تقديم
شكًل اغتيال الولايات المتحدة لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، حيزًا لتفاعلاتٍ واسعة في المنطقة، حيث بدت عملية الاغتيال كنقطة تحول، أو عتبة فارقة، فيما يتعلق بالعديد من مسارات الصراع، والأطراف المنخرطة فيه، بما فيها الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وذلك بشكل ربما فاق التأثيرات المباشرة للأزمة على طرفيها المباشرين، الولايات المتحدة وإيران.
ومما يسهم في دعم قراءة التفاعلات الناجمة عن هذه العملية بهذا الاتجاه، إرهاصات عملية الاغتيال، والتداخل المباشر لدولة الاحتلال في هذه الأزمة، وتداخل مختلف المسارات والملفات في هذه المنطقة. فإعلان الجيش الأمريكي مسؤوليته عن تنفيذ الاغتيال في بيان رسمي[1]، وما قابله من مواقف صدرت عن الجهات المسؤولة في إيران، والقوى المتحالفة معها [2]، تؤكد التفاعلات المحتملة في المنطقة.
وهذا أيضا ما عبرت عنه تصريحات المسؤولين الأمريكيين إثر عملية الاغتيال. ولعل أبرزها تصريحات وزير الدفاع الأمريكي مايك إسبر، بحديثه عن قواعد جديدة للصراع، وقوله إن “قواعد اللعبة تغيرت. نحن على أتم الاستعداد لفعل ما هو ضروري للدفاع عن عناصرنا، ومصالحنا، وشركائنا في المنطقة”.
الموقف الإيراني أيضا، أعطى الحدث بُعدًا استراتيجيًا، وذلك بتبني المسؤولين الإيرانيين في تصريحاتهم، لهدف إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، كعنوان للمرحلة الجديدة[3]، إلى جانب تأكيدهم، وعلى لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، على ضرورة حدوث رد إيراني مباشر، وبأيدٍ إيرانية، الأمر الذي يعني بوضوح، تجاوز ضوابط الاشتباك غير المباشر بين الولايات المتحدة وإيران.
محدودية الرد الإيراني المباشر[4]، الذي اقتصر على تنفيذ هجمات بالصواريخ البالستية متوسطة المدى، على المقرات الأمريكية في قاعدة عين الأسد العسكرية في العراق، وامتناع الولايات المتحدة عن التصعيد، سمح للطرفين بتفادي الدخول في مواجهة عسكرية واسعة النطاق حاليا، ويبقى الباب مفتوحا لزيادة التصعيد وزيادة التأزم بين إيران والولايات المتحدة، وانعكاس ذلك على المشهد الفلسطيني.
عوامل تأثير الأزمة في الوضع الفلسطيني
يعتبر سليماني، كقائد لقوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، عنوانًا مركزيًا لسياسة إيران تجاه الملف الفلسطيني. وكان للرجل دور أساس في خلق نقلة نوعية في تطوير العلاقة مع قوى المقاومة، التي تنسب له أدوارًا هامة في دعمها، وتطوير قدراتها.[5]
هذه الأدوار وضعته في موضع اتهام من قبل “إسرائيل”، وجهات غربية عدة، أبرزها الولايات المتحدة، التي اعتبرته مصدر تهديدٍ لمصالحها، ومصالح حلفائها في المنطقة. وقد كان أبرزها الاتهام الإسرائيلي له بالمسؤولية المباشرة عن تدريب خلية خططت لهجوم على “إسرائيل” بالطائرات المسيرة، وتوجيهها وقيادتها انطلاقا من سوريا في آب/ أغسطس الماضي[6]، وهو ما يعني مزيدًا من التماس بين الرجل وحدود الأمن الإسرائيلي، ومزيدًا من التواصل مع الساحة الفلسطينية، ودعم فصائل المقاومة فيها، وإمدادها العسكري، الحيوي بالنسبة لوجودها، وقدرتها على الاستمرار.
شكّل اغتيال سليماني نقلة نوعية في سياق الصراع بين القوى المعادية لإسرائيل في فلسطين والمنطقة، وبين “إسرائيل” وحلفائها. فقد تمت عملية اغتيال سليماني بذات التقنية والأسلوب المتبع من قبل “إسرائيل”، على مدار العقدين الأخيرين في فلسطين ولبنان. كما أن الاغتيال شكل ضربة مباشرة لجملة القوى المعادية لـ “إسرائيل” إقليميًا، إلا أن الأخيرة لم تكن ملزمة بدفع الثمن، وما كان عليها إلا أن تعبر عن سعادتها، والتأكيد على كون العملية أمريكية خالصة.
لا يخفى أن المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، تبلور لديها تصور أمني استراتيجي، يرتكز على وجود درجة عالية من الصلة والتداخل بين ساحات المواجهة، بما يتجاوز حدود فلسطين المحتلة ودول الطوق. يبرز هذا التوجه من خلال توسع الحيز العملياتي لنشاطها العسكري في المنطقة، بما يجعلها ترى في عملها ضد إيران، أو الحشد الشعبي العراقي، جزءًا من مساعيها لقطع خطوط الإمداد عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وحزب الله اللبناني.
وفي إطار سعيها لتسويق هذا التداخل في ميدان العمليات، وتأكيد المصالح بينها وبين الولايات المتحدة، وحلفائها العرب في المنطقة، لم تدَّخر “إسرائيل”جهدًا في الإعلان عن المواجهة مع إيران، والقوى المتحالفة معها، وذلك على غرار إعلانها عن إفشالها لعملية قادها سليماني بشكل مباشر، وإعلانها عن غاراتها على أهداف تابعة للحشد الشعبي العراقي في تشرين أول/ أكتوبر 2019، أو في منطقة البوكمال[7]. يأتي هذا الفعل الميداني إلى جانب رسائل واضحة، سعت “إسرائيل” من خلالها لتثبيت سردية جديدة، وذلك عبر تصريحات رئيس أركان جيشها، التي أعلن فيها عن توقع مواجهة قريبة مع إيران، وأكد على نية جيشه العمل ضد عمليات نقل السلاح الإيراني إلى العراق، معتبرًا ذلك تهديدًا للأمن الإسرائيلي.[8]
ولأسباب قد يطول سردها، لا يمكن اعتبار القرار الأمريكي بتنفيذ الاغتيال، انصياعًا لرغبة ومصلحة إسرائيلية، لكنه يأتي مكملًا للهجمات الإسرائيلية، حيث استهدفت “إسرائيل” الحشد الشعبي العراقي أولًا، ثم تبعتها الغارات الأمريكية على مواقع الحشد الشعبي. ولكن بخلاف الغارات الإسرائيلية التي مرت دون رد، فتحت الغارة الأمريكية الباب لرد عراقي، تمثل في محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد، وتهديد فصائل الحشد بإخراج القوات الأمريكية من العراق، حتى وصلت ذروة الأزمة إلى اغتيال سليماني.
تمارس كل من الولايات المتحدة وإيران، سياساتٍ نشطة تجاه الملف الفلسطيني، لا تقتصر على دعم الولايات المتحدة لـ “إسرائيل”، وسياساتها ضد الفلسطينيين، ولا على الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية، فكل من الطرفين ذو صلة بالاصطفافات الفلسطينية منذ انطلاق عملية التسوية في مؤتمر مدريد عام 1991، حيث إن الولايات المتحدة هي راعي عملية التسوية، فيما تمثل إيران واحدة من أشد دول الإقليم معارضة لهذا الخيار، لا سيما في الفترة اللاحقة لاتفاق أوسلو، وتوافقت، هي والعديد من حلفائها، مع القوى والفصائل الفلسطينية المعارضة لهذا الخيار.
بعد قيام الولايات المتحدة، وبشكل وثيق، بعملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهندسة عقيدتها وفقا لمتطلبات التنسيق الأمني مع الاحتلال، خاصة بعد مؤتمر أنابوليس عام 2007 [9]، جعل منها طرفًا في كل حدث فلسطيني، ومنحها بشكل مباشر، ومن خلال جنرالاتها المنتدبين، مهمة الإشراف على التنسيق الأمني بين الطرفين. وفي المقابل، كانت إيران، حسب الفصائل الفلسطينية، حاضرة في تعزيز الخيار المضاد للسياسات الأمريكية بشأن الفلسطينيين.
