بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
حتى أيامنا هذه يقف 64 مخيما فلسطينيا شاهدا على النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني سنة 1948، عندما اقتلعت العصابات الصهيونية أكثر من 57% من شعب فلسطين من أرضه.
ومن هذه المخيمات هناك 58 مخيما مسجلة رسميا لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، تتوزع على 19 مخيما في الضفة الغربية وثمانية مخيمات في قطاع غزة وعشرة في الأردن وتسعة في سوريا 12 في لبنان. وهناك ثلاثة مخيمات في الأردن وثلاثة أخرى في سوريا غير معترف بها لدى الأونروا. كما أن هناك أربعة مخيمات كانت قائمة في لبنان تمّ تدمير ثلاثة منها، بينما تم نقل سكان الرابع وإغلاقه.
ويبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى الأونروا حاليا نحو خمسة ملايين 400 ألف لاجئ، غير أن هؤلاء ليسوا كل اللاجئين الفلسطينيين؛ فالكثير من الفلسطينيين رفض التسجيل لدى الأونروا لاستغنائه عن خدماتها، كما أن الكثير من الفلسطينيين لم يسجلوا أنفسهم لإقامتهم خارج مناطق عمل الأونروا التي تنحصر في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان.
أما عدد اللاجئين الحقيقي فهو يصل في مطلع سنة 2017 إلى نحو ثمانية ملايين و490 ألفا يمثلون نحو 66.8% من مجموع الشعب الفلسطيني البالغ 12 مليونا و700 ألف نسمة؛ إذ أضيفت إلى لاجئي 1948 أعداد كبيرة من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة “النازحين” المقيمين خارج فلسطين التاريخية وغير القادرين على العودة إلى بيوتهم. كما أن هناك نحو 150 ألفا ممن هُجِّروا من أرضهم ولكنهم ظلوا مقيمين في مناطق فلسطين المحتلة 1948.
***
منذ البداية ظلت المخيمات الفلسطينية أحد أكبر الشواهد الحقيقية على نكبة الشعب الفلسطيني، وشواهد حية على الجرائم الصهيونية بحقه، وأحد أكبر رموز المعاناة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، برزت كأحد أكبر معالم الصبر والصمود والعطاء الفلسطيني، والإصرار على أن اللجوء مؤقت بانتظار العودة إلى فلسطين. غير أن هذه المخيمات، خصوصا في الشتات، أصبحت عرضة للنكبات، بينما كان هناك من تَتسبَّبُ ممارساتُه بتشويهها، ومحاولة حرفها عن رسالتها ومهمتها النضالية.
لا يسكن كل اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات في هذه الأيام، فمنذ بداية اللجوء تدبر الكثير منهم أمورهم خارجها، كما انتقل الكثير من سكان المخيمات، مع مرور الزمن، إلى أماكن معيشة أخرى مع تحسّن ظروف حياتهم أو انتقالهم إلى أماكن عمل مختلفة داخل هذه البلدان أو خارجها، أو بسبب تعرض مخيماتهم لهجمات عسكرية وظروف أمنية أجبرتهم على الرحيل. ولذلك فنسبة المقيمين في المخيمات إلى عدد اللاجئين المسجلين هي نحو 51% في لبنان، و42% في قطاع غزة، و30% في سوريا، و24% في الضفة الغربية، و17% في الأردن؛ وبمعدل عام 28.7% وفق بيانات الأونروا.
في بدايات اللجوء، رفض الكثير من الفلسطينيين تحويل الخيام التي يسكنونها إلى أبنية، غير أن طول المعاناة فرضت نفسها على واقعهم، فاضطروا للتكيّف التدريجي مع أوضاعهم.. فاتخذت المخيمات شكل أبنية بسيطة مكتظة، تفتقر للتنظيم المدني والبنى التحتية والخدمات، لتصبح نسخة محدَّثة من المعاناة اليومية المستمرة.
