• انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني.. قفزة في الهواء

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    بكل صراحة، فإن عقد انتخابات للمجلس التشريعي للسلطة الفلسطينية، في بيئة سياسية ومؤسساتية فلسطينية مهترئة، وغياب المرجعيات المشتركة الناظمة والحاكمة للعمل الوطني، وغياب ضمانات الحرية والنزاهة، وتعارض البرامج السياسية والأولويات، ليس أكثر من "وصفة للفشل"؛ وإعادة تدوير لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني.

    إن الانتخابات هي مجرد آلية تأتي مُكللة لمجموعة من المنظومات والقواعد والأسس والضوابط والضمانات التي يُستند إليها، بما يضمن حدا معقولا من تحقيق الأهداف التي تعقد من أجلها. أما أن تكون مجرد كسر للجمود أو هروبا من الواقع، أو توظيفا لأجندة أحد الأطراف، فلن تنقل الوضع إلا إلى مزيد من الإحباط، ومما هو سيئ إلى ما هو أسوأ.

    أين المشكلة؟

    1. عندما تكون المظلة الجامعة للشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) في حالة بئيسة من الضعف والتردي والانزواء، ومن الفشل في استيعاب مكونات وقوى أساسية في الشعب الفلسطيني، ومن الفشل في عدم القدرة على تجديد مؤسساتها التشريعية والتنفيذية، ومن هيمنة فصيل فلسطيني عليها على مدى أكثر من نصف قرن.

    2. وعندما يتنازع الساحة الفلسطينية برنامجان سياسيان متعارضان، أحدهما يدعم مسار التسوية السلمية مدعوما بشرعية الرئيس وباتفاقاته مع الاحتلال الإسرائيلي، وبالدعم الرسمي العربي والدولي، والآخر يستند إلى برنامج المقاومة المستند إلى قاعدة شعبية واسعة وإلى شرعية المجلس التشريعي المنتخب 2006.

    3. وعندما يسيطر على مناطق السلطة في الضفة الغربية التيار المؤيد لمسار التسوية وحركة فتح، بينما يسيطر على قطاع غزة التيار المؤيد لمسار المقاومة وحركة حماس.

    4. وعندما يكون الطرف الإسرائيلي لاعبا فاعلا في البيئة السياسية والاقتصادية والأمنية للضفة والقطاع؛ وقادرا على تعطيل الانتخابات، وإفشال نتائجها، واعتقال الفائزين ممن لا يرضى عنهم؛ وإفشال عمل أي حكومة، واعتقال وزرائها.

    5. وعندما تكون أطراف عربية ودولية جاهزة للضغط باتجاه سير الانتخابات إلى نتائج تخدمها، حتى لا تقع في تكرار "الخطأ" الذي حدث سنة 2006.

    6. وعندما لا يكون ثمة خريطة طريق فلسطينية متفق عليها، للتعامل مع ما سبق.

    عند ذلك، لن تكون المشكلة هي في الهرب إلى الانتخابات، في الوقت الذي تبقى فيه عناصر الاختلاف والتفجير كافة قائمة، وسيكون الإصرار على مجرد الانتخابات خداعا للذات، إن لم يكن خداعا للشعب الفلسطيني، وهروبا من الدَّلف إلى المزراب!!

    ما الجديد؟!

    ما الجديد الذي ستقدمه الانتخابات، بحيث يجنبنا المشاكل والانقسامات التي حصلت بعد انتخابات 2006، بينما البيئة السياسية الفلسطينية، والإسرائيلية والعربية والدولية هي نفسها بل هي أسوأ؟!

    هل الموانع التي منعت المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب من العمل طوال 12 سنة ماضية قد انتفت، أم إنها ما زالت على حالها؟!

