د.ياسين أقطاي
هناك تغير لافت في لغة جميع الأطراف في ليبيا، منذ أن انقلبت الموازين لصالح حكومة الوفاق الوطنية. لقد بات الوضع الحالي مكسبًا بات يُنظر إليه على أنه يجب حمايته، حتى من قبل أولئك الذين يدعمون الانقلابي حفتر.
لكن على الرغم من هذا “الوضع الحالي”، فهو يبدو أنه غير مقبول لدى الشعب الليبي بأكمله، لأنه لا يقدّم وعودًا حقيقية للشعب الليبي سواء بالاستقرار أو الاستقلالية أو وحدة الأراضي الليبية. إن مساعي القوى الداعمة لحفتر من أجل عقد طاولة مفاوضات في ظل الوضع الحالي، أو محاولات العودة إلى مؤتمر برلين أو اجتماعات اللجنة العسكرية 5+5 في جنيف، لا يشير إلى نية سليمة نحو تحقيق السلام، بل يشير إلى محاولة لكسب الوقت فحسب.
لقد اتهم وزير الخارجية الروسي لافروف حكومة الوفاق الوطنية في يلبيا، بأنها لا تريد التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار. إلا أن لافروف قد نسي بأن حكومة الوفاق بينما كانت على طاولة مفاوضات برلين وجنيف، كان حفتر ومن يدعمه يواصلون هجماتهم على طرابلس محاولين القضاء على حكومة الوفاق، وفي ذلك الوقت لم يصدر عن روسيا أو أحد تنديد بذلك أو دعوة لوقف إطلاق النار. لكن الآن حتى تكون دعوة وقف إطلاق النار تحمل نوعًا من المصداقية أو النية الحسنة، على حفتر إذن أن ينسحب من المناطق التي يحتلها مثل سيرت، بعد أن يتمثل بالطبع لوقف إطلاق النار.
سوف ينسحب أو يتم سحبه من هناك على أي حال، إلا أن المهم هو فعل ذلك دون المزيد من سفك دماء الليبيين، أن يقوم بفعل ذلك دون إلحاق ضرر إضافي بالشعب الليبي، ومن مصلحته عدم توسيع ملفه إجرامه أكثر من ذلك.
التهديدات التي تحيط بمصر تأتي من الشرق والجنوب
لطالما قلنا ونقول، على أنه من المهم والضروري أن يوضح المتواجدون في ليبيا عن سبب وجودهم هناك وعمّ يبحثون، سواء أمام الشعب الليبي وأمام العالم بأكمله.
على سبيل المثال، تزعم مصر أنها موجودة في مصر لأجل أمنها. لكن كما يرى المحلل السياسي المصري البارز سيف الدين عبد الفتاح، بأنّه على مرّ التاريخ لم يكن هناك أي تهديد لمصر مصدره ليبيا. بل لطالما كان التهديد القائم نحو مصر مصدره من الشرق، والآن هناك خطر جديد من الجنوب وهو أزمة المياه. خطر الصهيونية القادم من الشرق يمثل التهديد الأكبر بالنسبة لمستقبل مصر، إلا أن مصر بقيادة السيسي تبدو عمياء وصمّاء إزاء هذا التهديد. الشيء ذاته ينطبق على خطر الجفاف في مياه النيل الذي يعتبر مصدر الحياة وقوامها في مصر. بالطبع يجب حل المسألة سلمًا مع إثيوبيا، ولا يمكن حلها عبر الحرب مع إثيوبيا أو السودان، ربما يمكن التغلب على هذا التهديد إذا تم التخطيط بشكل جاد في سبيل إيجاد إمدادات للمياه في مصر.
ومع ذلك، لا توجد اليوم لدى السيسي رؤية ولا قدرة أصلًا للقضاء على هذا التهديد. إنه يحاول كي ينقذ نفسه من ورطة اليوم أن يسارع في تلبية الطلبات التي تريدها الإمارات منه. من العار أن دولة عظيمة مثل مصر، تتمتع بتقاليد الدولة منذ آلاف السنين، أن تبدو اليوم بهذا الوضع.
بالطبع هناك جانب في القضية يخص الليبيين كذلك، ماذا تريد مصر التي تقودها السيسي والتي هي جارة ليبيا؛ ماذا تريد من العشب الليبي؟ وبماذا تعدهم؟ لا يمكنها إقناع أحد بأن هناك تهديدًا قادمًا من ليبيا. إن ليبيا ليست في وضع يسمح لها الآن بتهديد أحد، بل على العكس من ذلك، هناك تهديد نحو ليبيا من مصر، وهو ليس تهديدًا افتراضيًّا بل حقيقي.
التاريخ الاستعماري الفرنسي الذي طرق ذاكرة ماكرون
على الرغم من كل ما قلناه عن مصر، لكن دعونا نسلّم بأنها في ليبيا بداعي أن هناك خطًّا حدودًّا يربطها معها. لكن ماذا تفعل فرنسا هناك؟ ما هي الوعود التي تحملها إلى ليبيا؟ كيف ولمن ستشرح فرنسا أنها تريد إعادة تأسيس النظام الاستعماري الإجرامي الذي مارسته لقرون عبر التاريخ شمالي إفريقيا؟
لقد باتت جميع الأطراف المشاركة في المحادثات الأخيرة حول ليبيا في الأمم المتحدة، تعي أن وجود تركيا هو ضمن الاتفاق الرسمي مع حكومة الوفاق الشرعية، وبالتالي فإن وجودها منطقي ويكتسب أحقية. على الأقل نجد أن الذين اعتادوا سابقًا على الكلام قد صمتوا، ولم تعبّر سوى فرنسا عن انزعاجها من الوجود التركي في ليبيا. لكن لماذا؟
لقد أجاب عن هذا السؤال بشكل جيد للغاية، المتحدث الرسمي باسم حزب العدالة والتنمية التركي، حيث قال “لقد أزعجت تركيا ماكرون لأنها لم تسمح له بتحويل ليبيا إلى رواندا ثانية”.
إن فرنسا التي هي مهد التنوير في العام الغربي، والديمقراطية المزعومة، وممثلة القيم المعاصرة؛ وهي الآن في ليبيا لا تذكّرنا بشيء من هذه الأشياء، سوى بماضيها الظلامي واستعمارها الوحشي.
اليوم، حينما يتم ذكر فرنسا أمام شعوب ليبيا، تونس، الجزائر ومالي وجميع الشعوب الإفريقية، فإن ما يتبادر للأذهان هو المجازر اللاإنسانية، والتعذيب الوحشي، والعنصرية والحكومات الاستعمارية الاستبدادية التي تحمل معها كل ألم مرير.
إن سعي ماكرون نحو ليبيا وانزعاجه من تركيا يجعلانه لا ينسى هذا الماضي الحبيس، على العكس من ذلك بل إنه يأخذ تاريخه الظلامي محاولًا تطبيقه اليوم.
ومع ذلك، إنه لا يذكّرنا بذلك التاريخ عبر كلامه وممارساته فحسب، بل عبر تطبيق هذا التاريخ ذاته في ليبيا. إن المذابح والمقابر الجماعية التي قام بها حليفه حفتر في ليبيا، تذكرنا تمامًا بذلك التاريخ الفرنسي الشنيع بكل تفاصيله في القارة الإفريقية.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي