• أصل المشكلة: الجهات التي تمثل العالم الإسلامي هي تحت الاحتلال

    د.ياسين أقطاي

    لقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخيرًا تلك الخطة التي تسمى “صفقة القرن” بعد أن كان الحديث عنها يدور منذ وقت طويل، أعلنها وقد أخذ لجانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. إن صفقة القرن في الحقيقة ما هي إلا نتاج لممارسات النفاق والظلم والغدر، ولسياسة الاحتلال والمجازر والعنصرية، التي طالما ساقها النظام العالمي في القرن الماضي. إنها ليست سوى إلحاق بالأراضي التي كانت محتلة أصلًا منذ وقت طويل.

    إن متن تلك الصفقة يكشف في الواقع عن أن العالم الغربي الذي كان يبيعنا العلمانية ويصدّع رؤوسنا بها، بلغته وخطاباته وفلسفته؛ ما هو إلا عالَم متدين ومتطرف وعنصري وفاشي.

    صفقة القرن

    صفقة القرن هي إعلان صريح عن إفلاس كل ما ينادي به الغرب من الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الدينية والعلمانية والتسامح. إنها صورة تعرض السعي وراء كهانة سخيفة للغاية عمرها 2500 عام من المدنية الغربية، وما يتفرع عنها من جنون، يحاول تصوير المسلم الذي ينطلق من دافع ديني على أنه الشخص الأكثر تعصبًا في العالم.

    إن السبب الوحيد اليوم الذي يجعل من هذه الكهانة تحاول فرض نفسها بنفسها، هو أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى في هذا العالم، والتي قد حولت الحلم التبشيري-الصهيوني إلى كابوس يحدّق بالسلم العالمي.

    إن رغبتهم في جعل القدس عاصمة لهم، ليس لأنهم يحبّون القدس ذلك الحب المفرط. حيث لا يمكن أن يعشق القدس، أولئك الذين لا يفهمونها ولا يعرفونها. الولايات المتحدة وإسرائيل واعلام الصليبي بأكلمه بعيدون كلّ البعد عن إدراك كنه القدس.

    إن القدس قبل كل شيء هي ذلك المكان الذي فيه يكون فيد دم الإنسان مقدّسًا ومكرمًا. لا يتم تقديس القدس من خلال سفك دماء الأبرياء، بل يتم هدمها وهدمها، حتى تجدون إنسانيتكم باكلمها تحت الأنقاض. أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من القدس عاصمة لهم، لا يمكن لهم على الإطلاق أن يكونوا قريبين من أي معنى من معاني القدس، وهم على وشك سفك دماء الملايين من الناس، وكسر سلام ونظام واستقرار العالم بأسره.

    ليست القدس مكانًا للتغطية على الخطايا، بل مكان إدراك تلك الخطايا والتوبة عنها. إن ترامب وبجانبه نتنياهو وهما يقدمان على هذه الخطوة الوقحة المتعجرفة، يبحثان من خلالها على طريق لغسيل خطاياهم والهروب من اتهامات الفساد التي تلاحقهم.

    كما ذكرنا هذا دائمًا؛ القدس هي مرآة عالمنا. في الواقع وعلى مر التاريخ، تكون القدس انعكاسًا لواقع العالم والإنسانية معًا على مر التاريخ. إن الغطرسة والخيانة والاحتيال والظلم الذي تتم ممارسته في القدس، ما هو إلا انعكاس لما يجري في العالم.

    لقد قال الرئيس أردوغان خلال اجتماعه الذي عقده أخيرًا بعد إعلان ترامب عن صفقة القرن، أن “القدس هي مفتاح السلام العالمي”. لكن ذلك المفتاح له أيضًا تأثير في عرقلة السلام العالمي، حينما يتم استخدامه بطريقة سيئة وضارة، وبالطبع العكس هو الصحيح. نجد انعكاسًا هنا للاضطراب الكائن في النظام العالمي. في الحقيقة، حينما عرّج أردوغان خلال كلمته، نحو الوضع في إدلب وليبيا، قد أوضح بشكل لافت أن ما يجري هو انعكاس للخيانة والاحتلال والاضطهاد الذي يتعرض له القدس.

    في ليبيا، هناك انقلابي ومجرم حرب ومحتل اسمه حفتر، ومن ورائه قوى قد جمعها تعتمد على أسلحتها الفتاكة، ويحاول معهم الوصول إلى السلطة من خلال سحق الشرعية، والمدنيين. إن الذين يدعمونه وجميع أسبابهم وحججهم وصفاتهم، تتماهي تمامًا مع أسباب وحجج وصفات من يحتلون القدس. حينما يمتلك القوة، فإنه يمكن أن يرى عبر فرض الأمر الواقع، أن احتلاله الخسيس حق مشروع.

    ما يتم هناك في ليبيا من احتلال وجرائم وغصب، يتم دعمه وتمويله من زعماء عرب-مسلمين، تمامًا كما هو الحال في القدس. من يمكنه أن يتوقع صدور صوت عن العالم الإسلامي حول القدس؟ أصلًا إن أساس المشكلة أن تلك الجهات التي تمثل العالم الإسلامي محتلة.

    أليس منطق وشكل تعاون روسيا وإيران والنظام السوري في إدلب يتماهى تمامًا مع ما مرّ من المشاهد؟ هناك في إدلب يوميًّا يتم قتل العشرات من المدنيين والأطفال فضلًا عن قصف المدن والمشافي والأفران، باسم الحرب ضد الإرهاب. كم عدد الإرهابيين الذين يموتون حقًّا يا ترى؟ أو بالأحرى من هم الإرهابيون حقيقة هناك؟ هانك العديد من الأسئلة التي تكفي لتفسير كيف تفقد الإنسانية معناها من وراء التبرير باسم الإرهاب. تستطيع روسيا فعل أي شيء فقط لأنها عضو دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولأنها تمتلك ما يكفي من القوة. لا يوجد قوة لمنعها على أي حال. حتى القوى التي يمكن لها أن تمنع روسيا عن إجرامها، لا يتمتعون بسيرة ذاتية أفضل من روسيا. جميعهم دون تفاوت تتقاطر من أيديهم دماء الأبرياء.

    أليس هذا أيضًا انعكاسًا مباشرًا للنظام القائم في القدس؟

    ألا نرى خيانة أولئك الذين يحتلون مقام تمثيل الدول المسلمة، قبل أي شيء من سفك دماء المسلمين هناك، وأراضي المسلمين التي تم احتلالها، وشرف المسلمين وناموسهم المهان؟

    لذلك السبب، يعتبر حال القدس تلخيص لأحوالنا. القدس مرآة العالم. يبدأ الخلاص في القدس أو يكتمل فيها.

    لا يمكن تحرير القدس من خلال الإبقاء على القسوة والتضاد الذين يحكمان العالم الإسلامي. من أجل تحرير القدس ينبغي وضع حد لهذا الظلم في عالمنا. لن يتغير شيء في القدس ما لم يتغير النظام القائم في العالم..

  • اتفاقية الاستسلام وارتهان البندقية الفلسطينية اتفاقية أوسلو

    محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

    اتفاقية أوسلو وحرب الإبادة التي شنها حافظ الأسد على الفلسطينيين

    اتفاقية أوسلو هي اتفاقية استسلام وارتهان البندقية الفلسطينية للعدو الصهيوني واستجابة لإملاءات وشروط الكيان الصهيوني المدعومة من القطب الأوحد أمريكا وبمباركة عربية ودولية.