    لماذا لم يمارس المجلس التشريعي الفلسطيني أعماله بعد توقيع اتفاق المصالحة في أيار/ مايو 2011، وهل أولئك الذين منعوه من العمل تنحوا جانبا، أم غيّروا سلوكهم السياسي؟

    إن الحقيقة المرَّة تقول إنهم بدلا من ذلك، أصروا على الاستمرار في تعطيل المجلس، بل وقاموا بحلّه بخلاف كل أشكال التوافق الفلسطيني، وبخلاف أغلبية شعبية ساحقة ترفض هذا الإجراء، وفوق ذلك، حرموا أعضاء المجلس المنتخبين حتى من رواتبهم.

    بالتأكيد، لم تكن المشكلة في الانتخابات التي شهد الفلسطينيون والعالم أجمع بنزاهتها وشفافيتها؛ وإنما كانت في أن طرفا لم تعجبه هذه النتائج، فقام بتعطيل مخرجاتها، وما زال سلوكه على الأرض لا يعطي أي مؤشرات على تغير حقيقي في سلوكه.

    التزامن:

    الشرط المهم والحساس الذي تنازلت عنه حماس وباقي الفصائل الفلسطينية، هو شرط "التزامن" في عقد انتخابات المجلس التشريعي والانتخابات الرئاسية، فضلا عن المجلس الوطني الفلسطيني. وهو فصْلٌ يأتي بخلاف اتفاق المصالحة لسنة 2011؛ ويتجاوب مع رغبة عباس وقيادة فتح بإدارة الانتخابات بطريقتها.

    غير أن أسوأ ما يفتح الباب عليه هو عدم المضي في انتخابات الرئاسة أو المجلس الوطني، إذا فازت حماس وقوى المعارضة في الانتخابات؛ مع إدراك قدرة قيادة فتح (التي ترأس السلطة والمنظمة ويحوز برنامجها المتوافق مع مسار التسوية على الدعم العربي والدولي) على افتعال أي أعذار لعدم المضي في المسارات الانتخابية أو الإصلاحية.

    وهذا ليس محض خيال، فهو ما حصل فعلا بعد انتخابات 2006. فمثلا كانت التوافقات الفصائلية الفلسطينية في صيف 2005 تتحدث عن مجلس وطني من نحو 300 عضو يدخل في عضويته الأعضاء الـ132 الجدد المتوقع انتخابهم للمجلس التشريعي كممثلين للداخل، وفي مقابلهم 132 كممثلين للخارج، والباقي من الشخصيات والرموز الفلسطينية البارزة. غير أنه فور فوز حماس، تم نسف هذه التوجهات بالكامل، وتم الإبقاء على المجلس المنتهية صلاحيته بأعضائه، الذين يزيدون عن 700 عضو، وتحت هيمنة فتح.

    سلوك قيادة السلطة على الأرض:

    السلوك السياسي لعباس وقيادة السلطة وفتح، خصوصا في السنوات الثلاث الماضية على الأرض، كان باتجاه فرض مزيد من الهيمنة والاستئثار في الساحة الفلسطينية، وتهميش وتطويع الخصوم السياسيين. وأي متابع للعقوبات التي فُرضت على قطاع غزة، ولإصرار قيادة السلطة على السيطرة على "ما فوق الأرض وما تحت الأرض" (السيطرة على سلاح المقاومة) في قطاع غزة، وتعطيل اجتماعات الإطار القيادي المؤقت، وحجب المستحقات المالية للجبهتين الشعبية والديمقراطية، وعقد اجتماعات المجلس المركزي دونما توافق فلسطيني حتى بمقاطعة فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وعقد المجلس الوطني في رام الله بخلاف اتفاق بيروت (كانون الثاني/ يناير 2017)، وحل المجلس التشريعي (بغطاء المحكمة الدستورية)، وتشكيل حكومة فتحاوية. أي متابع لذلك لا يرى إلا مزيدا من تأزيم الساحة الفلسطينية، ومزيدا من السلوك الفوقي الذي يسير باتجاه إلغاء الآخر. فإذا كانت البيئة السياسية الفلسطينية التي سبقت انتخابات 2006 أفضل بكثير من البيئة السياسية الحالية، ومع ذلك فقد تلا نتائج الانتخابات التي لم تُعجب قيادة فتح ما تلا من مشاكل وانقسامات، فما هو السلوك المتوقع في بيئة أسوأ وأكثر تراجعا؟!

    سيناريوهات ما بعد الانتخابات:

    إذا فازت فتح وحلفاؤها، دون اتفاق مسبق حول إدارة ملف المقاومة، فلن تستطيع إدارة غزة بشكل مباشر وكامل، وإن كانت ستحشر حماس في زاوية أنها فقدت "الشرعية الشعبية". وهو ما قد يعني استمرار حالة الانقسام إياها.

    وإذا ما فازت حماس وخط المقاومة، فمن المستبعد جدا أن تتمكن من استلام السلطة في الضفة الغربية، ولا حتى من تحقيق شراكة حقيقية في إدارتها؛ ليس فقط بسبب السلوك المتوقع لقيادة السلطة والأجهزة الأمنية، وإنما بسبب السلوك الإسرائيلي أيضا والجهات العربية والدولية المعادية للمقاومة ولتيارات الإسلام السياسي. كما أنه ليس ثمة فرصة حقيقية لتنفيذ برنامج "الإصلاح والتغيير" الذي ترفعه حماس بعد التجربة التي رأيناها بعد انتخابات سنة 2006. وليس ثمة فرصة حقيقية لدى حماس في فكّ الحصار نهائيا، طالما لم تستجب لشروط الرباعية، ولم تتنازل عن خط المقاومة؛ خصوصا أن "شرعية" حماس الشعبية السابقة على مدى 13 عاما لم تساعدها في ذلك.

    بمعنى أنه سيتم ترحيل أزمات ما قبل الانتخابات إلى ما بعد الانتخابات؛ بغض النظر عمّن سيسجل نقاطا أكثر لصالحه من خلال الانتخابات.

    إن الهدف الرئيسي لعباس من الانتخابات لا معنى له، وفق مسار سلوكه السياسي طوال السنوات الماضية، سوى المضي خطوة باتجاه "نزع شرعية" حماس في قطاع غزة، وإجبارها على تسليم السلطة لأبي مازن ولقيادة فتح، وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى ضرورة وجود حلول وتوافقات مسبقة على قضايا أساسية قبل الانتخابات.

    ما الضمانات؟

    المنظومة السياسية الفلسطينية الحالية، خصوصا تلك التابعة للسلطة لا تقدم ضمانات كافية بانتخابات حرة ونزيهة، وباحترام نتائج الانتخابات واستحقاقاتها.

    إذ ثمة حاجة لحل حكومة فتح الحالية، ولتشكيل حكومة انتقالية متفق عليها، ترعى العملية الانتخابية، وتضمن الحريات وشفافية الإجراءات.

    وثمة حاجة أيضا لإعادة تشكيل المحكمة الدستورية المحسوبة على فتح وعباس، وكذلك تشكيل محكمة خاصة بالانتخابات.

    ويجب إطلاق الحريات في مناطق السلطة، والسماح بالحملات الدعائية للاتجاهات والفصائل كافة، ووقف أشكال الاعتقال السياسي كافة.

    كما يجب قطع الطريق على الطرف الصهيوني في محاولة إفشاله للعملية الانتخابية أو ممارسة المجلس التشريعي لمهامه؛ بما في ذلك التوافق على حق النائب المعتقل في إنابة شخص مكانه؛ وعلى طرق لعقد المجلس في أي ظروف استثنائية.

    وهناك ضرورة للتوافق على ميثاق يُلزم جميع الأطراف بمتابعة مسار الانتخابات إلى نهاياته التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني الفلسطيني، وصولا لإصلاح النظام السياسي نفسه.

    عن أي سلطة نتحدث؟

    الحماسة التي ترافق التوافق على الانتخابات؛ يجب ألا تخفي عن أنظارنا أن المجلس التشريعي هو لسلطة تقع تحت الاحتلال، وأن المراهنة عليه كأداة للتغيير محدودة وضئيلة، ويستطيع الاحتلال إفشاله وتعطيله.

    كما لا يجب للانتخابات أن تحجب أنظارنا عن أن السلطة التي يجري التنافس عليها، قد تمكَّن الاحتلال الصهيوني من تطويعها وتفريغها من محتواها مع الزمن، فلم تعد مشروعا حقيقيا محتملا لدولة فلسطينية كاملة السيادة على أرض 1967؛ وإنما تحولت إلى كيان وظيفي خدماتي أمني يخدم أغراض الاحتلال أكثر مما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني.

    وأن أي حركة أو قائمة منظمة تفوز في الانتخابات، مهما كانت شعبيتها، ومدى كفاءة رموزها ووزرائها وإخلاصهم، ستبقى محكومة باشتراطات الاحتلال في إدارة السلطة في الضفة الغربية، وستبقى تحت الحصار ما لم تستجب لاشتراطاته في قطاع غزة.

    ومن ثم، فانتخابات "التشريعي" ليست الوصفة "السحرية" لإخراج "الزير من البير" أو لحلحلة أزمة المشروع الوطني الفلسطيني؛ وإنما هي في أحسن الأحوال جزء من "العملية الديمقراطية" التي قد تعبِّر عن أحجام القوى الفلسطينية في الداخل، وتسهم في استكمال المنظومة السياسية الفلسطينية في الداخل والخارج. وربما أسهم المجلس، في حال وجد فرصة حقيقية لتفعيله، في عملية الرقابة على السلطة وتحسين أدائها.

    الخلاصة:

    نجحت قيادة السلطة الفلسطينية وفتح طوال أكثر من ثماني سنوات تلت اتفاق المصالحة، في فرض واقع سياسي تتمتع فيه بمزيد من الاستئثار والهيمنة على البيئة الفلسطينية الداخلية (مع تراجع دورها وتزايد ضعفها تحت بيئة الاحتلال). وتمكّنت من جرّ الفصائل الفلسطينية الأخرى باتجاه مُربّعها واشتراطاتها، بعد أن عقدت المجلس الوطني والمجالس المركزية بالشكل الذي تريد؛ وبعد أن حلَّت المجلس التشريعي بالشكل الذي تريد، وبعد أن شكلت حكومة السلطة بالشكل الذي تريد؛ وبعد أن تمكنت أخيرا من فرض إرادتها بإلغاء فكرة التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية.

    وفي الوقت نفسه، فإن كل القضايا الجوهرية المرتبطة بإصلاح النظام السياسي الفلسطيني، ووضع برنامج سياسي مناسب لإدارة المرحلة، وتحديد الأولويات، والموقف من مسارات المقاومة والتسوية، كلها بقيت أزمات قائمة قابلة للتفجير في أي وقت.

    وهو ما يعني أن الانتخابات ستعيد إنتاج الأزمات نفسها ما لم يتم تدارك الأمر.

    وباختصار، فإن صناعة القرار الفلسطيني يجب أن يخرج من تحت هيمنة الاحتلال، وأن تكون بداية المسار الحقيقي من خلال إعادة بناء منظمة التحرير ومؤسساتها، وأن يتم تجاوز اتفاق أوسلو ومخلفاته، وإعادة الاعتبار لبرنامج وطني يحافظ على الثوابت، ويتبنى خط المقاومة

  • دراسة علميَّة محكَّمة: معركة الكرامة 21 مارس 1968 كما تعكسها الوثائق البريطانية

    في الذكرى الثانية والخمسين لمعركة الكرامة، يسرنا أن نضع بين يدي القارئ الكريم هذه الدراسة العلميَّة المحكَّمة، التي أعدها أ. د. محسن محمد صالح.*

    وتعد معركة الكرامة (21 آذار/ مارس 1968) أحد المفاصل التاريخية لحركة المقاومة الفلسطينية وللتاريخ المعاصر. إذ شكلت نقلة نوعية للعمل الفدائي الفلسطيني، الذي بدأ يعيش عصره الذهبي في الأردن. كما كانت إيذاناً بسيطرة حركة فتح على العمل الوطني الفلسطيني، وعلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية.

    وتحاول هذه الدراسة إلقاء أضواء جديدة على هذه المعركة من خلال دراسة الوثائق البريطانية غير المنشورة المتعلقة بالمعركة، التي سُمح بالاطلاع عليها بعد ثلاثين عاماً من وقوعها، والمحفوظة في مركز السجل العام Public Record Office، أو ما صار يعرف لاحقاً بالأرشيف الوطني National Archives The في لندن.

    وقد كان من الواضح أن تصاعد العمل الفدائي، المنطلق من قواعد له في غور الأردن قد دفع الكيان الإسرائيلي إلى القيام بهجوم واسع لتدميرها، خصوصاً في منطقة الكرامة. غير أن صمود الفدائيين والجيش الأردني وما بذلوه من تضحيات، قد أدى إلى نتائج معاكسة تماماً لخطط الإسرائيليين. إذ وقعت خسائر كبيرة نسبياً في القوات الإسرائيلية، وانكسرت أسطورتها بأنها تملك جيشاً لا يقهر. كما أدت إلى تصاعد شعبية العمل الفدائي ونفوذه خصوصاً في الأردن. وجعلت الكيان الإسرائيلي في حالة من الحيرة، إذ إن هجماته تزيد العمل الفدائي قوة وشعبية، كما أن سكوته يعطي هذا العمل فرصة للتوسع والتمدد.

    ويتقدم مركز الزيتونة بالشكر الجزيل للمجلة العربية للعلوم الإنسانية في جامعة الكويت، التي نشرت هذه الدراسة سابقاً، بالسماح للمركز بإعادة نشرها تعميماً للفائدة.

  • ما جديَّةُ قرار وقف العمل بالاتفاقات مع الكيان الإسرائيلي؟

    د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    عادت إلى واجهة الأحداث أخبار قرار قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي. ويشير القرار الذي أعلنه الرئيس عباس في 25 تموز/ يوليو 2019 إلى تشكيل لجنة لتنفيذ القرار.

    تشي اللغة القوية التي تحدث بها عباس بمدى الإحباط، الذي وصل إليه وفريقه، من مسار التسوية ومن الأمريكان والإسرائيليين، وبمحاولة التأكيد على جدية القيادة الفلسطينية الرسمية في رفض ما يسمى “صفقة القرن”، ورفض الإملاءات الإسرائيلية الأمريكية وسياسة الأمر الواقع وبناء الحقائق على الأرض، والتي أدت عملياً إلى انهيار “حلّ الدولتين” وتفريغه من مضامينه الأساسية. ويرتبط خطاب عباس كذلك بتأكيد أن الموقف الفلسطيني لا يمكن تجاوزه أو الالتفاف عليه عبر مسارات التطبيع، ومحاولة عزل الفلسطينيين والاستفراد بهم؛ وتأكيد قدرة الفلسطينيين على إفشال أي مخطط يستهدف “تسوية” أو “تصفية” قضيتهم على حسابهم، ودون تطلعاتهم، حتى لو كان “المتعهدون” حكومات وأنظمة عربية.

    وبحسب عباس فـ”فلسطين ليست للبيع”، و”لن نرضخ للإملاءات”، و”لا سلام ولا استقرار في منطقتنا والعالم، دون أن ينعم شعبنا بحقوقه كاملة”.

    إذا كان ثمة وقفات مع هذا القرار، فيمكن أن نلخصها فيما يلي:

    الوقفة الأولى: أن القرارات الرسمية الفلسطينية المتعلقة بوقف التنسيق الأمني وتجميد الاعتراف بـ”إسرائيل” هي قرارات عديدة. وقد أحصى بعض الباحثين حسبما نقل الأستاذ معين الطاهر 58 قراراً وتصريحاً رسمياً فلسطينياً في هذا الشأن، خلال السنوات الماضية. وكان من أوائلها قرار المجلس المركزي الفلسطيني المنعقد في آذار/ مارس 2015 بوقف التنسيق الأمني. وكان من المحطات البارزة قرار المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في رام الله في الفترة 30/4 حتى 3/5/2018، والذي قرر تكليف اللجنة التنفيذية بتعليق الاعتراف بـ”إسرائيل” إلى حين اعترافها بالدولة الفلسطينية، ووقف التنسيق الأمني، والتحرر من بروتوكول باريس الاقتصادي. وبالتالي فالقرار ليس جديداً، وينضم إلى “أرشيف” كبير من القرارات المشابهة، التي لم تجد طريقها للتنفيذ، وتم توظيفها إعلامياً وسياسياً بصورة مؤقتة.

    الوقفة الثانية: هي أن القرار يفتقر إلى آلية تنفيذ محددة، واللجنة التي تمّ الحديث عنها لم يحدد رئيسها ولا أعضاؤها ولا صلاحياتها ولا مداها الزمني.

    الوقفة الثالثة: أن هذا القرار وكل القرارات السابقة، لم تُتبع بإجراءات عملية على الأرض. فبالرغم من أن عُمر قرار وقف التنسيق الأمني يزيد عن أربع سنوات، وتكرر عدة مرات، إلا أنه لم يُنفذ منه شيء على الأرض. وما زال الطرف الإسرائيلي ينعم بخدمات تنسيق أمني “خمس نجوم”، وما زال يعلن أن تعاون السلطة معه في مطاردة المقاومة أدى إلى إحباط عشرات العمليات والقبض على كثير من الخلايا… ثم إن قيادة المنظمة والسلطة التي تُحال إليها هذه القرارات “المُلزمة” لا تفسر لنا سبب تجاهلها لها على مدى أربع سنوات. وهو وضع يجعلها في مكان المساءلة عن أسباب تقصيرها وضعفها وترددها وتجاوزها لقرارات “المؤسسات التشريعية السيادية”، وليس في موقف تسويق “الأداء الوطني”…. بعد “خراب مالطة”!!

    الوقفة الرابعة: دعا عباس في كلمته مرة أخرى لإنهاء الانقسام، وطالب بتنفيذ اتفاق القاهرة الموقع في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وهي دعوة يجب تشجيعها طالما تصب بشكل جاد في إعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني. غير أن هذه الدعوة لم تخلُ من مغالطات ومن تعريض سلبي بحماس؛ حيث ادعى عباس أن حماس رفضت في لقاء موسكو في شباط/ فبراير 2019 الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، مضيفاً أن ذلك كان تساوقاً مع “إسرائيل” وأمريكا!!

    فمن ناحية أولى يعلم عباس أن سبب عدم توقيع حماس على البيان الختامي للقاء موسكو مرتبط أساساً بتغيير نصوص البيان التي قام بها ممثلو فتح دون علم باقي الوفود. ومن ناحية ثانية يعلم أن حماس موافقة منذ سنوات طويلة على دخول منظمة التحرير والمشاركة في مؤسساتها بشكل “ديموقراطي تمثيلي” يعكس إرادة الشعب الفلسطيني، وأن الكرة في ملعب عباس وحركة فتح منذ إعلان القاهرة في آذار/ مارس 2005 مروراً بوثيقة الوفاق الوطني في حزيران/ يونيو 2006، واتفاق المصالحة في أيار/ مايو 2011. وأن عباس لم يأخذ إجراءً حقيقياً واحداً لشراكة فاعلة لحماس والجهاد الإسلامي وغيرها في منظمة التحرير ومؤسساتها. كما يعلم من ناحية ثالثة أن “التساوق” مع الإسرائيليين والأمريكان هو في الأساس تساوق من خاض مسار التسوية واعترف لـ”إسرائيل” بمعظم فلسطين، وأوقف العمل المقاوم وطارده، وألغى الميثاق الوطني الفلسطيني؛ وليس تساوق المقاومة المسلحة “المغضوب عليها” و”المحاصرة” والموصوفة بـ”الإرهاب” من الإسرائيليين والأمريكان وحلفاؤهم. وأن سبباً رئيسياً لتعطيل المشاركة الفاعلة لحماس والجهاد في المنظمة هو أن سقفها أعلى بكثير من سقف قيادة السلطة وفتح، وأن هناك فيتو أمريكي إسرائيلي عليها.

