بقلم: د.محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
المبادرة التي أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على لسان أمينها العام د. رمضان عبد الله شلح حاولت الارتقاء بالنقاش الدائر في الساحة الفلسطينية حول المصالحة وآلياتها إلى مراجعة المشروع الوطني وإعادة توجيه البوصلة لخدمة المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وتوفير الأسس السليمة لتجديد الانطلاقة نحو مشروع التحرير.
والملاحظ أنه بعد نحو شهر من إطلاقها لم تحظ حتى الآن بما تستحق من نقاش وحوار، وبقدر ما تحاول رفع سوية الوضع الفلسطيني، بقدر ما تواجه من مخاطر التغييب والتجاهل، والتحول إلى وثيقة تنضم إلى سابقاتها من وثائق طواها الماضي.
****
تدعو المبادرة المكونة من عشر نقاط إلى إلغاء اتفاق أوسلو، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، باعتبار هذا الاعتراف أم الكبائر والمصائب في التاريخ الفلسطيني. وتدعو إلى إعادة بناء منظمة التحرير لتصبح الإطار الوطني الجامع الذي يضم كل قوى وأبناء الشعب الفلسطيني. وتؤكد أن المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة تحرر وطني، وبالتالي فالأولوية هي لمقاومة الاحتلال ودحره. وتدعو المبادرة إلى إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، وإنهاء وجود سلطتين في رام الله وغزة. كما تؤكد على تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وأن الشعب الفلسطيني شعب واحد في الداخل والخارج.
وتدعو المبادرة الأطراف العربية والإسلامية إلى تحمل مسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين وقضيتها، بما في ذلك سحب المبادرة العربية، ووقف التطبيع، وقيام مصر بدورها في فك الحصار عن قطاع غزة وفي إعماره. وطالبت المبادرة قيادة المنظمة بملاحقة الكيان الصهيوني وقادته أمام المحكمة الجنائية الدولية، ودعت إلى تفعيل حركة المقاطعة الدولية للكيان الصهيوني، كما طالبت في نقطتها العاشرة والأخيرة بإطلاق حوار وطني شامل بين كل مكونات الشعب الفلسطيني لبحث خطوات ومتطلبات التحول نحو هذا المسار الجديد.
****
من الواضح أن حركة الجهاد الإسلامي سعت إلى تقديم مبادرتها في إطار وطني، وبما يتوافق مع قناعاتها، وبما يبحث عن المشترك لدى القوى الفلسطينية الأخرى؛ مع الحرص على تجنب الصيغ الأيديولوجية الإسلامية التي تعبر عن انتماء الحركة، والتي يكفي اسمها ليعبر عن طبيعتها وبرنامج عملها.
ومع ذلك فإن المستهدف أساسا بدفع استحقاقات هذه المبادرة والقيام بخطوات تاريخية جذرية هو حركة فتح؛ أما حركة حماس فإنها قد وافقت على المبادرة، كما أيدتها بشكل عام باقي الفصائل الفلسطينية، بما فيها فصائل منظمة التحرير وتحديدا الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية.
****
يدعو جوهر المبادرة إلى إنهاء مسار التسوية السلمية، وإلى العودة إلى مربع المقاومة المسلحة، وإلى برنامج وطني ودعم عربي وإسلامي مبني على هذا الأساس. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فما هو الجديد في الأمر؟! إذ إنه منذ اللحظة الأولى لدخول فتح وقيادة المنظمة والسلطة في نفق التسوية واتفاقيات أوسلو.. كانت هناك معارضة فلسطينية واسعة لهذا المسار وتشكل تحالف الفصائل العشر، والذي كانت الجهاد الإسلامي أحد أعضائه، والذي دعا إلى الأفكار نفسها التي دعت إليها المبادرة، قبل نحو 23 عاما، دون أن يجد ذلك صداه، طيلة السنوات الماضية، لدى قيادة فتح التي هي قيادة السلطة وقيادة المنظمة التي تابعت مسار التسوية وملاحقة قوى المقاومة، بينما وقفت عاجزة عن تحقيق حلم الدولة الفلسطينية، وعن وقف برامج الاستيطان والتهويد وتغيير هوية الأرض والبشر والحجر في فلسطين المحتلة.
غير أن المبادرة تكتسب أهميتها في أنها حاولت أن تعيد وضع القضية الفلسطينية في مسارها الصحيح، وأن تعيد الحوار الفلسطيني إلى القضية الأساس وهي المقاومة والتحرير. إذ إن القوى الفلسطينية استغرقت في السنوات الماضية في متابعة المصالحة وآليات تنفيذها، ودخلت في تفاصيل تشكيل الحكومة في الضفة الغربية والقطاع وإجراء الانتخابات وإصلاح أجهزة السلطة ودفع رواتب الموظفين، بينما كانت الإشكالية الكبرى في جوهر السلطة الفلسطينية وبنيتها وسقفها الوطني.. وليس في مجرد آليات عملها.
