هل تحقق مفهوم الاستقلال السوداني؟ أ.د. محمد حسين أبوصالح

أ.د. محمد حسين أبوصالح
أستاذ التخطيط الاستراتيجي القومي

سأتحدث في هذا المقال في شكل كبسولات مختصرة ( بانوراما ) أوصف فيها مآلات الحال في السودان منذ الاستقلال وحتى الآن، وإلى أين نسير، عسى أن نستبين النصح ويصحو الضمير السياسي، بدا لي أننا نحتاج لخطاب صريح دون تورية لوصف الحالة السودانية، على أمل أن نعي الدرس ونسير للأمام.
 إذا كان المفهوم العلمي البسيط للاستقلال يعني( قدرتنا الذاتية كمواطنين في بلورة وتحديد فلسفتنا ومصالحنا وغاياتنا وأهدافنا ومنظومة قيمنا الوطنية، وكيف نحقق ذلك بما يشمله من تحديد نظام الحكم والصيغة السياسية، وأن يتم كل ذلك بإرادتنا، لا بإرادات جهات داخلية ولا خارجية )،فيحق لنا ونحن نعيش في الذكرى ( 67 ) ( للاستقلال )،أن نتساءل: هل نحن دولة مستقلة ؟
 بنظرة سريعة منذ لحظة ميلاد الاستقلال وحتى الآن ، مرت أحداث وجرت وقائع تصف مستوى السلوك والأداء السياسي، بدءً من عدم الوفاء بالعهد مع الجنوبيين إزاء اتفاق ما قبل الاستقلال، ثم المكايدات التي أودت بالسلطة إلى العسكر (الفريق عبود)، ودخول البلاد في فقه سياسي يُعلي الآلة العسكرية، وهكذا برزت سلسلة من الانقلابات العسكرية التي انتهت بالانقلاب الشيوعي الذي جاء بنظام مايو، ثم قيام الجبهة الوطنية المسلحة وقيام جيش الأمة وحيش الفتح والدفاع الشعبي وقائمة طويلة من الحركات المسلحة، مجزرة بيت الضيافة، ضرب الجزيرة أبا وفض اعتصام الأنصار، استمرار مسلسل الإنقلابات فكان إنقلاب الإسلاميين (الإنقاذ) ثم انقلاب البعثيين، فض اعتصام القيادة، تحول مدن السودان لمليشيات عسكرية لا تُعد ولا تحصى، هذا مع سلوك وفعل سياسي يشوبه التشاكس والتخوين، دعم الجبهة الوطنية لوقف تنقيب البترول من أجل أجندة سياسية، التطهير والمحسوبية والتمكين وممارسات تتناقض ومبادئ الديمقراطية والحكم الراشد داخل الأحزاب نفسها، وسلسلة من ملفات فساد، انتهاءً بانفصال الجنوب، وصولاً لمسرح يسوده التشظي والكراهية وصراع الكراسي، تتمدد فيه الاستخبارات والأجندات الأجنبية،( 67 ) سنة على الاستقلال منها ( 57 ) رئاسة عسكرية للدولة مقابل، 10 سنوات فقط للرئاسة المدنية، ولعل في ذلك دلالات عميقة.
 وما بين عملة وطنية تعادل ثلاثة دولارات وصولاً لستمائة الف وساحة يتوفر فيها السلاح والذخيرة ، بينما تعاني من نقص البذور والسماد والتراكتورات وقطع الغيار، نحكي عن مستوى سلوك وفعل سياسي وعن حال بلد غني بتاريخه وخبرائه وموارده يستجدي الإغاثات والمساعدات وأغلبية صامتة مستلبة ومسرح سياسي يتحكم فيه أناس غير مفوضين، كأنما تعيش في طفولة سياسية.
