السياسة الأميركية وتحوّلات الأزمة في مصر

 

خلال الأسابيع الماضية، اتخذت السياسة الأميركية مواقف تجاه مصر، كانت في غالبها تذهب لإعادة تقدير موقفها تجاه نظام الحكم الذي يقوده الإخوان المسلمون/ الحرية والعدالة، وهذا التفكير يتأسس على التداعيات السياسية التي تشهدها مصر خلال فترة ما بعد إعلان نتائج الاستفتاء على الدستور، وهو ما يتطلب تحليل تصورات الولايات المتحدة لمسار المشهد السياسي وتطوراته في المستقبل، وبخاصة في ظل الإدراك أن الدور الأميركي يشكل واحداً من العوامل المهمة في التأثير في التوجهات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وتطلع الولايات المتحدة إلى استمرار المعادلات الإقليمية من دون تغيير.

لعل بداية الإعلان عن تغير في الموقف الأميركي من أوضاع مصر كان في جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية (مجلس الشيوخ) في 23 كانون الثاني (يناير) الماضي، إذ تناولت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون الإشارة إلى أخطار الإرهاب في شمال أفريقيا ومدى انعكاسه على المصالح الأميركية في منطقة الشمال الأفريقي، كما تناولت ما يتعلق بإدراك السياسة الأميركية لأوضاع مصر ما بعد الثورة، فقد أشار تقرير وزيرة الخارجية إلى أن المؤسسات التي شُكلت هي مؤسسات هشة وضعيفة، وإلى أن النخبة السياسية الجديدة تفتقر إلى الخبرة اللازمة لإدارة دولة معقدة تشهد توترات شديدة.

وفي تقييمها للثورات العربية، تضمنت شهادة كلينتون الإشارة إلى أن الثورات العربية أربكت ديناميكيات السلطة ومزقت قوات الأمن في أنحاء المنطقة، وبشكل يتيح فرصاً لتنامي العنف والإرهاب على مستوى منطقة الشرق الأوسط والمناطق غير المستقرة في أفريقيا. وهنا يمكن النظر إلى تقييم الخارجية الأميركية، من وجهة أن السياسة الأميركية صارت تركز على هشاشة النظم الجديدة في حفظ الأمن، وفي ظل تنامي الأزمات الداخلية ستفقد القدرة على منع تفكك المؤسسات السياسية وتداعيها. وخلص التقرير إلى أن السياسة الأميركية تقوم على جانبين: مكافحة التطرف والإرهاب، ومساعدة الديموقراطيات الناشئة في مصر والبلدان العربية.

وتأخذ الولايات المتحدة في الاعتبار ما تطلق عليه حالة الفراغ الجيو - سياسي في مصر والمنطقة العربية بعد سقوط النظم الديكتاتورية، إذ ترى أن النظم الجديدة لم تملأ الفراغ السياسي، ومن هنا تسعى واشنطن إلى متابعة تكوين هذه النظم الجديدة، بحيث تظل أكثر ارتباطاً بمصالحها. ومن الملاحظ أن السياسة الأميركية تميز بين التعاون العسكري والتعاون الاقتصادي، ويقوم هذا التمييز على المفاضلة ما بين تقوية المؤسسة العسكرية للحفاظ على تماسك الدولة أو دعم السلطة السياسية التي يشكل الإسلاميون غالبية مكوناتها. وظهرت ملامح السياسة الأميركية عندما وافق الكونغرس على استمرار المساعدات العسكرية، لكنه ما زال يرفض الإفراج عن المساعدات الاقتصادية، سواء تلك المرتبطة باتفاق السلام أو التي تعهدتها الإدارة الأميركية للتخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية في مصر.

التعاون العسكري

عموماً، يتسق تركيز الولايات المتحدة على التعاون العسكري مع مصر مع رؤيتها لتداعيات ما بعد الثورة، إذ ترى أن الاستقرار السياسي يكون من خلال تقوية المؤسسة العسكرية كضامن لتوجهات الدولة وأن تظل أبعاد الأمن القومي من دون تغيير، وبخاصة ما يتعلق باتفاقية «كامب ديفيد»، ولعل أهمية صفقة الطائرات (20 طائرة إف16) هي أنها تأتي في سياق الالتزام الأميركي للمساعدات العسكرية وفقاً لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. وتأتي هذه المساعدات في سياق تدهور أداء مؤسسات الدولة وتفاقم المشكلات الأمنية، ومن هنا قد يكون دعم المؤسسة العسكرية ضرورياً للقيام بوظيفتي الأمن الداخلي إذا ما كانت هناك ضرورة وتطويرها مهمات الأمن القومي، وما يتعلق منها بالسياسة الأمنية المشتركة مع الولايات المتحدة في سيناء والحدود مع إسرائيل. غير أن الأوضاع السياسية ستؤدي إلى تكريس الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في حالة استمرار تركيز الولايات المتحدة على تفضيل الوفاء بالمساعدات العسكرية من دون المساعدات الاقتصادية.