    وقد جاء الحديث عن هذه الاتفاقية بعد سنين من المفاوضات السرية في أروقة بلدان أوروبية، والتي وجدت فيها منظمة التحرير الفلسطينية تحقيقاً لانتصار وهمي تُخيل لها بأن الدولة العبرية ستفي بوعودها وتلتزم بما توقع عليه من تعهدات واتفاقيات، وجاء قبول منظمة التحرير بالتوقيع على هذه الاتفاقية بعد حرب شنها عليهم حافظ الأسد في سبعينات القرن الماضي، وقد نكل بالفلسطينيين وساق الآلاف منهم إلى معتقلاته وسجونه، وفتح أبواب المخيمات لبعض التنظيمات الإرهابية العنصرية التي دخلت هذه المخيمات وارتكبت أبشع المجازر وأفظعها، وختم هذه الحرب القذرة والعدوانية بطرد الفصائل الفلسطينية من آخر معاقلهم في مواجهة العدو الصهيوني في جنوب لبنان.

    لم يكن أتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني مجرد اتفاق مرحلي، بل كان نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة من الكفاح الوطني الفلسطيني، مرحلة شهدت العديد من التطورات على الساحة السياسية الفلسطينية والصهيونية، فالاتفاق الذي لم يدم طويلاً، إلا أنه يعتبر أهم حدث سياسي فلسطيني خلال العقدين الماضين، نظرًا لتداعيات والتطورات التي ترتبت عليه.

    إرهاصات أتفاق أوسلو

    تشكل وضع دولي جديد في بداية فترة التسعينيات إثر انهيار موازين القوى عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وحدوث انقسام في الموقف العربي بعد أزمة احتلال العراق للكويت وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية للموقف العراقي، وما نتج عنها من ضعف للتضامن العربي، وفرض حصار مالي وسياسي على منظمة التحرير بسبب مواقفها من الأزمة، حيث انعكست كل المتغيرات الدولية والإقليمية على القضية الفلسطينية وعلى منظمة التحرير وجعلتها تسير في ركب التسوية.

    في أعقاب عاصفة الصحراء نظمت الولايات المتحدة مؤتمرا للسلام في مدريد

    أتاحت سنة 1991م، فرصة جديدة للولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة خطتها المتعلقة ببدء عملية سلام اعتقدت أنها ستكون ناجحة في الشرق الأوسط، وفي هذا الشأن جاء في تقرير لمعهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية، في أعقاب عاصفة الصحراء تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية حيازة نقاط قوة فريدة، منتصرة في حرب الخليج الثانية مكنتها كقوة عظمى وحيدة أن تحقق أكثر مما حققته في الماضي. لذلك استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة الذهبية، ونظمت مؤتمراً دولياً للسلام في مدريد عام 1991، وفي هذا المؤتمر تحدثت الدولة العبرية فيه مع جيرانها العرب لأول مرة، وقد حضر الفلسطينيون أيضاً ولكن مقابل تنازلات هائلة، وكانت رؤية الإدارة الأمريكية لعملية السلام في الشرق الأوسط مبنية على ضرورة إيجاد حلًّ ما للصراع العربي-الصهيوني، خاصةً وأن منظمة التحرير التي حملت لواء الكفاح المسلح ضد الكيان الصهيوني لعقدين ونيف من الزمن، تمّ ترويضها وإلحاقها في عربة التسوية السلمية التي انطلقت في مدريد عام 1991م.

  • الخوارج تاريخ وعقيدة

    محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    الخوارج صفحة سوداء في تاريخ أمتنا العربية والإسلامية

    ليس من الغريب على أمة الإسلام، وهي ذات الحضارة والأمجاد، وذات التاريخ المليء بالصفحات المشرقات، أن تظلل بعض جوانبه الزاهية صفحات مخضبة بالدماء أو مجللة بالسواد، بفعل بعض الأيادي الخبيثة، التي كانت تمتد -بدهاء متقن-لتنفث سمومها إلى عقول بعض جهلة هذه الأمة من ذوي النفوس الضعيفة والرؤوس الخاوية، لتجعل منهم أداة لشق صف المسلمين، ومعولاً لهدم هذا الدين، خدمة لأغراضها الوضيعة، ولتنفّس عن أحقادها الدفينة. فقد عزَّ على هذه الطغمة الحاقدة أن تنتشر منارات التوحيد، وأن يعلو النداء الخالد.. الله أكبر.. الله أكبر.. فوق كل أرض وتحت كل سماء.

    وكان لهذه الفئة الباغية الضالة حضور في كل زمان ومكان حتى يومنا هذا، تتخفى تحت أسماء ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، تقف في وجه الحق وأهله متحدية كل نواميس الحياة، تقتل وتسفك الدماء وتشيع الضلالات والبدع والانحرافات وتعمل على إغواء الشباب وحرف معتقداته تحت شعار (قال الله وقال رسول الله)، رافضة مواجهة علماء الأمة أو الحوار معهم، فما يعتقدونه ويبشرون به هو الحق والدليل عندهم، فعلماء الأمة وعامة المسلمين ممن لم يبايعوا أميرهم وقد علموا بوجوده؛ هم مرتدون عليهم أن يُستتابوا ويعترفوا بكفرهم حتى يُقبلوا في حظيرة الإسلام، معيدين سيرة من سبقهم من خوارج هذه الأمة.

    أمراء التنظيمات المتطرفة ضالون مضلون

    دَأَبَ كثيرٌ من عناصرِ وأمراءِ بعض التنظيمات المتطرفة العاملة اليوم في بلاد الشام على اتهام مقاتلي الجيش الحر بالضلال والعمالة للكفار، ومن اتهمهم فلا خير فيه؛ لأن النبي قال فيهم كما أخرج الترمذي وأحمد: “إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلَا خَيْرَ فِيكُمْ”.

    ويَمُنُّ هؤلاء على أهل الشام بأنهم جاؤوا لنصرتهم، بينما الواقع يدل على أنهم جاؤوا لغزو أراضيهم باعتبارهم كفاراً، وسلب خيراتهم في حقول النفط، والمطاحن، والبلدات المحررة، ألا يصدق فيهم قول النبي في البخاري ومسلم: “وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ”. مع أن المنّة لله ثم للجيش الحر على كل القادمين لنصرتنا؛ حيث عبَّدوا لهم بدمائهم الطريقَ إلى الشّام، ليتشّرفوا بمسّ ترابها والجهاد على ثراها.

    فالخوارجُ لا يختصُّون بزمانٍ أو أشخاصٍ، وإنما هم فرقةٌ ضالّةٌ لها صفاتٌ، وكلُّ من اتَّصف بها أو ببعضها فهو منهم، ولذلك يظهَرون في الأمَّة كلَّ حينٍ إلى أن يظهر آخرُهم مع الدّجّال: ففي سنن ابن ماجه قول النبي: “يَنْشَأُ نَشْءٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجَ قَرْنٌ قُطِعَ، أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً، حَتَّى يَخْرُجَ فِي عِرَاضِهِمُ الدَّجَّالُ”، أي في جيوشهم.

    صفات الخوارج وأماكن خروجهم

    للخوارج صفات ذكرتها الأحاديث الشريفة، وينطبق كثير منها على أمراء وعناصر بعض التنظيمات المتطرفة التي حلت على أرضنا، وهي ليست تصرفات فردية كما يدَّعون؛ فإنّ تكرارها، وعظمها يدل على أنها سياسة لهذه التنظيمات، يتم تنفيذها بعلم أمرائها الكبار، وصفاتهم هي:

    -يخرجون في آخر الزمان، وأكثر خروجهم من جهة الشرق (العراق)، كما هو حال (أبو بكر البغدادي، الذي أعلن الخلافة الإسلامية ونصب نفسه خليفة للمسلمين)، قال رسول الله كما في البخاري ومسلم: “سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ”. وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان قال رسول الله: “يَخْرُجُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسلام، كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”.

    من وراء فبركة تنظيم الدولة الإسلامية؟!

    تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية هو فبركة مشتركة بين المخابرات الأمريكية والبريطانية والصهيونية والإيرانية أوجدته خدمة لإسرائيل؛ فقد كشف مؤخراً “إدوارد سنودن” الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية أن الأخيرة، وبالتعاون مع نظيرتيها البريطانية  MI6″” ومعهد الاستخبارات والمهمات الخاصة “الموساد” مهدت لظهور “داعش”.

    ونشر موقع “ذي إنترسيبت” تسريبات عن سنودن تؤكد تعاون أجهزة مخابرات ثلاث دول هي الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل لخلق تنظيم إرهابي قادر على استقطاب المتطرفين من جميع أنحاء العالم في مكان واحد في عملية يرمز لها بـ”عش الدبابير”.

    وأظهرت وثائق مسربة من وكالة الأمن القومي أن الأخيرة قامت بتنفيذ خطة بريطانية قديمة تعرف بـ”عش الدبابير” لحماية إسرائيل تقضي بإنشاء دين شعاراته إسلامية يتكون من مجموعة من الأحكام المتطرفة التي ترفض أي فكر آخر أو منافس له وفقا لما أورد موقع “المواطن”.

    وبحسب وثائق سنودن، فإن الحل الوحيد لحماية “الدولة العبرية” يكمن في خلق عدو قريب من حدودها، لكن سلاحه موجه نحو الدول الإسلامية الرافضة لوجوده.

    حقيقة أبو بكر البغدادي الذي نصب نفسه أميراً للمؤمنين

    كشفت تسريبات “ذي إنترسيبت” أن “أبا بكر البغدادي” خضع لدورة مكثفة استمرت لمدة عام كامل خضع فيها لتدريب عسكري على أيدي عناصر في الموساد، بالإضافة إلى تلقيه دورات في فن الخطابة ودروساً في علم اللاهوت، ولعل ما حدث على الأرض السورية يؤكد ما قاله “سنودن”.

    -أكثرُ عناصرهم وأمرائهم صِغارُ السّنِّ، ويحرصون على أن يضموا إليهم الصغار لغسل أدمغتهم وحشوها بالأفكار التي يريدون؛ لأنَّ منهجَهم التكفيريَّ لا يقتنعُ به راشدٌ، وهم أيضاً سفهاء الأحلام؛ أي حمقى لا يحسبون عواقب تصرفاتهم، ولذلك يستعْبِدُهم أمراؤُهم الكِبارُ تحت شعار (السّمع والطّاعة للأمير): ففي البخاري ومسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ”.
    -المكابرةُ، واحتقارُ الخلق، وردُّ الحقّ المخالف لهواهم، فإذا وافق هواهم قبلوه، وإن خالفه رفضوه وأوّلوه: يظهر هذا من نقاشِهِم لعليِّ بن أبي طالب، حين حاجَّهم في قولهم: (لا حكم إلا لله)، فلم يقتنعوا وقاتلهم حتى قتلوا عن آخرهم، وقال كما في صحيح مسلم: “كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَ نَاسًا، إِنِّي لَأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلَاءِ: “يَقُولُونَ الْحَقَّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لَا يَجُوزُ هَذَا مِنْهُمْ – وَأَشَارَ إِلَى حَلْقِهِ – مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ”.

    بداية ظهور الخوارج

    -ظهر الخوارجُ في عهد علي بن أبي طالب يكفِّرون مرتكبي الكبائر، وأما أمراء هذه التنظيمات فلا يتبنَّوْن هذا المذهبَ نظريّاً وأما عمليّاً فإنهم يكفرون المسلم دون وَرَعٍ أو تثبُّت، ولو لمجرّد مخالفته لهم، ويعتقد كثيرٌ منهم أنّ الأصل في أهل الشام الردة، فأين هم من قول رسول الله في صحيح البخاري: “أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا، إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ”.

    وإذا قيل عن هذه التنظيمات: ليسوا خوارج؛ لأنهم لا يكفِّرون مرتكبي الكبائر، فنقول: لم يرد في الأحاديث عن الخوارج الذين سيخرجون في آخر الزمان أنهم يكفرونهم، بل وصفتهم بأوصاف أخرى وكلها فيهم، علماً أنَّهم عملياً يكفرون المؤمنين بالتشهي ودون تثبت، وهذا أشنع وأقبح.

    معاملة الخوارج للمسلمين من أهل السنة والجماعة

    -يعاملون المسلمين بمعاملة الكافرين وإن حاولوا–نظريّاً-أن يظهروا بخلاف ذلك لكسب الحاضنة الشّعبيّة حتى يتمكّنُوا، ففي البخاري قال ابن عمر: “إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ، فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ”. ومن ذلك الغِلظةُ في معاملة المؤمنين بدل الرحمة والدّعوة، قال تعالى: (أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29). وقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة:54). ومنها شهر السلاح على المسلمين لأدنى الأسباب وأتفه الأمور؛ وفي مسند البزار قال رَسُول اللَّهِ: “إِذَا شَهَرَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَخِيهِ سِلَاحًا فَلَا تَزَالُ مَلَائِكَةُ اللَّهِ تَلْعَنُهُ حَتَّى يُشِيمَهُ عَنْهُ”. ومنها ظنُّ السُّوء بالمسلمين والمجاهدين الذين سبقوهم في الجهاد في الشام: كالعمالة والخيانة والرّدّة، ففي شعب الإيمان للبيهقي قال النّبيّ مخاطباً الكعبة: “ما أعظمَكِ، وأعظمَ حرمَتَكِ! وللمؤمنُ أعظمُ حرمةً عند اللهِ منكِ، إن اللهَ حرّم منكِ واحدةَّ، وحرّمَ مِنَ المؤمنِ ثلاثاً: دمَه، ومالَه، وأن يُظَنَّ به ظنُّ السُّوءِ”.

    -ومن صفاتهم عن النبي كما في البخاري ومسلم: “يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ”. فهم يحاربون مجاهدي الجيش الحر الذين فتحوا للمهاجرين باب الجهاد في الشام، فيطعنونهم في ظهرهم بمهاجمة المناطق المحررة، ولا يقاتلون النظام في جبهات حلب؛ ففي البخاري ومسلم قال رَسُولُ اللهِ: “سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ”. ولهم في ذلك ذرائع جاهزة ومعلّبة فيقولون: الجيش الحر مرتدُّون، أو سوف يرتدون، في قتلهم جَلْبُ مصلحةٍ حسب أهوائهم!!.

    كثرة عبادتهم التي لا تنفعهم شيء

    -يكثرون من العبادات: كالصلاة والصيام وقراءة القرآن، ولا ينتفعون بشيءٍ منها؛ لأنهم يحبطونها بتكفير المسلمين والاستهانة بدمائهم، ففي مسلم ومسند أحمد قال النبي فيهم: “يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إِلَى صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ … لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ”. وعند ابن ماجه: “سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ”. وفي البخاري ومسلم: “لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ». وربما قرءوا القرآن يستدلّون به على مخالفهم ويكون كلامهم في الحقيقة حجّةً عليهم: ففي مسلم ومسند أحمد: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَحْسِبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ”.

    شعارهم في ألسنتهم دون الالتزام بأخلاق أو قيم أو دين

    -شعارُهم الدّعوة إلى كتاب الله، ولكنهم يردّدونه بألسنتهم فقط، ولا يلتزمون به في معاملاتهم وأخلاقهم، كما نجده في كثير من أمرائهم وخاصة الأعراب منهم، ففي مسند أحمد قال النبي عنهم: “قَوْمٌ يُحْسِنُونَ الْقِيلَ، وَيُسِيئُونَ الْفِعْلَ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ … يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللهِ، وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ”. وقال: “يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لاَ يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ”. فيدْعُون إلى خيرٍ يحبُّه النّاس، وفي التّطبيق العمليّ يؤَوِّلون الغدر والخيانة والكذب والفتنة وغيرها من صفات المنافقين بأنّها من السّياسة الشّرعيّة، وهي ضروريّةٌ لإقامة دولة الإسلام الخاصّة بهم، مع أنّ الخوارج في عهد علي بن أبي طالب كانوا يعُدُّون الكذبَ كفراً، لكن هؤلاء أضافوا وصف النّفاق إلى وصف الخوارج.

    -لكثرة عباداتهم الظاهريّة، ودعوتهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، يغترّ بهم كثيرٌ من النّاس، وأكثر المنخدعين صغار السن، وطيّبو القلوب الذين يحبون الدين وأهله، ففي مسند أحمد قال رسول الله: “إِنَّ فِيكُمْ قَوْمًا يَتَعَبَّدُونَ فَيَدْأَبُونَ حَتَّى يُعْجَبَ بِهِمُ النَّاسُ، وَتُعْجِبَهُمْ أَنْفُسُهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ”.

    غلظة الخوارج ووقاحتهم وقلة أدبهم

    -الوقاحةُ، والفظاظة، وقلّةُ الأدب مع الناس، وأكثر ما يلاحظ في هؤلاء، وهذا كله مخالف لهدي النبي، ففي البخاري ومسلم: أعطى النبي بعض المشركين من الغنائم، وعلّلَه بقوله: “إِنِّي إِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِأَتَأَلَّفَهُمْ”، فَجَاءَ رَجُلٌ اسمه ذو الخُوَيْصِرة فَقَالَ: اتَّقِ اللهَ يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: “وَيْلَكَ، وَمَنْ يَعْدِلُ بَعْدِي إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَمَنْ يُطِعِ اللهَ إِنْ عَصَيْتُهُ، أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي”، ثم قال رَسُولُ اللهِ فيه: “إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ …”. وفي السنة لابن أبي عاصم: “إِنَّ فِي أُمَّتِي أَخًا لِهَذَا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، كُلَّمَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ”.

    -الغُلُوُّ في الدّين والتّشدُّد فيه في غير موضع التّشديد، ففي مسند أحمد قال النبي في ذي الخُوَيْصِرَة: “فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمَّقُونَ فِي الدِّينِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهُ، كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ”. مع أن النبي قال في مسند أحمد: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”. ومن ذلك: أنهم يرمون المسلم بالكفر؛ لأنّه يتناول السيجارة مع إقرارنا بحرمتها، وإذا رأَوْا رايةً غيرَ رايتِهم كعلمِ الثورة السُّورية اتّهموا حامله بالشّرك والكفر وأنه طاغوت، وغير ذلك.

    -الغدر، والخيانة، ونقض العهود، وتضييع الأمانات، بحججٍ واهيةٍ؛ كقولهم: هؤلاء كفار، أو هذا من السياسة الشرعية، ولذلك يحرمون الجيش الحر من الغنائم بعد ائتمانهم عليها، وقد يعطون أحداً يقاتلونه الأمان ثمّ ينكُثُون به، قال جل جلاله في أمثالهم: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (البقرة: 27)، ففي تفسير الطبري وابن المنذر: كان سعد ابن أبي وقاص يقسم أنهم الحرورية (أي الخوارج). مع أن هذه من صفات المنافقين: ففي البخاري ومسلم قال النبي: “آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ”. وفي رواية عندهما: “وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ…وَإِذَا خَاصَمَ فَجَر”

  • الذكرى الـ 17 لاحتلال العراق وإرهاصاته على الأمن العربي

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

       كان يوم التاسع من أبريل/ نيسان من العام 2003 يومًا فارقًا في تاريخ العراق، عندما دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى العاصمة بغداد، وفككت الجيش وكل مقومات الدولة، وتركت البلاد تعيش فوضى عارمة وفسادا سياسيا وانهيارا اقتصاديا لم تشهده البلاد طوال تاريخها الحديث.

         تمر الذكرى السابعة عشر للاحتلال الأمريكي وبريطانيا وحلفائهما بالتعاون مع إيران لاحتلال العراق ، ويستذكر العراقيون هذا التاريخ كل عام بمرارة، لاسيما وأن أثار الغزو وتداعياته لاتزال قائمة بل وتتفاقم يومًا بعد يوم.

         ففي مثل هذا اليوم من عام 2003 أعلنت الولايات المتحدة سيطرتها على العاصمة بغداد وباقي المدن العراقية وانتشرت قواتها بشكل غير مسبوق على طول الأراضي العراقية ضاربة عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، وقامت بتسليم العراق لإيران على طبق من ذهب.

         وبعد مرور سبعة عشر سنة على الاحتلال الغاشم، لايزال العراق يعيش في ظلّ حكم الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران، فضلا عن التدهور الاقتصادي والخروقات الأمنية، وغياب القوانين، والفساد المالي والإداري، والخلافات والتناحر السياسي للحصول على المناصب العليا في الدولة…

          لقد تسبّب الاحتلال بسقوط الكثير من الضحايا، والتي تقدّر بأكثر من مليون عراقي، مخلفا وراءه جيشا من الأرامل والفقراء والمشردين وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، فضلا عن ملايين النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه.

          كما تسبب الاحتلال الأمريكي بدمار شامل في المنشآت الصناعية والعمرانية والبنية التحتية، وساهم في استشراء الفساد المالي والاداري الذي أخذ ينخر جميع مؤسسات الدولة، يرافقه تردٍّ في الخدمات مما انعكس سلبا على حياة المواطن الذي كان وما زال المتضرر الأكبر.

          وفي ذكرى الاحتلال، أكدّت اللجنة المنظمة لتظاهرات ثورة تشرين العراقية أن الـغـزو الأمـريـكي  الايراني أثبت غياب القانون الدولي وسيادة شريعة الغاب.

    ماذا حققت أمريكا في العراق؟

         في التاسع من نيسان (يوم احتلال بغداد)، سقطت الأمة العربية وانتهى ما يسمى (الوطن العربي)”،  ذلك اليوم يمثل “يوم انتقال العالم إلى مرحلة جديدة من الفوضى”. لم يسقط النظام الوطني فقط، بل سقطت أنظمة المنطقة عامة والعرب خاصة، فاحتلال العراق كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة كلها، وتغيير النظام أدى إلى تغيير مفاهيم المجتمع، بعد محاولة “بلقنة العراق” وفق رؤيا تم إقرارها منذ عقود”.

        فأمريكيا كانت تدرك أن بقاء النظام الوطني -ما قبل 2003- يشكل خطرا حقيقيًا على الكيان الصهيوني، والأطراف الصديقة لأمريكا، وهو ما قاد لاحتلال العراق وإنهاء دوره وتأثيره الإقليمي ليصبح خارج التوازن الإقليمي على كل الأصعدة.

         إن العراق لم يتم احتلاله لتغيير نظام الحكم، بل احتل من أجل تدمير مجتمعه وبنيته ونهضته والأهم من ذلك تدمير الفكر الوطني فيه وقتل الانتماء للوطن عند العراقيين، ومن ثم تدمير قدراته العلمية والعسكرية، فما أشبه احتلال أمريكا للعراق باجتياح المغول للعراق سنة 658 ميلادية.

         وكان ردّ الشعب العراق هو انطلاق المقاومة العراقية بشراسة لتسجل في التاريخ الحديث أنها أسرع مقاومة للمحتل، بعد أن كذّب الشعب العراقي الأصيل ادعاءات الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بأن جنود بلاده سيستقبلون بالورود.

          وبعد انهيار الجيش الأمريكي في الأنبار وبغداد وصلاح الدين والموصل ونينوى وكركوك وديالى أطلق عليها المحتل (مثلث الموت)، وتفكك على إثرها تحالف الاحتلال وانهارت أسطورة الجيش الأمريكي. ورغم الدمار الذي أحدثه في “العراق”، وما تسبب به من كوارث اقتصادية، إلا أنه فشل في تطويع الواقع السياسي لإرادته، وإقامة نظام يُنفذ أجندته، وهو ما دفعهم لتأسيس عملية سياسية تحت الحماية الأمريكية في استخدام أحزاب ومليشيات مأجورة للقضاء على المقاومة العرقية.