 الدائرة الخبيثة التي ظل يدور فيها السودان بين حكم مدني وعسكري وانتقالي ومدني إلخ، نجمت عن عدد من الأسباب، يقف على رأسها استلام إدارة الدولة من المستعمر دون أن تكون لنا رؤية وطنية تعبر عن الوطن بكل تنوعه، تتضمن غاياتنا وقيمنا الوطنية، كما تتضمن الترتيبات الاستراتيجية اللازمة للتعامل مع التعقيدات الداخلية كالهشاشة الاجتماعية والسياسية والتعقيدات الخارجية المتمثل أهمها في الصراع الاستراتيجي الدولي، وهكذا خرجت الفكرة البريطانية دون أن تحل مكانها الرؤية السودانية حتى الآن.
 وإذا كان مصطلح الإرادة الوطنية يعبر عن إرادة وطن، وتنطلق من السؤال الكبير: ماذا يريد هذا الوطن بكل تنوعه؟ فسنكتشف أن وجود الرؤية أعلاه والتي تعبر عن الوجدان، عن التنوع عن الدولة لا حزب أو قبيلة ( ما )، هي الأساس لبلورة الإرادة : ( نحن السودانيين نريد )، وهكذا ظللنا دون إرادة حقيقية طوال 67 سنة، مما يعني أن الاستقلال لا يعني فقط جلاء القوات البريطانية ورفع العلم السوداني دون القدرة الذاتية في تحديد وتحقيق ما نريد كسودانيين لا كأحزاب ولا كقبائل أو جهات .
 انطلقت الثورات الثلاثة دون رؤية لما بعد الإسقاط، أي ثورات تفتقد للبُعد الفكري، بما في ذلك ثورة ديسمبر، يأتي ذلك في ظل بيئة دولية معقدة، يسودها التنافس والصراع، الشئ الذي سمح بسرقة تلك الثورات بواسطة من يمتلك التنظيم والرؤية والمال والأدوات، وهكذا بدأ تجهيز المسرح لتحقيق تلكم الهيكلة ولمصالح وغايات لا صلة لها بالثورة.
وهكذا ظللنا نهتم بالإسقاط فقط دون النظر لما بعد الإسقاط، دون النظر لطبيعة التقيدات التي سنتعامل معها والأدوات الذكية للصراع الدولي، وهكذا خرج البريطانيين في ديسمبر 1955، ثم سقط نظام عبود في اكتوبر 1964 ثم نظام مايو في ابريل 1985 وأخيراً نظام الإنقاذ في أبريل 2019، مما يعني أن طبيعة الثورات السودانية لم تعبر عن مفهوم الاستقلال وكيفية تحقيقه.
هذا البُعد المفقود أدخل السودان في صراع الإرادات منذ ما قبل الاستقلال وحتى الآن، وظلت المحاولات مستمرة لتخطي إرادة الشعب وهو معنى يخالف مفهوم الاستقلال.
 وهكذا سقط نظام الإنقاذ دون رؤية لما بعد السقوط، الشئ الذي أدى للمناخ المناسب لصناعة الفوضى الخلاقة، وتمثل ذلك في فراغ ما بعد السقوط .
 ظل السودان في مسرح الصراع الاستراتيجي الدولي طوال العقود الماضية، في كافة محاوره ( الطاقة والمعادن والأرض والمياه والموقع الجيوستراتيجي بجانب الصراع الثقافي ) دون رؤية استراتيجية للتعامل معه، ونشهد حالياً محاولات استكمال الترتيبات الذكية لإضعاف الدولة تمهيداً لابتزازها وإعادة هيكلتها وتوجيهها، لكن وفق مرجعيات فكرية خارجية ومصالح جهات خارجية، وهو وضع يتناقض تماماً مع مفهوم الاستقلال.
 وهكذا نتيجة ضعف الهم الوطني والوعي الاستراتيجي وأنانية الكثيرين، نجح المخطط الخارجي ووصلنا مرحلة الركود الاقتصادي، انخفاض مُخِل للقوة الشرائية، تدهور للخدمات، انهيار لقيمة العملة، توقف عدد كبير من المصانع، تأثر الإنتاج الزراعي بسبب الارتباك السياسي والسياسات المالية والحالة الأمنية، تنامي خطاب الكراهية، وبروز سيناريوهات المطالبة بالانفصال، وهي ترتيب ذكي ومخطط نجح في توصيل الناس لحالة الياس الذي يجعلهم يرون أن الحل في الانفصال .. وفي الوقت الذي تتكتل فيه الأمة الامريكية والاتحاد الأوربي وقيام مجموعة البريكس، نحن نتجه بغباء نحو التمزق.
