باحث في مؤسسة يبوس للاستشارات والدراسات، رام الله، وأستاذ العلوم السياسية في الجامعات الفلسطينية
منذ أن كان بنيامين نتيناهو يتزعم التيار المعارض في إسرائيل عام 2008، طرح فكرته القائمة على أنَّ السلام الاقتصادي مع الفلسطينيين والعرب يُعد خطوة أولى في طريق قبول "إسرائيل"، ونسج علاقات رُبما تتجاوز عربياً في قوتها قوة العلاقات العربية الفلسطينية، حيث من الممكن أن تُشكل تلك العلاقات وسائل ضغط على الفلسطينيين في سبيل قبول حل لقضيتهم بأقل الأثمان تحت وطأة الضغوط الاقتصادية التي من الممكن أن تُمارس عليهم.
وإذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً، نجد أن الطرح الاقتصادي، قد سبق وجاء به شمعون بيرس في كتابه "شرق أوسط جديد"، حين تساءل عن ماهية "إسرائيل" المطلوبة، هل هي "إسرائيل" الكبرى جغرافياً أم اقتصادياً، معتبراً أن الظروف القائمة لا يُمكن أن تُنتج "إسرائيل" كبرى جغرافياً، دونما أساسٍ اقتصادي وشراكات مع الجيران تكون الغلبة فيها لـ"إسرائيل"، حيث رأى أنّه من الأنسب إعادة صوغ الخارطة الجيوسياسية في المنطقة بإعادة إدخالها النظام الشرق أوسطي الجديد ضمن أُسس تعاونٍ اقتصادي أمني ثقافي في الإطار الإقليمي. خاصةً وأنَّ هناك دولاً عدة تسعى لمنافستها إقليمياً، ولذا من الأفضل أن تشمل المرحلة القادمة شراكةً مع العرب يُضمن من خلالها قبول "إسرائيل" في المنظومة الإقليمية، وتقويتها في التصدي لأيِّ أخطار من الممكن أنْ تواجهها من دولٍ ستحاول حتماً الحصول على قوةٍ نووية أو عسكرية لمحاربتها، فإذا ما كانت الدولة ضمن منظومة الشرق الأوسط الجديد، ترتبط مصالحها بمصالح جيرانها والعكس، فهذا يعني مزيداً من القوة لإسرائيل، ومساحةً أكبر للتحرك، وخياراتٍ أكثر للمفاضلة.[2]
على غرار مؤتمر الاستثمار السعودي الذي أُعلن فيه عن "نيوم" ولم يُنفذ لأسباب مختلفة، يُعلن في البحرين عن استضافة مؤتمر أو ورشة عمل اقتصادية، نهاية الشهر القادم من العام الحالي، بدعوة أمريكية صريحة، تُعبر فيها أمريكا عن رؤيتها الاقتصادية ضمن صفقة القرن، والتي جاء ملخصها على لسان كوشنير كبير مستشاري ترامب، حينما اعتبر أنَّ "صراع الأجداد يُضيع مستقبل الأحفاد"، وأنّ المشاريع الاقتصادية والأرباح وفرص العمل هي بديل المواجهة والمقاومة والحرب، والحديث عن الماضي والتاريخ والقانون والحقوق والعدالة، والدماء التي أريقت، والحقوق التي اغتصبت، والبلدات التي هجرت، والبيوت التي هدمت، والأوطان التي سلبت، أو على أرض من سيقام أي مشروع، هي أحاديث الماضي التي لا تُفيد الآن، والأرباح التي سيجنيها المشاركون كفيلة بإثبات ذلك.[3]
هذا التحرك هو الأحدث والأكثر صراحة في التعبير عن منطق التفكير في صفقة القرن، والقاضي بتغيير مرجعيات التفكير في حل كبرى قضايا الأمة ونقلها من مجال السياسة والقانون الدولي والشرعية الدولية، إلى مجال الاقتصاد، ومنطق الصفقات، وحسابات الربح والخسارة بالدولار والدرهم.
هذا التحول يعتبر استراتيجيًا، وهو لب ما يروج له بين الحين والآخر تحت عنوان صفقة القرن، ولا يقتصر الهدف منه على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وحسب، أو محو ذاكرة شعوب الأمة العربية والإسلامية بشأن كبرى قضاياها في العصر الحديث فقط، وإنما له أهداف أكبر منذ ذلك تتعلق بمصير النظام الدولي برمته، ومؤسساته ومنظماته الكبرى وفي مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، من خلال محاولة الإلغاء الفعلي لفكرة الحدود الجغرافية بين الدول أو تقليل أهميتها، بحيث تُصبح الدولة مجرد جهاز شرطي أمني قمعي لجباية الضرائب، وخلق طبقات اجتماعية ذات رفاهية عالية مستعدة لمشاركة تلك الأنظمة مشاريعها، وتنفيذ أجندتها.
