولية هي نفسها بل هي أسوأ؟!

    هل الموانع التي منعت المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب من العمل طوال 12 سنة ماضية قد انتفت، أم إنها ما زالت على حالها؟!

    لماذا لم يمارس المجلس التشريعي الفلسطيني أعماله بعد توقيع اتفاق المصالحة في أيار/ مايو 2011، وهل أولئك الذين منعوه من العمل تنحوا جانبا، أم غيّروا سلوكهم السياسي؟

    إن الحقيقة المرَّة تقول إنهم بدلا من ذلك، أصروا على الاستمرار في تعطيل المجلس، بل وقاموا بحلّه بخلاف كل أشكال التوافق الفلسطيني، وبخلاف أغلبية شعبية ساحقة ترفض هذا الإجراء، وفوق ذلك، حرموا أعضاء المجلس المنتخبين حتى من رواتبهم.

    بالتأكيد، لم تكن المشكلة في الانتخابات التي شهد الفلسطينيون والعالم أجمع بنزاهتها وشفافيتها؛ وإنما كانت في أن طرفا لم تعجبه هذه النتائج، فقام بتعطيل مخرجاتها، وما زال سلوكه على الأرض لا يعطي أي مؤشرات على تغير حقيقي في سلوكه.

    التزامن:

    الشرط المهم والحساس الذي تنازلت عنه حماس وباقي الفصائل الفلسطينية، هو شرط "التزامن" في عقد انتخابات المجلس التشريعي والانتخابات الرئاسية، فضلا عن المجلس الوطني الفلسطيني. وهو فصْلٌ يأتي بخلاف اتفاق المصالحة لسنة 2011؛ ويتجاوب مع رغبة عباس وقيادة فتح بإدارة الانتخابات بطريقتها.

    غير أن أسوأ ما يفتح الباب عليه هو عدم المضي في انتخابات الرئاسة أو المجلس الوطني، إذا فازت حماس وقوى المعارضة في الانتخابات؛ مع إدراك قدرة قيادة فتح (التي ترأس السلطة والمنظمة ويحوز برنامجها المتوافق مع مسار التسوية على الدعم العربي والدولي) على افتعال أي أعذار لعدم المضي في المسارات الانتخابية أو الإصلاحية.

    وهذا ليس محض خيال، فهو ما حصل فعلا بعد انتخابات 2006. فمثلا كانت التوافقات الفصائلية الفلسطينية في صيف 2005 تتحدث عن مجلس وطني من نحو 300 عضو يدخل في عضويته الأعضاء الـ132 الجدد المتوقع انتخابهم للمجلس التشريعي كممثلين للداخل، وفي مقابلهم 132 كممثلين للخارج، والباقي من الشخصيات والرموز الفلسطينية البارزة. غير أنه فور فوز حماس، تم نسف هذه التوجهات بالكامل، وتم الإبقاء على المجلس المنتهية صلاحيته بأعضائه، الذين يزيدون عن 700 عضو، وتحت هيمنة فتح.

    سلوك قيادة السلطة على الأرض:

    السلوك السياسي لعباس وقيادة السلطة وفتح، خصوصا في السنوات الثلاث الماضية على الأرض، كان باتجاه فرض مزيد من الهيمنة والاستئثار في الساحة الفلسطينية، وتهميش وتطويع الخصوم السياسيين. وأي متابع للعقوبات التي فُرضت على قطاع غزة، ولإصرار قيادة السلطة على السيطرة على "ما فوق الأرض وما تحت الأرض" (السيطرة على سلاح المقاومة) في قطاع غزة، وتعطيل اجتماعات الإطار القيادي المؤقت، وحجب المستحقات المالية للجبهتين الشعبية والديمقراطية، وعقد اجتماعات المجلس المركزي دونما توافق فلسطيني حتى بمقاطعة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وعقد المجلس الوطني في رام الله بخلاف اتفاق بيروت (كانون الثاني/ يناير 2017)، وحل المجلس التشريعي (بغطاء المحكمة الدستورية)، وتشكيل حكومة فتحاوية. أي متابع لذلك لا يرى إلا مزيدا من تأزيم الساحة الفلسطينية، ومزيدا من السلوك الفوقي الذي يسير باتجاه إلغاء الآخر. فإذا كانت البيئة السياسية الفلسطينية التي سبقت انتخابات 2006 أفضل بكثير من البيئة السياسية الحالية، ومع ذلك فقد تلا نتائج الانتخابات التي لم تُعجب قيادة فتح ما تلا من مشاكل وانقسامات، فما هو السلوك المتوقع في بيئة أسوأ وأكثر تراجعا؟!

