د. أحمد أويصال
لم يستطع حزب العدالة والتنمية الذي حصل على 40.87% في انتخابات حزيران 2015
تحقيق العدد الكافي من النواب، لتشكيل حكومة بمفرده. عقب نتائج الانتخابات، كان من المنتظر تشكيل حكومة ائتلافية، إلا أنه نتيجة مواقف الأحزاب الأخرى الرافضة لمثل هذا الطرح، حال دون تشكيل الحكومة، ما أدى إلى إعادة الانتخابات. حصل حزب العدالة والتنمية في انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني على 49.5% من الأصوات و317 مقعداً في البرلمان، واستطاع بذلك الحصول على الأغلبية البرلمانية التي تخوله من تشكيل الحكومة بمفرده.
وكانت الفترة التي بين انتخابات حزيران - تشرين ثاني من عام 2015 صورة عن أيام الفوضى التي عاشتها تركيا خلال التسعينات. حيث حالة الغموض السياسي، والانكسار الإقتصادي، والتشرذم المجتمعي والوسط الفوضوي وكأن تركيا تعيش حالة من الاندهاش. وصوّت الشعب الذي لم يكن راضياً عن هذا الوضع، لصالح الاستقرار والأمان. ولأجل أن نفهم فترة انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني بشكل أفضل علينا التذكير في فترة التسعينات من تاريخ تركيا. إن أفضل كلمة تشرح لنا أساس المفهوم السياسي في تلك الفترة هي الجمود السياسي وعدم الاستقرار. إن سياسات الجمود السياسي وعدم الاستقرار التي كانت تقوم على أولويات الطبقة الغنية التي كانت مرتبطة ببعضها، شكّلت عبر تعقيد الحوارات، ورفض كل الاقتراحات التي كانت تُقدم، وعدم إيجاد حلول سياسية تفضي إلى الحل، سياسات تركيا في التسعينات وجعلت منها دولة غير مستقرة. وبدأ ينظر إلى حزب العدالة والتنمية الذي تأسس عام 2001 على أنه فرصة لمواجهة الوسط الفوضوي الناجم عن المفهوم السياسي الذي كانت تعيشه تركيا في التسعينات.
يمكننا تحليل انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني على أنها مواجهة الشعب للجو السياسي والثقافي والاقتصادي الذي كان حاكما في فترة التسعينات، وتغلُّب الشعب(المحيط) على المركز(الأغنياء). وهذا الكفاح كان مستمرًا منذ فترة طويلة، وأشار على عدم قبول الحسابات التي كانت تدعي انخفاض دعم الشعب بسبب أحداث "غزي" وحادثة 17 من ديسمبر/ كانون ثاني، كما أشار إلى تدوين مفهوم تركيا الجديدة. ردّ الشعب على حكومة الإئتلاف وعدم الاستقرار السياسي والفوضى الإقتصادية باختيار حزب قوي وصاحب عزيمة لتشكيل حكومة بمفرده. هدف حزب العدالة والتنمية بدل الحلول المؤقتة والآنية إلى وضع مشاريع لإيجاد حلول دائمة وباقية للمشاكل المترسخة في السياسة التركية. وحقق سياسة الانفتاح على الأقليات العرقية والثقافية، والتي كانت مهملة ومبعدة من قبل الدولة.
بالرغم من تعرض حزب العدالة والتنمية لاتهامات من قبيل جعل الرأي العام التركي هشاً نتيجة ممارستة سياسة "الهوية" بسبب تكل الخطوات التي تُعتبر مخالفة للانعكاسات الأساسية لمفهوم الدولة المستقرة، فإن النتيجة جاءت على عكس هذه الانتقادات تماماً. فقد تم التواصل مع ممثلي المواطنين الغجر، الأكراد، العلويين، النصرانيين والجماعة اليهودية، ومخاطبتهم من قبل الدولة واتخاذ الخطوات لحل المشاكل المترسخة. ويعتبر المعنى الرمزي لهذه الخطوات أمرًا مهماً من ناحية التوحد المجتمعي التركي. كما أن حزب العدالة والتنمية التي أنهى عهد استخدام الهوية كعنصر تفريق، تبنّت رؤية تقوم على اعتبار الهويات والأفكار المختلفة غنىً للبلاد. باختصار، فقد انتهى عهد الكمالية التي كانت تقصي الهويات الأخرى، وذات النمط الواحد.
يتضمن انتصار حزب العدالة والتنمية في انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني، رسائل ونتائج مهمة من ناحية السياسة التركية. امتلاك العدالة والتنمية كحزب سياسي للتجربة الحكومية، بفوزه منذ تأسيسه عام 2001 في جميع الانتخابات التي خاضها. تقوّي يده في البنية البروقراطية. كما تم فتح الطريق أمام الشروط الجديدة التي تقوم بإصلاح البيروقراطية المركزية المُتعبة. قام حزب العدالة والتنمية الذي حقق الكثير من مشاريع البنى التحتية خلال فترة حكمه الـ 13 سنة، بتحقيق مشاريع مهمة في مجال الطرق المزدوجة، وإقامة المطارات الجديدة، والقطارات السريعة وتوسيع نطاق الموانئ. كما نرى تقليل حجم الارتباط بالخارج عبر إغلاق ديون صندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى أن تركيا اجتازت الأزمات الإقتصادية بأقل الخسائر.
انتقلت تركيا في العهد الجديد، من لاعب إقليمي إلى لاعب عالمي. وبسبب انعدام الحدود بين السياسة الخارجية والداخلية بفعل العولمة، فلم تعد السياسة الخارجية ساحة للمختارين/ السياسيين لكي يمارسوا فيها حملات الشطرنج كيفما يريدون. كما أن أية أزمة تحدث بين بلدين في زمن تداخلت فيه الأسواق، فإنها تنعكس مباشرة على مواطني تلك البلاد. لذلك فبعد توتر العلاقات مع إسرائيل نتيجة أحداث "ماوي مرمرة"، ومع روسيا بسبب إسقاط الطائرة الروسية لاختراقها المجال الجوي والانتقادات المتبادلة، يجب على تركيا أن تكون ذات فعالية ونشاط أكثر مما هي عليها الآن. من جهة أخرى فقد تكيفت تركيا مع الجو الدبلوماسي الجديد بسرعة، وكانت ضمن جهود مكثفة لإقامة علاقات مع المناطق النائية ثقافياً ونالت ثمار جهودها.
من أهم المشاكل بالنسبة لتركيا هي المأساة التي تجري في جارتها سوريا. فقد تبنت تركيا وما زالت موقفاً وجدانياً ومبدئياً تجاه الحرب السورية التي تسببت بتهجير الملايين من السوريين. فقد كانت الأزمة السورية حجة لتمركز داعش هناك، وإن داعش تشكل خطراً على الأمن التركي. كما أن هجمات داعش ضد تركيا أكسبت مشروعية جزئية لحزب العمال الكردستاني. فقد لاقت الحملة العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني التي بدأت قبل الانتخابات دعماً مجتمعياً واسعاً أثناء الانتخابات، مما زاد من إمكانية تخلص تركيا من هذه المنظمة الإرهابية. وسيساهم خروج حزب العدالة والتنمية منتصراً من انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني، بفعل الدعم المجتمعي، في خطو خطوات أكثر عزماً في المسائل التي تتعلق بداعش وسوريا وحزب العمال الكردستاني.
تحمل انتخابات الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني، أهمية حساسة بالنسبة لتاريخ السياسة التركية. فسيكون لها إمكانية أكثر للتوجه نحو السياسة الخارجية والتخلص من الانغلاق على الداخل. ويتوقع في الفترة المقبلة رؤية تركيا وقد اتخذت خطوات أكثر عزماً في السياسة الخارجية، ووجدت حلولًا دائمية لمشاكلها الداخلية، ولا تتساهل في الرقابة المالية من أجل استمرار استقرارها الاقتصادي.