تقدير موقف 12/1/2020
د. سامر عبد الهادي علي – المركز السوري سيرز
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فجر الجمعة 3 كانون الثاني/ يناير 2020 مقتل قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية بطائرة مسيّرة قرب مطار بغداد، بناءً على توجيهات مباشرة من الرئيس دونالد ترامب، كما قُتل معه في الغارة أبو مهدي المهندس نائب ما يسمى "قوات الحشد الشعبي" العراقي، إلى جانب عشرة آخرين، منهم قياديين في الحشد.
حدث لم يكن كغيره، وعملية من النوع الدقيق وذات أبعاد تتخطى مسألة التخلص من شخصية ما، كانت عملية تحمل في طياتها أسباباً كثيرة، وتداعيات كبيرة لاحقة، ليس على إيران والعراق والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل على عموم المنطقة بملفاتها المعقدة والمتشابكة.
*تسلسل أحداث ما قبل العملية:
يمكن القول أنّ تطورات الأحداث ما قبل عملية اغتيال سليماني قد بدأت من العراق منذ انطلاق التظاهرات العراقية الكبيرة في بغداد ومدن الجنوب العراقي، تحديداً الشيعية منها، وذلك مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ضدّ سياسات الحكومة العراقية المتماهية مع السياسات الإيرانية في العراق، التي أوصلت البلاد إلى الانهيار التام في الكثير من القطاعات، خاصةً الاقتصادية منها، وحتى الأمنية.
هذه المظاهرات التي استمرت، ولا تزال، طيلة أشهر، أدّت إلى شعور إيران بالخطر المحدق بها، لما قد يكون لها من تداعيات ليس فقط على ميليشياتها في العراق، بل حتى على الداخل الإيراني المتأزم كذلك بطبيعة الحال، خاصة وأنّ العراق يقع على حدودها مباشرةً، عكس التظاهرات التي شهدها لبنان أيضاً، فهي ليس ذات تأثير مباشر عليها كما العراق. من هذا المنطلق أوعزت إيران إلى ميليشياتها الطائفية، وتحديداً ميليشيا حزب الله العراقي، لتنفيذ عمليات قنص واغتيال بحق المتظاهرين العراقيين، وهو ما أدى إلى وقوع عشرات القتلى من العراقيين، إلا أنّ ذلك لم يؤدِّ إلى تراجع التظاهرات، وهو ما وضع الحكومة العراقية الموالية لإيران في مأزق كبير، ما دعاها إلى الاستقالة فعلاً، ليزداد خطر التداعيات على السياسات الإيرانية ومواليها في العراق، لذلك أخذت إيران بالتصعيد أكثر، ومحاولة خلط الأوراق، من خلال قيام ميليشياتها، حزب الله العراقي، بعمليات قصف على مواقع عسكرية عراقية تحوي جنوداً من القوات الأمريكية تحديداً، كان أعنفها القصف الذي طال قاعدة عسكرية في كركوك شمال العراق في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وأدّى إلى مقتل موظف مدني أمريكي في القاعدة، ما اعتبرته الولايات المتحدّة الأمريكية تجاوزاً على مواطنيها وجنودها، وبالتالي على مصالحها القومية، واتهمت حزب الله العراقي بالعملية، وردّت بتنفيذ ضربات جوية على خمسة مواقع تتبع لميليشيا حزب الله، أحدها في سورية، وذلك بعد يومين فقط في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وأدّت إلى مقتل العشرات من الميليشيات.
تصاعد التوتر في العراق بين إيران وأدواتها من جهة، وبين الولايات المتحدة ومصالحها من جهةٍ أخرى، وهو ما سعت إليه إيران، التي بدأت تجييشها ضد الولايات المتحدة ومصالحها في العراق، وجرت محاولات لاقتحام المنطقة الخضراء، والوصول إلى السفارة الأمريكية، من قبل متظاهرين موالين لحزب الله العراقي وبدعم إيراني، بالتوازي مع بدء الإعداد لمؤامرة تهدف للسيطرة على المنطقة الخضراء بعملية انقلاب سياسي ستقوم به إيران للسيطرة على ما تبقى من العراق "بمعنى العراق الموالي للسياسة الأمريكية"، وكان التنفيذ يوم وصول قاسم سليماني إلى بغداد قادماً من دمشق، صبيحة الثالث من كانون الثاني 2020، إلا أنّ الولايات المتحدة، بحسب تقارير استخباراتية، اكتشفت الأمر، فصدر أمر مباشر من الرئيس ترامب شخصياً، بتصفية سليماني قبل خروجه من مطار بغداد، وهو ما تم فعلاً.
*ردود الأفعال على العملية:
على الرغم من حجم العملية، وتأثيراتها المتوقعة على ارتفاع حدّة التوتر في المنطقة، وإمكانية الرّد الإيراني بشكلٍ أو بآخر، ما ينذر بحرب قد تندلع في أيّ لحظة، إلا أنّ المواقف الإقليمية، وحتى الدولية، لم تكن ذات تباينات كبيرة، حيث اكتفت كثير من دول العالم، بما فيها الإقليمية منها، بالدعوة إلى الحوار ومنع حدوث صراع ما في منطقة لا تحتاج إلى مزيد من الصراعات، باستثناء العراق الذي رفض العملية، وطالب القوات الأمريكية بالانسحاب من العراق، بينما اكتفت سورية بالتنديد.
الولايات المتحدة الأمريكية بررت العملية على أنّ سليماني "كان يعمل على تطوير خطط لمهاجمة دبلوماسيين وموظفين أمريكيين في العراق والمنطقة"، وأنّ هدف الضربة "ردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية"، وتعهدت الولايات المتحدة أنها "ستواصل اتخاذ جميع الإجراءات لحماية مواطنيها ومصالحها حول العالم".
أما إيران، فقد توعّدت مراراً على لسان مسؤوليها كافة بالرّد "المزلزل" وغير المتوقع على الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، ليس في المنطقة فقط، بل في كل مكان من العالم. وتوعّد المرشد الإيراني علي خامنئي بـ"انتقام مؤلم" على خلفية مقتل سليماني. لكن وبعد نحو أسبوع من التهديد والوعيد قامت إيران باستهداف قاعدة عين الأسد الأمريكية بعدّة صواريخ بالستية، وصاروخين قرب أربيل شمالي العراق، ليتبيّن بعد الضربة هذه أنّها لم تكن سوى ضربة متفق عليها لامتصاص غضب الإيرانيين والميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، خاصة وأنّ إيران كانت قد أعلمت العراق بالضربة قبل وقوعها، وبالتالي علمت الولايات المتحدة الأمريكية بها، وهو ما ألمح إليه الرئيس ترامب. هذه الضربة التي لم تؤدِّ حتى إلى جرح عسكري أمريكي واحد، أو تتسبب بأي خسائر مادية، ومما زاد الأمر سوءاً استهداف إيران، بالخطأ كما تدعي، لطائرة ركاب أوكرانية خلال تنفيذها للضربة، ما أدى إلى إصابة الطائرة وتحطمها ومقتل 176 مدنياً قرب طهران، وبعد إنكار وتجاهل، اعترفت إيران بأنها من أسقط الطائرة.
*التداعيات:
إنّ تداعيات عملية قتل سليماني وأبو مهدي المهندس، وما تلاها من توجيه إيران لضربة إعلامية فاشلة على قاعدة أمريكية في العراق، وإسقاطها للطائرة المدنية الأوكرانية، قد بدأت بالظهور على الصعيد الإيراني من جهة، وعلى صعيد المنطقة من جهةٍ أخرى، أما التداعيات على الصعيد الإيراني:
1- جاءت نتائج الضربة الإيرانية بنتائج عكسية عليها، فقد أظهرت إيران على حقيقتها من ناحية القوة المزعومة التي تدّعيها، حيث لم تستطع أن تنفذ تهديداتها برد عسكري مؤلم كما ادّعت.
2- أدت إلى استنفار الشارع الإيراني، لتندلع التظاهرات ضد الحرس الثوري الإيراني والمرشد الإيراني، حيث طالبته بالرحيل الفوري.
3- أظهرت ضعف ميليشيات إيران في العراق والمنطقة، التي كانت هي الأخرى قد توعدت بالرّد، إلا أنها اكتفت بالتصريحات والخطابات الإعلامية.
4- زاد من سوء الوضع الإيراني أمام العالم إسقاطها للطائرة الأوكرانية، ما يعني أنها فقدت أي تعاطف كان من الممكن أن تحصل عليه من جانب أي دولة، ومنها روسيا التي اكتفت بالصمت.
أما التداعيات على صعيد المنطقة:
1- ازدياد تعقيدات الداخل العراقي المتأزم أصلاً، خاصة على صعيد الموالين لإيران من قوى سياسية وميليشيات عسكرية، حيث أصبحوا في موقفٍ ضعيفٍ بالتوازي مع بداية بروز تيار سياسي غير موالي لإيران، ستتضح ملامحه في الفترة المقبلة، مع بروز اسم إياد علاوي من جديد.
2- تعزيز الولايات المتحدة الأمريكية لنفوذها في العراق والمنطقة أكثر من السابق، مع ازدياد إرسال قوات عسكرية إلى قواعدها في العراق والمنطقة، على عكس ما طالبت به كل من العراق وإيران من سحب الولايات المتحدة لقواتها من المنطقة.
3- ازدياد حدّة التوتر في المنطقة، وتصاعده لدرجة خطيرة، بما يسمى الوصول إلى حافة الهاوية.
4- قلق خليجي من رد إيراني محتمل عليها، وهو ما دفع المملكة العربية السعودية إلى إطلاق تصريحات هدفها امتصاص التوتر، من خلال تصريحها بأنها تقف إلى جانب العراق، ورفضها تحويله إلى ساحة لصراعات خارجية.
أما التداعيات على الملف السوري، فقد تكون الأهم والأكثر وضوحاً، خاصةّ بعد الزيارة المفاجئة للرئيس الروسي بوتين إلى سورية، قبل يوم واحد فقط من لقاءه الرئيس التركي أردوغان في اسطنبول، ولذلك رسائل عديدة منها: أنّ روسيا هي صاحبة الكلمة العليا في سورية، وليس إيران، بما يعني عدم تفكير إيران باتجاه رد ما على أي طرف انطلاقاً من الأراضي السورية. كذلك رسالة إلى "إسرائيل" بأنّ روسيا لن تسمح لبشار الأسد بأي تحرك من جانبه، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال السماح لوكلاء إيران في سورية، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، بالاعتداء عليها. ورسالة إلى نظام الأسد نفسه بأنّ هناك متغيرات قادمة في المنطقة ما بعد مقتل سليماني، وعليه أن يكون متوافقاً مع ما قد تنجزه روسيا في هذا الشأن في المرحلة المقبلة.
*المآلات المستقبلية:
من خلال ما سبق، يمكن الحديث عن سيناريوهات محتملة في المرحلة المقبلة، يمكن أن تذهب الأوضاع العامة في المنطقة باتجاهها، وأرى أننا أمام سيناريوهين فقط:
الأول: الاتجاه نحو حرب واسعة بين كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لن تكون مقتصرةً على الطرفين، عسكرياً وجغرافياً، بل ستشمل أطرافاً ودولاً عدّة في المنطقة، وهو ما قد يؤدي إلى تدمير واسع، وستكون المنطقة بأكملها الخاسر الأكبر، وليس إيران فقط، وهو ما يحاول الجميع تفاديه، لذلك فإنّ احتمالية هذا السيناريو ضعيفة جداً، وقد تكاد تكون معدومة.
الثاني: الذهاب إلى مفاوضات سياسية شاملة لكل ملفات المنطقة، أهمها على الصعيد الإيراني الملف النووي وملف الميليشيات الموالية لإيران وتمددها في المنطقة، وكذلك حول ملفات المنطقة الأخرى وهي الملف السوري والملف العراقي، وهو الاحتمال الأقوى والمتوقع حصوله فعلاً في الفترة المقبلة، حيث بدأت تظهر ملامحه، من خلال دعوة الولايات المتحدة الأمريكية لإيران للعودة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني ودون شروط مسبقة من أي طرف، وهي دعوة كررتها الدول الأوروبية، كفرصة لإيران للخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، لكن لذلك تداعيات محتملة أيضاً، حيث ستتنازل إيران عن بعض سياساتها في المنطقة، وقد ترضخ للطلبات الغربية في هذا السياق، ومنها تحجيم دور ميليشياتها وعدم التدخل في شؤون المنطقة، ما يعني إضعاف أذرعها العسكرية، خاصة في سورية التي قد يتم إخراج إيران منها بالكامل، لصالح تفاهمات روسية تركية بدأت تظهر منذ نحو أسبوع عندما تم التوافق بين الطرفين على هدنة جديدة في إدلب، قد تكون طويلة، وربما دائمة، حسب بعض التسريبات، وإمكانية فرضها عن طريق قرار من مجلس الأمن الدولي، مع إمكانية استئناف أعمال اللجنة الدستورية في المرحلة القادمة في حال تم تطبيق جدّي للهدنة في إدلب.
مما سبق نجد أنّ الخاسر الأكبر في هذه المرحلة وما تضمنته من أحداث ومتغيرات جديدة هي إيران نفسها، التي دفعت أخيراً ثمن سياساتها العنجهية في العدوان على دول المنطقة وشعوبها، ونحن نرى اليوم الاضطرابات التي تشهدها الدول التي تدخلت فيها إيران سواء بميليشياتها العسكرية، أو بأذرعها السياسية، كما يحصل في كل من العراق وسورية ولبنان وحتى اليمن، وهو ما ينذر بمرحلة جديدة ستشهدها المنطقة عموماً، قد تكون أكثر استقراراً من السابق في حال أُنجز هذا السيناريو على المدى المتوسط.