بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
بِقدْر ما كشفت قمة كوالالمبور (18-21 كانون الأول/ ديسمبر 2019) الإمكانات والقدرات الهائلة للعالم الإسلامي، بقدر ما كشفت عن حالة العجز والتخلف والانقسام والتبعية التي تعيشها الأمة؛ وعن مسؤولية أنظمة سياسية طالما تصدرت واجهة العالم الإسلامي عن العديد من جوانب الفشل والإخفاق والخواء التي يعاني منها. كما كشفت أن بضعة أنظمة متفاهمة، مستقلة في قرارها، وذات دينامية عالية، تملك فرصة إنجاز ما فشلت في إنجازه عشرات الدول التي جمعتها مظلة منظمة التعاون الإسلامي، أو ما كان يعرف سابقاً بـ"منظمة المؤتمر الإسلامي". وهي منظمة جمعت في داخلها كافة أشكال الأنظمة بتناقضاتها وتضارب مصالحها وولاءاتها وأولوياتها و"عجرها وبجرها"، لدرجة أنه لم يعد يجمعها قاسم مشترك إلا إصدار بيانات مشتركة، معروفة العناوين والمضامين قبل صدورها؛ دون أن ننكر بعض المنجزات المتواضعة، مقارنة بحجم وإمكانات العالم الإسلامي، كالبنك الإسلامي للتنمية.
أرادت الدول التي وافقت على الدعوة الماليزية لهذه القمة الإسلامية المصغَّرة؛ أن تخرج من إطار الروتين وانعدام الفعالية الذي يعيشه العالم الإسلامي والمؤسسات التي تمثله، وأن تستند إلى هويتها الإسلامية والثقافية والحضارية المشتركة، في خدمة مصالح "الأُمة" أو مصالحها "القومية"؛ بما يوفر لها استقلالاً أكبر في صناعة قرارها بعيداً عن هيمنة القوى الدولية، وبما يوفر لها فرصاً أفضل في تنفيذ المشاريع التنموية والاقتصادية والتكنولوجية المشتركة، وبما يوفر لها فاعلية وقدرة أكبر في التعبير عن هموم الأمة وقضاياها، وخصوصاً قضية فلسطين، وإلى جانبها قضايا كشمير ومسلمي بورما والصين وغيرها.
الدول الخمس التي وافقت في البداية على تبني الدعوة لقمة كوالالمبور هي ماليزيا وتركيا وإندونيسيا وباكستان وقطر، ويبلغ مجموع سكانها نحو 600 مليون، ومجموع ناتجها المحلي الإجمالي نحو 2,700 مليار دولار، وتتميز بموارد بشرية وطبيعية ضخمة، وبقدرات صناعية وعسكرية عالية. وهي بالرغم من أنها خمس دول من أصل 56 دولة عضو في منظمة التعاون الإسلامي، إلا أنها تمثل نحو ثلث الكتلة البشرية للعالم الإسلامي، ولذلك فإذا ما تمتعت هذه الدول بالدينامية والجدية في تنسيق برامجها السياسية والتنموية، فإنها يمكن أن تقود قاطرة التغيير في العالم الإسلامي، من خلال الانضمام التدريجي للدول التي تلتقي معها في الفكرة، كما حدث مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، تعيد تشكيل منظومة العالم الإسلامي على أسس جديدة، أكثر نفعاً لهذه الدول وشعوبها.
ولأن هذه الفكرة لم تَرُقْ لبعض الدول التي ترغب باستمرار الشكل التقليدي الضعيف لمنظمة التعاون الإسلامي، وباستمرار دورها المهيمن عليها؛ فقد شعرت دولة كالسعودية مثلاً أن هذه الفكرة تتجاوزها، وتضعف مكانتها الريادية والرمزية في العالم الإسلامي؛ ولذلك حاربتها، ومارست الضغوط على باكستان وإندونيسيا لمقاطعة مؤتمر كوالالمبور. وهو ما حدا بزعيمي الدولتين لحسابات سياسية واقتصادية مختلفة للاعتذار عن حضور القمة. غير أن ذلك لم يمنع من انعقاد القمة بحضور الزعيم الماليزي ومشاركة الرئيس التركي والأمير القطري، كما انضمت إيران ممثلة برئيسها محمد روحاني، وممثلي 18 دولة، ونحو 450 مفكراً وعالماً ومتخصصاً.
وقد حاول رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد طمأنة السعودية وغيرها، بأن هذا المؤتمر غير حكومي، وأنه لا يستهدف أحداً، وأنه ليس بديلاً عن منظمة التعاون، وأن من حق الدول التي تجد قواعد مشتركة للتعاون والتفاهم أن تُنسِّق فيما بينها؛ إلا أن ذلك لم يكن كافياً للسعودية ومن يشاركها خطّها السياسي، مع العلم أنه تم تقديم دعوة للسعودية للمشاركة في المؤتمر.
اختار مهاتير منصة منتدى الفكر والحضارة الذي نشأ برعايته سنة 2014 قبل أن يصبح رئيساً للوزراء، والذي يتولى أمانته العامة عبد الرزاق مقري، الزعيم الإسلامي الجزائري، ليكون المنصة التي تنطلق منها قمة كوالالمبور. وربما حمل ذلك رسالتين؛ الأولى التأكيد على أن المؤتمر غير حكومي لطمأنة الدول المتخوفة منه، والثانية، وإن لم تكن مقصودة لذاتها، هي عدم حساسية الدول المجتمعة تجاه "الإسلام السياسي"؛ إذ إن القائمين على هذه المنصة ينتمون بشكل رئيس إلى هذا التيار.
كانت هناك مشاركة لافتة لحركة حماس، التي تم الاحتفاء بها في المؤتمر، حيث شاركت بوفد رسمي قاده موسى أبو مرزوق رئيس مكتب العلاقات الدولية فيها. كما كانت هناك كلمة لرئيسها السابق خالد مشعل، وهي مشاركة كانت مثبتة في جدول المؤتمر منذ المراحل الأولى لتحضيره. وهذا يشير إلى أن قضية فلسطين والقدس والأقصى تبقى أكبر وأقوى مُحفِّز لوحدة الأمة، ولمواجهة الأخطار المحدقة بها، وأنها الرافعة الحقيقية للأنظمة السياسية، التي تريد أن تثبت مصداقيتها تجاه أمتها وشعوبها.
إن محاولة إيجاد أطر فاعلة للدول الإسلامية ليس أمراً جديداً، ولعل من أبرزها سعي الزعيم التركي نجم الدين أربكان، عندما كان رئيساً للوزراء قبل أكثر من عشرين عاماً لتشكيل مجموعة الدول الثماني الإسلامية، والتي لم ينجح بها إلا جزئيا،ً حيث تمّ الانقلاب عليه قبل أن يوفر أسباب الديمومة والنجاح للفكرة.
يجب الحذر من أنه على الرغم من المنافع الكبيرة التي تعود على الأنظمة السياسية التي تتبنى هذه الفكرة، وما توفره من شبكات أمان اقتصادي وسياسي وعسكري وتنموي لأعضائها، إلا أن القوى الكبرى وخصوصاً الولايات المتحدة ستسعى لتعويقها، حيث إنها تتعارض مع خططها في إبقاء القوى الإسلامية في دائرة الضعف والتخلف والانقسام والتبعية. كما تتعارض هذه الفكرة مع السلوك السياسي للدول ذات الزعامة التقليدية في العالم الإسلامي، والتي وضعت نفسها تحت السقف السياسي الأمريكي.
تبقى قمة كوالالمبور خطوة في الاتجاه الصحيح، غير أن ما هو أهم أن يعمل المخلصون في العالم الإسلامي على تقديم "المشروع الحضاري الإسلامي"، وتوفير السبل لتنفيذه على الأرض، لتستعيد الأمة وحدتها وقوتها وعزتها ومكانتها وريادتها العالمية من جديد.