اعتمد "اليشوف" العبري[1]، ومنذ تبلوره، على الزراعة أساسًا اقتصاديًّا لليهود في فلسطين. ولهذا أنشأَت قيادة الحركة الصهيونية العديد من المعاهد الزراعية، وكانت الزراعة إحدى الذرائع التي استخدمها اليهود، من شتى أرجاء العالم الغربي، للهجرة إلى فلسطين بحجة الانضمام إلى تلك المعاهد. ومع إعلان قيام الدولة العبرية، بدأت "إسرائيل" تخطو باتجاه تطوير صناعتها بشكل فعّال، لمواكبة التطور وبناء عصب اقتصادي قوي، يقوم على الصناعة، رغم عدم امتلاكها للموارد الطبيعية.
لكنَّ "إسرائيل" عانت في البداية من نقص كبير في العملة الأجنبية، مما صعّب مهام تصدير منتجاتها الصناعية، وقلل من إمكانية القفزة الاقتصادية التي راودت مخيلة ديفيد بن جوريون، أول رئيس حكومة في "إسرائيل". لذلك انتهج بن جوريون سياسة جديدة تقضي بالعمل على مصالحة تاريخية مع ألمانيا، بهدف تحقيق مردود مالي يكون رافدًا أساسيًّا لتقوية اقتصاد "إسرائيل"، وتحديدًا في مجال الصناعة. وبالفعل، وبفضل ما وفرته المساعدات الألمانية من سيولة مالية، بدأت "إسرائيل" بإنشاء العديد من المصانع، منها مصانع للشاحنات والمركبات، ومصانع لقطع الغيار، وغيرها. إلا أن خط الصناعة الإسرائيلي هذا لم يلاق نجاحًا لافتًا.
انتقلت "إسرائيل" بعدها الى صناعة "الهايتك" (التكنولوجيا المتطورة)، والبيوتك، والماس، وصناعة الأدوية، والصناعات العسكرية، والصناعات التقليدية والمختلطة، وقد سجلت "إسرائيل" قفزات صناعية لافتة، جعلتها في مصاف الدول الصناعية، وساهمت بشكل كبير في دعم اقتصادها، ورفْع قيمة الصادرات بشكل عام إلى نحو 98 مليار دولار، أكثر من نصفها صادرات صناعية، وذلك في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ومع العقد الأول من هذا القرن، محققة عوائد مالية كبيرة، وانتشارًا عالميًّا لافتًا. إلا أنها، مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدأت تعاني من تراجع، وإنْ كان بطيئًا، في ناتجها الاقتصادي وصادراتها الصناعية، ووصل الأمر إلى أرقام تثير القلق مع الأزمة الاقتصادية ما بين 2008-2009.
ورغم الانتعاش البسيط الذي عاشته الصناعة الإسرائيلية عام 2014، إلا أن القلق حيال واقع الصناعة الإسرائيلية بات مؤرقًا للعديد من النخب في "إسرائيل"، في ظل العديد من المتغيرات، وعلى رأسها تباطؤ النمو الصناعي منذ عام 2008، وتراجع أعداد المصانع الجديدة سنويًّا، لدرجة أن قطاعات الصناعة الإسرائيلية بكافة فروعها، باستثناء بعض قطاعات "الهايتك"، بدأت تتجه نحو التراجع المقلق (بروش، 2016).
ساهمت أسباب كثيرة في تراجع قطاع الصناعة الإسرائيلي مع بعض التغيرات التي طرأت عليه، لأسباب منها داخلية وأخرى تتعلق بالأوضاع الاقتصادية العالمية، وتركز هذه الدراسة على مناقشة التغيرات التي طرأت على قطاع الصناعة الإسرائيلية في العقد الأخير.