          وبقيت قوتان تتحكمان في المشهد العراقي؛ المحتلون ومن معهم من الأدوات السياسية من جهة، وإيران وعملاؤها ومليشياتها من جهة أخرى.

    إيران ودورها في العراق

          بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وإطلاق يد إيران في السيطرة السياسية والعسكرية عليه، انطلقت إيران من العراق، لتعيث في الأرض فسادا في كلّ من (سوريا، ولبنان، واليمن) لتجعل دول مجلس التعاون الخليجي في مأزق حقيقي.

          لقد أمسى الشعب العراقي ضحية الانهيار المستمر في مؤسسات الدولة بسبب السياسات الحكومية الفاشلة، فانهيار القطاع الصحي أمام جائحة كورونا وانتهاك السيادة العراقية وتحكم الميليشيات الموالية لإيران بالقرار السياسي والاقتصادي والأمني وممارستها الإجرام والتهجير والتغيير الديمغرافي لصالح إيران في المنطقة يُظهر حجم النفوذ الإيراني والفساد المستشري في العراق؛ وهو ما دفع الشعب العراقي للخروج بتظاهرات كبيرة منذ ستة أشهر للمطالبة بإسقاط العملية السياسية المُتهالكة وبناء عملية سياسية وطنية راشدة لإعادة السيادة للعراق.

    الدور الإيراني في المجال العربي

         لا شك أن الدور الإيراني الأبرز في المجال العربي قبل الغزو الأمريكي للعراق كان يمكن ملاحظته في سورية وكان محدودا. وبالرغم من ذلك لم يكن النفوذ الإيراني في سوريّا بالقوة التي وصلت إليه بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، وفتحه البلاد على مصرعيها أمام الوجود الإيراني فأصبحت إيران تتدخل في كل مفاصل الدولة، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ باتت سوريا تشهد نشاطا إيرانيا غير مسبوق في جميع المحافظات السورية، وسرعان ما انتقلت إلى التدخل المباشر في القرار السياسي الداخلي والخارجي.

          لقد ازداد التدخل الإيراني في لبنان بعد بسط نفوذه على العراق بشكل واضح، مستغلاً بشكل ذكي، المشاعر الشعبية العربية الملتهبة ضدّ الاحتلال الأمريكي من جهة، وضدّ العدو الإسرائيلي من جهة أخرى في تلك المرحلة، الأمر الذي خدم إيران و ساهم في إبراز “حزب الله”  وزيادة شعبيته بين الشعوب العربية، بوصفه “قوّة مقاومة” آنذاك، وبقيت هذه الصورة دون أن يتم اكتشاف حقيقتها إلا مع بداية الثورة السورية.

          أما على الصعيد اليمني فقد زاد الوضع تعقيداً، واستثمرت إيران الحراك الشعبي لدعم جماعة الحوثي، واستطاعت تزويدهم  بالأسلحة والخبراء والأموال، وبدأت شوكتهم تزداد بالتحالف مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، للإسهام في زعزعة أمن الخليج  واستقراره عن طريق استهداف أكبر وأقوى دولة في الخليج. الأمر الذي دفع التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية للتدخل العسكري المباشر، لإجهاض المشروع الإيراني، رغم مضي خمسة سنوات لم يتمكن التحالف من تحيد هذا التمرد أو القضاء عليه.

          أما دول مجلس التعاون الخليجي، فقد توسع التغلغل الإيراني  في معظمها بعد بسط سيطرتم على العراق وزاد التغول الإيراني حتى أصبح يهدد الأنظمة من خلال الأذرع النائمة داخل هذه الدول، حيث توسع ديمغرافيا واقتصاديا من خلال توظيف رؤوس الأموال في قسم من هذه الدول، وأصبح يتحكم بها اقتصاديا فضلا عن تحريكه لخلاياه النائمة متى شاء لتهديد هذه الأنظمة ولزعزعة الاستقرار.

          لا شك أن الدور العربي الذي كان ضعيفا في العراق، وعكس عدم وجود أمن قومي عربي حقيقي، استمر بنفس الوتيرة في سورية، إذ اقتصر الدور العربي فيها على تقديم مساعدات غذائية ومساعدات عسكرية في سنوات الثورة الأولى، دون أي تواجد فعلي حقيقي عربي على الأرض، وإذا ما استثنينا التدخل العربي المباشر في اليمن، وبعض محاولات التأثير في سياق الأحداث في ليبيا، فأننا سنجد بأن الدول العربية نأت بنفسها عن إحداث فارقة في مجريات ما يحدث، وتركت المجال مفتوحا أمام الجيوش والقوات الأجنبية (روسيا، أمريكا، تركيا، فرنسا، إيران …).

    وبعد مرور 17 عام على الاحتلالين الامريكي الايراني يتضح المشهد من خلال :

    1 . لقد فشل الأميركيون في العراق لأن صانعي السياسة الكبار لم يكونوا مدركين للكثير من الحقائق عن طبيعة الشعب العراقي.

    2 . كان المبرر التي قدمته أمريكيا الاحتلال العراق، أن يكون الشرق الأوسط أكثر إنسانية وليبرالية، لذلك بدأت الإطاحة بالنظام العراقي لتحقيق هدفها، ولكن الحقيقة أظهرت تحول منطقة الشرق الأوسط الى مسرح للصراع المستمر.

    3 . تصاعد أحداث العنف في العراق، كانت نتيجة لتوافق سياسات الاحتلال الأمريكي والإيراني، في ترسيخ العنف الطائفي في العراق، كما كان له أثره في عدم الاستقرار السياسي، وظهور بعض الجماعات المتطرفة التي استغلت أحداث الطائفية في خدمة مصالحها. ومن أهم مؤشرات العنف الطائفي في العراق زيادة عدد القتلى على أساس الهوية، تقتل المواطنين على أساس انتمائهم العرقي والمذهبي، وتفجير دور العبادة للطوائف المختلفة.

    4 . ظاهرة التهجير القسري، التي تخدم في النهاية مخطط تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وإثنية، وهذه الظاهرة التي تعني إجبار أتباع طائفة معينة إلى ترك المناطق التي بها أغلبية من أتباع الطائفة الأخرى حتى لا تتعرض للقتل، ونتيجة للعنف الطائفي الذي اشتعل بعد تفجيرات سامراء، فر آلاف من مناطقهم إلى مناطق أخرى، مما أحدث تغيّر ديمغرافي في العراق لصالح مشروع التقسيم.

         بدأت أمريكا تدرك خطورة النفوذ الإيراني، وعزمت على تقليصه وبالتحديد في العراق، للحد الذي تعجز فيه إيران عن الانطلاق إقليميا، بعد تقاطع المصالح، لكن الموضوع أصبح معقدا بعد أن بسطت إيران نفوذها على كل مفاصل الدولة بفضل أمريكا من خلال الدستور الطائفي وإطلاق يدها في البلاد.

          إن انعكاسات الغزو الأمريكي ستستمر طويلا، رغم أن العراقيون يحاولون ترميم ما تركه الاحتلال الأمريكي لكنهم ضائعون بسبب المحاصصة العرقية والطائفية، وولاء السطلة الحاكمة لإيران، التي تأسست بعد الاحتلال والتي ما يزالون يدفعون ثمنها وسوف تستمر إلى فترة طويلة لأن المحاصصة تكرست.

           المستفيد الأكبر وعلى المدى الاستراتيجي هو الكيان الصهيوني. كان غزو العراق  وعدم استقراره، بمثابة الزلزال الاستراتيجي الثاني في التوازن الاستراتيجي في المنطقة. وكانت كامب ديفيد هي الزلزال الأول، وبفعل ما جرى أصبحت المنطقة العربية والشرق الأوسط جميعها تعيش عدم استقرار ومهددة  بالتغيّر.

