بقلم: أ.د. وليد عبد الحي. (مقال خاص بمركز الزيتونة).
شكلت الدراسة التي أشرفت عليها منظمة اليونسكو، وأنجزها كل من وليم بوكانان William Buchanan وهادلي كانتريل Hadley Cantril سنة 1953، مرجعاً مهماً لفهم كيف تتشكل الصور الذهنية للمجتمعات عن بعضها البعض. وكان التركيز في هذه الدراسة على أهمية "تاريخ العلاقة بين المجتمعات" في تشكيل الصور الذهنية المتبادلة بين طرفي العلاقة، إذ تؤدي التفاعلات السلبية بعد تراكمها التاريخي إلى تشكيل صورة سلبية عن المجتمع الآخر، والعكس صحيح.[1] ثم جاءت دراسة يوري برونفنبرينر Urie Bronfenbrenner حول ما أسماه نظرية صور المرآة Mirror Images، والتي تقوم على رسم صورة للآخر من خلال "مرآة" المنظومة المعرفية والقيمية الذاتية. وتبين من الدراسة التي جرى تطبيقها على الصور الذهنية لكل من مجتمعات الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، كلٌّ منهما تجاه الآخر، أن مرحلة الطفولة، حسب هذه النظرية، وما يترسب فيها من خلال الثقافة المجتمعية، تمثل نقطة الارتكاز في تشكيل الصورة الذهنية عن الآخر.[2]
وعند مراجعة استطلاعات الرأي العام الدولي حول صور المجتمعات تجاه بعضها البعض، لفت انتباه كاتب هذه السطور أن الصورة السلبية لـ"إسرائيل"، ولليهود بشكل عام، في الذهن الياباني تكاد أن تكون هي الأسوأ مقارنة بكل الصور الذهنية في كل المجتمعات الأخرى بما فيها الإسلامية لـ"إسرائيل". فمن خلال تتبع استطلاعات الرأي العام الدولي للفترة من 2010-2019، كانت أدنى نسبة للصورة الإيجابية لـ"إسرائيل" هي التي تبناها المجتمع الياباني. وعند العودة لعيّنة من الاستطلاعات السابقة على فترة القياس هذه، تَبيَّن أن هذه الصورة السلبية مستقرة بقدر كبير ومنذ فترة طويلة، بل لم أجد في هذه الصورة فرقاً له دلالة إحصائية في نتائج استطلاعات الرأي العام الغربية أو الآسيوية، بل والإسرائيلية، ويتبين من الرصد لـ 13 استطلاعاً أن "معدل" الموقف الإيجابي من "إسرائيل" في اليابان في الفترة 2010-2019 هو على النحو التالي:[3]
النسبة (%) | |
المؤيدون لـ"إسرائيل" | 2 |
المعارضون لها | 52 |
المحايدون | 46 |
ذلك يعني أن نسبة المؤيدين لـ"إسرائيل" في اليابان هي أقل من نسبة المؤيدين أو المتعاطفين مع "إسرائيل" في أغلب الدول الإسلامية، وهذا هو الدليل، وفق الاستطلاعات التي تم رصدها:
المؤيدون لـ"إسرائيل" | النسبة (%) |
مصر | 3 |
باكستان | 4 |
تركيا | 6 |
أذربيجان | 12 |
إندونيسيا | 15 |
نيجيريا | 37 |
وفي استطلاع واسع للرأي العام الياباني حول صورة "اليهودي – الإسرائيلي" في الذهن الياباني، تمّ إجراؤه في 2014، كانت النتائج على النحو التالي:[4]
49% من اليابانيين يعتقدون أن ولاء اليهود لـ"إسرائيل" أكثر من ولائهم للدول التي يعيشون فيها وينتمون لها. 46% من اليابانيين يعتقدون أن اليهود يرون أنفسهم أفضل من الآخرين. 34% يعتقدون أن سيطرة اليهود على عالم المال والتجارة في العالم كبيراً جداً. 34% يعتقدون أن نفوذ اليهود على الحكومة الأمريكية عالٍ جداً. 31% من اليهود لا يكترثون بمصائب الآخرين.
وقد حفزتني المعطيات السابقة للعمل على فهم هذه الظاهرة، التي تستحق التأمل والبحث، في كيفية توظيفها بل وتعزيزها في نطاق الصراع العربي الصهيوني من ناحية، ومن ناحية ثانية لإثبات عدم صحة ما يحاول الفكر الصهيوني أن يروجه كما يفعل البروفيسور في الجامعة العبرية بن عامي شيلوني Ben-Ami Shillony في الترويج عن دور اليهود في مساندة اليابان لتحقيق انتصارات في الحرب الروسية اليابانية بين 1904-1905، أو تسخير زيارة ألبرت آينشتاين لليابان سنة 1923 لرسم صورة إيجابية للعلاقة التاريخية بين الطرفين؛ على الرغم من أن هذه الصورة لا تعكسها نتائج جميع استطلاعات الرأي العام الدولي، ولا يعكسها رفض آينشتاين لقيام "دولة إسرائيل" أو رفضه تولي منصب رئيس "إسرائيل"، والذي عرض عليه سنة 1952.[5] يضاف إلى ذلك محاولات بعض الكتاب المسيحيين من أصول يابانية عقد تشابهات بين النصوص الدينية اليابانية واليهودية في عدد من المجالات، مثل تفسير الخطيئة، أو كيفية تَولِّي الحكم للإمبراطور الياباني والأنبياء اليهود، إلى حد الوصول لاستنتاجات مثيرة، مثل الزعم بأن كثيراً من التقاليد اليابانية تعود جذورها لليهودية. بل ذهب بعضهم إلى القول بأن الأصول العرقية لليابانيين تعود للقبائل الإسرائيلية العشرة المفقودة...إلخ.[6]
كما أن بعض الدراسات الصهيونية تحاول التمييز والفصل بين الصورة المجتمعية اليابانية، والصورة لدى الحكومة ووسائل الإعلام، لإضعاف قوة الصورة السلبية المجتمعية تجاه "إسرائيل".[7]
وبالعودة إلى النظريتين السابقتين المشار إليهما في بداية هذا المقال، نجد أنهما تسهمان بقدر كبير في تفسير الصورة المجتمعية السلبية للياباني عن "إسرائيل" بشكل خاص، واليهود بشكل عام. وفيما يلي محاولة لتفسير هذه الصورة:
أولاً: الخبرة التاريخية في العلاقات بين "اليهود واليابانيين":
1. في سنة 1845، أجبرت القوى الغربية اليابان في أواخر فترة حكم الشوجان Shogun (الحكام العسكريين) على فتح موانئها أمام التجارة العالمية. وكان التجار اليهود من أوائل من وصلوا مع التجار الغربيين، وهو ما أنتج ردة فعل ضد اليهود في أوساط الشعب الياباني، واعتبروا اليهود جزءاً من التغلغل الغربي المسيحي في بلادهم. ومع انتشار البعثات التبشيرية المسيحية في اليابان، وحدوث ردة فعل حادة من اليابانيين، لا سيّما من رجال الدين البوذيين والطاويين والشنتويين، بدأت المذابح ضد المسيحيين، ورأى اليابانيون أن الدين اليهودي هو أصل الديانة المسيحية، وأنهما يكملان بعضهما؛ وأن لا فرق بين المسيحي الغاصب واليهودي التاجر، وبقي الأمر على هذا الحال حتى سنة 1873.[8]
2. في سنة 1868، بدأت في التاريخ الياباني ما يعرف بإصلاحات الأمبراطور موتسوهيتو Mutsuhito المعروف بالإمبراطور "ميجي" Meiji، والتي قامت على أساس الانفتاح على التجارب السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الغربية. وفي إطار الانفتاح الثقافي، شكلت في هذه الفترة ترجمة مسرحية شكسبير William Shakespeare الشهيرة "تاجر البندقية" The Merchant of Venice (التي تتناول شخصية المرابي اليهودي شايلوك Shylock) إلى اليابانية حدثاً ثقافياً مهماً؛ خصوصاً أن المسرحية انتشرت بشكل هائل، وتم تقديمها على المسارح اليابانية، ثم تم تحويلها إلى مسلسل، خصوصاً أن شخصية شايلوك قريبة في المنظومة المعرفية اليابانية من صورة جماعة يابانية يطلق عليها إيتا Eta، أو بوراكومين Burakumin، وتعني الفئة "البشعة" و"المنبوذة".[9]
3. مع بداية العشرينيات من القرن الماضي، وبعد ظهور الاتحاد السوفييتي والدخول في صراع مع اليابان على سيبيريا، تم ترجمة "بروتوكولات حكماء صهيون" (المنسوبة دونما إثبات إلى زعماء اليهود)، وتم توزيع ملايين النسخ منها، وراجت فكرة أن الثورة الشيوعية هي جزء من الخطة اليهودية للسيطرة على العالم، وأن اليهود سينتقلون إلى اليابان للسيطرة عليها بعد روسيا.[10]
وقد أسهم خصوم الشيوعيين (من قوات الجيش الأبيض) في أثناء تعاونهم مع الجيش الإمبراطوري الياباني، في توزيع أعداد كبيرة جداً من نسخ بروتوكولات حكماء صهيون على الجيش الإمبراطوري، وانتشرت فكرة "المؤامرة اليهودية لحكم العالم" بين الجنود والضباط، وتعززت هذه الفكرة، بعد اكتشاف وجود نسبة عالية من اليهود بين الشيوعيين.
4. أسهم التحالف الياباني مع النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وترجمة كتاب كفاحي لهتلر، وكتاب الفريد روزنبرغ Alfred Rosenberg "خرافة القرن العشرين"، والذي يركز فيه على الدور السلبي لليهود في التاريخ، وعلى دونية العرق السامي بشكل عام، في تعزيز مشاعر الكراهية لليهود باعتبارهم أعوان خصوم التحالف الياباني الألماني. ومع احتدام المعارك، أصبحت الصحافة اليابانية تشن حملات إعلامية حادة وتطالب على حدّ وصفها بـ"تطهير العالم من اليهود".[11]
وفي 1925 نشر الضابط الياباني نوريهيرو ياسوئيه YasueNorihiro ترجمة بروتوكولات صهيون لليابانية، وبعدها نشر تحت اسم مستعار هو كوشي Hō Kōshi كتاباً بعنوان "دراسات في المؤامرة الدولية"، وجعل من البروتوكولات نموذجاً لهذه المؤامرة. وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، انتشرت بشكل واسع قصص للأطفال التي رسمت صورة لليهود الذين انتشروا في العالم، وكيف جمعوا أموالاً هائلة "ليسيطروا على العالم" ومن ضمنها السيطرة على الإمبراطورية اليابانية. وبرزت في هذا السياق روايات مينيتارو ياماناكا Minetarō Yamanaka، التي ازدهرت وعرفت رواجاً كبيراً حتى سنة 1970 تقريباً.[12]
وفي سنة 1936 ظهرت ترجمة جديدة للبروتوكولات قام بها الضابط الياباني نوبوتاكا شيودن Nobutaka Shiōden، وفي شروحاته ركز على فكرة "المؤامرة اليهودية" للسيطرة على ثروات العالم. أما اليهود الذين فروا من النازية قبل بدء الحرب إلى اليابان، فقد تم تجميعهم في معسكرات في ثلاث مناطق في منشوريا وشنغهاي التي كانت محتلة من قبل اليابانيين في 1934 في إطار ما عرف بخطة فوجو Fugu Plan.[13] واستمرت الكتب اليابانية التي تنظر لليهود كعنصر تآمري وتخريبي في العالم، وأصبحت بعض المجلات اليابانية تتبنى التوجهات نفسها، بل بدأت تظهر بعض الكتابات التي تنبه اليابانيين إلى خطورة ما تسميه السعي اليهودي للسيطرة على بعض البنوك الكبرى في اليابان.[14]
ذلك يعني أن الصورة التي رسمتها الأحداث التاريخية للعلاقات اليهودية اليابانية هي صورة سلبية، تتمثل في رسوخ "فكرة السيطرة على العالم"، وما يُسمى "المؤامرة الكونية التي ينسجها اليهود"، وموقفهم المعادي للتحالف الياباني الألماني، ومرافقتهم للغزو والبعثات التبشيرية الغربية لليابان، واعتبار المسيحية منتجاً فكرياً يهودياً.
ثانياً: الأسباب الاقتصادية: وتتمثل في:
1. بدأ الانتعاش الاقتصادي الياباني في منتصف الستينيات من القرن العشرين، وبعد قيام "إسرائيل" بالعدوان على الدول العربية سنة 1967، بدأت موجات ارتفاع أسعار النفط، وهو ما أرهق الاقتصاد الياباني الذي كان في بدايات نموه، ثم تلاحقت موجات ما سمي بالصدمات النفطية وارتفاع أسعار النفط، بسبب عدم الاستقرار الناجم عن السياسات الإسرائيلية. ومع منتصف الثمانينيات (حيث حدثت أزمة اقتصادية في اليابان)، انتشرت موجة من الدراسات التي تعود لفكرة ما يُسمى "الخطر اليهودي على العالم"، وظهر كتاب ماسامي أونو Masami Uno والذي يرى فيه أن اليابان هي "آخر عقبة أمام اليهود للسيطرة على العالم"، وباع من هذا الكتاب حوالي 1.1 مليون نسخة. وربط الكتاب بين دور اليهود ونشوب الحرب الروسية اليابانية، والهجوم على بيرل هابر وإلقاء القنابل النووية على اليابان...إلخ، وأن "اليهود هم وراء انتشار مرض نقص المناعة، وأنهم سبب التلكؤ في النمو الاقتصادي الياباني بسبب سياساتهم التي ترفع أسعار النفط، وأنهم سبب توتر العلاقات مع الولايات المتحدة". وظهرت بعض الدراسات في سنة 1984 كتبها نواب في البرلمان الياباني يحملون مسؤولية الأزمات الاقتصادية في اليابان لليهود، كما أنكر بعض الكتّاب "الهولوكوست" واعتبروها جزءاً من العقل الصهيوني.[15]
وبالمقابل، تزايدت ترجمات اليابانيين للكتب العربية، وكانت روايات الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني من بين أكثر الكتب العربية رواجاً في الترجمات اليابانية عن الآداب الأجنبية. ولعل ذلك يفسر في "حدود معينة" تعاطف مجموعة يابانية تابعة للجيش الأحمر الياباني مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال الهجوم على مطار إسرائيلي سنة 1972، وقتل حوالي 26 صهيونياً.[16]
2. يرى اليابانيون أن عدم الاستقرار السياسي في المنطقة العربية بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام، يدفع الدول العربية لشراء الأسلحة بدلاً من شراء السلع المدنية، ولما كانت اليابان لا تشكل مبيعات السلاح جزءاً من استراتيجيتها، فإن قدرتها على المنافسة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين في هذا المجال تبدو ضعيفة. لذا يرى اليابانيون في السياسات الإسرائيلية سبباً في دفع العرب نحو أسواق السلاح بدلاً من التوجه لشراء سلع مدنية، وهو الميدان الذي يمكن فيه لليابان الدخول في المنافسة مع الدول الكبرى الأخرى أكثر من قدرتها على المنافسة في بيع الأسلحة.[17]
3. في سنة 1992 نشرت صحيفة شوكان بوست shukan post المشهورة مقالاً حملت فيه اليهود مسؤولية تراجع البورصة وتباطؤ نمو الاقتصاد الياباني، ثم تبعتها عشرات الصحف والندوات حول النقطة نفسها. [18]
4. هناك مشاعر يابانية قوية أيضاً ضد الأمريكيين، بسبب القواعد العسكرية وآثار الحرب العالمية الثانية والمنافسة الاقتصادية...إلخ، وكل كراهية للأمريكيين تمتد لكراهية اليهود باعتبار أن "إسرائيل" هي الحليف الأوثق للولايات المتحدة.
5. أن ثقافة "أهيمسا" التي تدعو للسلام والاستقرار، والنزعة البوذية والطاوية (التي ترى أن الجندي الجيد هو الذي لا يحارب)، تتصادم مع النزعة العسكرتارية الصهيونية.
لكل هذه الأسباب كره اليابانيون "إسرائيل"...
خاتمة:
إن محاولة فهمنا للصورة السلبية لليابانيين عن "إسرائيل"، تشير إلى خلفيات مختلفة دينية وثقافية وتاريخية وسياسية واقتصادية. ونحن عندما نطرح هذه الأسباب فإنما نطرحها لفهم الظاهرة، وليس موقفاً منا ضد اليهودية كدين أو ضد اليهود كيهود. وموقفنا السلبي هو ضد المشروع الصهيوني وضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
ويفترض بالبلاد العربية والإسلامية وبالفلسطينيين، وخصوصاً قوى المقاومة، أن تبني على خلفية موقف المجتمع الياباني من "إسرائيل" في تحويل الموقف الياباني الرسمي إلى موقف أكثر قوة وتأييداً للموقف الفلسطيني، وأكثر دعماً له في الساحة الدولية.