بقلم: د.محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
عندما بدأت الدولة العثمانية بإعطاء ”الامتيازات الأجنبية“ في عهد السلطان سليمان القانوني منذ سنة 1535، لم تكن تدرك أن ذلك سيكون مدخلاً لشر مستقبلي مستطير؛ فالدولة كانت أقوى دول العالم، عندما وقعت أولى هذه الاتفاقات مع فرنسا، وكانت تعطي هذه الامتيازات من باب التسامح والرحمة وتشجيع العلاقات التجارية.
غير أن هذه الامتيازات كانت تتضمن حق رعايا الدول الغربية (الأجنبية) بالإقامة والتنقل والتجارة، مع الإعفاء غالباً من الرسوم المالية والجمركية والعقارية، والحصانة القضائية، فلا يحاكم الأجنبي في المحاكم الوطنية (المحلية) بل أمام قنصلية بلاده، ووفقاً لقانون بلاده في معظم القضايا. ومع مرور الزمن، أخذت الدول الغربية برعاية مصالح المسيحيين الذين يتبعون مذاهبها، فالفرنسيون يرعون الكاثوليك بما في ذلك موارنة لبنان، والروس يرعون مصالح الأرثوذكس، ويرعى البريطانيون مصالح البروتستانت، وفي مرحلة لاحقة أخذ البريطانيون يرعون مصالح اليهود في فلسطين.
ومع تدهور الدولة العثمانية وضعفها، كانت ”الامتيازات“ مدخلاً أجنبياً للعبث في أحشائها وإثارة الفتن والنعرات الطائفية، والتضخيم غير العادل للأرباح التجارية للأجانب، والاعتداء على الحقوق، والتهرُّب من القضاء. وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تفسُّخ وسقوط الدولة العثمانية.
وعلى سبيل المثال، فقد شكلت الاضطرابات التي شهدها جبل لبنان، خصوصاً بين الموارنة والدروز سنة 1860 فرصة للتدخل الغربي وخصوصاً الفرنسي، تحت ذريعة حماية المسيحيين، ففرضت الدول الغربية نظاماً على الدولة العثمانية، نشأت بموجبه ولاية جبل لبنان، شرط أن يكون الوالي مسيحياً، تقترحه الدولة العثمانية، ولكنه لا يستلم مهامه قبل أن توافق عليه ستّ دول أوروبية هي فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا وبروسيا (ألمانيا)!!
***
العلاقات الخارجية ضرورة لا بد منها بين الدول، غير أن هذه العلاقات يجب أن تكون على قاعدة التكافؤ والمساواة واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وعادة ما تضع الدول ضمن مقاييس ”المناعة الوطنية“ مسألة الاستقلال والبعد عن الهيمنة الخارجية ضمن أبرز معاييرها. غير أن ضعف أي دولة قد يجعلها عرضة للتدخل الخارجي الذي سينفذ من نقاط الضعف لتحقيق مصالحه وأجنداته الخاصة. وقد يكون هذا الضعف متمثلاً في صراع سياسي، أو تدهور اقتصادي، أو اضطرابات أمنية، أو قلاقل اجتماعية وعرقية ودينية، أو استقواء من أطراف محلية بقوى خارجية في صراعاتها الداخلية.
يضع دارسو التحليل السياسي وتقدير الموقف معيار ”اللاعبون“ ضمن أبرز المعايير عند القيام بأي تحليل أو تقدير. ويتم تحديد اللاعبين الكبار والصغار والمحليين والخارجيين وإعطاء كلّ لاعبٍ ثقلاً نوعياً محدداً، لمعرفة دوره وحدود تأثيره. وكثيراً ما تقع الأخطاء والاختلافات نتيجة سوء تقدير أحجام اللاعبين وطرق واحتمالات تدخلهم. وكثيراً أيضاً ما تحدث مبالغات في تقدير الدور الخارجي، مع تكريس ”نظرية المؤامرة“، كما يتم أحياناً إهماله وعدم الالتفات إليه، وفي أحيان أخرى يتم تضخيم أو إضعاف دور دولة خارجية على حساب دول أخرى،… وفي كل الأحوال، فإن أي سوء تقدير قد يؤدي إلى نتائج كارثية.
***
لم يستطع محمد علي باشا الذي تمكن من الحكم والياً للعثمانيين على مصر منذ 1805، أن يحقق طموحاته في التوسع على حساب الدولة العثمانية أو الحلول مكانها، حيث كان للدور الخارجي تأثير حاسم في قصقصة أجنحته والهبوط بمستوى طموحاته. فبعد أن قام (مستعيناً بالدعم الفرنسي) بالسيطرة على بلاد الشام، وتقدم في الأناضول حيث هزم العثمانيين في موقعة قونية 1832؛ اضطر العثمانيون للاستعانة بعدوهم التقليدي روسيا لحماية الأستانة (إسطنبول). وتدخلت القوى الكبرى لعمل معاهدة كوتاهية 1833 بما يضمن سيطرة محمد علي باشا على بلاد الشام، وانسحابه من الأناضول. وعندما اندلع الصراع مرة أخرى، وتمكن محمد علي من هزيمة العثمانيين وتدمير جيشهم سنة 1839 تدخلت قوى دولية أربع هي بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا لتفرض على محمد علي الانسحاب من الشام والاكتفاء بحكم مصر حكماً وراثياً، تحت السلطة الاسمية للدولة العثمانية.
كان سبب تدخل بريطانيا وحلفاؤها يكمن في أن بقاء دولة عثمانيةٍ ضعيفةٍ (بانتظار نضج ”الكعكة“، وتوفر بيئة أنسب للحصول على حصص أكبر عند اقتسامها) أفضل من صعود محمد علي قوي، يخلف الدولة العثمانية، وقد يقطع الطريق على طموحاتها.
كان على محمد علي عندما قرر التحالف مع ”الذئب“ الفرنسي أن يعلم أن ثمة ”ذئاب“ أخرى متربصة، وأن خصومه قد يضطرون للاستعانة بها. ولم تنفع محمد علي ميوله الغربية وجهوده التحديثية، ليعلم في النهاية أن ثمة سقف لطموحاته.
وهكذا أصبح من الواضح أن شأن المنطقة العربية لم يعد شأناً محلياً، وأن رسم أي خرائط جديدة لقوى النفوذ والحدود بين الدول، تدخل فيه العوامل الخارجية بدرجات متفاوتة وفق درجات المصالح والأولويات والقوة للاعبين الكبار.
***
ولعل العثمانيين استفادوا لفترة من التنافس والصراع الاستعماري بين القوى الكبرى، غير أن بروز ما يعرف بـ ”توازن القوة الاستعماري“ Colonial Balance of Power، جعل القوى الكبرى تسعى لتجنب الاصطدام المباشر، وتنسق فيما بينها عملية تقاسم المستعمرات ومناطق النفوذ، على حساب الدول الأضعف منها. وقد دفعت الدولة العثمانية ثمن ذلك غالياً إثر انتصار الروس عليها سنة 1878 وإثر انعقاد مؤتمر برلين في السنة نفسها؛ وفيه توافقت القوى الكبرى المعنية على توزيع أجزاء من الدولة العثمانية فيما بينها رغم أنف العثمانيين؛ فمقابل السكوت (الموافقة الضمنية) على انفصال رومانيا وبلغاريا عن الدولة العثمانية، تم السكوت عن سيطرة النمسا على البوسنة والهرسك، في مقابل السكوت عن استعمار بريطانيا لقبرص، واستعمار فرنسا لتونس.
وبعد ذلك بسنوات اضطرت فرنسا للسكوت عن الاستعمار البريطاني لمصر (1882)، مقابل السكوت البريطاني عن الاستعمار الفرنسي للمغرب لاحقاً. أما ألمانيا التي كانت طامعة في استعمار المغرب فتم إقناعها بالسكوت، مقابل استعمار مساحات شاسعة في شرق إفريقيا في تنزانيا ورواندا وبوروندي!! كما تم إرضاء الإيطاليين بالسكوت عن استعمارهم لليبيا وجنوب الصومال.
وبالتالي أخذت الذئاب تتوزع ”الفرائس“ دون أدنى شفقة أو رحمة، وكانت الضحية هي البلدان الضعيفة، وخصوصاً مناطق الدولة العثمانية التي آذنت بالرحيل.
***
أدى انكسار معايير توازن القوة Balance of Power بين القوى الكبرى (بالإضافة إلى عوامل أخرى) إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914–1918؛ فسعت هذه الدول إلى بناء تحالفات تضمن لها الانتصار في النهاية. وفي مثل هذه البيئة قرر الشريف حسين بن علي ”الرقص مع الذئاب“ فأطلق ثورته ضد الدولة العثمانية بناء على وعودٍ (مراسلات الحسين – مكماهون 1915–1916) فَهِمَ منها دعم البريطانيين لقيام دولة عربية بقيادته في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. غير أن البريطانيين كانوا يتفاوضون في الوقت نفسه مع الفرنسيين فعقدوا اتفاقية سايكس–بيكو في أيار/ مايو 1916، ليتوزعوا السيطرة فيما بينهما على بلاد الشام والعراق وجنوب تركيا في حال انتصارهم على العثمانيين، كما عقد البريطانيون اتفاقاً ثالثاً مع الحركة الصهيونية أصدروا بموجبه وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين.
كان الشريف حسين يظن أن الحكومة البريطانية تحفظ عهودها، ولم يكن يدرك أن استدعاء القوى الكبرى أو التحالف معها في صراعات المنطقة، في بيئة غير متكافئة، يفتح لها أبواب التدخل وفرص رسم خرائط. ولذلك فإن بريطانيا التزمت بعهودها مع الفرنسيين والصهاينة، بينما قلبت للشريف حسين وللعرب ظهر المِجَنّ. ولم يأبه البريطانيون أن يكونوا قد التزموا في الحرب العالمية الأولى بثلاث التزامات متناقضة تجاه فلسطين، أحدها يُفهم منه استقلالها ضمن الدولة العربية، وثانيها يجعلها منطقة دولية ضمن اتفاق سايكس–بيكو، وثالثها يجعلها وطناً قومياً لليهود!!
***
الحسابات الخاطئة لصدام حسين عندما احتل الكويت في صيف 1990، أدت إلى استدعاء القيادة الكويتية للقوى الكبرى والدول العربية لإجبارها على الانسحاب من الكويت، مما أدى إلى ما يعرف بحرب الخليج، مما انعكس دماراً على الكويت، وحصاراً خانقاً على العراق، وانتفاضات واضطرابات في العراق تم قمعها بقسوة، وتأسيساً للحكم الذاتي الكردي في شمال العراق بمظلة حماية جوية أمريكية؛ وفوق ذلك كله مزيداً من التشرذم العربي والإسلامي، ومزيداً من النفوذ والقواعد الأمريكية في المنطقة.
ويتجلى جزء كبير من الأزمة اللبنانية في استعانة أطراف الصراع والتنافس بقوى خارجية عربية وإقليمية ودولية والاستقواء بها في تحقيق المكاسب والنفوذ، وبالتالي تحول لبنان إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين القوى الإقليمية والدولية، كان الخاسر الأكبر فيه لبنان نفسه بإنسانه وأرضه ومؤسساته وبناه التحتية، حتى وإن حققت بعض الزعامات الطائفية والعائلية مكاسب مؤقتة. بينما وجد اللبنانيون أنفسهم مرتهنين بدرجات متفاوتة (على مر السنوات السبعين الماضية) بالإرادات الخارجية الدولية الفرنسية والأمريكية والإقليمية المصرية والسورية والسعودية والإيرانية…إلخ؛ بالإضافة إلى محاولات الطرف الإسرائيلي فرض أجندته.
***
ومن جهة أخرى، كان الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، الذي رحبت به، ودعت له، أطراف عراقية عديدة علناً أو ضمناً ذو نتائج كارثية. ولم تنجح الأطراف العراقية في بناء نموذج وطني متماسك بعد إسقاط نظام صدام حسين، ودخلت في صراعات داخلية ضربت النسيج الاجتماعي والبنى السياسية والاقتصادية. وبينما استفاد النظام الجديد في بغداد من الدعم الأمريكي والإيراني في ترسيخ نفوذٍ ذو لون طائفي معيَّن؛ فقد استفاد الأكراد في شمال العراق من القوى الغربية في ترسيخ حكمهم الذاتي؛ بينما سعت باقي الأطراف (العربية السنية) للاستعانة بقوى عربية خليجية وغيرها؛ أو اتجهت إلى أشكال مقاومة مسلحة ضد الأمريكان، أو ضد ما ترى أنه أجندة طائفية تستهدفها.
أما في الحالة السورية، ففي اللحظة التي قرر فيها النظام استخدام الحل الأمني العسكري ضد الحراك الشعبي الواسع؛ وفي اللحظة التي قرر فيها الاستعانة بقوى خارجية صديقة (إيران وروسيا…) في قمع الانتفاضة، فإن القوى الشعبية التي أُغلقت أبواب التغيير السلمي في وجهها، وجدت نفسها بين خيار الخضوع من جديد للنظام وشروطه، وبين الاستعانة بقوى خارجية لتواجه بطريقة مكافئة التحدي الأمني والعسكري الجديد الذي فرضه النظام. وقد كان ذلك مدخلاً لتدخل قوى إقليمية أخرى كتركيا والسعودية وقطر وقوى دولية أخرى كأمريكا وفرنسا وبريطانيا… .
ومرة أخرى، كان ثمن التدخل الخارجي باهظاً دفعه السوريون من كافة أطيافهم (شعباً وسلطة ومعارضة) دماء وأشلاء ودماراً اقتصادياً وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي وانهياراً للمؤسسات والخدمات… ليجد السوريون أنفسهم في النهاية مرتهنون، حتى لمجرد اتفاق هدنة في أحياء حلب، لاتفاقات بين الروس والأمريكان… الذين يسعون لفرض أجندتهم الخارجية وفق مصالحهم وليس وفق مصالح وأولويات الشعب السوري؛ وليكون الكاسب الأكبر في اللحظة الراهنة هو الكيان الإسرائيلي؛ بانتظار أن يتمكن السوريون من العودة لإمساك زمام المبادرة التي لا يمكن أن تقف على رجليها دون التخلص من التدخل الخارجي أو على الأقل إضعاف دوره إلى الحد الأدنى.
***
وهكذا، فإن القاعدة الأساسية التي يجب أن يفهمها أهل المنطقة:
• أن القوى الكبرى ليست ”جمعيات خيرية“،
• وأنها تسعى لخدمة مصالحها بعيداً عن المعايير الأخلاقية التي يتوقعها أو يرغبها أهل المنطقة،
• وأن المفهوم السائد في العلاقات الدولية هو: لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة… ولكن مصالح دائمة،
• وأن الضعفاء لا بواكي لهم في النظام الدولي،
• وأن الذي يستدعي أياً من القوى الكبرى لدعمه… عليه أن يتوقع دفع أثمان باهظة من سيادته واقتصاده ودماء شعبه وحتى من حضارته وهويته الوطنية والثقافية…
• وأن أثمان التفاهم الداخلي مهما ارتفعت تظل أفضل من استدعاء القوى الخارجية… التي ستفرض أجندتها ومصالحها على الجميع.
ولعلنا نستكمل في مقال قادم معايير التعامل اللازم من أبناء المنطقة ودولها مع بيئات التدخل الخارجي.