ويتبدى من تصرّفات واشنطن أن ثمة توجهًا لمراجعة موقف الإدارة الأميركية من الحكومة المصرية، وترتكز هذه المراجعة على أن تزايد العنف السياسي الذي تشهده مصر سيجهض الإصلاح السياسي ويوقف الإصلاح الاقتصادي. وعموماً، يتجه الخطاب السياسي الأميركي لتحميل الرئيس محمد مرسي مسؤولية ارتباك الوضع السياسي في مصر، فيما يتجنب الإشارة إلى عنف المعارضة والاحتجاج العنيف ضد السلطة ومؤسسات الدولة، وهي الاحتجاجات التي شهدت تحولات عميقة نحو العنف منذ 25 كانون الثاني (يناير) الماضي.

وبحلول شباط (فبراير) الجاري، صارت الانتقادات الأميركية أوضح، عندما تحدثت السفيرة الأميركية آن باترسون في اجتماع الغرفة التجارية في الإسكندرية عن دور المؤسسات الحكومية الأميركية في دعم القطاع الخاص المصري. وفيما تتبنى الولايات المتحدة الدعم الاقتصادي للمنظمات غير الحكومية، وهو ما يعد استمراراً للسياسة الأميركية في تمكين النظام الرأسمالي القائم على المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتوسيع دور المجتمع المدني، فقد استبعدت توفير التمويل للدولة لتخفيف حدة الأزمة النقدية في ظل تنامي الأزمة السياسية في مصر وغياب حلول جذرية لها. ويتلاقى هذا التوجه مع وقف المساعدات الاقتصادية المقدمة لمصر وتأجيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى أجل غير مسمى، رغم تدهور الاقتصاد المصري خلال العاملين الماضيين، إذ تراجعت معدلات الاستثمار الأجنبي المباشر في شكل حاد منذ اندلاع الثورة.

وفي ظل تراجع الاحتياط النقدي لدى البنك المركزي إلى 13.6 بليون دولار في مطلع شباط الجاري بما يوفر تغطية للواردات لثلاثة أشهر، أُرجئت المفاوضات على القرض المخصص لمصر (4.8‏ بليون دولار)‏، وهو ما يشكل تحدياً كبيراً للسياسة النقدية المصرية، وينعكس سلباً على السياسة الاقتصادية. ويستند قرار الصندوق إلى عدد من الأسباب، في مقدمها الخلاف السياسي الحاد بين السلطة والمعارضة، وتأخر تطبيق الشروط المرتبطة بالقرض وبخاصة ما يتعلق برفع شرائح الضرائب على عدد من السلع وهو ما يدخل الحكومة في أزمة سياسية مع معارضيها والمجتمع.

وإذا كان من اتفاق مع السياسة النقدية لصندوق النقد في معالجة السياسة النقدية ومشكلاتها، فإن ربط الموافقة على القرض بتوافر التهيئة السياسية وحل الخلافات بين المعارضة والسلطة يشكل قيداً إضافياً على مصر، إذ أن وجود هذا الشرط سيعزز استمرار الخلاف والانقسام بين الجانبين، وبخاصة في ظل تداخل الشروط السياسية والاقتصادية في بيئة معقدة.

التحذير وانعكاساته

وفي ظل هذه الظروف، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية تحذيراً لمواطنيها من السفر إلى القاهرة حتى أيار (مايو) 2013. وبغض النظر عن تضرر بعض القطاعات الاقتصادية من هذه السياسة، تعد الانعكاسات الأخرى بالمستوى نفسه من الأهمية، فكما أن القرار صدر للتحذير من سفر الأميركيين إلى مصر لمدة ثلاثة أشهر، فقد صدر أيضاً في ظل تنامي المعارضة العنيفة واحتدام الأزمة السياسية. ويعني تحديد هذه الفترة أن التقديرات الأميركية ترى أن الوضع الأمني في مصر مرشح للتدهور خلال الفترة المقبلة، رغم عدم وجود تهديد واضح للأميركيين، وقد يعكس هذا القرار ضعف ثقة الولايات المتحدة بقدرات السلطة المصرية، وهو ما ستكون له نتائج سلبية على الاستقرار السياسي.

وهنا صار محور الأزمة السياسية في مصر ينحدر في شكل سريع نحو وقف المسار السياسي الانتقالي الحالي والاستعاضة عنه بمسار يعيد ترتيب الأوضاع، فالمطالب والمبادرات التي طرحتها الأطراف السياسية منذ نهاية الأسبوع الماضي تتضمن المطالبة بإزالة المؤسسات التي تكونت على مدى الفترة الانتقالية الماضية، وتضمنت الدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة وتغيير النائب العام وإلغاء الدستور أو إجراء تعديلات جوهرية على مواده الأساسية، وذلك على أن تجري المناقشات والحوار حولها في ظل وجود المؤسسة العسكرية.

وإزاء ملامح تغير السياسة الأميركية، فإن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة يتعلق بمدى قدرتها على قبول اندماج أو مشاركة الإسلاميين بتنوعاتهم في العملية السياسية، ولعل أهمية هذا التحدي تكمن في أنه في ظل الصراع الحاد بين الإسلاميين والليبراليين والاشتراكيين في مصر وغيرها من الدول الأخرى، قد يدفع الولايات المتحدة للتفكير في إعادة تقييم استراتيجية الدعم السياسي وما إذا كان هناك احتمال لتوزيعها ما بين الإسلاميين وغيرهم، بمعنى أن قبول الولايات المتحدة باستمرار الإسلاميين في السلطة سيظل من محددات سياسة الإسناد الأميركي للنظم الجديدة في الشرق الأوسط.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top