قد يشعر المسلم وهو يعيش معاناة العمل السياسي وإكراهاته ، ويستفرغ الوسع في تدبير الشأن العام ومفارقاته ، بتفاقم حالات الضجر والملل ،... بل والإحباط أحيانا !ويزداد الأمر سوءا في بيئتنا التي تأثرت بما أصاب الأمة من تخلف، وعلل اجتماعية معقدة ..
هناك من يظن أن العمل السياسي وتقوى الله تعالى، لا يلتقيان !!
وبعض المغرضين ينكرون – بخبث- على الدعاة والمصلحين ،مايسمونه خلطاً بين الدين والسياسة ،مشفقين- بزعمهم- على الدين وأهله، من لوثة السياسة وغشها وخداعها !!!
ولكن المطالع لتعاليم ديننا العظيم ، والمتدبر لنصوصه ومقاصده ، سيجد أن رجل السياسة ،الذي يخافُ ربَه ،ويعدل بين شعبه بعيدا عن هوى النفس ، والذي يبادر بالرأي بعد تصحيحه ، ويبذل النصح بعد تمحيصه ؛هو أقرب لله تعالى من الناسك في محرابه ، والمعتكف على كتابه ، إن خلصت نيته واستقام عمله !
فالسياسة هي القيام على أمر الشيء بما يصلحه ، وقد كانت هي " مهمة " رهط من الأنبياء والرسل الكرام .
روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسُوسهم الأنبياءُ ، كلما هَلَك نبيٌ خَلفه نبي،....".
أما إذا نظرنا لأثره ونفعه ، فإن السياسي قد يتنكر له القريب قبل البعيد ، ويضيق صدره بما يتناقل المرجفون ، وتنسج حول هامته الظنون ، ويُحرم من سكينة الليل وأسماره ، ومتعة النهار و أنوراه ، .... ولكن ساعة من جهده وجهاده ، وصبره وثباته ، تعدل أياما من الذكر والصيام والقيام !
ها هو ترجمان القرآن ، وحبر الأمة ، يعلنها دون تأويل : " لأن أمضي في حاجة أخي خير لي من أعتكف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ..! فإن كان ذلك في حاجة " فرد " فكيف بما يسعى في حاجات "أمة" من الناس ، ويجاهد لتدبير مصالح الدولة والمجتمع .
ولكن أود التأكيد على إن لله تعالى سنن ثابتة وقوانين في ملكوته ، تنظم سير الأفراد والمجتمعات ، كما تنظم مثاقيل الذر، وسير المجرات . هذه القوانين الصارمة قد لا تظهر مآلاتها ، ولا بواكير آثارها على المدى المنظور ، ولكنها هي هي ، التي تجعل فرداً يسمو ويرقى ، وآخر ينحط ويشقى ... ومجتمعاً يطمئن ويزدهر، وآخر يموج و يضطرب ، ...وحضارةً تزدهر وأخرى تندثر ، ...وجيشاً ينتصر ،وأخرَ ينهزم .
إن من أقبح أنواع الجهل ؛ جهل الإنسان بأسرار هذه القوانين ، وقسوةِ أحكامها ،وصرامةِ آثارها .
وفي المقابل فإن من تدبَّر هذه السُنن وفَهِمَها ، يجدُ من طمأنينة القلب،والثبات على الدرب، ما لا يجده غيره من الناس ، كما أن "معرفة " هذه السنن لاتقل أثراً عن غيرها من النوافل والآداب ،... فهي تصحح الإيمان وتقويه ،وتجعله إيماناً حياً متوثباً يقظاً لأنها في مجموعها تدل على صفات الله العُلى ،وأسمائه الحسنى . كما أن النزول على حكمها ؛ يسكب على الفؤاد أنواراً ألهية ، وفيوضات روحانية ،تبعث على الطمأنينة والسكينة والإخبات ، وتغرس في القلب معاني الرجاء،والصبر والثبات .
1- من سنن الله تعالى أن العبرة بالعاقبة لا بالعاجلة ،...
قال تعالى " تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " ..جاءت هذه الآيات تعقيباً على رذيلتين : العلو والفساد . أو بتعبير آخر على مسلكين ؛ مسلك الفرعونية المتألهه ، والقارونية الكانزة .أو الاستبداد السياسي والطغيان الاقتصادي .وتتلخص هذه السنة أو هذا القانون ، فى أن هناك فرق كبير ،وبون شاسع بين العاقبة والعاجلة ...، فالعبرة بخواتيم الأمور ، وقد يفلح بعض الناس في جمع المال العام وكنزه ، واستثماره ،وقد يفلح بعضهم الآخر في الهيمنة على مقاليد الحكم ، والتفرد به ، واستعباد الشعب ، ورهن مقدرات الوطن لعدو متربص ، ولكن هذين الفريقين ، وإن تمتعوا بما يأملون ، وأدركوا ما يبيتون ، فإن "العاقبة" -بحسب هذا القانون- لن تكون لهم ، ...
بل سيذيقهم الله خزياً في الحياة الدنيا ، وقلقاً يصاحبهم ،ويسومهم كما سام فرعونهم ذلاً وصغاراً ،بعد أن عاش في الدنيا تيهاً واستكبارا ، ويخسف بهم وبدارهم الأرض ، كما فعل بقارون ،... وسينسيهم يومٌ واحد من عذاب العاقبة ، كلَ سنوات التيه والمجون والإستكبار .
***
2- من سنن الله تعالى أن الإمامة لاتكون إلا ثمرة المعاناة ، وأن التمكين لا يكون إلا بعد ابتلاء
قال تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ، قال إني جاعلك للناس إماما ، قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين "
إن قيادة الناس و"إمامتهم " ليست مغانم تطلب ، إنما هي مقامات تُوهب ، ...ولابد لها من حيازة مواهب ومؤهلات ،ومن دونها بذل وتضحيات ..ولا ينالها العبد الصالح إلا بعد " كلمات " يبتلى بهن كما ابتلى أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
كما الإمامة أمانة الله تعالى ، التي لا ينالها " الظالمون " ،فمن خرج من المحنة ثابتا قويا ، كان أهلا للصدارة والإمارة والإمامة وقيادة المجتمعات البشرية .
***
3- من سنن الله تعالى أن الدعاء له أثر ،وأجل ، وللأجل انقضاء .
"وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ** قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ "
فالقانون يقول إن نتيجة الصبر لا تخرج في أيام معدودة ، بل تحتاج إلى سنين طويلة حتى تتحقق الآمال وتنجز الوعود ، لابد من معاناة تطول ، وزمن يتراخى ...، هذا الزمن هو جزء لا يتجزأ من العناية والرعاية وأسباب الكمال ، فهو كالغلاف الذي يحيط بالبيضة، يحسبها الكائن الحي بداخلها سجنا، ولكن في ذاك القيد والسجن سر الحياة ، ولو استعجل كل طائر كسر ذاك القيد قبل أوانه للفظ روحه بعد خطوات من جدار سجنه المهشم .
أوصي كل من ابتُليَ بتحمّل هذه المسؤولية أن يتدبرَ هذه السنن ، وأن يتعهد قلبه حتى لا تنحرف به النوايا ، أو تطيش به الأهواء ، وليكن له ورد من ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه كلما سنح الوقت ، وليبذل ويقبل النصح الصادق ، ويوصي نفسه وإخوانه بما أوصانا به الله تعالى ؛ الحق والصبر .