النموذج الاقتصادي التركي الجديد يكسب جولة أولى بقيادة أردوغان

د.ياسين أقطاي

تتضمن التقلبات الأخيرة بين أسعار الفائدة وأسعار الصرف في تركيا دروسا يمكن أن تغير القواعد المعروفة في علم الاقتصاد.

من المؤكد أن أولئك الذين يراقبون الاقتصاد التركي منذ فترة، لاحظوا استماتة الرئيس أردوغان في معركته ضد أسعار الفائدة، التي أدت إلى ارتفاع أسعار الصرف، والجميع يريد فهم دوافعه.

يصر أردوغان على أن مسار التنمية في تركيا لا يمر عبر الضرائب والفوائد، بل من خلال النمو والاستثمارات والإنتاج والتوظيف والصادرات. وفي الآونة الأخيرة، قدم الرئيس التركي هذه الرؤية كنموذج جديد للاقتصاد التركي، وهو يكافح من أجل تطبيقها. وقد عمل أردوغان على خفض أسعار الفائدة، ومع كل عملية خفض جديدة، تستجيب الأسواق برفع أسعار الصرف.

من الواضح أن أردوغان لديه حساسية دينية تجاه الفوائد، لكن لديه في الآن ذاته رؤية اقتصادية ترتكز على خفض أسعار الفائدة، وعليه مناقشة إستراتيجيته مع طاقم مسؤوليه الاقتصاديين، لأن أغلب الخبراء -حتى من يعملون ضمن حكومته- يؤمنون بأن الاقتصاد علم صحيح، ويرون أن الحل الوحيد لكبح جماح التضخم هو رفع أسعار الفائدة.

يجادل أردوغان بأن أسعار الفائدة لا يمكن أن تكون حلا أو علاجا للتضخم، لأنها تغذي التضخم وتحفزه، وعندما أصر جميع المسؤولين الاقتصاديين الذين عملوا معه سابقا على مواقفهم، شكّل ذلك عائقا أمامه لتنفيذ سياسته الاقتصادية. وفي الآونة الأخيرة، أصبح أردوغان أكثر إصرارا على تطبيق رؤيته.

المثير للاهتمام أن الجهة الاقتصادية المسؤولة عن تحديد أسعار الفائدة هي وحدة تابعة للبنك المركزي، والذي من المفترض أن يكون مستقلا عن الحكومة، ولا يمكن بالتالي الضغط على هذه الوحدة أو حثها على تطبيق أي سياسات.

لكن سياسات هذه الوحدة كانت تشمل مجالات واسعة جدا، لا يستطيع السياسيون المنتخبون والمسؤولون أمام الشعب التركي المشاركة فيها، ما يعني استبعادهم من اتخاذ قرارات مصيرية. علاوة على ذلك، كان هذا التوجه يضمن للأشخاص الذين لا ينتجون أي قيمة من خلال تطبيق تلك السياسات أن يجنوا المزيد من الأموال مع اكتساب الحصانة ضد أي مساءلة.

ومن المعروف في الاقتصاد أن ارتفاع أسعار الفائدة هو عدو الاستثمارات، وبالتالي فإنه أحد أهم أسباب البطالة. وفي سوق يعتمد على جني المال من المال، لا أحد سيكلف نفسه عناء الاستثمار. فالمستثمر لا يريد أن يخاطر بالحصول على قرض بفائدة عالية للبدء بمشروعه، وأولئك الذين يخوضون هذه المغامرة لن يتوقعوا أكثر من أن تسحقهم أعباء الفائدة المرتفعة في وقت قصير جدا.

يصر أردوغان على أن مسار التنمية في تركيا لا يمر عبر الضرائب والفوائد، بل من خلال النمو والاستثمارات والإنتاج والتوظيف والصادرات. وفي الآونة الأخيرة، قدم الرئيس التركي هذه الرؤية كنموذج جديد للاقتصاد التركي، وهو يكافح من أجل تطبيقها. وعمل أردوغان على خفض أسعار الفائدة، ومع كل عملية خفض جديدة، تستجيب الأسواق برفع أسعار الصرف.

