بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
تشير الدلائل إلى أن جماعة الإخوان المسلمين كانت الحاضنة الأولى لنشأة حركة فتح، وخصوصاً بين أفرادها من أبناء قطاع غزة. ويظهر أن عامة الإخوان كانوا يعدُّونها في البداية جزءاً منهم، أو على الأقل رصيداً لهم، غير أن الطرفين اتخذا خط الانفصال والتمايز عن بعضهما منذ صيف 1962.
اطلعنا في مقال سابق على التنظيم العسكري السري، الذي أنشأه الإخوان في القطاع. والدارس لنشأة حركة فتح في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين يلاحظ، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن كثيراً من قادة هذا التنظيم وأعضائه، أصبحوا من الجيل المؤسس لحركة فتح. ويظهر أن عدداً كبيراً من هؤلاء قد أصابهم الإحباط نتيجة قيام عبد الناصر بضرب جماعة الإخوان سنة 1954، وتحَوُّلها إلى حركة مطاردة محظورة، وبعد أن تم تشويه صورتها وشيطنتها في الإعلام المصري. وبالتالي فالصورة المتميزة للإخوان كجماعة أدت أدواراً بطولية في حرب 1948، وكقوة شعبية كبيرة لها احترامها ونفوذها الواسع في قطاع غزة، وكحاضنة للعمل المقاوم، تضررت بدرجات مختلفة في أوساط الناس. بينما لم يعد كوادر الحركة أو “التنظيم الخاص” يجدون بيئة مناسبة للتجنيد ولا للعمل المقاوم، بعد أن أصبح اسم الإخوان مدعاة للخوف، إن لم يكن مدعاة للنفور. وبالتالي، لم يكن أمام هؤلاء الشباب الذين تملؤهم الحماسة للعمل لفلسطين ولمشروع المقاومة؛ إلا أن يحاولوا إيجاد مسارات أخرى مناسبة، حتى وإن ظلّ كثير منهم على حبه واحترامه للإخوان.
ويظهر أن النقاشات التي تلت تعطُّل العمل المقاوم للإخوان الفلسطينيين، أوصلتهم إلى قناعة بضرورة إنشاء ما عرف لاحقاً بفتح. غير أن بؤرة هذا النقاش تركزت على ما يبدو وسط طلاب الإخوان في الجامعات المصرية سنة 1956 وبدرجة أقل في قطاع غزة، حيث نجد هناك أسماء أعضاء من الإخوان أصبحوا قيادات بارزة في فتح، أمثال خليل الوزير وسليم الزعنون ورياض الزعنون وغالب الوزير وسعيد المزين وعبد الفتاح حمود ومحمد يوسف النجار وكمال عدوان وفتحي بلعاوي وأسعد الصفطاوي وصلاح خلف.
* * *
المؤسسان أبو جهاد وأبو عمار:
حسب خالد الحسن، أحد أبرز قادة فتح، فإن أبا جهاد خليل الوزير هو الذي بدأ حركة فتح، وهو رأي يؤكده عدد من رموز وقيادات الإخوان الفلسطينيين، ممن كانوا على احتكاك ومعرفة بأبي جهاد في تلك الفترة، أمثال محمد الخضري، وخيري الأغا، وسليمان حمد. وكان أبو جهاد من قادة التنظيم الإخواني السري العسكري الذي نظم عدداً من العمليات الفدائية في النصف الأول من الخمسينيات. وبحسب خليل الوزير، ففي هذه الأجواء بدأ التفكير بحركة “فتح” في منتصف الخمسينيات، وممن شاركه هذا التفكير كمال عدوان، الذي كان معه في الإخوان وفي العمل العسكري الخاص. وفي العام الذي قضاه خليل الوزير في مصر (الفترة 1955/1956) بقي على صلته بجماعة الإخوان الفلسطينيين في مصر، واحتفظ بموقع قيادي حسبما يشير الإخوان الذين عايشوه؛ لكنه على ما يبدو كان يُنضج مع زملائه فكرة فتح، كما توطدت علاقته بياسر عرفات (بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع في أواخر شباط/ فبراير 1955)، الذي أخذ يشاركه الأفكار والتوجهات نفسها، في ضرورة إطلاق عمل فلسطيني مقاوم يأخذ صبغة وطنية.
أما ياسر عرفات، فثمة شبه إجماع بين الإخوان الذين التقينا بهم على أنه لم يكن عضواً في جماعة الإخوان، ولكنه كان قريباً منها. وتلقى تدريباً عسكرياً في معسكرات الإخوان ضمن طلبة الجامعات في فترة المقاومة المصرية للإنجليز في قناة السويس 1951-1954، وفاز على قائمة الإخوان برئاسة رابطة الطلبة الفلسطينيين في مصر أكثر من مرة. أما الشخصان اللذان خالفا هذا الإجماع فهما منير عجور، وخيري الأغا. إذ يذكر خيري الأغا أن عرفات انضم لفترة محدودة للإخوان، وأن كمال السنانيري (من قيادات الإخوان المصريين) عينه مسؤولاً عن متابعة الإخوان الفلسطينيين، وأن نائبه كان قنديل شاكر (من قيادات الإخوان في الأردن لاحقاً)، وكان ذلك سنة 1952. غير أن الأغا نفسه، يشير إلى أن عرفات لم يستمر في الإخوان. وإذا ما صحت هذه الرواية، فلعل نفي الآخرين لانتظامه السابق بالإخوان يعود سببه إلى أنه انتظم لفترة قصيرة، وأنه لم يستمر بعد الضربة التي تلقاها الإخوان سنة 1954؛ وبالتالي فكل من التقاه بعد ذلك لم يجد له ارتباطاً بالإخوان. كما أنه لم يكن من مصلحته في تلك الفترة كشف أي علاقة سابقة له بالإخوان.
إرهاصات فتح:
أعاد الإخوان في قطاع غزة تنظيم أنفسهم أثناء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع (31 تشرين الأول/ أكتوبر 1956-6 آذار/ مارس 1957) باتجاه العمل المقاوم. وبالنسبة لأبي جهاد، فقد عَدّ العدوان الثلاثي مرحلة جديدة في النضال، فبدأ التفكير بالحاجة إلى التنظيم والقيادة، والتوسع في النشاطات “والتوجه نحو تنظيم أوسع”. وهي عقلية تميل إلى تجاوز القيود الحزبية إلى أطر وطنية أوسع؛ بما يشير إلى بدايات تَشكُّل القاعدة النظرية لفكرة فتح. ومما يدل على ذلك أنه في أثناء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع قدَّم ثلاثة من الإخوان، هم كمال عدوان وغالب الوزير وسعيد المزين (وثلاثتهم صاروا لاحقاً من قيادات حركة فتح) مقترحاً إلى قيادة الإخوان من عشرين صفحة، للتعاون مع القوميين واليساريين في العمل الشعبي وفي المجالات السياسية والإعلامية والعسكرية. غير أن قيادة الإخوان قررت عدم التعاون مع الشيوعيين (لرغبة الشيوعيين بالاقتصار على المقاومة المدنية فقط)، والعمل بشكل منفصل، والتجهيز للعمل العسكري ضد الاحتلال.
وبعد ذلك ببضعة أشهر، وتحديداً في صيف 1957، قدَّم أبو جهاد تصوراً إلى قيادة الإخوان المسلمين في قطاع غزة؛ يقضي بإنشاء تنظيم لا يحمل لوناً إسلامياً في مظهره، وإنما يحمل شعار تحرير فلسطين عن طريق الكفاح المسلح، ويقوم بالإعداد لذلك. ونوَّه أبو جهاد في مذكرته إلى أن هذا التنظيم سيفتح الأبواب المغلقة بين الإخوان والجماهير، وسوف يفكُّ حصار نظام عبد الناصر للإخوان، وسوف يُبقي قضية فلسطين حية، ويجبر الدول العربية على خوض الحرب.
ويبدو أن قيادة الإخوان في غزة لم تأخذ المذكرة مأخذ الجد، فأهملتها ولم تردَّ عليها. وعلى ما يظهر فإن التوجه العام للقيادة كان يميل نحو التريث، والسلوك الأمني الحذر، والتركيز على التربية، والمحافظة على الذات، في أجواء ملاحقة النظام المصري (بعد عودته لإدارة القطاع). وربما انعكست طبيعة القيادة والتي تميل لعدم الدخول في مغامرات تراها غير محسوبة، في بيئة غير مواتية، على النظرة السلبية للمشروع. وعزز ذلك، أن أبا جهاد ورفاقه المتحمسين للفكرة كانوا يتصرفون بشيء من عدم الانضباط في نظرها، حسب معايير الترتيبات السرية الجديدة التي اتخذتها قيادة إخوان غزة.
ولعل سبب هذه النظرة الحذرة من القيادة أن المجموعة الإخوانية التي مالت لإنشاء فتح، كان لديها استعدادات كبيرة للانفتاح الشعبي والسياسي والحركي، والتعبير عن نفسها من خلال لافتة وطنية، وبالتالي كانت أكثر جرأة وأكثر قدرة على التواصل مع البيئة الخارجية، بأسلوب “عملي” فعال؛ مقابل القيادة التي ركّزت على لملمة الصف، والحفاظ على الذات، والتركيز على التربية والإعداد المُتأنِّي، بانتظار فرصة أفضل لإطلاق “المشروع الإسلامي لفلسطين”.
التأسيس في الكويت:
عندما قدم ياسر عرفات إلى الكويت سنة 1957، عمل مهندساً في دائرة الأشغال العامة، ثم لحقه خليل الوزير الذي عمل مدرساَ في إحدى مدارس وزارة التربية، حيث أخذا ينشران فكرة فتح في الوسط الإخواني (وهو وسطهما الطبيعي). وكانا على معرفة بمعظم الخريجين من شباب الإخوان الذين وفدوا إلى الكويت.
وكان لوجود اثنين من قيادة التنظيم الإخواني الخاص (هما يوسف عميرة ومحمد أبو سيدو) ممن سبقا خليل الوزير في القدوم للكويت، أثر كبير في تهيئة الظروف المناسبة لنشأة فتح في الوسط الإخواني الفلسطيني في الكويت. فقد كان يوسف عميرة يدير أسرة مجموعة قدماء الإخوان في الكويت، وكان ممثّل الفلسطينيين لدى الجهات الإخوانية في الكويت، وهو الذي عَرَّف سليمان حمد بياسر عرفات وبخليل الوزير سنة 1957. أما محمد أبو سيدو فكان على علاقة قوية بخليل الوزير، من خلال الدور القيادي الذي لعبه في التنظيم الخاص. وهؤلاء الثلاثة انضموا لفتح منذ تأسيسها. وقد أسهم ذلك في إيجاد بيئة إخوانية مناسبة للتجاوب مع حركة فتح، ولذلك نلاحظ أن معظم الإخوان الفلسطينيين البارزين الذين جاؤوا للكويت في تلك الفترة انضموا لحركة فتح، أمثال موسى نصار، وأبو أيمن حسن المدهون، وأبو عودة حسين الثوابتة، ومنير عجور.
ومن الشخصيات التي أشار يزيد صايغ، في دراسته، إلى انتمائها السابق للإخوان؛ عادل عبد الكريم، وهو ممن قدم مبكرا ً للعمل في الكويت. وبالتالي فإن ثلاثة من الخمسة الذين حضروا اللقاء التأسيسي لفتح، حسبما ذكر خليل الوزير (الوزير وعميرة وعادل عبد الكريم)، كانوا ذوي خلفية إخوانية إضافة إلى عرفات وتوفيق شديد. وبعد اعتذار شديد منذ اللقاء التالي، تابع قيادة فتح هؤلاء الثلاثة الذين اختاروا عرفات المقرّب من الإخوان رئيساً لهم.
في قطاع غزة:
يبدو أن قيادة الإخوان في قطاع غزة، التي تمكنت من إعادة ترتيب التنظيم بعد ضربة عبد الناصر للإخوان كانت أكثر صرامة في ضبط عناصرها ومعايير التزامهم. فقد تعاملت مع العديد من العناصر التي أسست فتح في القطاع كعناصر غير منضبطة، ولم تُدخلها في بُنية التنظيم، باعتبار أن انضمامها كعناصر مكشوفة يمثل خطراً على “سرية” التنظيم؛ ولكنها أبقت على التعامل معها كإخوان في الإطار “الأخوي” الاجتماعي العام. ويبدو أن هذا السلوك القيادي، أدى ضمناً وعملياً، إلى اندفاع هذه العناصر بشكل أكبر تجاه المضي بإنشاء فتح.
ويعترف أبو عزة الذي كان في قيادة إخوان غزة، أن طرح عناصر فتح كان “منطقياً، وتتولاه عناصر قيادية إخوانية موثوقة”. وأنه خلال ثلاث سنوات (1957-1960)، وقبل أن تتوصل قيادة إخوان غزة إلى إجابات وتصورات واضحة، في مقابل طرح فتح، كان الإخوان قد فقدوا أفراداً من أفضل عناصرهم؛ وإن “موثوقية وقيادية دعاة فتح في الإخوان، سهَّلت عليهم اقتناص أفراد كثيرين وممتازين من الإخوان”.
ومن أبرز الشباب ذوي الخلفية الإخوانية الذين أسسوا فتح في قطاع غزة؛ سليم الزعنون الذي عَمِل وكيل نيابة بعد تخرجه وعودته للقطاع، وصلاح خلف وأسعد الصفطاوي اللذان عملا بعد تخرجهما في مدرسة خالد بن الوليد قرب مخيم النصيرات، وكذلك سعيد المزيَّن (أبو هشام)، وغالب الوزير، وفتحي بلعاوي. كما كان معهم في التأسيس الشيخ هاشم الخزندار، الذي كان نائباً لرئيس المكتب الإداري لإخوان غزة، ورئيساً لشعبة الرمال، قبل قيام عبد الناصر بحل جماعة الإخوان. كما انضم رياض الزعنون لقيادة فتح في غزة، بعد تخرجه من كلية الطب في القاهرة.
يتبع/ المقال القادم حول بدايات فتح في مصر والضفة الغربية والأردن وقطر ولبنان وسوريا.