وهنا يمكن الإشارة أيضا، إلى اتهام إيران من قبل السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بمسؤوليتها عن عرقلة اتفاقيات التسوية، ودورها في استمرار الانقسام الفلسطيني، وهي اتهامات تزايدت منذ دعم إيران للحكومة التي شكلتها حركة حماس عام 2006، مقابل عمل الإدارة الأمريكية، والرباعية الدولية، على عزلها ومقاطعتها.[10]
إقليميًا، شكلت الثورة الإيرانية منذ قيامها، هاجسًا كبيرًا للأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة، التي لم تألُ جهدًا في تضخيم هذا الهاجس. وبدا هذا واضحًا في اعتبار تعامل أي طرف، أو مجموعة عربية، مع إيران، كاختراق للمجال العربي والنفوذ الأمريكي، أو كطابور خامس. وبالطبع، تشمل هذه النظرة، علاقة فصائل المقاومة الفلسطينية مع إيران، وكثيرا ما ضغطت هذه الدول على فصائل المقاومة، بهدف دفعها لقطع هذه العلاقة.[11]
اتسعت دائرة العداء لإيران، فما كان يقتصر غالبا على النظم العربية ونخبها، تحول ليشمل قطاعًا واسعًا من الجمهور العربي. فمنذ بدايات الربيع العربي، وتحديدًا بعد اندلاع الثورة السورية، وتدخّل إيران عسكريا في سوريا بشكل مباشر، ومن خلال حلفائها، وأبرزهم حزب الله اللبناني، تأثرت العلاقة بين حركة حماس من جهة، وإيران من جهة ثانية، وذلك بفعل الخلاف حول الأزمة السورية، وخروج حركة حماس من سوريا.
من الطبيعي أن تكون هذه التعقيدات المرتبطة بالموقف العربي من إيران، حاضرة في الأزمة الحالية، وأن تزيد التعقيدات أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، فيما يخص علاقتها مع إيران، وما يمليه التقاطع معها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
الأزمة كمدخل لاستعادة الاصطفافات
شكلت عملية الاغتيال والتفاعلات التالية لها، بيئة مناسبة لتظهير مجموعة من المواقف، والإزاحات في المواقف والتحالفات السياسية، أنضجتها عوامل وتراكمات سابقة على الأزمة. كما أفصحت عملية الاغتيال عن درجة كبيرة من التداخل بين ملفات المنطقة، ومواقف الأطراف المختلفة فيها، وفي مقدمتها الموقف من الوجود الأمريكي في المنطقة، الذي يسعى إلى أهداف عديدة، منها دعم دولة الاحتلال، والشراكة معها. لقد جاء موقف فصائل المقاومة الفلسطينية، المتضامن مع إيران ضد عملية الاغتيال، وكذلك إعلان إيران نيتها العمل على إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، كتظهير للضرورات والدوافع الذاتية، المحفزة لكل من هذه الأطراف، على العمل المشترك في مواجهة التحالف الإسرائيلي الأمريكي. ورغم أن العلاقة لم تنقطع بين إيران وفصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، حتى في ذروة الأزمة السورية، والخلاف حول الموقف منها، فقد شهدت هذه العلاقة تطورًا مضطردًا خلال الأعوام الأخيرة، باتجاه استعادة هذه العلاقة لعافيتها. في هذا السياق، جاءت عملية الاغتيال، باعتبارها عدوانًا خارجيًا استهدف شخصية إيرانية رسمية، وذات صلة وثيقة بدعم المقاومة الفلسطينية، لتدفع الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، لإظهار درجة عالية من التضامن مع إيران، فاق في تعبيراته التضامن الذي بلغ ذروته في سنواتٍ سابقة بين الطرفين[12]، وعلى نحو يوحي بإمكانية المزيد من التكامل بين إيران وحلفائها من جهة، وبين قوى المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، وما يعنيه ذلك من ضغط على المحور الإسرائيلي الأمريكي، ومخططاته في المنطقة.
