د. إياد أبو زنيط

الباحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية

مقدمة

منذ أن نشأت إسرائيل كدولة احتلال، استخدمت ثنائية "المحو والإنشاء" والمشتقة من عقلية الإحلال الاحتلالية، ومن الصهيونية الدينية التي ترى في فلسطين مكاناً مقدساً لها، يُشترط إبعاد الغريب منه حتى يَطهر، واستهدفت تلك الثنائية المكون الديمغرافي الأصيل، فرحلته من المكان وأحلت بدلاً منه آخر دخيل، في محاولةٍ لإقامة علاقة سردية بين الدخيل الجديد والمكان، تُصبح أمراً واقعاً مع الجيل الثاني والثالث من نسل ذلك الدخيل، المولود على أرض يعتبرها يهودية لا فلسطينية مسلوبةً من قبل أجداده، مبنية على ترحيل أجداد الآخرين من أقرانه في الجيل.

في إطار السعي الإسرائيلي الدائم لتعزيز الرواية الإسرائيلية في الأحقية بالأرض، كان التشريد والهدم والتضييق والمصادرة وسائل تغيير جغرافي وديمغرافي على أولويات دولة الاحتلال يُوجه ضد الفلسطيني في كل منطقة تُستهدف بالاستيطان، فكانت مناطق العام 1948م على سلم الأولويات التي أُخرج منها ما يقرب من 800 ألف فلسطيني، واستهدفت أمكان سكانهم، ومن ثم استهدف الاستيطان مناطق العام 1967م حتى صارت أشبه بكنتوناتٍ مقطعة الأوصال يُقيم فيها الفلسطيني، يًسهل حصارها والتضييق عليها، وفيها تُصادر الأراضي وتُهدم المباني تحت ذرائع عدة.

تُشكل القدس اليوم أكثر المناطق الفلسطينية المستهدفة استيطانياً، وتُعاني من استخدام كافة الوسائل الإحتلالية لتهويدها وعزلها، وجعلها منطقة تبدو إسرائيلية الطراز والمنشأ، بحيث يحتاج إصلاح بيتٍ فلسطيني أو ترميمه إلى سنواتٍ طوال من تتابعٍ في الإجراءات وتعقيد لها، وغالباً لا ينجح الفلسطيني في ذلك، ولا يخفى كون القدس مستهدفة نابعٌ من قدسيتها واهتمام المتدينين اليهود بها، الذين يعتبرونها مبرر وجودهم في أرض فلسطين.

وفي الآونة الأخيرة تصاعدت وزادت وتيرة هدم المباني في القدس، وبدت دولة الاحتلال ممثلة ببلديتها فيها، وكأنها تدخل في سباقٍ مع الزمن من اجل استكمال تهويد المدينة، فلم تكد تُصدر محكمة الاحتلال العليا قراراً نهائياً بهدم ستة عشر مبنىً سكنياً تضم مائة شقة، في حي وادي الحمص من أراضي صور باهر جنوب المنطقة المحتلة والمصنفة ضمن المنطقة (أ)، وترد بذلك التماساً قدمه أصحاب تلك المباني مطالبين بتجميد العملية حتى شرعت في الشهر الفائت طواقم ضخمة من الجرافات ومئات الجنود في تنفيذ عملية الهدم، في وقتٍ شكلت فيه عملية الهدم إحدى كبرى العلميات التي استهدفت الجغرافيا الفلسطينية منذ عام 1967م، بعد العملية التي استهدفت 35 منزلاً في قلنديا قبل ثلاث سنوات. وكانت ذريعة الهدم هذه المرة قرب المنازل المهدومة من جدار الفصل العنصري، الأمر الذي تعتبره دولة الاحتلال مخالفة أمنية لقرارٍ عسكريٍ يحظر البناء على مسافة 250 متراً من الجدار، الذي أصلاً شطر أراضي صور باهر إلى نصفين، الأول يقع داخل الحدود البلدية المصطنعة للاحتلال ويخضع إدارياً لإشرافها، فيما يقع النصف الثاني في منطقة تتمتع السلطة الفلسطينية فيها بالصلاحيات المدنية، وبحق إصدار رخص البناء،