    الوقفة الخامسة: إذا كان ثمة جدية من طرف عباس وقيادة المنظمة والسلطة في مواجهة “صفقة القرن” وتحقيق وحدة وطنية فلسطينية فعالة، فإنهم المطالبون أولاً (ما دامت القيادة الرسمية بأيديهم) أن يقوموا بعدد من الإجراءات، أولاها التوقف عن مجموعة القرارات والإجراءات التي اتخذوها على مدار العامين الماضيين، والتي زادت من توتير وانقسام الساحة الفلسطينية، وأدت حتى إلى انفضاض فصائل منظمة التحرير عن فتح وسياساتها. ويدخل في ذلك العقوبات على قطاع غزة، وحل المجلس التشريعي الفلسطيني، وتشكيل حكومة فتحاوية حزبية، بالإضافة إلى متابعة سياسة الهيمنة والاستئثار بصناعة القرار الفلسطيني، والإصرار على الاستمرار في التحكم بمؤسساته التشريعية والتنفيذية، فضلاً عن توظيف الصندوق القومي الفلسطيني لأغراض الضغط والابتزاز السياسي.

    وعلى الرئيس عباس وقيادة السلطة أن تتوقف عن “إدارة” المصالحة وعن “الانتقائية” في اختيار ما تريد تنفيذه وما لا تريد تنفيذه. فالمصالحة الموقع عليها منذ 2011 ليست مجرد تسليم المقاومة لقطاع غزة؛ بل هي أوسع وأشمل من ذلك بكثير، وفيها مجموعة من الخطوط المتوازية التي يجب أن تُنفذ كرزمة واحدة… وعلى رأسها مسار منظمة التحرير، التي يُصر عباس على الحديث عن شرعيتها وتمثيلها، دون أن ينظر إلى حالتها البئيسة التي تسبب هو وقيادته في وصول المنظمة إليها، سواء في مؤسساتها المهترئة، وانزوائها الشعبي، وغيابها عن صناعة الأحداث، ووجودها في غرفة الإنعاش، مع تعطيل أي إجراءات حقيقية لإعادة بنائها وتفعيل مؤسساتها.

    أما إذا كان ثمة حديث جاد عن وقف العمل بالاتفاقيات مع العدو الإسرائيلي، ووقف التنسيق الأمني، وسحب الاعتراف بـ”إسرائيل”؛ فإن هذا يعني مجموعة من الاستحقاقات الكبرى أبرزها إعادة تعريف (أو إنهاء) السلطة الفلسطينية، وبناء استراتيجية فلسطينية جديدة على برنامج سياسي جديد، يتجاوز مسار التسوية واتفاقات أوسلو السابقة. وهذا قد يفتح فرصاً كبيرة لترتيب البيت الفلسطيني ولانضمام حماس والجهاد وقوى المقاومة لمنظمة التحرير وإعادة بنائها على أساس العودة للثوابت. وهو ما يفتح في الوقت نفسه مجموعة من التحديات والمخاطر نتيجة التموضع الجديد المحتمل. وهذا يستدعي مجموعة من ورش العمل والخطط التي يشارك في إعدادها خبراء ومختصون أَكْفاء، لوضع البدائل والمسارات الأنسب لإدارة المرحلة، ومتابعة استراتيجية المقاومة والتحرير.

    أما متابعة التصريحات والتعبير عن “القهر” وتفريغ المشاعر، والتهديدات الكلامية… فلا تفيد إلا في مزيد من الإحباط… وفي مزيد من انهيار الثقة بالقيادة السياسية الفلسطينية، والشعور بضعف كفاءتها، وعدم ارتقائها إلى مستوى المرحلة. كما سيصب أكثر في لا مبالاة وسخرية واستخفاف الأمريكان والصهاينة بهكذا قيادة فلسطينية.