وإذا كانت الدول التي تربطها علاقات إيجابية مع حركة حماس، قد أظهرت مواقف تضامنية مع إيران، وهي تواجه أزماتٍ أخرى مع المحور الإماراتي السعودي المصري، المتقارب مع “إسرائيل”، فإن ذلك يُظهر اتجاه المواقف الإقليمية، لإعادة الاصطفاف على شكل محاور تتجانس مواقف أطرافها بشأن معظم قضايا المنطقة، بما فيها الموقف من القوى الفلسطينية، والقضية الفلسطينية، ومحاولات تصفيتها من خلال ما يسمى بـ “صفقة القرن”.
تداعيات الأزمة على الوضع الفلسطيني
1- انخراط “إسرائيل” في الحدث
إثر عملية الاغتيال، شدد نتانياهو على المسؤولين الإسرائيليين، بعدم الإدلاء بأي تصريح يتعلق باغتيال سليماني. أما على الأرض، فقد وضعت “إسرائيل” قواتها في الجولان السوري المحتل، في حالة التأهب، خوفًا من أن تطالها ردود فعل، خاصة في ضوء ما أشار إليه الحرس الثوري الإيراني، من إمكانية استهداف “إسرائيل”، في حال قيام الولايات المتحدة بأي عمل عسكري، بعد القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد. من الواضح أن الإجراء الإسرائيلي، يدل على إدراك “إسرائيل” لمدى تداخلها مع الحدث، لا كحليف للولايات المتحدة فحسب، ولكن أيضا كجزء من المصالح الأمريكية المرشحة للاستهداف في ضوء التصعيد الأخير، وإمكانية عمل إيران ضد المصالح الأمريكية. هذا الإدراك الذي يعني إمكانية الانخراط في معركة شاملة ومتعددة الساحات، أظهره قيام “إسرائيل” بعدوان جديد، من خلال غارة نفذتها على منطقة البوكمال، على الحدود السورية العراقية، بعد عملية الاغتيال.
2- تصعيد عربي ضد فصائل المقاومة الفلسطينية
رأت العديد من الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، أن اغتيال سليماني يأتي في سياق صراعها مع إيران، وأنه يفعّل دورًا كانت الولايات المتحدة تطالب بالقيام به في مواجهة إيران. وفي المقابل، اعتبرت هذه الدول، موقف فصائل المقاومة الفلسطينية، انحيازًا لإيران، وقابلته بحملات تحريض شنتها وسائل إعلام وجهات مقربة منها[13]. فيما تحدثت مصادر إعلامية عن توجه مصري بضغوط سعودية، لإغلاق معبر رفح، ووقف أي تسهيلات كانت مصر قد قدمتها لحركة حماس وقطاع غزة مؤخرا، في إطار تفاهمات التهدئة مع “إسرائيل”[14]. يأتي ذلك في ظل توجه السياسة السعودية، نحو التضييق على حركة حماس ومقاطعتها، بما في ذلك من اعتقالات واسعة لفلسطينيين مقيمين على أراضيها، بتهمة العلاقة مع الحركة.