في لبنان مثلا تضاعفت أعداد الفلسطينيين في المخيمات دون أن تسمح السلطات بتوسيع حدودها، فاضطر الفلسطينيون لتكثيف البناء داخل المخيمات، فأصبحت ثُلث البيوت لا تدخلها الشمس، وأصبحت الكثير من الأزقة لا تتسع لمرور السيارات، ولا حتى لنقل الأثاث الذي لجأوا لنقله من فوق أسطح المنازل، بينما هي تسمح بالكاد لمشي شخصٍ أو شخصين يسيران بشكل معتاد من تحت لفائف من أسلاك الكهرباء، التي تنقطع لساعات طويلة لا يقل معدلها عن 12 ساعة يوميا. وفي الوقت نفسه، يعيش نحو ثلاثة أرباع اللاجئين تحت خط الفقر، بينما تمنع السلطات اللبنانية الفلسطينيين من معظم مجالات العمل، كما تمنعهم من حقوق التملُّك.
وبالرغم من أن المخيمات شكلت بؤر “فقر وقهر”، فإنها شكلت في الوقت نفسه بؤر ثورة وتمرد على الواقع، وأصبحت نماذج لعزة الإنسان الفلسطيني وكرامته، وحرصه على هويته ورفضه للتوطين وتطلعه للعودة. ولذلك كانت المخيمات الفلسطينية حاضنة أساسية للثورة الفلسطينية وللعمل المقاوم، وكان أبناء المخيمات من أكثر المبادرين وأسرعهم في المشاركة في مجالات العمل الوطني، وخصوصا المقاومة المسلحة.
***
في سنة 1974 دمر الطيران الحربي الصهيوني مخيم النبطية بالكامل، وتسبب في تشريد نحو ثلاثة آلاف من سكانه. وفي صيف 1976 حاصرت القوات الانعزالية الكتائبية وحلفاؤها مخيم تل الزعتر حتى انتهى الأمر بتدميره بعد صمود دام 52 يوما، واستشهاد ثلاثة آلاف من أبنائه معظمهم مدنيون، وتم تهجير نحو عشرين ألفا ليدخلوا في لجوء جديد. وفي أيلول/ سبتمبر 1982 وقعت مذبحة صبرا وشاتيلا على يد المليشيات الانعزالية نفسها، وبإشراف وغطاء إسرائيلي، مما أدى لاستشهاد نحو ثلاثة آلاف فلسطيني ولبناني؛ لتصبح هذه المذبحة أحد الشواهد البارزة على مأساة الإنسان الفلسطيني في مواطن اللجوء.
انعكست الأوضاع الداخلية العربية والأجندات السياسية للأنظمة على الجاليات الفلسطينية المقيمة التي وجدت نفسها بعد عشرات السنوات من الإقامة في مخيمات لجوء وترحيل مؤقتة. كما حدث مع النظام الليبي الذي تعامل مع الفلسطينيين بعد اتفاقات أوسلو كـ”مادة بشرية” تُستخدم في الضغط السياسي والمناكفة مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. فوضع الآلاف من الفلسطينيين في السفن والشاحنات لطردهم.. ونشأ مخيم السلوم القريب من الحدود المصرية، والذي سماه النظام الليبي “مخيم العودة”؛ بينما سماه الفلسطينيون “مخيم العار”.
وفي العراق دفع الفلسطينيون أثمانا هائلة إثر الاحتلال الأمريكي سنة 2003، وإثر تصاعد الاضطراب السياسي والأمني والصراع الطائفي؛ ليجدوا أنفسهم بسبب دعايات وتحريض إعلامي أَسود يُشردون ويُقتلون على الهوية، بينما نشأت مخيمات لجوء لهم، معظمها على الحدود مع الأردن وسوريا، مثل مخيمات العودة، والرويشد، والكرامة، وطريبيل، والهول، والتنف، والوليد. وتضاءلت أعداد الفلسطينيين من نحو 44 ألفا قبيل الاحتلال الأمريكي، إلى نحو ستة آلاف بعد ذلك بثلاث سنوات.