ويدرك المتابعون أن ثلاثة من بنود المصالحة الخمس يستطيع الطرف الإسرائيلي أن يعطل تنفيذها دونما صعوبة، وهي قيام الحكومة بعملها وإجراء الانتخابات التشريعية وإصلاح الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية.. وبالتالي أصبح “الحاضر الغائب” في الأمر. وكان لا بد من آلية تخرج الفلسطينيين من مأزق عدم القدرة على إنفاذ برنامج المصالحة، ليكون المنطلق من إعادة بناء منظمة التحرير على أساس برنامج وطني جامع.
ومن جهة أخرى، يدرك المتابعون أن مأزق التسوية السلمية قد وصل إلى مداه وأن ثمة حالة إحباط شاملة تجاهه، وأن الجانب الصهيوني قد قضى عمليا على خيار الدولتين، وأن جماهير الشعب الفلسطيني تلتف بشكل أكبر حول خيار المقاومة. ولذلك يأتي طرح هذه المبادرة كمخرج من المأزق الراهن.
***
بالرغم من اللغة الحاسمة التي لا تحتمل اللبس تجاه اتفاق أوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني وإعادة بناء المنظمة، فإنها استخدمت لغة “فضفاضة” تجاه مستقبل السلطة وتجاه الأرض التي يتم دحر الاحتلال منها، وتجاه تفعيل البعد العربي والإسلامي تجاه فلسطين. كما استخدمت لغة دبلوماسية مع “الأخ الرئيس أبو مازن” ومع “الشقيقة مصر” ونظامها السياسي.. وذلك سعيا لأن تقدم المبادرة خطابا واقعيا مع الأطراف التي تستهدفها.
اللغة الفضفاضة تحدثت عن “تعزيز وتطوير انتفاضة القدس لتصبح انتفاضة شاملة وقادرة على هزيمة الاحتلال ودحره من أرضنا بلا قيد أو شرط”. والفعل الانتفاضي لدحر الاحتلال.. يُفهم منه في اللغة السياسية المتداولة منطقة الضفة الغربية.. وهو هدف يمكن الالتقاء فيه مع فتح. غير أن الفعل الانتفاضي لن يكون فاعلا ولا كافيا لدحر الاحتلال من “أرضنا” المحتلة سنة 1948، وهو الهدف الإستراتيجي الذي تسعى إليه الجهاد الإسلامي وحماس وغيرهما.
وتحدثت المبادرة في بندها الخامس عن إنهاء الانقسام وعن إعداد إستراتيجية شاملة على قاعدة التحلل من اتفاق أوسلو، وإنهاء وجود سلطتين في غزة ورام الله. غير أن المبادرة لم تُشر ما إذا كان إنهاء وجود السلطتين سيعيد الوضع إلى سلطة فلسطينية واحدة، أو سينهي السلطة ويحلها أو سيعيد تعريف السلطة بما يجعلها سلطة مقاومة. ربما أرادت حركة الجهاد أن يكون ثمة “غموض بناء” غير أن اشتراطها التحلل من اتفاق أوسلو وتبني إستراتيجية المقاومة، لا يعني في نهاية المطاف إلا إنهاء السلطة بشكلها الحالي.. إن لم يكن على يد الفلسطينيين، فمبادرة من الاحتلال الإسرائيلي الذي لن يسمح بإنشاء سلطة مقاومة تحت احتلاله.
ما يعنينا هو أن نشير هنا إلى أن “أوسلو” ليست مجرد اتفاق ولكنها “منظومة”؛ فإذا ما أردنا التخلي عن “أوسلو”، فيجب أن تَحل “منظومة” جديدة مكان المنظومة القديمة. فاتفاق أوسلو واستحقاقاته قزمت تطلعات الشعب الفلسطيني وآماله، وهمشت دور فلسطينيي الخارج، وقزمت منظمة التحرير وحولتها إلى دائرة من دوائر السلطة، وضخمت سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني.. كما أن اشتراطات أوسلو والسلوك الإسرائيلي تجاه السلطة والأداء البائس لقيادة المنظمة والسلطة.. قد حول هذه السلطة إلى جسم مترهل ينخره الفساد، ويعتمد في نحو 80% من دخله على الدعم الخارجي وعلى عائدات الضرائب التي يجمعها الإسرائيليون.. وارتبط “ثوار الأمس” بمنظومة حياة جديدة وبشبكة مصالح مرتبطة ببقاء السلطة.. كما ربطوا معهم أسباب المعيشة لنحو 175 ألف موظف يُعيلون أكثر من مليون فلسطيني.. وهي منظومة تستوعب معظم كوادر فتح ومن يدور في فلكها.