ومن خلال التقديم السابق يتضح أنّ هناك دلالات عدة، لعملية الهدم الإسرائيلية الأخيرة، تتجاوز الهدم المادي للمبنى والذي يُمثل هدفاً أولاً، ومن أهم تلك الدلالات:

أولاً: جريمة معقدة

هدم المساكن الفلسطينية يُمكن اعتبارها جريمة معقدة تمس الروح والعقل والكرامة الإنسانية، وتمس فلسفة الوجود الإنساني برمته، ويتجلى ذلك من خلال وقوف الفلسطيني عاجزاً أمام أطفاله عن حماية منزله، وأنياب جرافات الاحتلال تهدم مأوى الأحلام والأفراح، والأصعب من ذلك عندما يُطلب من الفلسطيني نفسه هدم مسكنهِ أو جزء منه بيديه من خلال سياسة الهدم الذاتي التي تتبعها سلطات الاحتلال، في مشهدٍ يُضاعف القهر والألم، يُحاول من خلاله تعذيب الفلسطيني بأبشع الطرق المتجلية في إفقاده للمأوى بالقوة، وجعله يُعيد التفكير ألاف المرات، قبل بناء منزلٍ له ولإطفاله، في مسعىً لتهجيره، وجعله يرى نفسه دائماً أمام تهديدٍ ماثل بخطر فقدان المأوى في أي لحظة، مما قد يدفعه في النهاية إلى البناء خارج القدس لحفظ رأس المال الذي وضعه في مبنىً يضمن له الإقامة وعائلته.

ثانياً: قفزات متسارعة

حسب ما أشارت له منظمة "بيت سيلم" المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فإن عدد المباني التي تمَّ هدمها في شرقي القدس منذ العام 2004م بلغَ 915، ويمكن المقارنة حين معرفة عدد المنازل التي تمَّ هدمها عام 2004 والبالغ 53 منزلاً، ومقارنتها برقم المنازل التي تم هدمها عام 2019م حيث وصل الرَّقم إلى 112، وبلغَ عدد المباني التي هُدمت بأيدي ساكنيها عام 2004 خمسة منازل بينما قفز الرقم في العام 2019 إلى 25 منزلاً.[1] وحسب تقريرٍ لصحيفة هآرتس فقد حصل ارتفاع في معدل الهدم بنسبة وصلت إلى 230% في العام الحالي عن العام الذي سبقه فقط.

ثالثاً: تحدي قانوني

عمليات الهدم في الآونة الأخيرة في القدس تجاوزت خطوط الاتفاقيات الدولية، وخاصة اتفاقية أوسلو الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية حيث طالت تلك العمليات منازل واقعة في مناطق (أ) و (ب)، والتي حسب ما ذكر للسلطة الفلسطينية حق التصرف فيها، مما أثار حفيظة الاتحاد الأوربي الذي أعلن على لسان ناطقيه إدانته لتلك العمليات والذي اعتبره غير قانوني بموجب القانون الدولي، خاصة وأن بعض المبني التي صودرت أو هُدمت قد أقيمت لفلسطينيين بتمويلٍ أوروبي، وأدانت دول متفرقة من ضمنها فرنسا عمليات الهدم، من هنا يتبين أنَّ إسرائيل أصبحت غير آبهةٍ بما يقع على عاتقها من التزامات فُرضت عليها من خلال الاتفاقيات التي وقعتها، حيث زادت تلك الاختراقات في السنوات الأخيرة، وهذا ينبع من تقوقع الاتحاد الأوروبي على نفسه، وضعف الحالة العربية، والمناصرة الأمريكية لإسرائيل.

رابعاً: امتداد الصراع الديمغرافي

في إطار عمليات الهدم الأخيرة المتسارعة تُعيد إسرائيل التأكيد على أنَّ الصراع الديمغرافي على سلم أولوياتها، فعمليات الهدم الأخيرة استهدفت مساكن مأهولة لعائلاتٍ فلسطينية، ووصل عدد المهجرين منها في العشر سنوات الأخيرة إلى 5000 ألاف شخص، ورغم اعتبار البعض أنَّ العدد يُمكن اعتباره صغيراً، إلاَّ أن إسرائيل تنظر بأهمية كبيرة لأيّ ساكنٍ عربي في القدس وتعتبر تهجيره أو إبعاده إنجازاً إسرائيلياً كونه يمنح مساحة لساكن إسرائيليٍ جديد، ويُشكل فرصة لضرب التوازن الديمغرافي الذي حافظ عليه الفلسطينيون لسنوات طوال من خلال متغير زيادةٍ سكانية طبيعي تمثل في التكاثر الطبيعي بينما لم تستطع إسرائيل تحقيق توازنٍ ديمغرافي واضح من خلال متغيرين تمثلا في التكاثر الطبيعي والهجرة، وفي ظلِّ نضوب أو تراجع مؤشرات الهجرة الوافدة لإسرائيل، بشكلٍ كبير، بات إنجاز التغيير الديمغرافي لصالح إسرائيل أمراً مُلحاً، وتحقيقه مطلوب بأي وسيلة.

خامساً: تطبيق فعلي لصفقة القرن

رغم عدم وجود معطيات حقيقية عن صفقة القرن التي طرحتها الإدارة الأمريكية منذ فترة للسلام في الشرق الأوسط، إلاّ أن النظر للمعلومات المتسربة عن وضع القدس والتي أشارت إلى أنَّه وفي حال تم الاتفاق على تطبيق حقيقي لصفقة القرن فإن بعض البنود قد تمنع إسرائيل من هدم المباني العربية في القدس أو شراءها، رغم أنّها تُعطيها الأحقية في إدارة المدينة والسيطرة عليها، فإنَّ إسرائيل باتت فعلياً تُسارع الزمن في إحداث التطبيق الفعلي لصفقة القرن على الأرض، ومن المدينة المقدسة بدايةً.

سادساً: احتلالٌ لا يخرج عن طوره

تؤكد إسرائيل ضمن المعطيات السابقة على أنّها ما زالت وستبقى دولة احتلالٍ عُنصريٍ يستهدف الإنسان الفلسطيني بكل تفاصيله، ولا تلبث أن تستغل أي لحظةٍ في سبيل إخراجه أو تهجيره، وهذا يُخالف ما تطرحه إسرائيل من كونها واحة الديمقراطية والسلام في الشرق الأوسط، بل هي تزداد تكشيراً عن أدواتها الاحتلالية التي تجاوزت حدود المنطق في تكريس سياسية الإحلال، حيث طوعت إسرائيل في الفترة الأخيرة المنظومة الدينية لخدمة أهدافها الإحلالية، وكان من بين تلك التدخلات أن أجازت بعض المرجعيات الدينية تعدد الزوجات كوسيلة لمحاربة الديمغرافيا الفلسطينية.

خاتمة

قد يتساءل البعض عن الإجراءات الفلسطينية التي تقف عاجزة أمامَ تَغولٍ إسرائيلي غير مسبوق في استهداف الجغرافيا الفلسطينية بما فيها هدم المباني، وتحديداً في القدس، وهنا تَجدر الإشارة إلى أنَّ السلطة الفلسطينية قد هددت في الفترة الأخيرة بقطعِ العلاقات مع إسرائيل وإعادة النظر في الاتفاقيات التي وُقعت معها، ولكن يبدو أنَّ إسرائيل لم تعد تسمع فعلياً لتلك التهديدات والتي جاءت فعلياً بعد تحالف ودعم أمريكي كبير للساسة في إسرائيل، وحصول تشظٍ واضح في الحالة الفلسطينية استطاعت إسرائيل من خلاله تكريس حالة الانقسام الحاصلة، إذا ما أضفنا لذلك العامل العربي المتردي والتشتت الحاصل فيه، والذي أزاح كفة القوة لإسرائيل.

ومن هنا فإنَّ الحل الأمثل لا يَكمن في التهديدات بقدر ما يتطلب تنفيذاً فعلياً لها، وإعادة اجتماع لحالة الافتراق الفلسطينية الحاصلة، وتعزيز وسائل صمودٍ جديدة للفلسطينيين، يتمثل أولها في الصمود الاقتصادي الذي استطاعت إسرائيل ضربه.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي مجموعة التفكير الاستراتيجي

قيم الموضوع
(0 أصوات)
Go to top