    سيناريوهات ما بعد الانتخابات:

    إذا فازت فتح وحلفاؤها، دون اتفاق مسبق حول إدارة ملف المقاومة، فلن تستطيع إدارة غزة بشكل مباشر وكامل، وإن كانت ستحشر حماس في زاوية أنها فقدت "الشرعية الشعبية". وهو ما قد يعني استمرار حالة الانقسام إياها.

    وإذا ما فازت حماس وخط المقاومة، فمن المستبعد جدا أن تتمكن من استلام السلطة في الضفة الغربية، ولا حتى من تحقيق شراكة حقيقية في إدارتها؛ ليس فقط بسبب السلوك المتوقع لقيادة السلطة والأجهزة الأمنية، وإنما بسبب السلوك الإسرائيلي أيضا والجهات العربية والدولية المعادية للمقاومة ولتيارات الإسلام السياسي. كما أنه ليس ثمة فرصة حقيقية لتنفيذ برنامج "الإصلاح والتغيير" الذي ترفعه حماس بعد التجربة التي رأيناها بعد انتخابات سنة 2006. وليس ثمة فرصة حقيقية لدى حماس في فكّ الحصار نهائيا، طالما لم تستجب لشروط الرباعية، ولم تتنازل عن خط المقاومة؛ خصوصا أن "شرعية" حماس الشعبية السابقة على مدى 13 عاما لم تساعدها في ذلك.

    بمعنى أنه سيتم ترحيل أزمات ما قبل الانتخابات إلى ما بعد الانتخابات؛ بغض النظر عمّن سيسجل نقاطا أكثر لصالحه من خلال الانتخابات.

    إن الهدف الرئيسي لعباس من الانتخابات لا معنى له، وفق مسار سلوكه السياسي طوال السنوات الماضية، سوى المضي خطوة باتجاه "نزع شرعية" حماس في قطاع غزة، وإجبارها على تسليم السلطة لأبي مازن ولقيادة فتح، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى ضرورة وجود حلول وتوافقات مسبقة على قضايا أساسية قبل الانتخابات.

    ما الضمانات؟

    المنظومة السياسية الفلسطينية الحالية، خصوصا تلك التابعة للسلطة لا تقدم ضمانات كافية بانتخابات حرة ونزيهة، وباحترام نتائج الانتخابات واستحقاقاتها.

    إذ ثمة حاجة لحل حكومة فتح الحالية، ولتشكيل حكومة انتقالية متفق عليها، ترعى العملية الانتخابية، وتضمن الحريات وشفافية الإجراءات.

    وثمة حاجة أيضا لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية المحسوبة على فتح وعباس، وكذلك تشكيل محكمة خاصة بالانتخابات.

    ويجب إطلاق الحريات في مناطق السلطة، والسماح بالحملات الدعائية للاتجاهات والفصائل كافة، ووقف أشكال الاعتقال السياسي كافة.

    كما يجب قطع الطريق على الطرف الصهيوني في محاولة إفشاله للعملية الانتخابية أو ممارسة المجلس التشريعي لمهامه؛ بما في ذلك التوافق على حق النائب المعتقل في إنابة شخص مكانه؛ وعلى طرق لعقد المجلس في أي ظروف استثنائية.

    وهناك ضرورة للتوافق على ميثاق يُلزم جميع الأطراف بمتابعة مسار الانتخابات إلى نهاياته التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني، وصولا لإصلاح النظام السياسي نفسه.

    عن أي سلطة نتحدث؟

    الحماسة التي ترافق التوافق على الانتخابات؛ يجب ألا تخفي عن أنظارنا أن المجلس التشريعي هو لسلطة تقع تحت الاحتلال، وأن المراهنة عليه كأداة للتغيير محدودة وضئيلة، ويستطيع الاحتلال إفشاله وتعطيله.

    كما لا يجب للانتخابات أن تحجب أنظارنا عن أن السلطة التي يجري التنافس عليها، قد تمكَّن الاحتلال الصهيوني من تطويعها وتفريغها من محتواها مع الزمن، فلم تعد مشروعا حقيقيا محتملا لدولة فلسطينية كاملة السيادة على أرض 1967؛ وإنما تحولت إلى كيان وظيفي خدماتي أمني يخدم أغراض الاحتلال أكثر مما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني.

    وأن أي حركة أو قائمة منظمة تفوز في الانتخابات، مهما كانت شعبيتها، ومدى كفاءة رموزها ووزرائها وإخلاصهم، ستبقى محكومة باشتراطات الاحتلال في إدارة السلطة في الضفة الغربية، وستبقى تحت الحصار ما لم تستجب لاشتراطاته في قطاع غزة.

    ومن ثم، فانتخابات "التشريعي" ليست الوصفة "السحرية" لإخراج "الزير من البير" أو لحلحلة أزمة المشروع الوطني الفلسطيني؛ وإنما هي في أحسن الأحوال جزء من "العملية الديمقراطية" التي قد تعبِّر عن أحجام القوى الفلسطينية في الداخل، وتسهم في استكمال المنظومة السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج. وربما أسهم المجلس، في حال وجد فرصة حقيقية لتفعيله، في عملية الرقابة على السلطة وتحسين أدائها.

    الخلاصة:

    نجحت قيادة السلطة الفلسطينية وفتح طوال أكثر من ثماني سنوات تلت اتفاق المصالحة، في فرض واقع سياسي تتمتع فيه بمزيد من الاستئثار والهيمنة على البيئة الفلسطينية الداخلية (مع تراجع دورها وتزايد ضعفها تحت بيئة الاحتلال). وتمكّنت من جرّ الفصائل الفلسطينية الأخرى باتجاه مُربّعها واشتراطاتها، بعد أن عقدت المجلس الوطني والمجالس المركزية بالشكل الذي تريد؛ وبعد أن حلَّت المجلس التشريعي بالشكل الذي تريد، وبعد أن شكلت حكومة السلطة بالشكل الذي تريد؛ وبعد أن تمكنت أخيرا من فرض إرادتها بإلغاء فكرة التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية.

    وفي الوقت نفسه، فإن كل القضايا الجوهرية المرتبطة بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، ووضع برنامج سياسي مناسب لإدارة المرحلة، وتحديد الأولويات، والموقف من مسارات المقاومة والتسوية، كلها بقيت أزمات قائمة قابلة للتفجير في أي وقت.

    وهو ما يعني أن الانتخابات ستعيد إنتاج الأزمات نفسها ما لم يتم تدارك الأمر.

    وباختصار، فإن صناعة القرار الفلسطيني يجب أن يخرج من تحت هيمنة الاحتلال، وأن تكون بداية المسار الحقيقي من خلال إعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها، وأن يتم تجاوز اتفاق أوسلو ومخلفاته، وإعادة الاعتبار لبرنامج وطني يحافظ على الثوابت، ويتبنى خط المقاومة

Page 1 of 5

  • Start
  • Prev
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
  • Next
  • End

Tags

  • مجموعة التفكير الاستراتيجي
  • مقالات
  • مركز الزيتونة
  • تقارير
  • تقدير موقف
  • كتب وإصدارات
  • القضية الفلسطينية
  • فلسطين
  • دراسات
  • أبحاث

Strategic Thinking Group

An independent, non-profit public benefit organization registered in Turkey, a pioneer and international partner in strategic thinking, working to develop the level of awareness and strategic thinking in the Arab and Islamic region

More

Newsletter

The group issues a group of mailing bulletins periodically. To receive our latest issues and newsletters, register with us
Copyright © 2025 Strategic Thinking Group. All Rights Reserved.Designed & Developed By List.Istanbul.