         رغم مرور ما يقارب عقدين من الزمان، مازال الدم العراقي ينزف وأوصال البلاد مقطعة بين الإرهاب والفساد والطائفية والأطماع الدولية والإقليمية…

          في الذكرى الـ17 للغزو الأمريكي ندعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحلي بالواجب القانوني والأخلاقي بالانسحاب المسؤول من العراق وتسليمه لشعبه وإنهاء الدور الإيراني الذي دخل بموافقتهم ودعمهم.

          وليعلموا جيدا أن الظالمين لن يعيشوا طويلا فوق أرض العراق، والظالمون بكل جنسياتهم سوف يرحلون، فليقرؤوا التاريخ جيدا، فقد مرّ على العراق إمبراطوريات كثيرة أين هي اليوم؟ كلها اندثرت ورحلت إلى غير رجعة، وبقي العراق صامدا شامخا حرا … وسيبقى العراق العربي كما كان حاملًا لواء الحرية، مدافعا عن حقه وعن أمته العربية، محافظا على هويته حتى يكتب له النصر بإذن الله.

  • الساعة تدقّ في إدلب.. على روسيا أن تقرر ما الذي تريده

    د.ياسين أقطاي

    إن استهداف قوات النظام السوري للجنود الأتراك وسقوط 8 شهيدًا من الجنود، يُعتبر من كل الزوايا بمثابة لحظة تصدّع من شأنها إعادة ترتيب جميع الأوراق في القضية السورية. العساكر الأتراك الذين سقطوا شهداء كانوا في مهمة تقوية لنقاط المراقبة التي أقيمت في إدلب كمنطقة خفض تصعيد، والتي نتجت عن اتفاق سوتشي وأستانة بين تركيا-روسيا-إيران والنظام السوري. منذ فترة من الوقت وروسيا إلى جانب قوات النظام السوري، يحاولان انتهاك تلك الاتفاقية في إدلب، وتحويل نقاط المراقبة التركية إلى حالة من الشلل.

    إنّ تركيا تدرك المحاولات الرامية لفرض أمر واقع وتحويل نقاط المراقبة إلى أداة مشلولة، وإنها تعترض على ذلك.

    من الواضح للغاية أنّ هجمات النظام السوري على إدلب، برفقة القوات الروسية وتحت حمايتها ورعايتها، كانت قبل أي شيء محاولات متغطرسة للتجاهل والانتهاك الصريح لجميع الجهود الدبلوماسية التي انطلقت منذ وقت طويل تحت سقف سوتشي وأستانا.

    إن تركيا كما هو الحال في كل الملفات، فإنها كذلك في الملف السوري تتعقب -إلى آخر درجة- سياسةً تقوم على أمل إحياء حل سياسي، سواء مع روسيا أو إيران أو حتى النظام السوري. هناك نظام دموي وإجرامي تسبب بهجرة 12 مليون سوري سواء في داخل وطنهم أو خارجه. والطريقة الوحيدة التي يجيدها هذا النظام في التعامل مع معارضيه، هي القتل والتهجير وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها. وبيد أن هذا النظام من المفترض أن لا يكون له مكان في هذا العالم، فإنه مع الأسف يتلقى الدعم تلو الدعم من روسيا وإيران.

    في الحقيقة، إن تركيا جلست على طاولة المفاوضات في أستانا وسوتشي مع كل من روسيا وإيران اللتين هما المسبب الرئيسي لمأساة القرن الإنسانية التي تعيشها سوريا؛ سعيًا منها في إيقاف نزيف الدم السوري. وهذا السعي قد ولّد توقعات عاجلة لدى البعض الذين رأوا فيه اتفاقًا وتحالفًا دوليًّا جديدين. على الرغم من ذلك، كانت الأولوية بالنسبة لتركيا كما هو الحال دائمًا، الوقوف إلى جانب المنحى الإنساني.

    لم يكن الشعب السوري يريد الكثير من الأسد، بل كان يريد العيش بشكل إنساني فقط. إلا أن الأسد كان يرى ذلك كثيرًا على شعبه، ولم يجد ردًّا مناسبًا على هذا المطلب الإنساني البسيط إلا من خلال الإبادة الجماعية. ولا تزال آثار تلك الإبادة حاضرة: 12 مليون مهجر من وطنه ومنزله، مليون ضحية، ملايين المعتقلين والمصابين.

    لقد كان الموقف التركي واضحًا للغاية منذ البداية ضد ما يحصل، ولقد تم اتهامها بسبب هذا الموقف. تم اتهامها بأنها طرف من أطراف الصراع السوري. إلا أن الطرف الذي تبنّته تركيا هو الجانب الإنساني. إن الذين ينصحون تركيا حتى الآن بالتفاهم مع الأسد، إن لم يكونوا قد استوعبوا درسًا مما يحصل في إدلب، على الرغم من وجود اتفاقات أستانة؛ فإنهم مصابون بعمى الأبصار وقد خُتم على قلوبهم.

    في الحقيقة لقد اتفقت تركيا مع المعارضة السورية لضبط الأوضاع من أجل الاتجاه نحو حل سياسي، وذلك خلال مرحلة تفاهمات أستانة، مع روسيا وإيران اللذين كانا الحامي الرئيسي للنظام السوري. لقد رسخت تلك الاتفاقيات أن المعارضة في ظل مواجهة عشرات المجازر والإبادات من طرف النظام؛ قد باتت تمتلك أحقية لا يمكن التنازع حولها، كما أن معارضي نظام الأسد لا يمكن اعتبارهم إرهابيين. إن الاضطهاد والظلم والعنف الذي يقوم بها النظام قد بات حقيقة واضحة، والوقوف بوجه هذا الظلم يعتبر حقًّا مشروعًا، وبالتالي لا يمكن توجيه التهم لمن يستخدم هذا الحق. بل على العكس، إن المتهم الأول والأخير هو النظام الذي يستخدم كل منشآت الدولة وإمكانياتها، من أجل مواجهة مواطنيه العزل وقمعهم.

    في الأصل، حينما نتحدث عن هجرة جماعية بهذا الحجم، فإن هؤلاء المهاجرين قد ضربوا بأحقية ومشروعية هذا النظام. هناك 8 ملايين سوري على الأقل خارج بلدهم، يشهدون على أنهم لم يكونوا في دولة، بل في بنية يحكمها سفاح مجرم إرهابي.

    لقد اعتادت روسيا والنظام شنّ الهجمات في إدلب تحت ذريعة وجود نشاطات إرهابية، إلا أن ما يبدو الآن هو استهداف المدارس والمشافي والأفران حيث تتعرض ولا تزال للقصف الجوي، إلى جانب قتل المدنيين. هناك الآن مليون إنسان على الأقل اضطروا لأن يتوجهوا نحو الحدود التركية هربًا من حملات القصف العنيف. ولو استمر الوضع بهذا الشكل، فإن مصير إدلب كما هو بقية المناطق السورية الأخرى، ستضحي تحت سيطرة النظام بعد تحويلها لمدينة أشباح، إلا أنّ تدفق الناس من هناك، يعني حملًا على عاتق المسؤولية بالنسبة لتركيا.

    إن ارتكاب إبادة جماعية ضد المدنيين تحت ذريعة مكافحة الإرهاب يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وانتهاك اتفاقيات مع تركيا جريمة أخرى أيضًا.

