د.ياسين أقطاي
عملية نبع السلام التي أطلقتها تركيا، تتقدم بعون من الله بنجاح كبير نحو الأمام. وتمامًا كما حصل في درع الفرات وغصن الزيتون، فإنها تقترب من تحقيق أهدافها بحساسية عالية تجاه المدنيين، أشبه بدقة الصائغ بتعامله مع الذهب، كما يعبّر عن ذلك الرئيس رجب طيب أردوغان.
إن من أهم النتائج التي أظهرتها العملية هي أن الصفوف تتكشف وتتحدّد المواقف؛ حيث كشفت لنا من يقف إلى جانب الإرهاب ومن لا يقف، من يقحم نفسه بالمنطقة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب ليعبث دون جدوى، كشفت من له أجندة في سوريا، كشفت الصديق من العدو. كما كشفت ردودُ الأفعال المعلنة حتى الآن؛ كشفت للعيان عن جميع المراوغات المفتعلة من قبل أطراف الصراع باسم الحل في سوريا.
إن الردود التي صدرت سواء من قبل المجتمع أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ضد البيان المخجل الذي صدر باسم الجامعة العربية، تعكس حالة الانفصام العربي غير المنضبط. بل إن عملية نبع السلام قامت بوظيفة مهمة حيث كشفت القناع عن وجه الذين يتحدثون باسم الجامعة العربية، وكشفت أنهم يخونون أول ما يخونون العرب.
من أكثر المواضيع التي يتم طرحها، أن الجامعة العربية لا تمثل الشعوب العربية، وأنها لم تكن يومًا ما تضع مشاكلهم الحقيقية على رأس أجندتها. إنهم على مدار سنوات لم يضعوا خطوة تعالج المشاكل الحقيقية التي تعيشها تلك الشعوب، ولم يفعلوا يومًا ما شيئًا من شأنه أن يكون حلًّا لمشاكل الشعوب.
إن أكثر البلاد اليوم التي تشهد موجات هجرة بسبب الحروب والانقلابات أو الأنظمة المستبدة، هي البلاد العربية، وبالمقابل لم تقم الجامعة العربية بأي خطوة لمعالجة هذه القضية. وعلى الرغم من أنها تمتلك معظم ثروات هذا العالم إلا أن الشعوب العربية تعاني من الجوع والفقر المدقع. إلى جانب التوزيع غير العادل للثروات، والإسراف المفرط والفساد، وعلى الرغم من سعة اليد فإن الاعتماد على الخارج يمثل المشكلة الحقيقية للجامعة العربية. وإن هذا التناقض بدوره تدفع الشعوب نحو الابتعاد عن حكامها.
وبناء على هذه التناقضات التي بات الجميع يعاني من آثامها، نرى أن أهم وأقوى رد على بيان الجامعة العربية المخجل، ضد تركيا التي تسعى جاهدة بخطوات حقيقية لمحاية العرب والأكراد؛ صدر من الشعوب العربية ذاتها.
لقد انطلقت حملة دعم غير مسبوقة ولا مثيل لها على مواقع التواصل من قبل العرب للدفاع عن تركيا، ضد حملات التشويه التي يقودها جيش الذباب الإلكتروني الذي صنعته الدول المتزعمة في الجامعة العربية. حيث أن الغالبية الساحقة من الشعوب العربية ترى الحق في العملية العسكرية التركية. باركوا العملية ورفضوا البيانات المعادية لتركيا من قبل رؤساء دولهم. بالنسبة لي حتى الآن لم أر حملة دعم لصالح تركيا على مواقع التواصل مثل هذه الحملة. لقد انطلق هاشتاغ #الجامعة_العربية_لاتمثلني، وعلى مدار أيام لا يزال يتصدر الحدث.
لقد كان على رأس هؤلاء الداعمين العرب، برلمانيون، مفكرون، صحفيون، أكاديميون والعديد من مختلف الأطياف والطبقات؛ كانت مشاركتهم وأفكارهم ذات معنى كبير للغاية، حيث أدانوا حكامهم الذين يقفون عائقًا أمام تركيا، كما اعتبروا أن تركيا وقفت إلى جانب العرب أكثر من أولئك الحكام أنفسهم.
بهذا المقياس لن نكون مبالغين لو قلنا أن دعمًا كهذا لم تتم رؤيته من قبل على الإطلاق. عملية نبع السلام دفعت الشعوب بشكل ما الشعوب للتشكيك بشرعية تلك الحكومات والحكّام. ذلك لأن الشعوب تعلم للغاية كم هي تركيا مصيبة ومحقة فيما تفعل، والدليل أن الضمير الحي بالعالم العربي استقبل العملية بعاطفة جياشة ودعاء.
لقد أصدر منتدى الفكر والدراسات الاستراتيجية بمبادرة من المفكرين العرب-المسلمين، مذكّرة وقع عليها 108 من المفكرين والدبلوماسيين والأكاديميين ذوي التأثير في المجتمعين العربي والإسلامي، بهدف دعم عملية نبع السلام، كما وجهوا نداء للأمم المتحدة أن يقوم بدعم ذلك.
ولذلك فإن من الخطأ أن يعتبر البعض موقف الجامعة العربية ممثلًا عن العرب، لأن تلك الجامعة يبدو أن لا علاقة لها بالعرب أصلًا. إن علاقة الحكام العرب مع شعوبهم هي مثل علاقة منظمة بي كا كا الإرهابية بالأكراد. إن منظمة بي كا كا تجد مكانها بين تلك الأنظمة التي يتم فرضها على الشعوب من قبل الخارج. الحكّام العرب الذين لا يمثلون شعوبهم، يشعرون بمزيد من التقارب بمنظمة بي كا كا التي لا تمثل الأكراد أيضًا، بل هي تلعب دورًا فاشيًّا في طريقة فرض نفسها على الشعب الكردي.
في الحقيقة على الذين يجدون صعوبة في فهم تعاطف الزعماء العرب مع تنظيم ي ب ك/بي كا كا الإرهابي، عليهم أن ينظروا إلى خطاب التنظيم الأيديولوجي القائم على كراهية شديدة للعرب. يبدو أن الشراكة إذن فيما بينهما عميقة للغاية.
إن الذين يحاولون تصوير عملية نبع السلام على أنها موجهة ضد الأكراد، أو ضد العرب؛ كلاهما ينطلق من واحدة. لكن مع ذلك، فإن العرب والأكراد على دراية بذلك، يعلمون أن هذه العملية انطلقت من أجل إنهاء الاحتلال الذي بات وضعًا فعليًّا في المنطقة، وبالتالي فإن العملية هي لضمان استمرار بقاء الجميع، عربًا وكردًا وتركًا وسنة وعلوية ومسلمين ومسيحين، كي يعيش الكل في جو من السلام والاستقرار.
ومن أجل هذا نرى أن أكبر لهذه العملية يأتي من قبل العرب والأكراد أنفسهم الذين يدركون ذلك جيدًا.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي
قراءة 1468 مرات
آخر تعديل على الثلاثاء, 15 تشرين1/أكتوير 2019 14:07