تصدير
يثير موضوع المؤامرة عند بعض الباحثين تخوفات عاطفية، إلا أن حقيقةً ما نسمِّيه مؤامرةً هو نتائج عمليات تفكير إستراتيجي يتبعها نقلات عملية إستراتيجية للقوى الكبرى أنتج ما يسمى بالنظام الدولي الحديث، لكن حقيقة النِّظام الدُّولي المتصلِّب اليوم والذي يُسيطر على حالة التَّدافع الإستراتيجي في المنطقة، إنه لم ينشأ من مؤامرةٍ، وإنما هو نشأ من تخطيطٍ وعملٍ وتفكيرٍ، فكلُّ من يدرس هذا النِّظام- النِّظام الدُّولي - سيجد أنَّ هناك خمسة جهود فكرية أفرزت مجموعة من النَّظريَّات التي تمَّ استنفاذها وتخططيها بتطبيقات ونماذج عملية خلال القرنين الماضيين؛ لتُشكِّل لنا نظامًا دوليًّا الذي نحن اليوم نعيش فيه.
نظريَّات التَّخطيط الإستراتيجيِّ التي اعتمد عليها الإنجليز في مراحلهم الاستعمارية، أو الألمان أو الأمريكان في تمدُّدهم بعد الحرب العالمية الثانية 1945م، كانت مبنيَّةً على نظرياتٍ تُسمَّى نظريَّات التَّخطيط الإستراتيجي، وكانوا يدرسون العالم ويعرفون مواقع القوَّة والضَّعف فيه، وكانوا يُعدُّون شكل القوة لكي يسيطروا على أكبر قدرٍ ممكن من الجيوستراتيجيا في مناطق العالم لتحقيق مصالحهم وأهدافهم
فنظريَّة «ماهان»، ونظريَّة «ماكندر»، ونظريَّة «سبيكمان»، وكلُّ هذه النَّظريَّات وضِعت في إطار الصِّراع والتَّداخل الدُّولي، فنظريَّات القوَّة البحريَّة التي بناها «ماهان»، والتي اعتمد عليها الإنجليز قبل القرنين الماضيين؛ للسَّيطرة على العالم، أدت لأن تكون إنجلترا أكبر قوَّةٍ بحريَّةٍ في العالم تسيطر على البحار، فنظريَّة «ماهان» تؤسس على أن: الذي يُسيطر على البحار يُسيطر على العالم.
أما نظريَّة «ماكندر» فمؤداها أن الذي يسيطر على القلب، قلب أوروبَّا يسيطر على أوراسيا، ومن يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم، استفاد منها الألمان وسيطروا فيها على أجزاء كبيرة من أوروبَّا.
أما نظريَّة «سبيكمان» التي تتحدَّث عن التماس الإستراتيجي، بين الجغرافيا المائيَّة والبريَّة في المنطقة الإستراتيجيَّة والسَّيطرة عليها يؤدي إلى السيطرة على الحواف الإستراتيجية في العالم، وتمَّ تطوير أكبر القوى المسلحة الإستراتيجيَّة في العالم من البارجات وغيرها من الأسلحة الإستراتيجية، فكلُّ نظريَّةٍ إستراتيجيَّةٍ يتمُّ بناء قوَّةٍ تناسبها، بحيث تستطيع أَنْ تحتوي الإستراتيجيَّة الموجودة في المنطقة، هذه النَّظريَّات الإستراتيجيَّة لم تأتِ من فراغٍ، إنَّما أتت من تفكيرٍ وتخطيطٍ وفهمٍ للواقع الإستراتيجي والواقع السِّياسي الذي يحيط بالعالم.
المحور الآخر لهذه النَّظريَّات: هو نظريَّات الجيوبوليتيك، وهي الأوزان التي تُعطي ثقلاً سياسياً لكلِّ دولةٍ لديها من الموارد الطَّبيعيَّة والموقع الإستراتيجي والقوَّة البشريَّة التي تُؤهِّلها أَنْ تكون جزءًا من النِّظام الدُّولي؛ فلذلك يعتمد النِّظام الدُّوليُّ على مجموعة دولٍ في منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال، وهي التي شكلت النِّظام الإقليميَّ كإيران، تركيا، السُّعوديَّة، ومصر، باعتبار أنَّ لديها محتوى الجيوبوليتيك الأكبر والأعظم، والتي من خلالها يُسيطر على غيرها من الجغرافيا لتحقيق المصالح الكبرى، وبالتَّالي ستجد سياسة الأحلاف هذه الأحلاف التي تشكَّلت وفق نظامٍ إقليميٍّ معيَّنٍ يخدم أهداف ومصالح النِّظام الدُّوليِّ، وهذا النِّظام الدُّولي تتطوَّر عدَّة مرَّاتٍ.
والثَّالث: وهي نظريَّات الاقتصاد السِّياسي التي اعتبرت أنَّ السِّياسة والاقتصاد بينهم علاقة متبادلة طردياً، فالدولة تمثل السياسة والاقتصاد يمثله السُّوق، وهناك علاقةٌ بين السُّوق والدَّولة، فكلُّ ما كان لديك نفوذٌ في السُّوق كان النفوذ السياسي كبيراً، بالتَّالي أصبح الموضوع مهمًّا جدًّا في مدى قوَّة الدَّولة اقتصادياً وسياسياً ووزنها في النِّظام العالمي.
أما نظريَّات الاجتماع الإنساني التي استطاع الغرب من خلال كثيرٍ منها أَنْ يُسيطر على كينوناتٍ اجتماعيَّةٍ موجودةٍ داخل مجتمعنا، ويعرف عن تطوُّرها التَّاريخي، وكيف كان لها دورٌ في المجتمع وتحقيق الأوزان السِّياسيَّة لها وهو ما يفسر لماذا قطاعات اجتماعية محددة أصبح لها وزن سياسي في السياسة المحلية والإقليمية والدولية.
ومع تطور نظريَّات الأمن الوطني التي تطورت إلى ما يسمى بنظريَّات الأمن القومي، فإن مفهومها مرتبطٌ في أيِّ مكانٍ توجد فيه المصالح وليس الحدود، ونحن نعيش في إطار أساسه نظريَّاتٌ ومفاهيمٌ يتمُّ تطوريها إلى تطبيقاتٍ عمليَّةٍ، ومن ثمَّ تقوم الدول الكبرى بالسَّيطرة من خلالها على العالم، نحن في هذا المنتدى عندما نناقش القضايا لا نناقشها مجرَّدةً عن تواصلها وارتباطها الحقيقي بالمؤثِّرات الدُّوليَّة والإقليميَّة.
ونسعد في هذا اللِّقاء أَنْ يعطينا الإخوة الباحثون خلاصةَ التَّوجُّه الذي نستفيد به من الأوراق، بحيث نستطيع من خلاله تقدير موقفٍ، وهذا الموقف الذي يطرحه الأخ الباحث يُعطينا رؤيةً تطبيقيَّةً أو مسارًا نستطيع من خلاله أنْ نفهم، وذلك بعدما قام بالتَّحليل على أساس معلوماتٍ بحثيَّةٍ، يعطينا على الأقلِّ القدرة على تقدير موقفٍ نستفيد منه كمجوعةٍ فكريَّة ٍأو أيِّ طرفٍ آخر له علاقةٌ في إستراتيجيا المنطقة؛ لهذا فأنا متفائلٌ جدًّا من نتائج هذه الورشة وهي ليست الورشة الأولى حضورًا وتأثيرًا.
وفي هذا اليوم سنناقش في هذا المنتدى ثلاث قضايا، كلُّها لها علاقةٌ استراتيجية، المنطقة وهذه القضايا مهمة جداً وهي:
- تأثيرات الاتفاق النووي بين إيران والدول دائمة العضوية.
- نتائج الانتخابات التركية وتأثيراتها داخلياً وخارجياً.
- التدخل الروسي في سوريا وتأثيراته الجيوستراتيجية على المنطقة.
محمد سالم الراشد
رئيس مجموعة التفكير الاستراتيجي