د.ياسين أقطاي
وقعت تحت تأثير البرنامج الحواري الذي تناول تلك المشاعر السلبية المستكبرة حول السوريين والذي يقدمه محمد عاكف أرصوي على قناة خبر تورك أمس الأول. وبطبيعة الحال لم يكن ما ورد في ذلك البرنامج وحسب، بل كذلك العبارات التي نسعمها على شاشات التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، كادت أن تفقدنا تفاؤلنا، بل حتى تفاؤلي أنا شخصيا، بوجود الرحمة الإنسانية. أقول “حتى تفاؤلي أنا شخصيا”، ذلك أنه لا يخفى على أحد أنني شخصية متفائلة إلى أبعد الحدود على المستويين الفلسفي والسياسي.
ظل ذلك الشعور يلازمني إلى أن تلقيت مكالمة هاتفية أمس وأنا أسير في طريقي…نظرت إلى هاتف لأرى رقما لا أعرفه، لكنه اتصل مرة قبل ذلك دون أن ألاحظ. أجبت المكالمة لأجد صوتا حزينا للغاية. إنها حالة أعرفها جيدا. أتلقى الكثير من مثل هذه المكالمات يوميا بحكم عملي بالسياسة؛ إذ إن العديد من قليلي الحيلة أو الذين يشعرون بقلة الحيلة يرون السياسي وسيلة لقلة حيلتهم تلك. فأكثر المتصلين هم من الباحثين عن عمل لأحد أبنائهم أو أقاربهم العاطلين أو من الراغبين في تبديد ظلم وقع عليه أو ممن يطلبون تغيير أماكن توظيفهم كيلا يتفرق أفراد العائلة أو من الراغبين فقط في سرد ما بداخلهم من آلام. ولا يمكن لأي إنسان أن يلبي كل هذه الطلبات، غير أن حتى الاستماع فقط لآلام الناس يكون – أحيانا – بابا كافيا للخير.
أتفهم أن صوت السيدة التي حدثتني على الهاتف كان مغموما كثيرا؛ إذ أخذت تسرد عليّ قلة الحيلة التي تشعر بها دون أن تعرفني بنفسها أو تقص عليّ ما هي مشكلتها. فاعتقدت لوهلة أن هذه المكالمة مثل سائر المكالمات التي أتلقاها يوميا، ولهذا فقد استمعت لبرهة بشكل روتيني لما اعتد عليه، ثم طلبت منها “هل يمكنك أن تعرفيني بنفسك؟ ما هي مشكلتك؟”
لتدخل في الموضوع:
كان لها جار سوري يجاورها منذ سنوات، ومنذ أن سكن في حيهم فقد اعتادوا عليه وصار جزءا من حياة كل واحد من سكانه لدرجة أنه أصبح وكأنه فردا من أسرة كل ساكن من سكان الحي.
وتقول “فعلى سبيل المثال عندما أمرض يهتم بي ويساعدني بالقدر الذي لا أراه من عائلتي”. ثم تضيف “لقد حارب هو وأقاربه ضد ظلم نظام الأسد والتنظيمات الإرهابية المتطرفة في سوريا، فقتل شقيقه وأصيب هو في قدمه، والآن يعيش حياته الطبيعية بعدما ركب قطعة من البلاتين. جاء إلى تركيا حيث سُمح له بالإقامة في إحدى مدنها، لكنه عجز عن توفير احتياجاته في تلك المدينة، ولهذا أتى إلى إسطنبول، ومنذ ذلك اليوم وهو يعيش في المكان ذاته.
كان وهو في سوريا رجل أعمال لديه القدر الكافي من التجارة. لكنه الآن يعمل في أي عمل يجده في إسطنبول، أعمال نقاشة أو مقاولات أو ما إلى ذلك. لكن عندما يجلس في منزله وهو جائع لا يخبر أحدا بأنه جائع ويحتاج المساعدة.