 وهكذا بغياب الحكمة وهشاشة المسرح، صارت الفوضى الخلاقة واقع يتمثل في هذا الانتهاك المستمر للسيادة والكم الهائل من المليشيات ذات العقائد القتالية المتباينة,، الانفلاتات الأمنية المتكررة، وتنامي الكراهية والروح العدائية والانفصالية والتدهور الكبير في الخدمات من صحة وتعليم وهذا الكم الهائل من المليشيات المسلحة بعقائد قتالية متناقضة، وممارسات وتكتيكات غير محسوبة العواقب تعتمد على وسائل ضارة بالمصالح الوطنية كإغلاق الموانئ والطرق البرية، وبهذا الشكل تضررت الموانئ والعملية الاقتصادية، وإذا استمر الحال هكذا فستتوقف عمليات البترول ويتعطل الانبوب وتتعطل الزراعةـ بينما لا زال المسرح السياسي السوداني يشهد مزيداً من التعقيد والارتباك، إلى وصلنا إلى مرحلة أشبه بالإنسداد.
 في قراءتي للمشهد السوداني لاحظت ( 32 ) أداة تم استخدامها ببراعة في السودان، أهمها العلم المعروف بصناعة الأزمة، ( crisis industry )، استلاب الإرادة الوطنية عن طريق تمويل النشاط السياسي، أو عبر مصيدة الديون أو تمويل واحتضان التنظيمات السياسية أو المسلحة، أو استخدام الملفات الحمراء، صناعة القيادات الوطنية، العقوبات السياسية والاقتصادية، ودعم أو تأسيس أو احتواء التنظيمات المسلحة، تدمير القوى البشرية وإضعاف المجتمع عبر المخدرات والمؤثرات العقلية،إضعاف قوة الدولة بالتفتيت الوجداني عبر صناعة الكراهية، أدلجة القبيلة وتحويلها من إطار اجتماعي إلى مؤسسة عقدية وفكرية وسياسية، وهذا يعني محاولة إضعاف الانتماء العقدي والفكري والسياسي وإحلال القبيلة مكان ذلك، وتحويلها لمخزن للعدوان والأحقاد، لتصبح مطية لأصحاب المصالح الشخصية الضيقة ومعبراً للمخططات العدوانية ومن ثم تشكيل بيئة تتناقض وتأسيس الوطن وتحقيق الالتحام والإنتماء الوطني. وأخيراً استخدام سياسة الفوضى الخلاقة ( creative chaos) التي نعيش نتائجها في هذا المشهد السياسي العبثي الراهن، وبعد كل هذا، لا زال هناك من يعتقد أن العالم تحكمه الملائكة وأن هناك سياج أخلاقي يحكم السياسة على الساحة الدولية، وأن القتل والتدمير يتم فقط بالبندقية ولا توجد أدوات أخرى.
 المشهد السياسي الراهن يُدار بواسطة أطراف جميعها غير مفوضة من الشعب السوداني، ( أحزاب أو حركات مسلحة ) وتخوض في موضوعات هي من صميم سلطة الشعب.
 لا يدعي حزب أو جهة ( ما ) أنها أخرجت الناس بتلك الأعداد الضخمة في ابريل أو 30 يونيو 2019، ولعل الدليل على ذلك فشل كافة الأطراف في تكرار حشد بمستوى 30 يونيو طوال أربعة سنوات مضت.
 ربما هناك من فتح القيادة للثوار، لكن لا يدعي أحد أنه أخرج الشعب السوداني بذلك التنوع من كل انحاء السودان صوفية وسلفية ومستقلين ومهنيين وحزبيين وأقباط من الشرق والغرب والوسط والشمال والجنوب.
 الكل يتحدث وبجرأة عن تمثيل الثورة، بينما الواقع يشير إلى عدم إجراء أي استفتاء أو دراسة ميدانية وفق المنهج العلمي وعلم الإحصاء، للحصول على تفويض المئات من الآلاف الذين خرجوا في 30 يونيو، نحن أمام جرأة عجيبة ونفاق واستهبال سياسي غريب أضر بالبلد بشكل عميق.
 هكذا ظهرت قوى ولافتات بمسميات متعددة تفتقد للسند الشعبي والثوري، تتدعى تمثيل الشعب والثورة والثوار، بينما لا وجود لها على الأرض لكنها تظل فاعلة ومؤثرة في المشهد السياسي بفضل قوة الاعتراف الخارجي، مما يشكل تناقض صريح بين روح الثورة التي ينبغي أن تؤسس للإرادة السودانية، وهذه اللافتات التي تؤسس في غالب الأمر لإرادة الخارج ولإرادات شخصية وتنظيمية ضيقة، أكثر من إرادة الداخل، الشئ الذي يقدح في أهليتها للحفاظ على الإرادة الوطنية، يأتي هذا في الوقت الذي استعصت فيه كافة المحاولات لتوحيد القوى الثورية تحت رؤية وقيادة واحدة، بل تنامت فيه وسائل الاتجار بالشهداء ودماء الشباب بل ووصلت مرحلة استخدام المخدرات والمال، في سقوط أخلاقي مدوي .
 وبرزت تنظيمات مسلحة تفرض رأيها على الشعب بقوة السلاح لا بقوة التفويض الشعبي المؤسس علمياً ولا بقوة الفكر، مع بروز الدعم السريع كقوة مسلحة متنامية لها تـأثير في المشهد السياسي، في ظل غياب البرلمان وغياب الإرادة الشعبة، هكذا سُرِقت الثورة واستلبت الإرادة السودانية وتمددت كثير من الأجندات الضيقة.
 بمثل ما جرى الحوار بين أطراف سياسية لا تمثل الثورة ولا تملك تفويضاً من الشعب السوداني، بدأ حواراً بذات المنهج مع الحركات المسلحة، انتهى بتقاسم سلطة واتفاق، تم ركل الثوار الذين اسقطوا النظام وذهبوا للحوار مع الحركات، رغما عن أن الوضع الطبيعي هو ان تلتئم هذه الحركات وغيرها في مؤتمر حوار استراتيجي تُحشد فيه شوربة معرفية وليس خبرات عدد محدود من السياسيين وحملة السلاح، من أجل التوصل لرؤية تعالج القضايا التي من أجلها حملوا السلاح، يجيزها الشعب السوداني عبر برلمان منتخب وربما استفتاء عام، هكذا يتم التأسيس للإرادة الوطنية وللاستقلال.
 على صعيد الأحزاب، تشهد الساحة صراع محموم طرفه هذه الأحزاب وهي أيضاً لا تملك تفويضاً من الشعب، وإذا تجاوزنا الانتخابات التي جرت في عهد الإنقاذ، وعدنا لانتخابات العام 1986 التي جرت قبل 36 عام وصوت فيها 3.9 مليون، نصفهم ربما أصبح في عداد الموتى، بينما من يحق لهم التصويت يفوق العشرين مليون معظمهم من الشباب، وفي ظل التحولات الكبيرة المتوقعة في توجهات الشباب الناتجة عن تنامي المتسارع للوعي الشبابي وتعرفه على التجارب الإنسانية في العالم من خلال وجودهم في المجتمع الافتراضي، يصبح الحديث عن تمثيل الشعب مجرد إدعاء لا تسنده أي حقائق علمية.
 المثير خلال هذه السنوات الأربعة التي اتسمت بصراع الاجندات والكراسي، والتخوين والانتقام، غابت فيها الأفكار الجادة المتعمقة المتعلقة بتحقيق النهضة أو التأسيس لإدارة حوار استراتيجي دولي أو التعامل مع التعقيدات الدولية أو بلورة الفلسفة الاقتصادية أو لأفكار وحلول عاجلة، بل على النقيض من ذلك نسمع من آن لآخر المطالبات بالاستثمارات الاستراتيجية من معادن ومياه واراضي زراعية ضخمة وموانئ بحرية، وجميعها يجب ان تتم في ظروف طبيعيةـ تحت مظلة نظام مؤسسي مالك لإرادته، علماً ان هذه الموارد والمزايا الاستراتيجية تعتبر من وسائل تحقيق الامن القومي لكونها تتيح للسودان فرصة لإدارة تبادل استراتيجي عالي المستوى ، في إشارة واضحة لارتباط ذلك بطبيعة ترتيبات المسرح السياسي منذ السقوط تمهيداً لذلك ، وهذه الوقائع تثبت صحة كل ما ذكرناه قبل أربعة سنوات ان السودان يشهد ترتيبات ذكية تمهد لابتزازه، وإذا استمر الحال هكذا فنحن على موعد بالتشظي الذي قد تسبقه حرب أهلية..
 غالب الفاعلين في الساحة السياسية غير مدركين لتفاصيل الصراع الاستراتيجي الدولي في الإقليم وفي السودان، وغير مدركين لطبيعة التحولات الكبيرة في التوازن الاستراتيجي الدولي وانعكاس ذلك على السودان، وما هي الطريقة المناسبة للتعامل مع هذا التعقيد.
 كثير من قيادات الإسلاميين ارتكزت كثيراً على تكتيكات سياسية تستفيد من الضعف المُخِل لأداء الفترة الانتقالية، ولن يكون هذا مفيداً على المستوى الاستراتيجي، بل الأجدى كان ولا زال هو التوجه الحكيم المبني على تقييم استراتيجي صادق وأمين لفترة الإنقاذ يتم إعداده من منظور المصلحة الوطنية، لا سيما أن فترة الإنقاذ هي أطول فترات الحكم في السودان بعد الاستقلال، وهي ذات الفترة التي عبرت بها دول مثل ماليزيا وتركيا وسنغافورة إلخ
 يلاحظ تنامي التيارات المتصارعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وهو استقطاب أثبت أنه لن يؤسس للحل، وإنما تيار سوداني فكري عميق يتجاوز اللافتات نحو المعاني وروح الدين.
 ولعل وقائع ما بعد الاستقلال انتهاء بما يجري الآن تشير للحاجة لاعتذار كل الأطراف للشعب السوداني .
 يشير الواقع إلى إخفاق كبير ، فبدلاً من إدارة عمليات التحول الديمقراطي واستيفاء الترتيبات للحفاظ على استقلال السودان والتأسيس لصناعة مستقبله، تحولت الفترة الانتقالية إلى مسرح لتمرير أجندات متناقضة وتخطي للإرادة مع ضعف بائن في الرؤية فاقم من التعقيدات الوطنية وقد يؤدي للانزلاق نحو الفوضى والانهيار.
 إن حالة الاستقطاب الموجود في الشارع الآن وتأجج المشاعر الوطنية، هو بسبب تجرؤ السلطة الانتقالية، وهي سلطة شرعية تقديرية وغير انتخابية، على تناول قضايا استراتيجية تحتاج لتفويض شعبي الشئ الذي يعني تجاوز الإرادة الشعبية وينسف المسرح الوطني المطلوب للانطلاق نحو المستقبل.
 يبدو واضحا في الشارع العام التراجع الحاد في ثقة المواطن تجاه الأحزاب والتنظيمات السياسية والجهات الفاعلة في المشهد السياسي. ومن المؤكد أن استمرار التشاكس والنزاع بين أطراف العملية السياسية والذي يعززه غياب الرؤية المشتركة، سيقود الى مناخ غير مواتي لتحقيق الاستقرار، وسيفاقم من احتمالات الفشل وانفجار الأوضاع وتعطيل دولاب العمل والتهديد بانهيار شامل للدولة. وهذا ينسف الفترة الانتقالية ويحولها إلى مسرح يهدد بقاء الدولة ووجودها على خارطة العالم ويهدد الأمن الوطني في كافة مناحيه الأخرى ويستلب الإرادة الوطنية ويهزم الثورة بدلا من أن تشكل مسرحاً لاستعادة الإرادة السودانية وبلورة التحدي الوطني واستعادة الأمل من أجل بناء وطن نفخر به جميعا.
 إن التطورات على الساحة الدولية والتغيرات المناخية ودخول العالم لمرحلة جديدة من التوازن الاستراتيجي والظرف الدولي الذي بدأ يتشكل بدخول روسيا في حربها مع أوكرانيا ودخول مرحلة جديدة من التوازن الاستراتيجي الدولي، وإعادة تشكيل التحالفات التي تعطي السودان بموقعه الجغرافي المميز وموارده الطبيعية، فرصة ماسية للقفز بالزانة للعبور فوق الأزمة نحو آفاق مستقبل أرحب ، إلا أن الارتباك والتشظي الذي لازم الساحة السياسية حرمنا من تحقيق تلك المصالح الاستراتيجية الضخمة التي يمكن أن تعوضنا هدر السنين الماضية، بل جعلنا أسرى ندور في فلك نقاط ضعفنا الوطنية فقط، والخوف من تهديدات الخصوم، وغير قادرين على إدراك قوتنا ومزايانا التي تشكلها مواردنا البشرية من الخبراء والمبدعين والموارد الطبيعية الضخمة والمزايا الجغرافية، في ظل بروز أزمات الغذاء والطاقة والمعادن، التي يمكن أن تجعل من السودان قوة جيوسياسية وجيواقتصادية من خلال بلورة مصالحنا الوطنية والسعي لتحقيقها، بل ظلت اطراف المسرح تلهث دون رؤية مع ممارسة لسلوك سياسي في معظمه تقليدي أناني يسعى لمصالح صغيرة، ( مع استثناء البعض القليل )،الشئ الذي ادخل السودان في دائرة الابتزاز ، وهي حالة تم التخطيط لها ونبهنا لها منذ أربعة سنوات.
 هذا يستدعي الجاهزية برؤية استراتيجية تمهد لدخول حوار استراتيجي دولي لإدارة تبادل استراتيجي يتيح التمويل والاستقرار والسند السياسي ونقل التقانة والحصول على حصص استراتيجية في السوق العالمي، لكن كل ذلك يصطدم بضحالة الهم السياسي وهشاشة البيئة السياسية التي وفرت ثغرات واسعة لاستمرار التحكم الخارجي رغم الضعف البائن الذي أصاب هذه الدول ورغم الفرص الكبيرة لتحقيق مصالح كبيرة.
 مما سبق يلاحظ أن هناك خلل جوهري وقف خلف ارتباك الأداء السوداني منذ الاستقلال، رغم امتلاكه لكافة مقومات النجاح، وهو الخلل الناجم عن الفراغ الفكري العميق المتعلق بإدارة الدولة وتشكيل مستقبلها، والذي خلفه غياب الرؤية السودانية ذات العمق الاستراتيجي، وتسبب بشكل أساسي في عدم قدرة الفاعلين في الساحة السياسية طوال العقود الماضية على التعامل المناسب مع تعقيدات المشهد الذي تجسده الأوضاع والظروف في البيئة الاستراتيجية سواء المحلية أو الإقليمية أو الدولية.
 كان الناس ولا زالوا يحلمون بدولة متقدمة تعيش في أمن ووئام ورفاهية ورغد من العيش يتمتع المواطن فيها بالكرامة والعدالة والخدمات المتكاملة.. وهذا بالضرورة لا يتأتى بمجرد الأحلام وإنما بإنتاج فكرة وطنية، وبناء وتطوير أوعية وتنظيمات سياسية عصرية تقوم على أسس المعرفة والإبداع والمؤسسية والممارسة السياسية والديمقراطية الراشدة، قادرة على التعامل مع التطورات والتعقيدات العصرية المتسارعة المتعلقة بإدارة الدولة داخلياً وخارجياًً، مستوعبة للوعي المتنامي للشباب والشعب السوداني. وتأسيس وتطوير مركز التفكير الوطني الذي يشكل المنصة لحشد وتوجيه وتنسيق المعرفة والابداع .
 نحتاج لإعادة هيكلة الدولة لكن يجب أن يتم ذلك وفق إرادة سودانية وتحت قبة برلمان منتحب.
