د. إياد أبو زنيط
باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، رام الله
تسابق العديد من الكتاب والباحثين العرب مع ظهور فيروس كورونا قبل أشهر وتحديداً مع انتشاره في البلاد العربية إلى نَسب ظهوره إلى مؤامراتٍ دولية، تقودها منظومة عالمية غامضة أحياناً، أو إلى الصين نفسها التي انتشر منها، دون وجود معلومات مؤكدة حول ذلك إثباتاً أو نفياً، ودون الاستناد إلى نظام معرفي، وهو الأمر الذي تناوله العامة وبقوة على مواقع التواصل الاجتماعي، في أمر بدا أكثر ما يكون تفكيراً رغبوياً، وخيالياً أحياناً مصحوباً بتمنيات الإنسان العربي الذي ربما يرى في إلصاق الظواهر والأحداث بغيره القادر على الفعل في نظره تبريراً لوقوعها، ويُزيح عن كاهله فكرة العمل للمواجهة.
العقل العربي يمتلئ بكثيرٍ من مظاهر التفكير الخيالي الواسع، ويفيض بالعديد من مضامين الرؤى الأسطورية التي تجعله حبيس الماضي وهزيم الحاضر، فالمفكر العربي (محمد عابد الجابري) يرى أنَّ العقل العربي صرحٌ يسكنه عددٌ كبير من رموز وشخصيات الماضي والحاضر، وهو يجد مرجعيته ممارسةً وأيدولوجيا في الخيال الواسع وليس في النظام المعرفي،[2]
ويقدم لنا (مصطفى حجازي) في كتابه المعروف سيكولوجية الإنسان المقهور عرضاً علمياً بارعاً للمضامين السحرية في العقلية العربية. وهو، إذ يبين بصورة علمية الخلفيات الاجتماعية والسيكولوجية والتربوية لعقلية التراجع في المجتمعات العربية،يُؤكد على أنَّ العقلية العربية تُعاني من هيمنة واسعة للخرافة والأسطورة. فهذه العقلية، كما يرى حجازي، عقلية خرافية أسطورية في مستوياتها الشعبية من جهة وفي مستوياتها الأكاديمية من جهة أخرى.
فهناك شعور بأنَّ الخرافة والتقليد لا زالا يعششان في أعماق نفسية الإنسان العربي الحائز على درجات جامعية، تؤثر على ممارسته ونظرته إلى الأمور المصيرية على وجه الخصوص،وبالتالي فإن العلم بالنسبة للعقل المتخلف ليس أكثر من قشرة خارجية رقيقة يمكن أن تتساقط إذا تعرض هذا العقل للاهتزاز.[4].
العقلالعربي يمر بمحنة كبيرة نظراً لتغيير طبيعته الفكرية ووظيفته الإنسانية إلى طبيعة ووظيفة غيبية، وهذا التغيير أحدثته الأفكار والعقائد الدينية المتسلطة على الأفراد الذين يستعذبون نكهة التدين والعواطف الجياشة بالعوالم الغيبية التي يضعها كل مؤمن حلماً وهدفاً نصب عينيه، مما يجعلها تقيد أفكاره وتعزله عن الواقع، هذا العقل الغيبي استغله القادة السياسيون والدينيون في وضع مسميات هزيلة للهزائم التي تلحق بشعوبهم ودولهم، سواء كانت هزائم معنوية بتخلف العقل عن مجاراة الحداثة والتقدم الإنساني، أو هزائم مادية في معارك وحروب يتم إقناع الفرد بأنها مجرد نكسات أو نكبات، وسرعان ما يأتي رجال الأديان الموالين للسلطة لتفسير تلك النكبات بأنها عقاب من الآلهة على عدم عبادة الله وفساد الناس وفجورهم، لتستمر محنة العقل الغيبي للإنسان المجبر على تصديق ما يقال له؛ حتى لا يعتبر عاصياً لمشيئة الآلهة.