يحبه كل سكان الحي ويعتبرونه واحدا منهم. لكنه اضطر للاختباء بمنزله ما إن بدأت الإجراءات المعروفة قبل فترة قصيرة، فهو لا يخرج منه أبدا. ذلك أنه لو عاد إلى المدينة المسجل بها فإنه سيكون قد فقد الحياة التي أسسها لنفسه هنا، كما أنه يستطيع توفير احتياجاته بطريقة ما بالعمل هنا، فماذا سيفعل هناك إذن؟ ولهذا فقد جمعنا التوقيعات نحن سكان الحي لأننا لا نريد أن يتركنا جارنا السوري، فنقول للمسؤولين لا تأخذوا جارنا منا”.
تحول صوت السيدة المتصلة وكأنها ستبكي بنهاية كلامها، وبالفعل بعدما أنهت كلامها بكت بكاء شديدا. ولا أخفيكم سرا أنني كذلك لم أستطع السيطرة على دموعي، وشعرت وكأن الكلام قد وقف في حلقي، فبلعت ريقي ولم أستطع أن أرد عليها بشيء لبعض الوقت.
كان ما شعرت به كالمعجزة. فأنا أعلم أن الأصوات العنصرية التي ليس بها شفقة ولا رحمة التي بدأنا نسمعها مؤخرا لا يمكن أن تكون أصوات أبناء هذا الشعب الأصيل الذي نصر أناسا ظلموا وهجروا على مدار السنوات الثمان الماضية وفتح أبوابه على مصراعيها لاستقبالهم.
لقد كانت هذه هي المعجزة التي ظهرت فجأة في وقت كاد الأمل فيه أن يختفي. فهذه هي المرة الأولى التي أتلقى فيها مكالمة كهذه من بين المكالمات التي تأتيني ويحكي أصحابها آلامهم وطلباتهم الشخصية. فذلك الصوت لم يكن يطلب شيئا لنفسه، بل لشخص آخر.. لم يكن يبكي على حاله، بل على حال شخص آخر. فبالرغم من أنني لا أسد أذناي عن الاستماع لمن يبكي على حاله، لكن مستوى التأثير والمستوى الإنساني الذي يمثله من يبكي على حال إنسان آخر يثبت لنا عظمة أشرف مخلوقات الله على هذه الأرض.
ومن ناحية أخرى ترى شخصيات سياسية وعملية مرموقة تتحدث بحق جمهور من الناس يقدر بنحو 4 ملايين شخص وكأنهم أشياء لا روح فيها ودون أن يأخذوا بعين الاعتبار أبدا حياتهم الفردية ومشاعرهم وأحاسيسهم.
لقد صار يحيط بنا مناخ ظلامي أصبحت فيه عبارات من قبيل “فلنطردهم من أرضنا ليفعلوا ما يحلوا لهم خارجها!” تسير في طريقها لتتحول إلى عبارات عادية، وكلما أصبحت كذلك فقدنا شيئا من إنسانيتنا، بل إن معظمنا أضحى حتى لا يلاحظ ما الذي نخسره بسبب هذا المناخ.
لقد شعرت عندما سمعت صوت السيدة عائشة في الهاتف وكأن الضمير والأخلاق الجميلة التي كنت قد ظننت لوهلة أنها قد اندثرت لدى شعبنا الأصيل قد أشرقت من جديد كالشمس على ذلك المناخ الظلامي.
لقد بكى ذلك الصوت وتوسّل إليّ من أجل شخص آخر عندما قالت “أرجوك، يمكننا أن نرسل إليك التوقيعات التي جمعناها من أبناء الحي، لكننا لا نريد أن يأخذوا منا جيراننا، لقد اعتدنا على الحياة معهم”.
إننا نتحدث هنا عن الجار يا سادة!
صحيح أن السوريين جاؤوا كمهاجرين، لكن حالة الهجرة هذه لا تستمر للأبد. وفي الواقع فإنهم لم يحملوا أحدهم همهم على المستوى الفردي وكأنهم مهاجرون بما تحمله الكلمة من معان. بل أصبحوا الآن جيراننا.
فما حق الجار على جيرانه؟ وهل كان لذلك علاقة بالجنسية أو الضرائب التي ندفعها؟ لا أعلم عن ذلك شيئا، لكني رأيت في صوت السيدة عائشة التي بكت من أجل “جيرانها” نور الأمل من أجل الإنسانية كلها. تقول ذلك الإنسان هو جارك، فهو ليس جهنم أو شخص أجنبي أو جماد، بل إنه جارك..
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي