محمد فاروق الإمام
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
مدينة طرابلس هي عروس الشمال اللبناني على مر تاريخ لبنان قبل انفصاله عن سورية الأم وبعد انفصاله، بفعل الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي مزق سورية إلى أربع دويلات طائفية في حينها، وطرابلس اليوم تستحق عن جدارة أن توصف، كما يقول المحللون والمراقبون للأحداث الجارية في لبنان، بأن طرابلس هي عروس الثورة اللبنانية، هذه الثورة العظيمة التي انطلقت بعفوية في جميع ربوع لبنان، طالبة رحيل الجوقة الحاكمة الفاسدة، وزعماء السياسة الفاسدون، وقد وصفتهم باللصوص والحرامية، كما نادت الجماهير الثائرة منذ اليوم الأول لانطلاقتها، والتي نددت بالطائفية البغيضة التي أسس لها وجذّرها في المجتمع اللبناني عميل قم وخادم الولي الفقيه الإيراني حسن نصر اللات، بدعم من طهران والنظام المجرم في دمشق، والذي كان شريكاً للنظام في سفك دماء ما يزيد على مليون مواطن سوري، واعتقال وسجن نصف مليون من شباب سورية وحرائرها، وتهجير ثمانية ملايين خارج الحدود؛ انتشروا في كل أصقاع الأرض، ونزوح نحو سبعة ملايين داخل سورية، وقد هدّم نمرود الشام وحلفائه مدنهم وبلداتهم وقراهم، فهاموا في عرض البلاد وطولها بحثاً عن الأمن والأمان، وكان الموت يلاحقهم حتى وهم في الخيام التي أقاموها في المزارع والسهول والوديان وتحت الأشجار، وقد عرّت الأحداث في سورية الدجال حسن نصر اللات، عندما توجهت جحافل ميليشياته والمرتزقة التي جندتها طهران إلى المدن السورية، لترتكب أبشع المجازر والمذابح بحق السوريين المدنيين العزل، تحت شعارات طائفية حاقدة (يا لثارات الحسين ولبيك يا زينب)، وقد خرج المهرج الكبير سيد المقاومة الكونتيشية نصر اللات، ليعلن على الملأ بلا خجل أو حياء، أن الطريق إلى القدس يمر عبر القلمون ودمشق وحمص وحلب والرقة ودير الزور.
لقد عرّت الثورة السورية هذا الدجال وأسقطت ورقة التوت عن سوآته، وخبر اللبنانيون ألاعيبه ومسرحياته، ونفاقه وكذبه، ويعلنون بالصوت العالي (كلن.. كلن.. وانت واحد منن).
طرابلس عاصمة شمال لبنان كانت ولا تزال تعاني من إهمال شديد لمرافقها ويعيش 57 في المئة من سكانها عند خط الفقر أو دونه، بينما يعاني 26 في المئة من فقر مدقع، وفق دراسة للأمم المتحدة عام 2015. وفي الأيام الأولى للحراك الشعبي، مزّق المتظاهرون صوراً للزعماء تنتشر في الأحياء الفقيرة وعلى المحال والأعمدة الكهربائية، من دون أن يستثنوا أحداً، وفي مقدمهم رئيس الحكومة سعد الحريري الذي كان يحظى بشعبية كبيرة، إضافة إلى زعماء محليين بينهم رجال أعمال يعدون من أبرز أثرياء لبنان، ولم تستثنى صور ثيد المقاومة حسن نصر اللات التي أحرقوها بعد إنزالها.
وبعدما انتشرت مقاطع فيديو مصورة في المدينة على مواقع التواصل الاجتماعي وعبر وكالات الأنباء، تعلن عن غضبة الجماهير واحتجاجاتها القوية ضد الطبقة السياسية الحاكمة الفاسدة، انضم متظاهرون من مختلف المناطق المجاورة إلى تحرك جماهير طرابلس.
وكانت الجماهير الغاضبة عبر مكبرات الصوت، توجه تحية إلى منطقتي زغرتا وبشري ذات الغالبية المسيحية والضاحية الجنوبية ذات الغالبية الشيعية ومناطق أخرى.
لقد بدت طرابلس كعروس زاهية تزفها الجماهير بصيحاتهم التي تعانق السماء منددة بالطبقة الحاكمة التي استمرأت استغلال المواطن اللبناني وقهره وإزلاله وإفقاره، نعم إنه عرس بكل ما تحمله الكلمة من معني، وقد تطوعت مؤسسات محلية وأفراد لتوزيع حلويات تشتهر بها المدينة على المتظاهرين، أو وجبات طعام وعبوات مياه وعصير الليمون، بينما يجد فقراء المدينة الذين يبيعون الفول المسلوق وعرانيس الذرة في هذه التجمعات مصدر رزق لهم.
طرابلس التي تضم أثرياء من سياسيين ورجال أعمال، انقسمت عمودياً بين أحياء فقيرة تعاني من الحرمان، وضواح غنية تسكنها طبقة حاكمة متخمة، لا تشعر بمعاناة الفقراء وحاجاتهم، والمتظاهرون يتهمون هذه الفئة بأنها فئة بلا قيم أو أخلاق،استغلت عرق المواطن وتعبه، وكنزت الأموال في بنوك داخل البلاد وخارجها، بدلاً من استثمار هذه الأموال في رفع مستوى اللبنانيين وسد حاجتهم وعوزهم، مطالبين بقيام دولة مدنية تحترم كرامة الإنسان وحريته، وفصل للسلطات، وإلغاء المحاصصة الطائفية التي مزقت لبنان وأهله، ومآسي الحرب اللبنانية الطائفية والدينية والمذهبية لاتزال ماثلة بكل قتامتها ومرارتها في مخيلة اللبنانيين، وكان لابد من ثورة على هذه الفئة المارقة من الطبقة الحاكمة الفاسدة، فالقهر والمظلومية لها حدود، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: لو كان الفقر رجلاً لقتلته، وقال: أعجب لجائع لا يشهر سيفه.
وشهدت المدينة نزاعات عدّة على مدى عقود، والتحق مئات من أبنائها بالمقاتلين السوريين ضد النظام في سورية، رداً على ما قام به حزب اللات وميليشيات القتل التي جندتها إيران، لدعم النظام السوري وذبح السوريين، منذ اندلاع الثورة عام 2011، ولاحقت السلطات اللبنانية شباب المدينة الذين لبوا نداء إخوانهم في سورية، وأوقفتهم بتهم التخطيط والمشاركة في عمليات إرهابية واعتداءات في لبنان، أو التوجه إلى سورية للالتحاق في صفوف التنظيمات الإرهابية كما تصف هذه السلطات مقاتلي الجيش الحر، وشهدت المدينة في الفترة الممتدة بين العامين 2007 و2014، عشرين جولة اقتتال على الأقل بين سكان جبل محسن ذي الغالبية النصيرية (العلوية) التي تدين بالولاء للنظام العلوي في دمشق، وسكان حي التبانة ذي الغالبية السنية، كما تعرضت لتفجيرات استهدف أبرزها مسجدين في المدينة صيف 2013، ما أوقع 45 قتيلاً وعشرات الجرحى.
لقد تدفّق الآلاف من مختلف مناطق الشمال يومياً منذ ليل الجمعة الماضية إلى طرابلس، وتجمعوا في ساحة عبد الحميد كرامي؛ المعروفة بساحة النور في المدينة الساحلية، تنديداً بالظروف المعيشية الصعبة والبطالة والفساد، كما هي الحال في بقية المناطق، لكن التظاهرات فيها سرعان ما اتخذت طابعاً احتفالياً استثنائياً، ميزها عن باقي التجمعات والمظاهرات في بيروت والمدن الأخرى، حيث تجمع الشباب في الهواء الطلق، حول مجسم كبير مضاء لكلمة “ألله”، الذي يعكس طابع المدينة ذات الغالبية السنية، ويرفع المعتصمون فيها هواتفهم الخليوية مضاءة كالشموع، تصدح حناجرهم بالأغاني الوطنية وتلك الحماسية الرائجة في صفوف الشباب، وباتت المدينة محط أنظار اللبنانيين ووجهة وسائل اعلام محلية ودولية؛ تفرد هواءها للبث المباشر، بعدما كانت تتسابق قبل سنوات على مواكبة جولات اقتتال دامية، شهدتها المدينة، وتصوير أولاد يحملون الأسلحة، أو تقصي أخبار بعض الميليشيات الطائفية، التي كانت تتغول في المدينة وتتنمر على أهلها.
لقد دفعت طرابلس ثمناً باهظاً جراء النظام السياسي القائم في البلد؛ وحمّلت وصمة الإرهاب وهي أبعد ما تكون عنه كذباً وافتراءً، وكان الجميع يخاف من الدخول إلى المدينة باعتبارها، كما يصفها الإعلام الطائفي المعادي للحياة والإنسانية، وكراً للإرهابيين والمتشددين، وتوضح هذه المظاهرات التي ضمت جميع الأطياف الدينية والمذهبية والطائفية، أن مدينتهم فخورة بهذه الفسيفساء الرائعة، لأنها جزء من تحرك عكس الطابع الحضاري لمدينة طرابلس عاصمة الشمال اللبناني، وبعدها عن الطائفية والدينية والعرقية والمذهبية، كما كان لبنان هذه حاله على مدى تاريخه قبل أن تقوم فيه المليشيات الطائفية البغيضة، على يد النظام السوري الذي احتل لبنان بدعم وتأييد من معممي قم.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي