فرج شلهوب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
أقف أمام المشهد الأردني الحالي حائرًا، وأنا استمع إلى خطاب الملك قبل أيام أمام البرلمان الأوروبي، وكفاح المؤسسة الرسمية بالأيدي والأسنان من أجل تمرير صفقة الغاز مع المحتل الصهيوني، رغم المعارضة الشعبية له، وما تلقيه هذه الاتفاقية من ظلال فاجعة، على الموقف الرسمي الأردني إزاء شعبة، وأمته، والقضية الفلسطينية.
تحدّث الملك أمام البرلمان الأوربي بروح عربية أصيلة، وحسٍّ إنساني عال جدًا، واستحضر المسؤولية الوطنية والقومية والإنسانية، إزّاء ما يجرى في الإقليم، وانعكاسات ذلك على مستقبل المنطقة بخاصة والعالم بعامة.
فقضية فلسطين، حسب خطاب الملك، هي الجرح العميق في المنطقة، وإدارة الظهر لما يجري نت حلّ الدولتين الذي تمارسه حكومة اليمين الإسرائيلي، هو الخطر الأبرز الذي قد يطيح بآمال الشعوب في تحقيق العدالة، حيث يسعى مناصرو حلّ الدولة الواحدة إلى فرض حلٍّ لا يمكن تصوره على المنطقة والعالم: دولة واحدة مبنية على أسس غير عادلة، تضع الفلسطينيين في مرتبة مواطنين من الدرجة الثانية، وتدير ظهرها للمنطقة، وتديم الانقسامات بين الشعوب والأديان في جميع أنحاء العالم.
أما القدس العزيزة على قلب الملك شخصيا والهاشميين بشكل عام، فإن العبث بمصيرها سيقود الى عواقب خطيرة ووخيمة يصعب تصور احتمالها. كما أنّ استمرار العنف الاسرائيلي، واستمرار بناء المستوطنات، وعدم احترام القانون الدولي… سيفاقم الوضع ويزيد من المخاطر. لتكون الخلاصة المقتضبة حسب تأكيد الملك: “لا يمكن الوصول إلى عالم أكثر سلامًا دون شرق أوسط مستقرّ، والاستقرار في الشرق الأوسط لن يكون ممكنًا دون سلام مع الفلسطينيين”.
هذا بعض ما جاء في خطاب الملك، أما الشق الآخر من الخطاب، فقد ركّز على التحذير من غياب المعالجات الحكيمة، التي تحول دون انتشار الفوضى في الإقليم، والتي سيدفع الجميع ثمنها (غربًا، وعربا)، بدءا من ” المواجهة الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، وماذا لو لم يبتعد أي من الجانبين عن حافة الهاوية، متسببًا بانزلاقنا جميعا نحو فوضى لا توصف، ونحو حرب شاملة تهدد استقرار المنطقة بأسرها، وتهدد بإحداث اضطرابات هائلة في الاقتصاد العالمي، وتهدد بعودة الإرهاب إلى الظهور في جميع أنحاء العالم؟!! “.
وكذا تَرك العراق، الذي عانى شعبه أربعة عقود من الحرب والعقوبات والاحتلال والصراع الطائفي وإرهاب داعش… فاقدًا للأمن والأمل وبقائه ساحةً مفتوحةً لصراعات الآخرين…
إلى أين سيقود؟!
وماذا لو بقيت سوريا رهينة للصراعات بين القِوى العالمية، وانزلقت مرّة أخرى في صراع أهلي وطائفي؟! ماذا لو شهدنا عودةً لداعش، وأصبحت سوريا نقطة انطلاق لهجمات ضدّ بقية العالم.
هل يريد أي منا، أن يشهد أزمة لجوء سورية جديدة، بكل ما فيها من رعب ومآس؟
أو رؤية طفل بريء آخر يقذفه البحر على شواطئكم؟
ماذا لو انهارت ليبيا باتجاه حرب شاملة، لتصبح في النهاية دولة فاشلة؟
ماذا لو أصبحت ليبيا سوريا جديدة، ولكنها هذه المرة أقرب إلى قارتكم؟
ماذا لو فشلت الحكومات العربية في توفير أكثر من 60 مليون وظيفة سيحتاجها شبابنا خلال العقد القادم؟
ألن نكون قد هيأنا البيئة المثالية للتطرف؟
إننا نسهّل عملية التجنيد والاستقطاب ونساهم في صناعة التطرّف إن خلّفنا وراءنا الضعف واليأس”.
هذا الخطاب الملكي الرفيع، الذي يستحضر ما تمثلّه حكومة اليمين الإسرائيلي، من أخطار على الأردن وفلسطين، والذي يستحضر أيضا بمسؤولية عالية ما يحوط الاقليم من تحديات وأخطار عاصفة، كيف يمكن جمعه في قارب واحد مع مغامرة الارتباط مع المحتل، عبر اتفاقية التزود بالغاز المسروق، الذي وقّعته جهات رسمية أردنية، تحت سمع الحكومة وبصرها؟!!!
إن صفقة الغاز مع المحتل، ليست فقط تطبيعًا مرفوضًا ومفروضًا على كل بيت أردني، وليست فقط دعما لاقتصاد المحتل وتعزيز قوّته العسكرية، وليست خذلانا لفلسطين واهلها وقضيتها فحسب، بل لقد وضعت العصب الحساس من احتياجات الأردنيين تحت رحمة عدو لا تُؤمن خيانته.
إنها فوق ذلك كله تطبيقًا لخطة قديمة تستهدف جعل (إسرائيل) جزءا طبيعيًا من المنطقة، فتتشابك مصالحها مع مصالح الإقليم، من مشاريع مائية وطاقة وربطا كهربائيا واستثمارات اقتصادية بما يعني قبول “اسرائيل” كما هي، وكما يريدها ويخطط لها اليمين الاسرائيلي، السائد والحاكم في دولة الاحتلال شريكا وحليفا… فكيف يستقيم هذا وموقف الملك؟!!
وحين يتعهد نتنياهو بعدم اخلاء أي مستوطنة في الضفّة الغربية، ويؤكد عزمه على ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، بعد إعلان القدس موحّدة تحت السيادة الاسرائيلية… وإدارة ترامب الداعمة له في كلّ خطوة يخطوها! كما جاء على لسان السفير الأمريكي لدى تل ابيب “ديفيد فريدمان”: إن صفقة القرن المنتظرة تتضمن القبول بضمّ اسرائيل لأجزاء من الضفة معتبرا الحكم الأردني للضفة احتلالا!!!
حين يقع كل هذا، فإن اتفاقية الغاز تتحوّل لكارثة وطنية… ولا ينسجم توقيعها وتفعيلها، مع خطاب الملك عن مخاطر الحلّ السياسي القادم، وسعي تل أبيب لشطب حلّ الدولتين واستهداف القدس وضمّ الضفة، وإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والأخطر الترتيب لموجات نزوح جديدة باتجاه الأردن، من خلال تكريس سياسات الضمّ لأراضي الضفة والتضييق على السكان هناك.
كيف يمكن الجمع بين هذا وذاك؟!!
شراكة استراتيجية عبر صفقة الغاز، وتحذير يقظ من سياسة إسرائيلية خطرة، تستهدف الأردن وتهدّد وجوده!!!
ثمّة تناقض كبير، وثمّة تعارض غير مفهوم، فالحكومة والبرلمان معنيان بتسوية الأمر عاجلًا، وعلى نحو يحفظ مصالح الأردن، ويمنع التشويش على نصاعة موقفه السياسي، إزّاء القادم المجهول.