مقدمة
أعلن ديفيد بن جوريون إقامة الدولة العبرية في أيار–مايو عام 1948، إذ استطاعت عدة منظمات يهودية مسلحة هزيمة مجموعة من الدول العربية، لتظهر وقتها "إسرائيل" كقوة إقليمية لا يستهان بها، ولتبدأ بعدها بترتيب شؤونها الداخلية كدولة، بما في ذلك منظومتها الأمنية وتأسيسها بشكل يسمح لها بالوقوف أمام التحديات الأمنية المحيطة. وقد استطاع بن جوريون الذي أصبح أول رئيس حكومة في "إسرائيل"، أن يؤسس منظومة أمنية تعتمد على ثلاثة أركان أساسية: وزارة الجيش، والجيش، والمؤسسة الاستخباراتية ( الموساد والشاباك)، لتكون تلك المنظومة المتكاملة مجموعة من المؤسسات الأمنية التي تهدف إلى الحفاظ على أمن "إسرائيل" والدفاع عنها.
لم تكن مسألة التحول من المجموعات المقاتلة إلى الجيش المنظم بالأمر الهين، فقد اصطدمت الحكومة الإسرائيلية الأولى بمعارضة بعض هذه الجماعات، إلا أن قوة الحزم التي تميز بها بن جوريون ساهمت في إرساء قواعد منظومة أمنية، استطاعت خلال عقدين ونصف من تأسيسها أن تحقق إنجازات تاريخية، تمثلت في امتلاكها قوة ردع كبيرة وقدرتها على الانتصار، وبمجهود ليس بالكبير خلال حرب حزيران عام 1967، إذ أصبح الجندي الإسرائيلي يمثل رمزاً يكاد يكون مقدسا لدى الجمهور الإسرائيلي، وأصبحت المنظومة الاستخباراتية تشكل علامة افتخار؛ مما سمح للمنظومة الأمنية ككل أن تكون فوق النقد، بل تعدى الأمر ذلك لتكون تلك المنظومة الرافد الأول للساحة السياسية الإسرائيلية.
إلا أن هذه المنظومة الأمنية فقدت جزءاً كبيراً من هالتها بعد حرب تشرين أول/أكتوبر عام1973، إذ لم تنتصر "إسرائيل" في تلك الحرب، وإنما مثلت لها شكلا من أشكال الهزيمة؛ الأمر الذي فتح باب الانتقاد بشكل واسع تجاه المنظومة السياسية، وبالتالي ساهم في الإطاحة بحزب العمل الذي ترأس حكومات "إسرائيل" منذ تأسيس الدولة قبل أكثر من ربع قرن. ولم تسلم كذلك المنظومة الأمنية من النقد، فقد فُتحت ملفات كثيرة، أبرزها: تفعيل الرقابة على الجيش، وتغيير نظريات الردع من أجل إعادة هيبته، ودمج وحدات عسكرية بأخرى، وتفعيل أكبر للقوة الاستخباراتية التي ظهرت كالطرف الأضعف جراء تلك الحرب.
مرت "إسرائيل" بعدها بنوع آخر من التحديات الأمنية، تمثل في مواجهة الانتفاضات الفلسطينية التي أظهرت الجيش الإسرائيلي عاجزاً نوعا ما عن تقديم حلول سحرية لمثل هذا النوع من المواجهات، خاصة أن جيشها النظامي اعتاد على المواجهة العسكرية المنظمة التي تعتمد تفعيل أكبر قوة جوية ممكنة، لتنتقل "إسرائيل" بعدها، وفي العقد الأخير، لمواجهة تنظيمات مسلحة؛ حزب الله في الجنوب اللبناني، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة. الأمر الذي استدعى إجراء تغييرات جوهرية في المنظومة الأمنية، بدءاً ببنيتها التحتية وما طرأ عليها من تغيير، كاستحداث وحدات جديدة، ودمج أخرى، وانتقالاً إلى تغييرات جديدة في الميزانيات والنظريات الأمنية، وخاصة في ظل تراجع ثقة الجمهور الإسرائيلي في المنظومة ككل.
تنوعت وتعددت أسباب التغيرات التي طرأت على المنظومة الأمنية، وتحديداً الجيش الذي يعتبر العمود الفقري لها، إلا أن طبيعة التحديات الأمنية، وتغير طبيعة الخصوم، وفقدان المنظومة الأمنية هيبتها بسبب عدم تحقيقها نصرا واضحا خلال العقد الأخير، وتوسع انتشار الجريمة في المجتمع الإسرائيلي، تعتبر أبرز تلك التغيرات التي ساهمت في إحداث تغيير ملحوظ على بنية الأمن الداخلي الإسرائيلي.
يتناول هذا البحث المنظومة الأمنية الإسرائيلية من حيث تشكيلها ومراحل تطورها ومكوناتها المختلفة ونظرياتها واستراتيجياتها والتغيرات التي طرأت عليها. ويركز البحث على المتغيرات التي طرأت على المنظومة العسكرية والأمنية الإسرائيلية خلال العقد الأخير، ويسعى لتحليل طبيعة هذه المتغيرات وأسبابها والنظريات الجديدة التي اعتمدتها نظرا للتحديات الأمنية الجديدة.