مقدمة
تشير الإحصائيات إلى تصاعد المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية في السنة الجارية 2018. فحتى نهاية تشرين أول/ أكتوبر، أفضت المقاومة إلى مقتل 11 إسرائيليًّا1. وشهد شهر تشرين ثاني/ نوفمبر سلسلة من العمليات المتنوعة، التي يختلط فيها الطابع الشعبي بالعمل المنظم. في حين تشن قوات الاحتلال حملة مداهمات واسعة، بحثا عن الشاب أشرف نعالوة، منفذ عملية إطلاق النار في مستوطنة "بركان" في 7 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، والتي أفضت إلى مقتل مستوطنين اثنين، وإصابة آخرين.2
تتصل هذه الأحداث بسلسلة الهبّات الشعبية، وما تبعها من أعمال مقاومة، منذ منتصف عام 2014، بما ينطوي على دلالات بالغة، حول التحولات الكامنة لدى الجماهير في الضفة الغربية، والاحتمالات التي قد تنفتح عليها في سياق الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
تعرض هذه الورقة صورة من هذا المشهد في الآونة الأخيرة، وتقرأ دلالاته في سياق الحالة الكفاحية الجارية منذ أربع سنوات، وسماتها الخاصة في العام الحالي، والتحولات الممكنة في المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية، بالنظر إلى ظروفها الموضوعية الخاصّة، والمميّزة لهذه الحالة عن التجارب الكفاحية الكبرى للفلسطينيين، كالانتفاضتين الأولى والثانية.
صورة من المشهد العام
في الثلث الأول من تشرين ثاني/ نوفمبر 2018، شهدت الضفة الغربية عمليتي إطلاق نار، ومحاولتي طعن، إضافة إلى المواجهات الشعبية التقليدية3، التي زاد عددها في هذه الفترة عن 86 مواجهة.4
ثم استمرت الأحداث في التصاعد في الثلث الثاني من الشهر نفسه، فقد شهد ثلاث عمليات إطلاق نار، ومحاولتي طعن، منها واحدة في القدس المحتلّة، أسفرت عن إصابة عدد من الإسرائيليين5، إضافة إلى المواجهات التقليدية التي بلغت 110 مواجهات.6
وفي مطلع الثلث الأخير من الشهر، استشهد الشاب عبد الرحمن أبو جمل (17 عامًا)، من جبل المكبّر في القدس، وهو منفذ عملية الطعن المشار إليها، متأثّرًا بجراحه التي أصيب بها ساعة تنفيذه العملية7. كما نفّذ شاب من مخيم الدهيشة عملية طعن أخرى، في مستوطنة "هار جيلو" جنوب القدس المحتلّة، اعتقلته قوات الاحتلال في وقت لاحق.8
وقد ضاعفت قوات الاحتلال من نصب الحواجز على مداخل بلدات شمال الضفة الغربية، وتنفيذ حملات مداهمة مكثّفة، لا سيما في محافظة طولكرم، بحثا عن الشاب المطارد أشرف نعالوة، من قرية شويكة التابعة للمحافظة9، واعتقلت عددًا من أقاربه. وفي حين أفرجت عن شقيقته10، فإنّها ما تزال تحتجز عددًا من أفراد أسرته، منهم والدته ووالده وشقيقه11، وقدّمت ضدّهم لائحة اتهام في وقت لاحق، تضمنت تهمًا بعدم العمل على منع العملية، ومحاولة تعطيل تحقيقات الاحتلال. كما وأصدرت قوات الاحتلال قرارًا بهدم طابقين من منزل العائلة.12
لم تكن حالة المطارد أشرف نعالوة هي الأولى هذا العام، فقد اعتقلت قوات الاحتلال شابًا فلسطينيًّا من بلدة جماعين جنوب نابلس، بعد فترة وجيزة من تمكّنه من الانسحاب من مكان تنفيذه عملية طعن على حاجز حوارة جنوب المدينة13. وفي 9 كانون ثاني/ يناير من مطلع هذا العام، نفّد الشاب أحمد نصر جرّار من مدينة جنين، عملية إطلاق نار جنوب نابلس، أدّت إلى مقتل إسرائيلي، واجه بعدها حملة مطاردة واسعة انتهت باستشهاده في 6 شباط/ فبراير، ثم تبين فيما بعد انتماء الشهيد لكتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس.14
ظلّت قوات الاحتلال تشنّ حملاتها الليلية في معظم مناطق الضفّة الغربية، ليبلغ عدد المعتقلين الفلسطينيين في شهر تشرين الأول/ أكتوبر وحده 511 فلسطينيًّا، وذلك حسب ورقة حقائق صادرة عن عددٍ من مؤسسات الأسرى وحقوق الإنسان15، الأمر الذي يلفت الانتباه إلى التوجهات الكامنة لدى الجماهير الفلسطينية في الضفّة الغربية ضد الاحتلال، بما في ذلك محاولات فصائل المقاومة استئناف دورها في هذه الساحة.
في السياقات الأوسع
تشير الإحصائيات إلى حدوث قفزة واسعة في نشاط المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية ظهرت عام 2014. فبينما بلغ مجموع نشاط المقاومة عام 2011 في الضفة الغربية والقدس 320 عملًا مقاوِمًا16، فقد تصاعدت في العام الذي يليه لتبلغ 578 عملًا، ثم تصاعدت في عام 2013 لتبلغ 793، ثم لتصل عام 2014 إلى 3699 عملًا مقاوِمًا.17
ومع أن القفزة الهائلة ظهرت في شهر تموز/ يوليو 2014، بعد حادثة حرق المستوطنين للطفل المقدسي محمد أبو خضير، وبالتزامن مع العدوان الإسرائيلي الكبير على قطاع غزة (حرب العصف المأكول) من نفس العام، فإنّ ثمّة أحداثًا أخرى سبقت ذلك، أسهمت بدورها في الدفع نحو تصاعد المقاومة في الضفة، منها عملية إطلاق نار من العام نفسه في نيسان/ إبريل 2014، وإضراب الأسرى الإداريين الذي استمر مدة شهرين.
قفز نشاط المقاومة قفزة أخرى في العام الذي يليه، لا سيما في شهر تشرين أول/ أكتوبر 2015 فيما عُرف وقتها بـ "هبّة القدس"، والتي افتُتحت بعملية إطلاق نار نفذتها مجموعة من حركة حماس، على حاجز بلدة بيت فوريك، واستهدفت سيارة لمستوطنين من مستوطنة "إيتمار". وبعد عملية مطاردة وجيزة، تمكنت قوات الاحتلال من اعتقال المنفّذين. ثم دفعت عملية طعن في القدس المحتلة نفّذها الشاب مهند الحلبي من مدينة رام الله، وأدت إلى مقتل عدد من المستوطنين، إلى انفجار ما عُرف بـ "هبّة القدس". وبينما بلغت أعمال المقاومة في عام 2015 حوالي 5383 عملًا، فإنّ شهر تشرين أول/ أكتوبر2015 وحده، استحوذ على 1328 عملًا منها18، تضمنت عددًا كبيرًا من عمليات إطلاق النار، والطعن، والدعس. وقد اتسمت هذه الهبّة وتوابعها، بالعمليات الفردية المكثفة إلى حدّ كبير.
ثم حافظ عام 2016 على وتيرة عالية من نشاط المقاومة، بلغ في بعض الإحصائيات 4758 عملًا مقاوِمًا19. وخلال هذا العام استشهد المطارد الفلسطيني محمد الفقيه من بلدة صوريف في محافظ الخليل20، بعد شهر على تنفيذه عملية "عنتئيل".21
ثم تصاعد النشاط المقاوِم خلال عام 2017، حيث اتسم بعدد من العمليات الفردية، وعمليات إطلاق النار الناجحة، والتي أدّت إلى مقتل 19 إسرائيليًّا، وجرح 409 آخرين، وكان مجموع أعمال المقاوَمة في هذا العام 5182 عملًا.22
كان من جملة الأحداث الهامّة التي شهدها عام 2017، إضراب الأسرى في سجون الاحتلال في نيسان/ إبريل، واستشهاد الشاب المطارد باسل الأعرج، واغتيال الأسير المحرر والمبعد إلى قطاع غزة مازن فقها، وعملية إطلاق النار داخل المسجد الأقصى، والتي جاء على إثرها قرار الاحتلال بتركيب بوابات إلكترونية على مداخل المسجد، وهو ما فجّر هبّة موضعية في القدس، أجبرت الاحتلال على التراجع عن قراره. ثم جاء اعتراف الرئيس الأمريكي ترمب في 6 كانون أول/ ديسمبر بالقدس عاصمة لـ "إسرائيل"، وتوقيعه قرار نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، ليفجّر موجة جديدة من المواجهات.
وفي عام 2018، تواصلت المواجهات والاحتجاجات على قرار ترمب بشأن السفارة، ليبلغ مجموع نشاط المقاومة خلال الشهور العشرة الأولى من عام 2018 أكثر من 4367 عملًا مقاوِمًا23، الأمر الذي يُعتبر دلالة واضحة على احتفاظ النشاط المقاوِم بوتيرة واحدة، إلى حد كبير، في السنوات الأربعة الأخيرة.
دلالات النشاط المقاوِم في الضفة الغربية وسماته
يبين العرض السابق للنشاط المقاوِم في الضفة الغربية خلال السنوات الأربعة الأخيرة، وخلال عام 2018، أنه حافظ على وتيرة ثابتة من النشاط. وهو ما يؤكد أن الهبات المتعددة التي شهدتها الأعوام الأخيرة، لم تكن عابرة، وإنما عبّرت عن توجهات عميقة للجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية، وهو ما وصفه رئيس الشاباك الإسرائيلي نداف أرجمان، بقوله: "فوق السطح قد يبدو الأمر هادئا نسبيًّا، لكن تحت السطح، الأمر مختلف".24
في تحليل هذه الظاهرة من النشاط المقاوِم، يمكن الإشارة إلى جملة عوامل مهمة، منها الفشل الواضح لمشروع التسوية، وتفاقم التحدي الاستيطاني، وتكرار جرائم المستوطنين، مثل حرق الطفل محمد أبو خضير في تموز/ يوليو 2014، وحرق عائلة دوابشة في تموز/ يوليو 2015، وتصاعُد الهجمات الاستيطانية على المسجد الأقصى، والتي كانت سببًا حاسمًا لدى العديد من منفذي العمليات الفردية، في دفعهم لتنفيذ تلك العمليات، كما ذكر عدد منهم في وصاياهم، كان آخرهم المطارد أشرف نعالوة، حسب الوصية الخطية التي ادعت النيابة الإسرائيلية أنها كانت قد حصلت عليها25. هذا إلى جانب واحدة من أهم محطات الأعوام الأربعة المنصرمة، وهي هبّة البوابات الإلكترونية في المسجد الأقصى في تموز/ يوليو 2017.
ومن أهم العوامل التي دفعت نحو تبلور هذا النشاط وتصاعده، العدوان الكبير على قطاع غزّة عام 2014، حيث تصاعد نشاط المقاومة بالتزامن مع تلك الحرب. فحين النظر إلى الظروف الخاصة التي تعانيها الضفّة الغربية من بعد الانقسام الفلسطيني، من قبيل اجتراح سياسات أمنية واقتصادية وثقافية، تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع، وصرف الجماهير الفلسطينية عن دورها النضالي تجاه الاحتلال، وإغراقها بأنماط استهلاكية تتعارض مع وظيفتها النضالية، تسببت في تجريف العمل الوطني، وتفكيك فصائل المقاومة. حين النظر إلى ذلك، كما يرى بعض المراقبين، فإنّ مشاهد الحرب المتلفزة، وأداء المقاومة اللافت في قطاع غزّة، شكّل رافعة تعبوية لجماهير الضفة الغربية.26
وإذا كانت العمليات الفردية تشير إلى أزمة فصائل المقاوَمة، إلا أنها تكشف عمق المخزون النضالي لدى الجماهير الفلسطينية، الذي من شأنه أن يتسع حين تتوفر الشروط الموضوعية لذلك. ومن جهة أخرى، فإنّه لا ينفي دور العمل المقاوِم المنظَم في هذه الهبّات، واستمراره. فحسب رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي، أوقف الاحتلال 219 خلية لحركة حماس27. هذا فضلًا عن العديد من الأعمال المسلحة، التي ثبت وقوف فصائل المقاومة خلفها، والتي سبقت الإشارة إلى بعضها، وكان لها دور مباشر في تصعيد الأحداث. إضافة إلى انتماء عدد من منفّذي العمليات الفردية لفصائل مقاوِمة، كالشهيد مهنّد الحلبي، الذي ينتمي لحركة الجهاد الإسلامي، وسبقت الإشارة لعمليته.
في هذا السياق، نبّه رئيس "الشاباك" إلى الدور الأكبر لحركة حماس من بين فصائل المقاومة، في محاولات استنهاض العمل المقاوِم في الضفة، وهو ما تجلّى في عدد من العمليات، وعدد من المطاردين، إضافة إلى الاهتمام الذي تبديه حماس في بياناتها وخطابها الإعلامي، بالنشاط المقاوِم في الضفة، وعلى نحو يفوق مثيلاتها من الفصائل الفلسطينية.
وبينما تَداخَلَ العمل المقاوِم المنظَم بالعمل الفردي، والعمل الشعبي التقليدي، فقد ظهر من أشكال هذا التداخل، ظاهرة المطاردة التي لم تعد تقتصر على المقاوِمين المنظَمين كما في التجربة الفلسطينية السابقة. فقد ظهر مطاردون من خارج سياق الفصائل الفلسطينية المعروفة، منهم باسل الأعرج، ونشأت ملحم، الفلسطيني من مدينة أم الفحم في فلسطين المحتلة عام 1948، والذي استشهد في 8 كانون ثاني/ يناير 201628. يقود ذلك إلى دلالة أخرى، وهي تفاعل الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة عام 1948 مع الحدث الفلسطيني العام، والذي كان من صوره كذلك تنفيذ ثلاثة شبّان من أمّ الفحم عملية إطلاق نار داخل ساحات المسجد الأقصى في 14 تموز/ يوليو 2017.29
إن المقارنة بين هذه الهبّات المتتالية في السنوات الأخيرة، وما تخللها وتبعها من عمل مقاوِم، وبين الانتفاضتين الأولى والثانية، تستدعي إدراك الشروط الموضوعية المختلفة بين هذه المراحل. فالوجود الاحتلالي الفيزيائي المباشر داخل تجمعات الفلسطينيين، وانعدام أي سلطة محلية للفلسطينيين، أتاح لهم، وبكل شرائحهم، الانخراط في الانتفاضة الأولى، وابتداع وسائل نضالية قادرة على استيعاب شرائح المجتمع كلّها، تناسب الظرف السياسي والزماني حينها. ثم إن قيادة ياسر عرفات للسلطة الفلسطينية، مكّنت الانتفاضة الثانية من التوسع، والتحول نحو أشكالها المسلّحة الكبرى30. وهو ما يعني أن لهذه الهبات الجارية اليوم، وما يتصل بها، سماتٌ خاصّة، من شأنها أن تدفعها نحو التوسع في حال توفّرت الشروط اللازمة، وهو ما يقلق الاحتلال الإسرائيلي حسب تصريحات رئيس الشاباك.31
خلاصة
كانت نتائج اجتياح قوات الاحتلال للضفة الغربية عام 2002، قاسية على بنية المقاومة في الضفة الغربية. كما تراجَعَ النشاط المقاوِم في الضفة، بفعل الانقسام الفلسطيني، وما تبعه من استهداف مركّز لفصائل المقاومة من قبل الاحتلال والسلطة الفلسطينية، وما رافقه أيضا من سياسات حاولت إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني ووعيه، على نحو يصرفه عن مهمته النضالية. كما أن الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الضفة، شكّكت الفلسطينيين في قدرة القيادة الفلسطينية على استثمار نتائج كفاحهم وتضحياتهم.
هناك عوامل أسهمت في تفجير الهبّات المتتالية، ودفْع العمل المقاوِم في الضفة الغربية، منها وصول مشروع التسوية إلى طريق مسدود بلا أي أفق واضح لاستئنافه، وتصاعُد التحدي الاستيطاني في الضفة، والاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى. يُضاف إلى ذلك، ما شكّلته حرب عام 2014 على غزّة من رافعة معنوية للفلسطينيين في الضفة، وما تبعها من أحداث في غزّة، كمسيرات العودة هذا العام، وإضراب الأسرى.
ومن أهم سمات هذه المرحلة الكفاحية، العمليات الفردية التي أخذت طابعًا مكثفا في بعض الأوقات، ووجود محاولات دفع واضحة للعمل المسلّح المنظم، ومشاركة الفلسطينيين من كل تجمعاتهم في الضفة الغربية والقدس وفلسطين المحتلة عام 1948، وعودة ظاهرة المطاردين، وأحيانا من خارج نطاق الفصائل، والتي ما زالت مألوفة في الذاكرة الفلسطينية.
بيد أن استمرار النشاط المقاوِم، وبوتيرة ثابتة، تتخللها هبات واسعة في بعض الأوقات، هو من أهمّ سمات هذه الحالة الكفاحية، والتي تحمل دلالة واضحة على أنّ الهبّات التي نشأ فيها النشاط المقاوِم، لم تكن طفرة عابرة، وإنّما تعبر عن مخزون نضاليّ فلسطينيّ قابل للتوسع في حال توفّر الشروط الموضوعية لذلك، وتكشف عن تحولات عميقة في وعي الجماهير الفلسطينية في الضفة الغربية، وفشل سياسات إعادة هندسة المجتمع، وصياغة وعيه.