 طرحت العديد من المبادرات لحل هذه الأزمة، ولا زالت الأوضاع تشهد مزيداً من التعقيد، ولعل النظر بين سطور هذا المقال توضح أن الموضوع ليس مجرد طرح مبادرات وإنما هو صراع إرادات، جانب منها إرادات خارجية وبعضها لجهات داخلية.
 الواقع يشير لهزيمة نفسية مقرونة بعوامل أخرى ذات صلة بالأدوات الذكية للصراع ، جعلت الساحة تميل دوماً نحو الحلول والتدخلات الخارجية ، وهي تدخلات غير مبرأة من المصالح والأجندات، بينما يتم إهمال الحلول السودانية.
 منطق المصلحة الوطنية يقتضي حل سوداني بوساطة سودانية يؤسس للإرادة الوطنية، فالوساطات الأجنبية ليست المنصة المناسبة لحل الإشكال، فإن كان الأمر يتعلق بالمعرفة والخبرات، فلا مجال للمقارنة بالإرث المعرفي لخبراء وعلماء السودان ، وإنما الأمر هو تشكيل منصة في غالبها المساعدة في تمرير أجندات وغايات خارجية أكثر من كونها داخلية، فلنخرج من حالة التوهان والهزيمة النفسية، وإدراك أن بلورة الإرادة الوطنية وصناعة المستقبل السودان لا تتم إلا عبر جهد سوداني خالص وأن مكمن قوة السودان للخروج من هذا النفق هو الالتفاف حول رؤية سودانية تعبر الدولة لا الحكومة لا الحزب المعين، تقفل ثغرات التدخل الخارجي، تُخرِج السودان من صراع اللافتات نحو التوافق حول المعاني والأفكار والقيم، تعبر عن التنوع السوداني، تؤسس لكرامة الإنسان وسيادة القانون ولصيغة سياسية ترتكز على المعرفة والابداع والعدل والأخلاق، عندها نتعاون مع العالم بإرادتنا ورؤيتنا.
 إن معالجة حالة الاستقطاب الحاد والتفلت الأمني وتحقيق الاستقرار، لا يمكن أن يتم بالمحاصصة، وإنما بتوجه حكيم يُعلي الوطن والإرادة الشعبية، والعدل والعلم والهوية السودانية، وخطاب جديد يؤسس لتحقيق المصالح الوطنية والأمن القومي ويؤسس لشراكة دولية عادلة تراعي الأمن الإقليمي والعالمي..
 لذا باتت الحاجة ملحة لتصحيح المسار عبر تفكير يدرك وبوضوح المشهد الاستراتيجي حول السودان منذ الاستقلال.
 وفي إطار مفهوم الثورة الكاملة الذي لا ينتهي بالإسقاط فقط وإنما يمتد ليشمل عمليات التأسيس للنهضة وللمعاني التي ناضل من أجلها الشهداء والثوار، وهي مرحلة نضال الفكر والإبداع والإنتاج وتحويل المعاني إلى ممارسة وواقع معاش....، فإن الوضع الطبيعي هو أن تتضمن المرحلة الثانية للثورة ترتيبات لتحقيق تلك المعاني، أي التأسيس للحكم الراشد وللنهضة التي تناسب السودان وتاريخه وإمكاناته وموارده ومزاياه، فضلاً عن علاج الأزمة الاقتصادية والتأسيس للعبور نحو المستقبل.
 وأن ذلك لن تأتى إلا بالعودة إلى المربع المفقود، مربع التأسيس 19 ديسمبر 1955، من خلال فترة تأسيسية لا انتقالية فحسب، يقودها خبراء مستقلين، تشهد انعقاد مؤتمر حوار استراتيجي ينتج الرؤية السودانية، يعقبه مؤتمر دستوري ينتج مسودة دستور تحمي هذه الرؤية وتؤسس للمسار السوداني نحو المستقبل، ويتجه الأحزاب للبناء الفكري والتنظيمي والاستعداد لانتخابات .بينما يعود العسكر لثكناتهم
 كما أن علينا إدراك أن بناء الدول لا يتم بالفهلوة والمكايدات والتشظي والإقصاء والجزر المعزولة، في ظل استلاب للإرادة الوطنية، بل بالإخلاص والضمير الوطني الحي والعقل الجمعي والتفكير والتخطيط الاستراتيجي والممارسة السياسية التي تُبنى على المعرفة والعدل والأخلاق والإبداع وأوعية سياسية مبرأة من التأثيرات الخارجية والأجندات السالبة
 كما بات واضحاً أن التيارات المتصارعة لن تقود إلى بر الأمان، وأن تشكيل سلطة انتقالية،( تقود الفترة الانتقالية لا تديرها )، من سودانيين مخلصين من المستقلين أهل الخبرة والكفاءة والأخلاق، تتبنى خطاباً يُعلي الوطن ومصالحه على ما دون ذلك، تمارس سلوك وفعل سياسي راشد ناضج وحكيم، سيكون المدخل الأساسي لإدارة ما تبقى من الفترة الانتقالية بغرض إعادة السيطرة على الأوضاع ومن ثم التأسيس لتحقيق التغيير وصناعة المستقبل الزاهي، لذا باتت الحاجة ملحة لتصحيح المسار عبر تفكير يدرك وبوضوح المشهد الاستراتيجي حول السودان منذ الاستقلال.
 كما بات واضحاً أن استعادة الإرادة السودانية وتعزيزها لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال رؤية سودانية تؤسس للهوية السودانية، تشكل العقل السوداني الجمعي ومظلة واسعة من الوعي الوطني، لا تيارات متصارعة وآليات للحوار السوداني الحر الشفاف وتطوير وتفعيل للعقل الاستراتيجي و بناء نظام مؤسسي يؤسس للعقل الجمعي والحشد المعرفي ويحمي الارادة السودانية من المحاولات العبثية المستمرة لتخطيها.
 ستكون هناك حاجة لشراء المستقبل من أجل فتح صفحة جديدة نتجاوز بها مرارات وأخطاء الماضي نحو مستقبل زاهي، ولعل في التجربة الإفريقية في جنوب إفريقيا ورواندا ما يساعد في إعادة تحقيق ذلك في السودان، من خلال تنظيم مؤتمر للتسامح الوطني يتم خلاله الاعتراف بأخطائنا تجاه بعضنا البعض والاعتذار لبعضنا البعض ومن ثم فتح صفحة جديدة والانطلاق نحو المستقبل بما يفتح الباب واسعاً أمام تأسيس دولة القانون والعلم والإبداع ويقفل الباب أم التدخلات الخارجية للابتزاز الوطني.
 ضاع مستقبل أجيال، وضاعت سبعة عقود كانت كافية لبناء دولة عظيمة ومات وترمل وتيتم عشرات الآلاف ولا زالت الدماء تسيل على أرض الوطن، ولا تزال المخاطر تحيط بالوطن وتزداد تعقيداً ، لنقف على حافة ظرف دقيق قد يفضي لضياع السودان.
 ألا يكفي كل ذلك لصحوة ضمير واتخاذ موقف شجاع من الفاعلين على الساحة السياسية من المدنيين وحملة السلاح للارتفاع فوق الأجندات والقناعات الشخصية والضيقة نحو قامة الوطن وعظمة التحدي الماثل، وفتح صفحة جديدة وزراعة الأمل من أجل العبور نحو مستقبل أفضل.
 نحن أمام لحظة للإحساس بالشجاعة وصحوة الضمير ومواجهة الذات مع الأنا، ... إما أن تسود المصلحة العامة للسودان أو المصالح والأجندة الخارجية وأجندتكم وقناعاتكم الشخصية.
 ارجو أن تتصرفوا بالطريقة الصحيحة وسجلوا لأنفسكم مواقف كبيرة .. ولتعلموا أن بناء الدول يحتاج
( لأفكار كبيرة ولقيادة كبيرة، كونوا كباراً .
 لقد تأخر الفرح السوداني كثيراً لكن تظل أمامنا فرصة لنشعل قناديل الأمل العريض مرة أخرى، أمامنا فرصة للتأسيس لمستقبل باذخ مشرق ومشرف لنا وللأجيال القادمة.

أتمنى أن يشهد العام 2023 مولد الفرح السوداني
أستاذ التخطيط الاستراتيجي القومي

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top