رغم اضطراب العملة، خفض البنك المركزي أسعار الفائدة في غضون شهرين 3 مرات متتالية، من 20 إلى 14%. ورغم أن كل تخفيض كان يؤدي إلى هبوط سعر الليرة التركية، لم يتراجع أردوغان عن خطته.

من وجهة نظر الرئيس، لا يمكن تطوير الاستثمارات أو تحقيق النمو أو خفض معدلات التضخم في ظل أسعار فائدة مرتفعة. لكن انخفاض قيمة العملة التركية وارتفاع أسعار الصرف أثار شكوكا كبيرة حول سياسة أردوغان. وعلى الرغم من هذه الشكوك والانتقادات، أصر أردوغان على مواصلة تطبيق سياسة خفض أسعار الفائدة.

ووفقا لأردوغان، وحسب البيانات الاقتصادية الحالية، لا يوجد سبب لضخ المزيد من العملات الأجنبية في الاقتصاد التركي، لأنه اقتصادي قوي ويحقق معدلات نمو بمستويات قياسية عالمية. ينمو الإنتاج الصناعي كل شهر، محطما أرقام الشهر السابق، وارتفع حجم الصادرات التركية إلى أكثر من 230 مليار دولار، بينما انخفض عجز الموازنة إلى أدنى مستوياته.

وتتمتع تركيا باقتصاد ديناميكي وفعال، ويتم إنشاء آلاف الشركات الجديدة كل يوم وافتتاح المنشآت الصناعية، ولا يوجد انخفاض في الإنتاج. في الأثناء، لا يوجد سبب موضوعي واحد من وجهة نظر اقتصادية يبرر تفاعل أسعار الصرف بتلك الطريقة مع كل خفض في سعر الفائدة.

وفي الاثنين الماضي، قام أردوغان بخطوة حاسمة أدت إلى القضاء على فقاعة أسعار الصرف الأجنبي التي كانت تهدد الاقتصاد التركي. ووعد أردوغان بتعويض المودعين بالعملة التركية عن خسائرهم بسبب هبوط الليرة، ليعوض بذلك كل الخسارة التي منيت بها الليرة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مقارنة بالدولار واليورو. وانخفض سعر الدولار الأميركي من 18.5 إلى 11 ليرة تركية، وهناك توقعات باستمرار هذا التراجع وهبوط سعر الدولار أكثر من ذلك. على هذا النحو، لن تضطر وزارة المالية إلى صرف أي تعويضات للمودعين مثلما وعدت به.

بقرار سياسي واحد وتدخل بارع من وجهة نظر اقتصادية، استطاع أردوغان توجيه سيكولوجية الجمهور وإعادة الثقة للأسواق. كما قام الرئيس التركي بشيء آخر، حيث دحض بخطوة واحدة فكرة أنه غير مؤهل للتدخل في الشأن الاقتصادي، وهي الصورة التي يروج لها البعض منذ أشهر.

أظهر أردوغان -باعتباره ممثلا للدولة التركية- أنه ما زال يملك الكثير من الأدوات والنفوذ للحد من هيمنة الدولار على الاقتصاد. وردّ الرئيس التركي على أولئك الذين يعتقدون أن الاقتصاد علم صحيح ومعادلات رياضية بحتة، ويتمسكون بنظريات جامدة، مُظهرا أهمية القرار السياسية، ومقدما حجّة دامغة تدعم رؤيته في خفض أسعار الفائدة.

أعطى أردوغان درسا لخبراء الاقتصاد المتحمسين لرفع أسعار الفائدة، وأثبت لهم أن هناك سياسة اقتصادية أخرى قابلة للتطبيق. بطريقة ما، أعطى أردوغان مثالا جديدا على قيادته الحكيمة، وهو ما أثبته طيلة السنوات الماضية، وقد أظهر بوضوح أن الاقتصاد التركي في أيد أمينة.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top