أما مخيم نهر البارد الذي كان ثاني أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، حيث كان يقطنه نحو أربعين ألفا سنة 2007، فقد تعرض للتدمير نتيجة مشكلة لم يكن هو نفسه سببها. ففي ظروف تحمل علامات استفهام كثيرة دخلت جماعة “فتح الإسلام” التي انفصلت عن “فتح الانتفاضة” إلى المخيم.. وكان من بين أفرادهم أعضاء من جنسيات لبنانية وسورية وعربية أخرى.. وقد أدى سلوكهم إلى اعتصام شعبي لأهالي المخيم طالبوا فيه برحيل هذه العناصر.
وعندما قام عناصر “فتح الإسلام” بمهاجمة عناصر الجيش اللبناني، لم تحدث عملية معالجة سياسية أمنية قضائية للتعامل مع مرتكبي الجرائم فقط، ولكن تطور الأمر إلى معالجة عسكرية تحمّل فيها المخيم وزر دخول هذه المجموعة، مما أدى إلى تدمير المخيم حيث خسر نصف سكانه، بينما تعرض نحو 3200 منزل لتدمير كلي أو جزئي، بعد معارك استمرت 106 أيام، ولم يكن أهل المخيم جزءا منها.
وحتى الآن لم تحدث مساءلة حقيقية عن المسؤول الفعلي عن هذه المأساة، ومن هي الجهات التي سهَّلت أو سكتت عن دخول هذه العناصر إلى لبنان وعن تموضعها في المخيم، ولماذا لم يتم حتى الآن -بعد نحو عشر سنوات- إعمار المخيم إلا جزئيا بالرغم من توفر التمويل اللازم لذلك؟!
***
وفي سوريا، يبرز مخيم اليرموك في ضواحي دمشق كأحد أعظم النكبات التي أصابت المخيمات الفلسطينية طوال تاريخها. فهذا المخيم الذي يُعدّ أحد أكبر مخيمات الشتات الفلسطيني، والذي كان يقيم فيه نحو 144 ألفا وفق تقديرات الأونروا، لم يعد يقيم فيه سوى بضعة آلاف (ثلاثة آلاف فقط وفق متخصصين). لقد عانى أبناء هذا المخيم بشكل هائل نتيجة الصراع الداخلي في سوريا، ووُضعوا أمام استحقاقات صعبة بسبب حالة الاستقطاب بين النظام السوري وحلفائه وبين فصائل المعارضة بكافة أشكالها، وكذلك بين القوى الفلسطينية المختلفة.. وحتى منتصف أبريل/ نيسان 2015 كان المخيم قد عانى من 628 يوما من الحصار المستمر، ومن 728 يوما من انقطاع الكهرباء، ومن 218 يوما من انقطاع الماء.
وفي أجواء الصراع في سوريا، نُكِبت المخيمات الأخرى في سوريا أيضا بدرجات متفاوتة، فمثلا تعرض مخيم درعا لتدمير 70% من مبانيه، كما تعرضت مخيمات الرمل وعين التل (حندرات) والسبينة.. لعمليات تهجير ومنع عودة.
ونتيجة للأوضاع في سوريا فمن بين نحو 600 ألف فلسطيني اضطر 175 ألف فلسطيني للهجرة خارج سوريا، كما اضطر نحو 225 ألفا للجوء إلى مناطق أكثر أمنا داخل سوريا نفسها. وحتى منتصف شباط/ فبراير 2017 كان قد استشهد نحو 3440 فلسطينيا في سوريا، وفق إحصاءات مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا.