وهنا يأتي سؤال “واقعية” المبادرة بالنسبة لحركة فتح، فمن ناحية أولى فإن “براغماتية” فتح لن تجعلها تقفز من سفينة التسوية السلمية، ما لم تجد خيارات “واقعية” أفضل، تجيب على أسئلة انهيار السلطة المحتمل، وفقدان مصادر الدخل لعشرات الآلاف من الكوادر، وسحب الاعتراف الدولي من منظمة التحرير، وعودتها إلى دائرة “الإرهاب” وفق التصنيف الأميركي الغربي، واستياء منظومة “الاعتدال” العربي المتبنية لمسار التسوية وعلى رأسها النظام المصري.. مع عدم وجود آفاق واضحة لخط المقاومة في بيئة عربية ودولية لا مبالية أو مخاصمة أو معادية، وبالتالي فإن فتح ستتعامل مع المبادرة عمليا باعتبارها “مغامرة” غير مضمونة العواقب.
من ناحية ثانية، فإن فتح نفسها تعاني من حالة من الترهل القيادي والتنظيمي، وحالة من تشابك المصلحة مع السلطة وبناها ومؤسساتها.. بما يجعل القرار الفتحاوي باتجاه إستراتيجية المقاومة المسلحة أمرا مستبعدا لدى القيادة الحالية.. حتى وإن كانت هناك قواعد وكوادر فتحاوية تدفع باتجاه مشروع المقاومة.
من ناحية ثالثة، فإن السلوك العام لقيادة المنظمة والسلطة وفتح بعد نحو عشر سنوات من الانقسام الفلسطيني لم يتمكن من استيعاب مخرجات فوز حماس في الانتخابات التشريعية.. ولم يستخدم مفاتيح المصالحة التي يملكها (قيادة المنظمة والسلطة والدعوة للإطار القيادي المؤقت) في تفعيل برنامج المصالحة.. بل وقام بتعطيل الانتخابات المحلية.. وهو يقوم بإدارة المصالحة أكثر مما هو منشغل بإنفاذها.
وبالتالي فإذا كانت المصالحة لم تجد طريقها للتنفيذ بعد أكثر من خمس سنوات على توقيع اتفاقها، بالرغم من أن متطلباتها أقل بكثير من متطلبات مبادرة الجهاد الإسلامي.. فمن باب أولى أن تجد مبادرة الجهاد مصاعب أكبر.
أما الأصوات الفتحاوية الإيجابية التي أشادت بالمبادرة فهي لا تعكس حقيقة القرار الفتحاوي، ودورها يقتصر على التعبير عن أشخاصها، أو عن امتصاص الضغوط المحتملة والتساؤلات التي أثارتها المبادرة. كما أن محمود عباس لم يكلف نفسه حتى مجرد التعليق على المبادرة طيلة الشهر الماضي بحسب كل متابعاتنا وبحثنا. ولذلك يبقى تصريح أمين سر المجلس الثوري لفتح أمين مقبول بأن المبادرة “مبالغ فيها وغير واقعية” هو التصريح الأقرب لصانع القرار الفتحاوي.
***
من ناحية أخرى، فإن المبادرة دعت في نقطتها الثامنة إلى الاتصال بكل الأطراف العربية والإسلامية لتحمل مسؤولياتها التاريخية، وركزت على دور مصر في إنهاء الحصار.. وهذا بالتأكيد أمر مطلوب، غير أن حقائق الواقع لا تبشر بسلوك عربي إسلامي يرتقي للمستوى المأمول. والنظام المصري الذي يعلم تماما أن قطاع غزة لا يمثل إطلاقا خطرا على أمنه القومي، وأن الخطر الحقيقي على مصر يكمن في المشروع الصهيوني ودولة الاحتلال.. ما زال مُصرا على متابعة الحصار، لأسباب يرى أنها مرتبطة باستقراره كنظام سياسي، سواء بسبب عدائه لتيارات “الإسلام السياسي”، أم بسبب حاجته للدعم الأميركي الغربي والرضا الإسرائيلي لضمان استقراره الداخلي.
وكنا نتمنى لو أن المبادرة ركزت بشكل أكبر على دور الشعوب العربية والإسلامية كحاضنة أساسية لمشروع المقاومة وكسد أساسي في وجه التطبيع.. في مقابل الأنظمة العربية والإسلامية الفاسدة المستبدة التي لم يعد بالإمكان المراهنة عليها.
***
وأخيرا، فإن مبادرة الجهاد الإسلامي تستحق التقدير، وتستحق أن تأخذ حقها من النقاش والتفاعل البناء، وتستحق أن يتم البحث عن خطوات وإجراءات فعلية، وتوفير الآليات المناسبة لإنزالها على أرض الواقع.