يشهد الوطن العربي وخاصة منطقة الخليج العربي تغييرات سياسية واجتماعية داخلية وخارجية ما كان بوسع أكثر الخبراء معرفة بخلفيات المجتمع الخليجي توقع حصولها، وكان لوصول الرئيس ترمب إلى رئاسة الولايات المتحدة الدور الأكثر أهمية في حصول معظمها وليس استجابة لرغبة الشارع الخليجي، لأن الرئيس ترمب وبكل ما رفعه من شعارات نارية موزعة على مسطح الكرة الأرضية، تحول إلى إرهابي تحت ظل القانون، لا سيما ما يتعلق بالحرب على الإرهاب الذي ربطت الدوائر الغربية بينه وبين الإسلام السلفي بإحكام، فراح وطننا العربي يشهد جريا في مارثون ترضية الدوائر الغربية، ولكن بعض النظام الرسمي العربي هو الذي يتولاه، وكان كثير من واجهاته يتسابقون لإثبات براءتهم من أية صلة مع تنظيم الدولة الإسلامية ومن قبلها شبكة القاعدة كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب، وانطلاقا من مثل عربي قديم يقول “يكاد المريب يقول خذوني”، وأوقع هذا الجزء من النظام نفسه في شك أكبر مما لو احتفظ برباطة جأشه وتصرف كما تتصرف الدول الواثقة من نفسها وبثقتها بصلتها بشعبها وقاعدتها الجماهيرية، وبذلك فقد أوقف نفسه من تلقاء نفسه في قفص اتهام دولي بتهمة دعم الإرهاب.
لقد أجاد الرئيس دونالد ترمب اللعب بأعصاب كثير من الحكام العرب وجعلهم يعيشون حالة إنذار قصوى وقلق عميق، بعد أن أشعر كل واحد منهم بأنه مذنب حتى يثبت أنه بريء من تهم استطاعت مراكز الدراسات النفسية ومراكز الدراسات السياسية ودوائر المخابرات، وضعها في ملفات في غاية الاتقان وإشهارها بوجوه نظم تشعر أنها على فوهة بركان من الغضب والرفض الشعبيين لتوجهاتها السياسية وعدم عدالتها في توزيع الثروة واستئثارها بالحكم من دون تخويل معترف به من شعوبها، في زمن ترتفع شعارات الديمقراطية في العالم في توظيف سياسي لتبرير العدوان على الدول واحتلالها وتنصيب حكام عليها يحملون للقوى الدولية ولاءً أكثر مما يرتبطون مع البلدان التي تم تنصيبهم حكاما عليها، بعد تم زرعها بقواعد عسكرية والسيطرة على ثرواتها، وجعلوا من أولئك الحكام وكلاء مخلصين لتلك القوى.
وجد ترمب على مكتبه ملفا يناسب مزاجه السياسي الصاخب ورغبته في ممارسة الدبلوماسية الخارجة عن سياقاتها التقليدية، كانت السلطة التشريعية في بلاده قد أصدرته ولا يتحمل مسؤوليته الأخلاقية ولا السياسية حتى يستطيع أن يقدم نفسه كضامن لحجب تطبيقه عن هذا الطرف أو ذاك، وهو قانون جاستا الذي يستطيع من الناحية القانونية استقدام أي شخص خليجي إلى القضاء الأمريكي بتهمة الضلوع في أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، مما يرهن الاقتصاد الخليجي عموما والسعودي خصوصا لابتزاز أمريكي لم يسبق أن استخدمته أمريكي حتى ضد أعدى أعداء الولايات المتحدة في أسوأ ظروف العلاقات المتوترة أيام الحروب الساخنة أو الباردة، وينبغي الإقرار أن المشّرع الأمريكي قد أحسن إخراج مسرحية جاستا بحيث لا تطال المواطن الخليجي البسيط فقط بل تنقل المسؤولية الجنائية إلى النظام الخليجي كلا أو جزء بحيث تركته أسير هواجس وكوابيس مرعبة إلى أبعد الحدود.
لقد وجد الرئيس الأمريكي المأزوم أصلا والذي لا يستطيع أكبر علماء النفس أو خبراء السياسة الدولية التكهن بخطوته التالية، وجد في قانون جاستا رافعة شاهقة وأداة كبرى لابتزاز الحكام القلقين جرّاء ظلمهم لشعوبهم، وربما خوفهم من أقرب الناس إليهم، وخاصة أولئك الحكام الذين كانوا يرون في الولايات المتحدة ضمانة استمرارهم بالحكم، وإذا بها وعلى نحو دراماتيكي، تتحول إلى مركز تهديد خطر على وجودهم، بل لعل ذلك هو الخطر الأعظم، ولذلك تسارعت رسائل العشق والغرام تترى على واشنطن علنا أو عبر وسطاء علّها تخفف من اندفاعة الثور الأمريكي أو تخفيف حدة غلوائه، وبدلا من أن تتحقق هذه الأمنية، فقد وجد النظام الرسمي نفسه في سلسلة تداعيات متعاقبة وهذا ما اضطره إلى تقديم تنازلات سياسية وأمنية ومزايا اقتصادية للقادم المتقلب المزاج إلى البيت الأبيض، لعل أكبرها ما جلب لبلده من أموال خليجية تراوحت حول رقم 500 مليار دولار خلال مؤتمر الرياض، والذي قال عنه ترمب إنه ما كان بوسعه المشاركة في القمة الأمريكية العربية الإسلامية لولا الوعود المسبقة بالحصول عليها.