***
ومنذ بضع سنوات، يتزايد احتمال انفجار كبير للأوضاع في مخيم عين الحلوة، أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، وأحد أكبر رموزها في الشتات الفلسطيني. وكانت الاشتباكات التي حدثت في أواخر فبراير/ شباط 2017 أحد المظاهر لتوترات وأحداث عنف يشهدها المخيم بين فترة وأخرى.
والمخيم الذي يسكنه نحو سبعين ألف فلسطيني لا تزيد مساحته عن كيلومترين مربعين، ويعاني من بنى تحتية مهترئة، ورعاية صحية وتعليمية سيئة، ومعدلات فقر وبطالة عالية. ولأن السلطات اللبنانية لا تمارس صلاحياتها الأمنية والإدارية عليه، ولأن من يتحكم فيه من داخله فصائل وقوى فلسطينية مختلفة ومتنازعة، فقد أصبح مكانا للاستقطاب والتجاذب، وحاولت أن تستخدمه جهات إقليمية ومحلية ساحة لتصفية الحسابات و”تبادل الرسائل”، كما أصبح مكانا تأوي إليه عناصر كثيرة مطلوبة للسلطات اللبنانية وغيرها، وفي الوقت نفسه فرض الجيش طوقا أمنيا حوله يتحكم في الدخول والخروج إليه.
وحتى هذه اللحظة، نجح الفلسطينيون في تجنيب المخيم الصراعات الإقليمية والفتن الطائفية والانقسامات المحلية والخارجية، والتي تنعكس عليه بدرجات متفاوتة بحسب القوى والفصائل المتنافسة داخله، وبحسب الجهات التي تدعمها وتمولها. غير أن المخيم يعيش على “برميل بارود” يهدد بالانفجار، في ظل استمرار وضع أمني هش، نتيجة عدم قدرة القوى داخل المخيم على إنهاء أزمة إدارته وضبط أمنه، ونتيجة عدم رغبة السلطات اللبنانية حاليا في بسط سيطرتها عليه لأنها لا تريد تحمل المسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية المتعلقة باللاجئين، وبسبب الأثمان الكبيرة وغير المضمونة النتائج لمحاولة اقتحام المخيم والسيطرة عليه. (لمزيد من المعلومات يرجى الرجوع إلى التقدير الاستراتيجي الذي نشره مركز الزيتونة في آذار/ مارس 2017 حول مخيم عين الحلوة).
من جهة أخرى، فإن نكبة “شواهد النكبة” في لبنان تزداد مع وجود من يسعى إلى تشويه صورة المخيمات النضالية، ليس فقط من خلال تقديمها كـ”بؤر أمنية” ومعاقل للمطلوبين و”الفارين من القانون”، ولكن كبؤر لانتشار المخدرات.. حيث أخذت بعض مظاهره تزداد في السنوات الأخيرة في بعض المخيمات، وهو ما يستدعي علاجا سريعا وحكيما وحاسما.
***
وأخيرا، فإن كل ما سبق يفرض مسؤولية كبرى على القوى والمؤسسات والفصائل الفلسطينية للقيام بواجباتها تجاه الشعب الفلسطيني ومخيماته، وتجنيبه الدخول في المشاكل الداخلية للدول المضيفة، والإبقاء على الصورة النضالية المشرقة والصامدة للمخيمات. والسعي الحثيث لدى الجهات الرسمية لتوفير ما تحتاجه من دعم ورعاية وبنى تحتية وفرص عمل، وخدمات صحية وتعليمية؛ وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم في العمل والتملك لتجنيبهم الوقوع فريسة البطالة والإحباط وتيارات التطرف، ومنع استغلال حاجتهم المادية من القوى المختلفة التي تسعى لخدمة أجنداتها الخاصة.
ولعل القائمين على المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، الذي تشكَّل مؤخرا، يولون اهتماما خاصا بمخيمات الشتات وأوضاعها، والسعي للارتقاء بها ودعم صمودها.
المصدر: الجزيرة نت، الدوحة، 8/4/2017