3- جدل واسع حول العلاقة مع إيران
أثار الموقف التضامني مع إيران، الذي اتخذته فصائل المقاومة الفلسطينية، ردود فعل متباينة، لدى الجمهور والنخب العربية المتعاطفة مع الربيع العربي. فبينما بدت نبرة احتجاجية حادة في خطاب المحسوبين على المعارضة السورية، والمؤيدين لها، وتجاوزت بعض أقلامها حدود الغضب من موقف الفصائل الفلسطينية، إلى نوع من الترويج المعلَن والمبطن، لمواقف تدعو للتطبيع مع “إسرائيل”، نكاية في موقف الفصائل، أو في إطار رؤية تعتبر ذلك مصلحة لقوى الثورة، والمعارضة السورية، وجمهورها، فإنه يُلحظ أن مركز النقاش كان في موضع آخر، حيث يمكن تسجيل جملة من التطورات الهامة في هذا الجانب، أبرزها تراجع مساحة المواقف المعارِضة لتقارب الفصائل الفلسطينية مع إيران، باستثناء مواقف الأوساط السورية. لقد أظهرت قطاعات واسعة من الجمهور العربي، تفهمًا لضرورات هذه العلاقة بالنسبة للفصائل الفلسطينية[15]، في ظل تراجع دور الخطاب الطائفي في هذا الجدل. أما داخليًا، فقد أظهرت قواعد حركة حماس، تفهمًا أكبر لموقف حركتهم، وانخراط العديد منهم في الدفاع عنه، وإدانة الهجوم على الحركة. لقد بدا هذا السلوك الجمعي على نقيض الجدل الحاد، والاستقطابات التي كانت تثيرها مثل هذه المواقف في أوساط الجمهور الفلسطيني، وجمهور حركة حماس، خاصة خلال الأعوام الماضية، حيث دار جزء أساسي من الجدل، حول حدود العلاقة مع إيران، وضوابطها، وليس حول وجود هذه العلاقة بحد ذاته، وذلك باستثناء المواقف التي تتبنى مواقف الأنظمة العربية، أو مواقف ذات بعد طائفي، صادرة عن جهات ذات توجهات عقائدية محددة، اعتادت بناء مواقفها وخطابها في إطار هذه التوجهات.
الفرص والتحديات المرتبطة بالأزمة
1- تزايد التهديدات على دولة الاحتلال
يبدو أن تبلور موقف واضح لدى إيران وحلفائها الإقليميين، بشأن إخراج الأمريكيين من المنطقة، وإمكانيات انخراط حلفائها في مواجهات متعددة الساحات مع القوات الأمريكية، والدول الحليفة لها[16]، يرفع أكثر من أي وقت مضى، إمكانية توسع رقعة المواجهة المستقبلية مع الأمريكيين، لتصل إلى حدود فلسطين المحتلة، وتطال دولة الاحتلال، خاصة في ظل تزايد التدخل الإسرائيلي في الساحات الإقليمية، سواء عبر القصف المباشر، كما هو الحال في العراق وسوريا، أو عبر دعم الخصوم وإسنادهم، كما هو الحال في ملفات إقليمية أخرى.
وإلى جانب إمكانية دخول قوى إقليمية جديدة في الصراع المباشر مع “إسرائيل”، فإن إضعاف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، أو اهتزاز مظاهر الهيمنة الأمريكية عليها، من شأنه إلحاق ضرر كبير بالغطاء الذي تمنحه الولايات المتحدة لـ “إسرائيل”، عسكريا وسياسيا، وزيادة قدرة الفلسطينيين على مواجهتها. كما أن التقارب بين قوى المقاومة في المنطقة وإيران، يشير إلى إمكانية تشكل جبهة موحدة، تحظى بتأييد جماهيري من عدة تيارات وشرائح، تستطيع تعطيل محاولات فرض صفقة القرن التصفوية على الفلسطينيين.
لكن في المقابل، قد تتجه الأمور نحو سياقات سلبية، مثل احتمال تعرض الفصائل الفلسطينية للاستهداف من عدة أطراف، أو انشغال إيران عن الملف الفلسطيني، أو انشغال دول الإقليم والمجتمع الدولي بملفات أخرى، مما يمنح “إسرائيل” الفرصة لمزيد من التغول على الفلسطينيين.
2- تزايد احتمالات التقارب العربي مع دولة الاحتلال
تسعى العديد من الأنظمة العربية، إلى التقارب مع دولة الاحتلال. وإزاء تزايد احتمالات المواجهة مع إيران، فإن هذه الدول، ترى في “إسرائيل” حليفًا محتملًا يمكن التقاطع معه في مواجهة إيران، لا سيما أن ذلك يلبي رغبة أمريكية، ويتقاطع مع مساعيها لفرض تسوية بين الدول العربية و”إسرائيل”، تتجاوز الحقوق الفلسطينية، وتصفي القضية الفلسطينية، وتنهي المواقف المعادية لـ “إسرائيل”، والسياسات الأمريكية في المنطقة. وإذا كان العنوان السياسي الشائع لهذه التوجهات هو “صفقة القرن”، فإن الرؤية الأمريكية ترتكز في جوهرها، على تأسيس “ناتو” شرق أوسطي يضم “إسرائيل” والدول العربية[17]، حيث يبدو أن احتمالات المواجهة مع إيران، ورغبة هذه الدول في الحصول على الحماية الأمريكية، أو على الدعم السياسي الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، يلعب دورًا في مضي عدة دول عربية، بهذا الاتجاه.
3- انسجام الرؤية الأمنية بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”
أفصحت مجريات المواجهة الحالية، وما سبقها، عن أن انزياح الموقف الأمريكي المتطابق مع الرؤية الإسرائيلية من الناحية السياسية، بات يصاحبه انزياح مماثل في الرؤية الأمنية الأمريكية للمنطقة، بما في ذلك التناغم مع التقدير الإسرائيلي لمصادر التهديد، وآليات العمل ضدها. وقد عبّر اغتيال سليماني، كما الغارات الأمريكية على الحشد الشعبي العراقي، عن انتقال هذا التناغم في الرؤى والتقديرات، إلى حيز الإجراءات التنفيذية والعملياتية، بكل ما يعنيه ذلك من انفتاح للاحتمالات على انخراط أمريكي مباشر، في استهداف فصائل المقاومة الفلسطينية بأشكال متعددة، قد تشمل حتى الاستهداف العسكري أو الأمني، بما يتجاوز أي حدود سابقة لإجراءات أمريكية من هذا النوع.
من جانب آخر، فإن محدودية الرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني، وعلى الغارات الإسرائيلية المتكررة في سوريا والعراق، يفتح “شهية” الولايات المتحدة و”إسرائيل”، لمزيد من عمليات التصفية المحتملة، وعلى امتداد رقعة المنطقة، بما يطال شخصيات فلسطينية كانت تعتبر محصنة رمزيًا أو سياسيًا، أو محصنة بسبب إقامتها في بعض البلدان، وذلك في ضوء تعبير الولايات المتحدة، ومن قبلها “إسرائيل”، عن نيتها استئناف عمليات اغتيال، مماثلة لعملية اغتيال سليماني.
4- إشكالية التحولات الإيرانية الداخلية
لا شك أن تطوير فصائل المقاومة الفلسطينية لعلاقتها مع إيران، يوفر لها فرصًا للحصول على مزيد من الدعم والمساندة، من حليف قوي وحاضر في العديد من ساحات المنطقة. لكن ذلك يبقى مرهونًا بما تستطيع إيران تقديمه في هذه المرحلة، في ضوء الحصار الخانق الذي تعاني منه، والتغيرات في بناها الداخلية، وطبيعة الأولويات التي تتبناها القوى الصاعدة داخلها. فقد أظهرت المواجهة الأخيرة، استقطاباتٍ إيرانية داخلية حول الأولويات، وحدود المواجهة الممكنة مع الولايات المتحدة، وآليات هذه المواجهة، وهو أمر فاقمته مأساة إسقاط الطائرة الأوكرانية، وما خلقه ذلك من سخط شعبي داخلي، وحرج دولي لإيران.[18]
5- الانقسام الفلسطيني بين التجاذبات والتحالفات
أظهرت سنوات الانقسام الفلسطيني، تأثير الأحداث الإقليمية على العلاقة بين أطراف المشهد الفلسطيني. ففي ضوء التصعيد المحتمل للتجاذبات الإقليمية، حول الموقف من السياسات الأمريكية في المنطقة، فإن الحالة الفلسطينية تبدو مرشحة لمزيد من التجاذب، واستعادة الجدل حول الموقف من محاور الإقليم، وما يلحق ذلك من تبعات واستحقاقات.