محنة العقل الغيبي هذه لاحظها البعض من النخبة المثقفة، لكنهم كانوا أسرى لفكر الهزيمة، فالواقع يُشعرهم بثقل الهزيمة الحقيقية التي لحقت بالوطن لكنهم في الوقت نفسه انساقوا للخطابات السياسية والدينية التي تزرع فيهم أفكار عظمة الإنسان العربي وأنهم خير البشر، مما أوقعهم في ازدواجية الصراع بين فكر الهزيمة الواقعي وبين فكر أنهم الأخيار بين البشر، وهذا الصراع أوقف كل محاولات الإصلاح أو التغيير، منتظرين قائداً آخر ينقذهم من آثار الهزيمة التي حلت عليهم ليجدد حياتهم الدينية وأنظمتهم السياسية، وهذا معناه أنهم بأفكارهم الغيبية الموجودة في عقولهم لا يريدون الاعتراف بأنهم يعيشون في محنة كبيرة وللخروج منها عليهم تجديد العقل ومنحه الحيز المناسب حتى يقدم أفكار التغيير والتحديث المناسبة للعصر الذي نعيشه.[6].
في الوقت الذي يُصر الكثير على نظرية المؤامرة، ويتم تداول مقالٍ على نطاق واسع يتحدث عن كيفية قيام الصين نفسها بتطوير "كورونا" حيث يلاقي المقال رواجاً بين العامة والمثقفين، تأتي الأرقام لتقول شيئاً آخر، لتثبت أن هذه ليست المرة الأولى التي يُعاني منها العالم خسائرَ اقتصادية بسبب الأمراض، ففي عام 2003 كان السارس يُشبه ما يجري حالياً، وانخفض الناتج المحلي للصين إلى 9.1% في الوقت الذي كانت تمثل 6% من الإنتاج العالمي، ومن المتوقع أن يتراجع الناتج المحلي لها إلى 4.7% بسبب كورونا في الوقت الذي تُمثل فيه اليوم 16% من الإنتاج العالمي، وقد خسر اقتصادها ما يقرب من 234 مليار دولار، وتراجع استيرادها للنفط البالغ 10 ملاين برميل يومياً إلى 17%، ومن المتوقع أن تصل خسائر العالم أجمع بسبب كورونا 2.4 تريليون دولار.
تُثبت الأرقام أحياناً أن هناك مساراتٍ أخرى لتحليل الظواهر والأحداث بعيداً عن التفكير الغيبي والخيالي، وانزياحاً عن التفكير الدائم ضمن منطق المؤامرة، في الوقت الذي لا يعني هذا المقال إنكاراً تاماً لوجود صراعات خفية بين الدول، ومؤامرات تُحاك عالمياً، بقدر ما يلفت النظر إلى أن المواجهة هي الخطوة الأولى للبقاء ومن ثم يأتي تفكيك الظاهرة لمعرفتها وسندها إلى مؤامرة من غيرها، دون تبنٍ مباشر لنظرية المؤامرة لإراحة العقل من التفكير، وهذا ما شكلته الصين في خضم مواجهتها لفيروس كورونا، حيث تبنت كل وسائل التكنولوجيا للمواجهة، وسخرت كل الطاقات لذلك بعد ما يقرب من أربعة أشهر على انتشاره، وبعد أن أعلنت أنها بدأت باستعادة عافيتها، وأصبحت مستشفياتها أكثر أمناً، وأنها بصدد استئناف نشاطها الاقتصادي ألمحت إلى أنه قد يكون وراء كورونا استهدافاً لها.
[2] حمادي، عبد الرحمن: أزمةُ الثقافةِ العربية المعاصرة، دمشق: دار المعرفة السورية، 1981، ص ص192-225.
[4] حسن، نصر: نظرة إلى العقل العربي، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية، لندن، أنظر الرابط التالي لمزيد من الاطلاع: http://www.asharqalarabi.org.uk/mushrakat/b-mushacat-127.htm
[6] حجازي، مصطفى: التخلف الاجتماعي:سيكولوجية الإنسان المقهور، مرجع سابق، ص 145.