المرجعية الاقتصادية بديلاً للقانونية
يُشكل إعلاء شأن الجانب الاقتصادي في أي حلول مستقبلية مطروحة، محاولةً لإلغاء المرجعية القانونية للقضية الفلسطينية، والمبنية على قرارات الشرعية الدولية التي يرغب الفلسطينيون بحل قضيتهم على أساسها، انطلاقاً من قرار التقسيم لعام 1947م، والقرار 242 لعام 1967، والقرار 194، مروراً بأوسلو وحتى مبادرة السلام العربية لعام 2002م، وإحلال مرجعية اقتصادية محلها، تُنسج خيوط بنائها من العلاقات الاقتصادية مع العرب وغيرهم، والتي يُروج لها على أنّها الحامي الأول للمخاطر المحيطة بإسرائيل والعرب والقادمة من إيران وتركيا في خلفية المشهد، وما يُمكن أن تُحققه من ازدهار ونموٍ اقتصادي كبير، استطاعت إسرائيل الترويج له من خلال أذرعها في العالم، وإقناع العرب به عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية، التي لعب دوراً رئيسياً في التطبيع المتعاظم للعلاقات بين العرب وإسرائيل، بالضغط تارة، وبالتمني مرةً أخرى، وهذه الفكرة تُحقق لإسرائيل مكسباً أساسياً في جعلها قوة اقتصادية عالمية، يحتاج الدخول معها في صراعات أو تحديات إلى مراجعة جدية لحسابات الربح والخسارة التي من الممكن أن تحصل، خاصة في ظل تنافس عالميٍ واضح على تحقيق أكبر قدرٍ ممكن من النمو الاقتصادي تطمح به معظم الدول، الأمر الذي يجعل هناك مفاضلة حقيقية بين القضية الفلسطينية والاقتصاد.
الاقتصاد بديلاً للحقوق والثوابت
لجعل الأداة الاقتصادية أكثر تأثيراً على الفلسطينيين في إقناعهم بضرورة التنازل عن ثوابت استطاعوا الحفاظ على الحد الأدنى من الإجماع حولها رغم اختلافاتهم، تم تكثيف الحصار الاقتصادي عليهم انطلاقاً من غزة التي من الممكن تسميتها بالمتمردة منذ فترةٍ على التوجهات الأمريكية والإسرائيلية، واستخدامها كأداة قياس لموقف السلطة الفلسطينية في التنازل، والتي عبرت عر رفضها لتوجهات صفقة القرن، مما جعل من الأداة الاقتصادية وسيلةَ ضغطٍ متذبذب، بدءاً من قطع المساعدات المالية الأمريكية، وإعلان منظمة USAID وقف مشاريعها في فلسطين، ودخول إسرائيل على خط المواجهة باقتطاع جزءٍ كبير من أموال المقاصة الرافد الأول للموازنة الفلسطينية، بحجة دعم الإرهاب وغيره، وكل ذلك مصحوباً بتذبذب مالي لبعض الدول العربية، وتأجيل لالتزاماتها المالية التي كان يتم الحديث عنها في القمم العربية، في مشهد يوحي باتفاق على إجبار الفلسطينيين على التنازل في سبيل فك للحصار الاقتصادي أو تقليله على الأقل.
وفي سبيل تحقيق ذلك يجري الحديث عن مؤتمراتٍ أو ورشات عمل كمؤتمر البحرين قيد الحديث، والذي تم توجيه دعوة رسمية للفلسطينيين فيه، كقيادةٍ ورجال أعمال، لإدخالهم في زاوية الرافض للحلول حال الامتناع عن المشاركة، وهو الأمر الذي تحقق بالنسبة للإدارة الأمريكية وإسرائيل، كون خيار المشاركة بالنسبة للفلسطينيين ضمن الطرح الحالي يعتبر مدخلاً أو ضوءاً اخضر "لنحن نتنازل عن الحقوق مقابل المال".
رفض الفلسطينيون المشاركة في مؤتمر البحرين، ينطلق من أنَّ حل القضية الفلسطينية يأتي من حلها سياسياً، وهذا صحيح، ولكنَّ الحالة الفلسطينية الحالية أضعف من أن تكون قادرة على إعادة الزخم للحل السياسي على حساب الاقتصادي، خاصةً في ظل ضعفٍ واضح يتجلى في عدم القدرة على تأمين التكاليف الاقتصادية اللازمة للبقاء، هذا العجز يُفترض أن يدفع للفلسطينيين بالمشاركة في المؤتمر كنوعٍ من البحث عن حلولٍ لقضيتهم، ولكنه فعلياً يُضيف سبباً آخر لضرورة رفض المشاركة الفلسطينية في المؤتمر، فخلقه كان أحد العوامل الضاغطة للدفع بالفلسطينيين للانخراط في التسويات الاقتصادية، والمشاركة تأكيداً على تفضيل المال على الأرض، وفرصة للتشكيك في وطنية الفلسطينيين.
فرص المواجهة فلسطينياً
بدا واضحاً موقف الفلسطينيون الرافض للمشاركة في مؤتمر البحرين، وهنالك إجماعاً فلسطينياً على ذلك، رغم حالة الانقسام السائدة، والتخاصم السياسي المنتشر، ولتعظيم التأثير الفلسطيني في الرفض، يُعاد للقديم الجديد، إنهاء الانقسام أو تذويبه، أحد العوامل الأساسية لفرض الفلسطينيون لتوجهاتهم.
يُضاف إلى ذلك البحث عن وسائل أخرى للتمويل لتجاوز الحالة الفلسطينية الضيقة اقتصادياً حالياً، سواءً كانت تلك المصادر دوليةً أم محلية، عدا عن ضرورة التفكير الجدي بالتوجه للإنتاج فلسطينياً على حساب قطاع الخدمات الذي تم تضخيمه منذ نشوء السلطة الفلسطينية. والأخذ من مقام المواجهة مع إسرائيل أولوية، سواءً على الصعيد الدولي أو المحلي، خاصة وأن القضية الفلسطينية باتت تمر بظروفٍ تصفيةٍ حقيقية.