وفي ضوء احتمال عودة أطراف إقليمية ودولية، أبرزها الولايات المتحدة، للاستثمار في العلاقة مع السلطة الفلسطينية في مواجهة حركة حماس، وعلاقتها المتقدمة مع إيران، فإن ذلك قد يعني انفتاح الساحة الفلسطينية على ترتيبات جديدة ومختلفة.
المسارات الأساسية المحتملة
1- تجاوز الأزمة وتداعياتها
في ظل وجود مصلحة لمختلف الأطراف في تفادي الانزلاق نحو مواجهة شاملة، وفي ظل وجود رغبة أمريكية وإيرانية بالتفاوض، وفقا لشروط معينة يرغبها كل من الطرفين، فإن هناك فرصة حقيقية لتجاوز الأزمة، والحد من تداعياتها على المنطقة، وهو ما يعني انحسار الكثير من تأثيرات الحدث، وتداعياته على المشهد الفلسطيني الداخلي، أو على مستوى الصراع مع الاحتلال، والعلاقات الناجزة مع بعض الدول العربية، مثل مصر، التي ترتبط سياساتها تجاه الملف الفلسطيني عامة، وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة خاصة، برؤية خاصة بمصالحها، ورغبة في تعزيز دورها، من خلال إدارتها لعدد من الملفات المهمة، الخاصة بقطاع غزة.
2- انعكاسات سلبية على الوضع الفلسطيني
قد تسفر هذه الأزمة عن إلحاق مزيد من الضرر بالوضع الفلسطيني، وذلك بناء على انحيازات حادة محتملة من دول عربية مركزية ضدهم، أو بسبب حدوث اشتباك مباشر بين دول عربية وإيران، حيث إن هذا يعني أعباءً وضغوطًا إضافية، سيتحمل الفلسطينيون نصيبهم منها. يترافق مع هذا السيناريو، ازدياد التأهب الأمريكي لمزيد من العمل على تصفية الحقوق الفلسطينية، والاستعداد لضرب قدرات المقاومة الفلسطينية، من خلال إلحاق ضرر بخطوط إمداد المقاومة الفلسطينية، كما بحلفائها، ومنهم إيران. هذا إلى جانب مخاطر الانشغال الدولي والإقليمي، التي تتيح لـ “إسرائيل” مزيدًا من التغول ضد الفلسطينيين.
3- انعكاسات إيجابية
في الغالب، تخلق المواجهة مع القوى الغربية في المنطقة، أجواء من التوحد والتضامن بين شعوبها. وإذا ما تم تجاوز صعوبات المرحلة السابقة، المرتبطة بالاستقطاب الطائفي والصراعات الداخلية، فقد يشكل إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، هدفًا تلتقي عنده العديد من القوى والتيارات الجماهيرية، خاصة إذا ما ترافق مع ذلك تشكيل ضغط حقيقي على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني تعطيلًا جزئيًا، أو كليًا، لقدرة الاحتلال على المبادرة، وزيادة قدرة الفلسطينيين على المواجهة.
خلاصة
من المؤكد أن دخول إيران وحلفائها في مفاوضات “مسلحة” مع الأمريكيين، دفاعًا عن نظامها السياسي ودورها الإقليمي، يشكل فرصة للفلسطينيين، قد تفوق ما تحمله من المخاطر التي وردت ضمن المسارات المحتملة أعلاه.
ومع ذلك، يبدو أن سيناريو التداعيات السلبية للأزمة على الوضع الفلسطيني، هو السيناريو الأقوى، وذلك لتوفر عناصره في المشهد الفلسطيني المأزوم، وفي المحيط العربي، وخاصة الانحيازات الحادة المحتملة من دول عربية مركزية لصالح التحالف الأمريكي-الإسرائيلي، أو بسبب حدوث اشتباك مباشر بين دول عربية وإيران.
هذه العناصر لا يمكن ربطها بالموقف الفلسطيني من الأزمة، بل بسياسات متجذرة حفرت مساراتها وفقا لتركيبة أنظمة الحكم القائمة، وتحالفاتها، وتطلعاتها، والتي تجعلها تمضي في خطوات متسارعة نحو تفكيك الموقف العربي من “إسرائيل”، بما يعزز فرص الأخيرة في الهيمنة على المنطقة.
وهذه السياسات ترجمها العداء لفصائل المقاومة الفلسطينية، والضغط المستمر على القيادة الرسمية للفلسطينيين، تماشيًا مع الرغبة والرؤية الأمريكية.
إن الاستفادة الفلسطينية العامة من هذا الوضع، تبقى مرهونة باقتناع الجمهور الفلسطيني أولا، والعربي ثانيا، بجدية المواجهة وجدواها، ورفع استعدادهم لتحمل مخاطرها، وبناء مواقف واستراتيجية وطنية جامعة، تتعلق بهذه المواجهة.
[1] أول بيان من الجيش الأمريكي يؤكد قتل سليماني، موقع سي إن إن، 3 كانون ثاني/يناير 2020 arabic.cnn.com/middl
[2] خمنائي يشارك شخصيا في بلورة الرد الإيراني، موقع روسيا اليوم، 3 كانون ثاني/يناير 2020 https://arabic.rt.com/
[3] إيران تستنفر حلفاءها من بغداد إلى بيروت، موقع بي بي سي، 15 كانون ثاني/يناير 2020 https://www.bbc.com/
[4]خمنائي: الضربة الصاروخية صفعة لأمريكا لكنها غير كافية، موقع الجزيرة نت، 8 كانون ثاني/ يناير 2020 www.aljazeera.net/
[5] فصائل فلسطينية تنعى سليماني والمهندس، موقع عربي 21، 3 كانون ثاني/ يناير 2020 https://arabi21.com/
[6] الأركان الإسرائيلية: قاسم سليماني أشرف شخصيا على خطة أفشلناها في سوريا، موقع روسيا اليوم، 25 آب/ أغسطس 2019، www.arabic.rt.comا
[7]إسرائيل وراء الغارات الجوية على البوكمال السورية، موقع روسيا اليوم، 10 كانون ثاني/ يناير 2020 https://arabic.rt.com/world/
[8]رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: إيران تنقل أسلحة للعراق ولن نسمح بذلك، موقع قناة الحرة، 25 كانون أول/ ديسمبر 2019 https://www.alhurra..com
[9] الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية: أمن مَن؟ شبكة السياسات الفلسطينية، 16 أيار/ مايو 2017 al-shabaka.org
[10] فتح تتهم إيران بتدبير «انقلاب غزة»… وطهران وحماس تنفيان، موقع صحيفة الأخبار اللبنانية، 25 حزيران/ يونيو 2007 al-akhbar.com
[11] حماس تشكر إيران علنا والسعودية تشن حربا ضد الحركة، المونيتور، 26 حزيران/ يونيو 2019 www.al-monitor.com
[12]هنية زار منزل سليماني: شهيد القدس، موقع قناة الميادين، 6 كانون ثاني/ يناير 2020: shorturl.at/hEP56
[13]على خطى الخراب .. حماس تعزي إيران في سليماني، موقع صحيفة عكاظ، 3 كانون ثاني/ يناير2020، www.okaz.com.
[14]طبيعة علاقات حماس مع مصر بعد مقتل سليماني، موقع نورث برس عربي، 11 كانون ثاني/ يناير 2020 npasyria.com
[15]اغتيال سليماني يزيد من تقارب حماس وإيران، موقع وكالة الأناضول، 9 كانون ثاني/ يناير 2020، www.aa.com.tr
[16]هددت بتوسيع دائرة الانتقام لحيفا ودبي.. إيران تعلن مقتل 80 جنديا أمريكيا بالعراق وترصد 100 هدف بالمنطقة، موقع الجزيرة نت، 8 كانون ثاني/ يناير 2020 ،www.aljazeera.net
[17]واشنطن تستعيد “ناتو” الشرق الأوسط وتقرير إسرائيلي يفصل، موقع عربي 21، 29 نيسان/ إبريل 2017 arabi21.com
[18] بعد اعتراف إيران.. مساعٍ لبدء تحقيق دولي في حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية، موقع الجزيرة نت، 11 كانون ثاني/ يناير 2020 www..aljazeera.net