مقدمة :
أحدثت عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، زلزالاً عظيماً في منظومة الأمن الإسرائيلي؛ أدى إلى خلخلة نظرية الردع الإسرائيلي وتآكلها، وأعادت العملية الاعتبار إلى الخيار العسكري بوصفه خياراً رئيسياً في عملية حسم الصراع مع الاحتلال، وبالقدر نفسه أعادت الاعتبار للقضية الفلسطينية بعد أن تراجع الاهتمام بها، ورسمت معالم جديدة في كيفية التعامل مع الاحتلال، وانبثق عنها العديد من النتائج والدروس والعبر.
ففي لحظة حاسمة من التاريخ وبعمق استراتيجي لا يُضاهى، استيقظ العالم على وقع عملية “طوفان الأقصى” التي أذهلت الجميع بجرأتها وتأثيرها. بلغت هذه العملية مستوى لم يكن متوقعاً، حيث كشفت عن هشاشة الجيش الإسرائيلي بصورة لم يتخيلها أحد. وحتى منظمو العملية لم يتوقَّعوا الانعكاسات الكبيرة التي أفرزتها، وكان أهم تجلياتها استسلام مواقع عسكرية إسرائيلية بالكامل للمقاومة الفلسطينية.
جاءت هذه العملية كتعبير عن حالة الاحتقان التي سادت ما قبل نقطة التحول هذه؛ وتراكم الغضب جرّاء الجرائم الصهيونية المتكررة المرتكبة في حق المدنيين والمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، لاسيَّما بعد فشل جميع الوساطات والتفاهمات لوقف الانتهاكات ضد حرمة المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين، ضمن سياسة ممنهجة لفرض التقسيم الزماني والمكاني، وفشل كافة اتفاقات التهدئة في لجم التغوُّل الصهيوني. ففي ظل هذا الواقع، وغياب الخيارات السياسية البديلة (في ضوء قلّة الحلفاء الجدّيين والأصدقاء الحقيقيين، وفي ضوء محاولات تجاوز الحقوق التاريخية الفلسطينية تارة بمسار التطبيع الإقليمي ومرةً بالتوظيف السياسي لنضالات وتضحيات الشعب الفلسطيني بدون مردود ملموس لمصلحة الفلسطينيين)، وتأثير ذلك كله على مستقبل القضية الفلسطينية ومكانتها إقليمياً ودولياً، وجدت المقاومة نفسها أمام لحظة الحقيقة، فإمّا أن تبقى ساكنة وتتفادى مواجهة قادمة لا محالة، حيث يتسارع معها المشروع الصهيوني في كافة الأرض الفلسطينية، ويفرض الحقائق والوقائع (من تهويد في القدس واستيطان في الضفة وحصار على غزة، وتواصل سياسات تعزيز الانقسام واستراتيجيات عزل الفلسطينيين)، ليتوج في نهاية المطاف بتصفية القضية الفلسطينية وإخضاع الفلسطينيين إخضاعاً نهائياً، وفقاً للتصورات والأفكار التي تعتنقها هذه الحكومة الأكثر تطرُّفاً وفاشيَّةً في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي؛ وإما أن تطلق مبادرة استراتيجية تُغيِّر المعادلات العسكرية والسياسية بعمل غير مسبوق على مدار حركة النضال الفلسطيني، يعيد الاعتبار للشعب الفلسطيني ويضع قضيته على رأس أجندة السياسة الإقليمية والدولية ويفتح الباب لكافة الاحتمالات لحل الصراع، وفقاً لتطلعات الشعب الفلسطيني في نيل الحرية والعودة والاستقلال، فكانت عملية طوفان الأقصى بعدما أيقنت المقاومة أن تكلفة استمرار الوضع الراهن للقضية الفلسطينية أعلى من كسر حالة الجمود السياسي والميداني السائد في المنطقة والمُتضرِّر الأول منه الفلسطينيون.
وفي إطار سعيها لمواكبة الأحداث الكبرى وتحليلها واستشراف مآلاتها، عمدت جمعية التفكير الاستراتيجي إلى استكتاب نخبة من الباحثين المختصين، لدراسة حدث طوفان الأقصى، دراسة تحليلية استشرافية، تستغرق لحظاته الثلاث: سياق الماضي الذي أنتجه؛ والعام الأول من مُجرياته ووقائعه التي ما زالت تدور رحاها وتتطور؛ والفرص والتحديات التي تتصل بأهم اللاعبين الفاعليت في الحدث؛ وُصولاً إلى استشراف مآلاته المستقبلية.
ومن أبرز ما خلصت الدراسة إليه أن معركة طوفان الأقصى قد تحوّلت إلى صراع إقليمي على هويَّة المنطقة وشكلها، بين قوى تسعى جاهدة للتطبيع وإدماج دولة الاحتلال في المنطقة، وقوى تحاول منع هذا السيناريو وتعيد تعريف القضية الفلسطينية وموقعها في العالم العربي والإسلامي بوصفها قضية مركزية للأمة، وتعيد تعريف المشروع الصهيوني بوصفه أساساً لكل المصائب والنكبات التي تصيب الأمة. وضمن هذا السياق، تتوفر جوانب إيجابية حدثت على صعيد الأمة، من أهمها تراجع البعد العربي في الصراع لحساب البعد الإسلامي الأعمّ، ذلك أن الدول العربية وأنظمتها الرسمية كانت إمّا صامتة وإمّا لم تبذل اي جهد وحل خلال الحرب مما اعطي الكيان الصهيوني ان يتفرد بالحرب والعدوان، حين برزت قوى إسلامية، عربية وغير عربية، مثل إيران وتركيا إضافة إلى حركات المقاومة الإسلامية في المنطقة، كداعمين ومساندين للقضية الفلسطينية.
