ظن بعض الكتاب والمحللين أن الهجمة الأوروبية الشرسة وغير المسبوقة على تركيا دوافعها هي الانتخابات التي تجري في بعض الدول الأوربية كهولندا وغيرها؛ وأن أحزاب اليمين في هذه الدول أرادت أن تحصل على أصوات القوميين المتعصبين من خلال الهجوم على تركيا وإعلان معاداتها والنيل منها.. كما ذهب آخرون إلى أن أنظمة الحكم في أوروبا كلها أنظمة برلمانية (باستثناء فرنسا نظامها رئاسي) وبالتالي فإن اندفاع أردوغان باتجاه النظام الرئاسي لتركيا استوجب وقفة أوروبية صارمة حياله.. وهكذا، إلا أن هذه التحليلات على جديتها فإنها تلامس قشور المسألة ولا توغل إلى لبها الذي هو أعمق وأدق.. وقبل أن نتحدث عن هذا (اللب) لعلنا نُذكّر –بعجالة- بأبرز مظاهر هذه الهجمة فنقول:
* السلطات الهولندية منعت طائرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، من الهبوط على أراضيها.
* كما منعت وزيرة الأسرة فاطمة قايا من الدخول إلى مقر القنصلية التركية في روتردام، ثم أخرجتها من هولندا إلى ألمانيا.
* عدد من الدول الأوروبية منعت مسيرات مؤيدة لحملة (نعم) للتعديلات الدستورية التي تدعم تحول النظام السياسي في تركيا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.. بينما سمحت بشكل فج بمظاهرات صاخبة للأكراد، في العديد من المدن الأوروبية، من أنصار حملة (لا) لهذه التعديلات الأمر الذي أظهر أوروبا وهي تكيل بمكيالين بصورة عجيبة صارخة مخالفة لجميع قيمها ومبادئها بحرية التعبير، ناهيك عن التدخل السـافر في مسألة تركية داخلية تدخلاً لا مبرر له وتدينه جميع القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية والعلاقات السياسية بين دول العالم..
إن الحقيقة وراء هذه الهجمة الهائلة على تركيا هو أن: تركيا في الضمير الأوروبي هي (تركيا أتاتورك) أي بلد العلمانية الذي وجد أصلاً كحاجز أو ساتر مضمون الولاء والتوجه لكي يفصل بين أوروبا الغربية المسيحية (النقية).. وبين دول العالم الثالث والعالم الشيوعي فلا يصل إليها (أي أوروبا) أي تلوث!! يُفسد (نقاءها) وقد صُنعت تركيا على عين الغرب لهذه الغاية وهذه الوظيفة.. والشهادة لله فإن الحكومات المتعاقبة منذ أتاتورك وحتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم (باستثناءات بسيطة وفترات زمنية محدودة)؛ لم يخيبوا ظن الغرب بهم فقد قاموا بدورهم ووظيفتهم على أكمل وجه.. إلا أن وصول حزب العدالة والتنمية قد غير قواعد اللعبة كلياً وجذرياً وباقتدار أذهل الغرب وأفقده صوابه حيث صنع تركيا جديدة مخالفة لكل ما بذله الغرب من أجل بقائها خادمة لأهدافه ومنفذة لإرادته وحسـب.. أما أن تتحول تركيا إلى بلد يمتلك قراره ويعمل وفق مصلحته ويتطور حتى يبلغ مبلغاً يكون فيه منافساً للعديد من الدول الأوروبية بل ويبز العديد منها: ثقلاً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ويتطور بسرعة كبيرة تكنولوجياً.. إلخ فإن هذه الحالة لم تكن في الحسبان ولبس بوسع الغرب تحملها على الإطلاق.. فكان لزاماً عليه أن يعمل كل ما بوسعه ليعيد تركيا إلى بيت الطاعة الغربي ويلزمها بوظيفتها التي وجدت من أجلها.. فمدّ جماعة كولن بكل حقن وفيتامينات وعقاقير (القوة) من أجل أن تزيح حزب العدالة والتنمية عن الحكم فلم تفلح.. مما دفع الغرب إلى أخذ الكتاب بقوة ومباشرة العمل بيده لإزاحة هذا الحزب المتمرد (العدالة والتنمية) عن كرسي الحكم عبر الانقلاب الذي أعد له بإحكام "ما يخرش الميّة" ولكن إحكام الله كان أشد وأقوى ففشل الانقلاب فشلاً ذريعاً وكانت فضيحة الغرب فضيحة بـ (جلاجل)!! فلجأ إلى ممارسة الضغوط الاقتصادية الهائلة على تركيا واستخدام أدواته من: منظمات حقوق الإنسان وغيرها.. إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل الذريع والمخزي والفاضح.
في هذه الأجواء المحبطة للغرب وأدواته.. لاحت فرصة الاستفتاء لتغيير النظام البرلماني في تركيا إلى النظام الرئاسي الذي يحصن تركيا من تقلبات السياسة ومغامرات العسكريين الانقلابية؛ فاهتبل الغرب فرصة الاستفتاء التي يخيل للغرب من حقده أنها ستلوي ذراع أردوغان وحزبه ومن يواليه ومن يؤيده ومن يؤازره.. فكشر عن أنيابه بشكل عجيب وغريب متنكراً لكل مبادئه التي صدع بها رأس الإنسانية من مشرقها لمغربها بقيم: الحرية وحقوق الإنسان وضمان حرية الاختيار لكل إنسان وحرمة ممارسة الضغوط بأي صورة من الصور وبأي شكل من الأشكال للحيلولة دون حق التعبير.. إلى آخر هذه الاسطوانة المشروخة التي قرف العالم من تكرارها قولاً وممارسة عكسها تماماً مئة بالمئة على الصعيد العملي.. حيث انهالت التصريحات والمواقف والتصرفات التي أقل ما توصف به بأنها مهينة لكل القيم التي يتغنى بها دعاة (الحرية) وأرباب الليبرالية؛ الأمر الذي يُعيد إلى الأذهان وبقوة ممارسات العرب في الجاهلية عندما كانوا يصنعون آلهتهم (أصنامهم) من التمر وعندما يجوعون يأكلونها!! وكذلك يفعل الغرب اليوم حيث يقدس قيم الحرية وحق التعبير ولكن إذا اصطدمت هذه القيم مع مصالحه المادية البحتة انقلب عليها وانقض عليها دون ذرة خجل أو حرج..
والسؤال الملح هذه الأجواء المشحونة بكل ما هو سلبي هو: هل ستفت هذه الهجمة القاسية والواسعة في عضد تركيا العدالة والتنمية؟! وهل ستؤثر هذه المحنة على صلابة أردوغان وتصميمه؟! الجواب يكمن في جزء منه في اعتزاز الأتراك بانتمائهم القومي الشديد والمتجذر في أعماق ضمائرهم وأي استفزاز لهذا الشعور لدى الشعب التركي سيؤدي إلى عكس المراد منه وبخاصة أن أوروبا تلعب بالورقة الخاسرة أي ورقة الأكراد فتسمح لهم بتنظيم مظاهرات واسعة وضخمة لرفض التعديلات التي تفضي إلى تعديل النظام البرلماني إلى الرئاسي بينما تمنع، وعلى عينك يتاجر، أي تحرك لأنصار حملة (نعم).. الأمر الذي سيستثير حمية الأتراك، حتى أولئك الذين لا يكنون تعاطفاً لأردوغان؛ ويولد لديهم ردة فعل تؤزهم أزاً لقول نعم حتى وإن كان الأمر نكاية بهذه المواقف الأوروبية الاستفزازية لمشاعرهم القومية وتمسكهم الشديد بتركيا وتراثها وأمجادها أيام عزة العثمانيين وأنفتهم وسلطانهم.. إذاً ستكون هذه المحنة منحة لأردوغان ومؤيديه وستصب الأصوات لصالح حملة (نعم) ولصالح الاستقرار والعدالة والتنمية لبلدهم.. ويومئذ يفرح الأتراك بفوزهم على من أرادوا لهم البقاء دولة وظيفية خادمة للغرب ومصالحه المادية المقيتة.. وإن غداً لناظره قريب قريب..