لكن الرئيس ترمب مع كل المكاسب التي حصل عليها لبلده، ما كان بمقدوره أو حتى راغبا أن يحذف جملة أو كلمة واحدة من مواد قانون جاستا، فتركه مطرقة أو على وجه أدق شفرة مقصلة حادة يمكن أن يطلقها أي معتوه أمريكي لتهوي فتقطع رؤوسا ما حان قطافها بعد.
ومع الوقت كانت خطوات تكييف السياسات الخارجية في دول الخليج العربي تتسارع حتى بأكثر مما كانت الولايات المتحدة تخطط له أو بإمكانها ملاحقة وتيرته، فالنظام الرسمي العربي كما هو معروف لا يمتلك مرونة عالية لرسم خطوات التراجع التدريجي أو التقدم إلى أمام، بل سرعان ما ينقلب من حالة إلى الضد منها خلال وقت قياسي كالانتقال من حالة العداء المستحكم إلى زواج كاثوليكي لا طلاق فيه حتى الموت أو عكس ذلك تماما.
وإذا تجاوزنا العموميات وسميّنا الأشياء بأسمائها، فإننا سنكون إزاء خطوات سعودية متلاحقة وغير متأنية في التقارب مع حكومة العراق التي نصبّها الأمريكيون واستطاع الإيرانيون تسخيرها لخدمة مشروعها القومي المغلف برداء ديني طائفي، فراحت الرياض ومعها عواصم خليجية بناء على “نصائح، أمريكية أو ربما أكثر من مجرد نصائح، للانفتاح على بغداد المحتلة من دون تقدير النتائج التي ستترتب على هذا “الانفتاح” في محاولة أمريكية- عربية لاحتواء العراق وابعاده عن المحور الإيراني، وعلى الرغم من أن المخطط الأمريكي يعي أكثر من المنفذ العربي بأن الصلة العراقية- الإيرانية ليست حلفا عابرا أو مصلحة سياسية واقتصادية مؤقتة يمكن التلويح بشكولاتة أكبر منها حتى تنهار، إلا أن دول الخليج العربي وخاصة المملكة العربية السعودية مهدت لخطوات التقارب مع بفداد بسلسلة تدابير شهدها موسم الحج الماضي وافتتاح خط جوي إلى النجف تحت ذرائع لا تصمد أمام واقع مرّ، ثم وصلت ذروتها في الزيارات التي شهدتها الرياض لعناصر مليشياوية مدانة أمام الشاشة بهجوم إعلامي غير مسبوق على السياسة السعودية وتحميلها تبعات الاضطهاد المزعوم الذي يتعرض له الشيعة في المنطقة الشرقية من أراضيها أو ما تتعرض له الأقلية الشيعية في البحرين.
إن التبريرات التي تقدمها السعودية لتسويق سياستها الجديدة غير كافية لإقناع المراقب العربي الذي يعي حجم الخطر الإيراني ليس على العراق وحده بل على المملكة العربية السعودية نفسها وخاصة التهديدات التي أطلقها قادة المليشيات عن نيتهم التي لن تتوقف إلا برفع راية الحسين على الكعبة المشرفة، ونبش قبور الصحابة رضي الله عنهم بما فيهم قبرا أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
إن الارتقاء بدرجة التفاؤل لدى مسؤولي المملكة العربية السعودية عن قدرتهم على استعادة العراق إلى الحضن العربي من الحضن الإيران، لا يستند على حقيقة حجم الترابط المذهبي الذي لا يمكن فك عراه بالنوايا العربية الحسنة، فالترابط المذهبي فوق كل المصالح السياسية والاقتصادية التي يمكن لعراق العملية السياسية أن يجنيها، فالتقية ليست لعبة دينية يجيدها الشيعة في فتاوى مراجعهم فقط، بل منهاج حياة كامل يسيطر على عقولهم سيطرة كاملة، فواحدهم مثل حصان دراسة القمح الذي تم إغماض عينيه بحيث يدور ويدور ولا يبالي بشيء إلا بما هو مرسوم له من مرجعه الديني القابع في قم أو في النجف، فهل فكّر أحد في الرياض بكيفية التعامل مع هذه المعضلة؟ وهل يستطيع أحد أن يحقق اختراقا حقيقيا لها، أم هي لعبة مدروسة من إيران أملتها على حكومة بغداد كي تهدئ واحدة من أخطر الجبهات المعادية لها؟
إن المملكة العربية السعودية ستندفع في توجهاتها الداعمة لحكومة بغداد انطلاقا مما ستسمعه من أناس لم يصدقوا حتى في كشف أسمائهم الحقيقية، وستضيع كل الأموال التي سيتم إنفاقها على هذا الزواج الذي ينظر إليه السعوديون أنه زواج إسلامي مستكمل الشروط الشرعية، في حين سيتعامل معه عملاء إيران في المنطقة الخضراء على أنه زواج متعة لن يطول إلا للزمن الذي يتم فيه استنفاذ أغراضه السياسية والاقتصادية، وإلا للزمن الذي يقرر فيه الولي الفقيه فصم عراه للزمن الذي إن يضمن له تحقيق أهدافه المحورية.
النتائج المتوقعة للخطوة السعودية أن الاحتواء المضاد هو الذي سيتحقق وليس احتواء العراق، فهل أعدت الرياض نفسها لكل الاحتمالات بل لأسوأها؟
ذلك ما ستكشف عنه الأيام التي قد تطول أو تقصر تبعا لما يتحلى به اللاعبون من طول نفس لسباقات المسافات الطويلة.