وهذا الأمر هو، عملياً تصحيح للمسار، في ظلِّ حالة الانحطاط العربي التي نعيشها. وإلى ذلك، فإنَّ مجريات الحرب وتطورها قد أدت إلى تراجع حدة الصراع السني الشيعي، وهو أمر يُنتظر أن يكون له تأثير مستقبلاً في العديد من الأزمات في المنطقة، إنْ أحسنت القوى الفاعلة التقاط هذه الفرصة.
كما استطاع طوفان الأقصى أن يحدث حالة من الوعي الجمعي على مستويات متعددة، وأن يكسر معادلات عملت المنظومة الغربية على ترسيخها، تتمثل بقدرة إسرائيل ومكانتها في بناء المعادلات السياسية والقيمية والثقافية في الشرق الأوسط. فقد اصطدمت هذه المعادلات، التي تحاول إسرائيل الآن أن ترممها، بتحديات عديدة تتمثل في عدم القدرة على حسم أي مواجهة، فقدرة إسرائيل التي كانت تقوم على التفوق السياسي والعسكري لم تعد بذات الكفاءة التي كانت عليها في السابق، باعتبار أن حالة المواجهة الآن تؤسس إلى ما يمكن أن يسمى بالمعادلة الوجودية، وهذا بحد ذاته يشكل واحدة من أكبر الرهانات الحالية والمستقبلية في المنطقة بعامة.
وعليه، تتوفر متغيرات عديدة تشهدها المنطقة في المدى المنظور، قد ينبني عليها تغيرات في البعد الاستراتيجي. وهو ما يعني أن معركة طوفان الأقصى قد أسَّست لمرحلة تحويل لا يمكن الجزم بشكلها وطبيعتها، باعتبار أن التداعيات والتفاعلات لها ما زالت مستمرة.
أما فيما يتعلق بالفرص، فتعتقد الدراسة أن الفرصة الأهم اليوم تتمثل في إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني، وتثبيت الفلسطينيين على أرضهم في غزة، منعاً لمشروع التهجير الذي لطالما شكَّل هدفاً إسرائيلياً استراتيجياً، وما زال قائماً.
أما بالنسبة لإسرائيل، فعلى الرغم من تفوقها العسكري والتكنولوجي إلا أن ثمة إشارة يُمكن التقاطها من هذه الحرب تتمثل في القلق الوجودي الذي تعاني منه دولة الاحتلال، وعدم تمكنها على الرغم من وحشيتها المفرطة من تكريس استقرارها بعد عقودٍ طويلة من تأسيسيها، فهي ليست دولةً مستقلةً بل مَحْمِيَّة أمريكيَّة-أوروبيّة، مِمّا يطرح تساؤلاً جوهرياً مُهِمّاً: إلى أي مدى يُمكن أن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا دولاً حامية لإسرائيل؟ وماذا إذا تغيَّرت المعادلات الدولية؟
وعلى الرغم من الانتقادات الدولية لحرب السابع من أكتوبر، فإن الحكومة الإسرائيلية ترى في الحرب فرصة لتعزيز علاقاتها مع الدول الغربية، لاسيما الولايات المتحدة. كما أن الحرب قد تفتح المجال مسقبلاً لتقوية التعاون الأمني مع الدول العربية "المطبعة"، التي تشترك مع إسرائيل في القلق من التهديدات الإقليمية المشتركة، إنْ رَسَت الحرب وفق ما تحبُّ وتشتهي.
فيما تتيح الحرب للمعارضة الإسرائيلية فرصة لتقديم بدائل سياسية وأمنية للحكومة الحالية، لاسيَّما إذا استمرت الانتقادات حول فشل الحكومة في التنبؤ بالهجمات أو التعامل معها بفعاليَّة. إذ يمكن للمعارضة استخدام الحرب لتعزيز حضورها كصوت معارض قوي يقدم حلولاً أمنية وسياسية بديلة.
وبعد، لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ التطلع إلى النتائج النهائية والتحوُّلات المستقبلية المترتبة عليها هي عملية صعبة وغير يقينية، فالحرب لمّا تضعْ أوزارها بعد. ولذلك، فإنّ تناول هذا الموضوع هو أشبه بالسير في الرمال المتحركة، فالتحولات متسارعة ومتغيرة بشدَّة، وبعضها يناقضُ بعضاً. وهو بُعدٌ إشكالي، لكنه يعبر عن خصيصة مهمة للدراسة الحالية، يتمثل في جرأتها، ورهانها على استقصاء السيناريوهات، بعد أن سعت لاستقصاء أبراز الأبعاد وتحليل أهم التفاعلات والتداعيات الراهنة.
والله نسأل أن ينتفع بالدراسة ومنهجيتها غير قليل من المحللين والنخبويين، وجمعٌ غفيرٌ من المُهتمين والغيورين من هذه الأمة.
رئيس جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي
محمد سالم الراشد