    في ضوء ذلك يتضح إذن، أن المسألة بالنسبة لروسيا لا تعني وجود أناس، بل تراهم كآلات تتنفس. ومن أجل السيطرة على منطقة ما، لا يوجد أهمية لما يحصل إثر ذلك من قتل وتهجير ومآسي إنسانية. ويمكن من ذلك أن نتصور لأي درجة من الخطورة قد وصلت الإنسانية عبر القتل بدم بارد من هذا النوع. لا يوجد لديها متسع من الوقت ولا تريد أن تتعب نفسها، بل همها هو السيطرة على هذه المنطقة وتلك. ومن أجل القضاء على معارض واحد بين آلاف من المدنيين، فإنها مستعدة أن تضحي بآلاف المدنيين من أجل ذلك. حتى ولو أن السيطرة على سوريا تكلف قتل مئات ومئات الآلاف، فلا مشكلة بالنسبة لها بل هي على أهبة الاستعداد.

    إنها لا تقوم بدفع أي فاتورة مقابل ممارساتها غير الإنسانية تجاه المعارضة التي هي حسب معايير روسيا مجرد إرهابيين، بل إن الفاتورة يدفعها المدنيون وتركيا فحسب.

    إن مشهد مليون إنسان مدني قرب الحدود التركية، فيهم الأطفال والنساء، لا يوحي بأية حال إلى أنها حرب ضد الإرهاب، بل مجرد إبادة جماعية وحشية.

    لا يمكن لتركيا أن تبقى متفرجة على ذلك. ولن تبقى. لقد بدأت مرحلة العمل.

  • الضمانات المانعة من استبداد الحاكم

    د.أكرم كساب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    الحلقة الأولى

    الاستبداد من أكبر حماقات الحكام

    من أكبر البلايا التي تبتلى بها الشعوب والأمم: تسلط الحكام، حيث يغدو الحاكم وكأنه من غير جنس الرعية، ويزداد الأمر سوءاً حين يعطي الحاكم نفسه بعض خصائص الرب الإله، فهو إذا أمر أو نهى، وإذا حاكم أو عاقب، وإذا نفذ أو خطط، فلا يريد أن يكون أحد معقب لحكمه، ولا مخالف لرأيه، ولا راد لأمره. والحق كما يقول محمد الغزالي: إن التجمعات البشرية السوية فيها رجال كثيرون يوصفون بأنهم قمم، أما البيئات المنكوبة بالاستبداد فدجاج كثير وديك واحد؛ إن ساغ هذا التعبير. ((الفساد السياسي/ ص 53)).

    وحين يعبر عن الاستبداد بأنه من أعظم البلايا فلأنه -كما قال الكواكبي-: وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي… ((طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ ص 44.

    وظاهرة الاستبداد هذه ظاهرة مقيتة، وليس هناك من دين حاربها كما حاربها الإسلام، ويمكن القول بأن (الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان، فتعاليم الدين تنتهي بالناس إلى عبادة ربهم وحده، أما المراسيم والاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية)…(( الإسلام والاستبداد السياسي/ محمد الغزالي / ص 19)).

    ويجيب الكواكبي من يسأل عن سرّ ابتلاء الله الناس بداء الاستبداد فيقول: إنَّ الله عادلٌ مطلقٌ لا يظلم أحداً، فلا يُولَّى المستبدّ إلا على المستبدِّين. ولو نظر السّائل نظرة الحكيم المدقِّق لوجد كُلَّ فرد من أُسراء الاستبداد مُستبدّاً في نفسه، لو قدر لجعل زوجته وعائلته وعشيرته وقومه والبشر كُلَّهم، حتَّى وربَّه الذي خلقَهُ تابعين لرأيه وأمره. ((طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد/ عبد الرحمن الكواكبي/ ص 44)).

     ومن ثم فإن محاولة إلصاق الاستبداد الحاصل في بعض فترات التاريخ الإسلامي إلى تعاليم الشرع هي محض افتراء وتشويه لتعاليم الإسلام الحنيف، ذلك أن الاستبداد – كما قال الغزالي-: ليس مرده إلى أن الإسلام تنقصه عناصر معينة فأصيب معتنقوه بضعف في كيانهم كما يصاب المحرومون من بعض الأطعمة بلين في عظامهم أو فقر في دمائهم. كلا .. ففي تعاليم الإسلام وفاء بحاجات الأمة كلها وضمان مطمئن لما تشتهي وفوق ما تشتهي من حريات وحقوق، إنما بطشت مخالب الاستبداد ببلادنا وصبغت وجوهنا بالسواد لأن الإسلام خولف عن تعمد وإصرار… وقامت في بلاد الإسلام حكام تسري في دمائهم جراثيم الإلحاد والفسوق والمنكرات فخرجوا سافرين عن أخلاقه وحدوده..(( الإسلام والاستبداد السياسي/ الغزالي / ص 34)).

    ولهذا لم يكن الكواكبي مبالغا حين وصف الاستبداد بأنه: أعظم بلاء، يتعجَّل الله به الانتقام من عباده الخاملين، ولا يرفعه عنهم حتَّى يتوبوا توبة الأنفة.

    الفارق بين مستبدي الشرق ومستبدي الغرب:

    لا شك أن الاستبداد ليس قاصرا على أمة بعينها، بل هو صفة يوصف بها كل من انفرد برأيه، وطغى في حكمه، ومن ثم فقد عرف التاريخ في القديم وفي الحديث مستبدين كثر، لم يكن المكان أو الدين هو الدافع لاستبدادهم.

    وإذا كان العرب ابتلوا في الآونة الأخيرة بطغاة مستبدين -من أمثال مبارك وزين العابدين والقذافي وبشار وعلي صالح… وغيرهم كثير ما زالوا في سدة الحكم- فإن الغرب عايش هو الآخر مستبدين كثر؛ من أمثال: ستالين وهتلر وموسوليني وتشاوشيسكو وماو تسي تونغ…. فهؤلاء أذاقوا قومهم العذاب صنوفا وأشكالا، ومارسوا من الاستبداد قمعا وتنكيلا وتضييقا وتهجيرا وقتلا، وفعلوا مثلما فعل حكام العرب وربما زادوا.

    لكن فارقا جوهريا بين مستبدي العرب وغيرهم؛ وهو أن مستبدي العرب جمعوا مع الاستبداد إفسادا وإجراما، فهم لصوص مهرة، ومجرمون فجرة، فليتهم حين سكتت شعوبهم على الاستبداد رضوا بذلك، لكنهم جمعوا مع استعباد العباد إفساد البلاد بنهب خيراتها، وسرقة أموالها.

    بل من مستبدي الغرب من تقدم بأمته سياسيا واقتصاديا، فستالين جعل الاتحاد السوفيتي في فترة من الزمن إحدى القوتين العظميين، والزعيم الصيني ماو تسي تونغ جعل من الصين قوة تهاب وتحترم في كل المجالات.

    أما مستبدو العرب فأفسدوا الناحية السياسية، ودمروا الحياة الاقتصادية، وخربوا الأوضاع الاجتماعية…. ولم يتركوا منحى من مناحي الحياة إلا وأصابوه بالعقم والفساد {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18].

    الاستبداد صفة ملازمة للحكام إلا من رحم ربك وقليل ما هم:

    إن الاستبداد صفة تكاد تكون ملازمة للأمراء، وسمة أكيدة للحكام على مرّ العصور وكرّ الدهور، وفي مختلف البلدان، ومهما اختلفت المعتقدات والأديان. ووجود الحاكم الرشيد أو المدينة الفاضلة لا ينفي ذلك، لأن عدم وجود الاستبداد يكاد يكون حالة استثنائية.

    والقارئ للتاريخ –كل التاريخ- يدرك أن الاستبداد في الحكم عائد لا محالة بالويلات والثبور على الأمم التي تبتلى بحكام لا يرون إلا أنفسهم، ولا يؤمنون إلا بعقولهم، ولا يعترفون إلا بذواتهم، كما قال فرعون لقومه:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}(غافر: 29)؛ هكذا قال فرعون، ومعنى ذلك: (إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابا، وأعتقده نافعا. وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!) ((في ظلال القرآن/ سيد قطب (5/ 3080)).

    ولا تقف عاقبة الاستبداد وويلاته عند جيل واحد؛ بل ربما تجاوز هذا الاستبداد أجيالا متعاقبة، فهو –أي الاستبداد- شر مستطير، وزلزال مدمر، وإعصار شامل، يعصف بالمجتمع ولا يترك شيئا في محله، وما وجد الاستبداد إلا ورفع العلم وكان الجهل، واختفت الفضيلة وبرزت الرذيلة، وضاعت القيم وحلّت المنكرات. وهو كما قال الكواكبي: وباء دائم بالفتن، وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي.

    يتبع….

  • الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (افتراءات المستشرقين وتصورهم الخاطئ للحكم في الإسلام)

    د.أكرم كساب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    الحلقة الثالثة

    خرج علينا بعض المستشرقين وأتباعهم من مبغضي تطبيق النظام الإسلامي بأقوال باطلة، تدعي أن الإسلام ساعد على إيجاد الاستبداد في الحكم، ومن هذه الأقوال:

    1. ماكدونالد: لا يمكن على الإطلاق أن يكون الإمام -يعني في الدولة الإسلامية- حاكماً دستورياً بالمعنى الذي نعرفه.
    2. أرنولد: إن الخلافة التي اعترف بها هكذا ( يقصد من علماء الشريعة) كانت نوعاً من الحكومة المستبدة الجائرة التي يتمتع الحاكم فيها بسلطة غير مقيدة بقيود، ويطلب من الرعايا أن تطيعه بدون تردد.
    3. مرجليوث: أيا كان الحاكم الذي يستقر الرأي على الاعتراف به، فإن الرعايا المسلمين ليست لهم أية حقوق ضد رئيس الجماعة القائم.
    4. موير: المثال والنموذج للحكم الإسلامي هو الحاكم المستبد المطلق[1].

    أسباب افتراءات المستشرقين:

    وأرى أن السبب في هذه الافتراءات يرجع إلى عدة أمور:

    الأول: القراءة الانتقائية للتاريخ الإسلامي فهؤلاء قد بنوا فكرة لديهم، وهم يبحثون في التاريخ على ما يؤيد فكرتهم. فلا تقع أعينهم إلا على السقطات والقاذورات التي وقعت خلال التجرية الإسلامية على مر التاريخ، من أناس يمثلون أنفسهم لا الإسلام.

    الثاني: الاعتماد على روايات كاذبة، وحكايات باطلة، بل وكتب عمد أصحابها إلى تزييف التاريخ الإسلامي، ومن هذه الكتب:

    1. كتاب (الإمامة والسياسية) المنسوب لابن  قتيبة، وهو ليس ابن قتيبة الإمام المشهور صاحب كتاب (تأويل مختلف الحديث) وقد نسب الكتاب إليه زورا، لكن المحققين يرفضون ذلك. لما فيه من الكذب والأباطيل.
    2. كتاب (الأغاني) لصاحبه الأصفهاني، وهو وإن كان كتاب أدب وغناء، إلا أنه مليء بالسموم والأباطيل، وقد رد عليه وليد الأعظمي في كتاب أسماه (السيف اليماني في نحر الأصفهاني صاحب الأغاني).
    3. كتاب (نهج البلاغة) وينسبه الشيعة إلى الشريف الرضي، وقد جمع الكتاب ما ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكنه لا يصح.

    الثالث: وجود نماذج سيئة للحاكم في التاريخ الإسلامي، مارست الاستبداد بأشكاله وصنوفه، وهذا موجود في كل الدول التي حكمت باسم الإسلام؛ ولا يستثنى من ذلك سوى دولة الخلافة الراشدة، والتي كان الحكم فيها راشدا، حيث ساد العدل، وطبقت الشورى، وتحققت المساواة، وعمت الحرية، وانتصف الناس كل الناس (المسلمون واليهود والنصارى والمشركون) من الخلفاء.

    الرابع: أن هؤلاء -كما يذكر ضياء الدين الريس- قصروا نظرهم على حالة الضرورة، وما صرح به الفقهاء بشأنها[2]. وهذه الحالات حالات استثنائية وشاذة لا يمكن الوقوف عندها حتى ولو تكررت. وتناسى هؤلاء صفحات مضيئة في التاريخ الإسلامي في كل فتراته، وقد أشار إلى ذلك القرضاوي في كتابه (تاريخنا المفترى عليه) فقال: رأيناه –أي النموذج العمري- في سَميه عمر بن عبد العزيز، الذي أقام العدل، وأحيا ما مات من سننه، ورد المظالم، ومكن لدين الله في الأرض، وأعاد الحكم إلى نهج الخلافة الراشدة، حتى سماه المسلمون ” خامس الراشدين”…ورغم قصر مدته، استطاع أن يبث الأمن والرخاء والاستقرار في أنحاء دار الإسلام.

    رأيناه في سيرة يزيد بن الوليد، الذي ثار على ابن عمه الوليد بن يزيد، لمجونه وانحرافه، وكان يلقب “الناقص”؛ لأنه نقص من أعطيات الجند، وكان هو وابن عبد العزيز أعدل بني مروان.

    رأيناه في مثل نور الدين محمود الشهيد، الذي كانوا يشبهونه بالراشدين في سيرته، وعدله، وجهاده للغزاة الصليبيين، وتصميمه على تطهير المجتمع من الظلم والفساد.

    رأيناه في مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي شهد له خصومه قبل أنصاره. شهد له الصليبيون الغربيون، الذي حاربهم وحاربوه، كما شهد له المسلمون.

    صحيح أن واحدا من هؤلاء لم يبلغ مبلغ عمر؛ لأن أعوان عمر كانوا من الصحابة الكرام، وعصره كان عصر الصحابة، وهذه ميزة لم تكن لأحد ممن ذكرناهم[3].

    الأخطاء يتحملها الأشخاص لا الإسلام:

    والذي أحب التأكيد عليه في هذا المقام: أن وجود سقطات حتى وإن كبرت أو كثرت، فإن ذلك لا ينسب إلى الإسلام، ولا يجوز محاكمة الإسلام بها، إذ (للقرآن تعاليمه الواضحة التي توجب تساوي جميع الناس في جميع الحقوق، فإذا ما قامت خلافة تتحقق هذه التعاليم التي جاء بها القرآن، فهي التي تنطبق عليها الصفة الإسلامية، ولا يستطيع أي طاعن أن يطعنها حينئذ في سموها، وأما إذا لم تتفق هذه الخلافة مع تعاليم القرآن، فإنه لا يصح القول بأن الخلافة خلافة إسلامية[4]).

    إن الإسلام بريئ براءة تامة من كل فساد أو استبداد صدر من حاكم، فهو مهما كان كغيره من رعايا الدولة الإسلامية، تحكمه قواعد، وتضبطه أحكام، فإن استبد وظلم، أو زاغ عن جادة الطريق قُوّم حتى يعتدل، وهو كما يقول ابن حزم: تجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم… فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك، وأقيم الحد والحق، فإن لم يؤثر أذاه إلا بخلعه خلع وولي غيره [5].

    حدود ولاية الحاكم في الإسلام:

    وحدود ولاية الرئيس الحاكم في الإسلام تتقيد بمبدأين جوهريين:

    1. ألا ينتهك القانون، وإلا ارتكب ظلماً، وهذا يسمى: تجاوز السلطة.
    2. ممارسة السلطة في مصلحة الأمة، وإلا اعتبر ذلك فساداً، وهذا يسمى: إساءة استعمال السلطة[6].

    والحاكم في كلا الأمرين (تجاوز السلطة أو إساءة استخداهما) لا تقف الأمة أمامه مكتوفة الأيدي، وإنما هي له بالمرصاد: مراقبة وناصحة ومحاسبة ومقومة؛ بل وعازلة إن لزم الأمر. وهذا ما سنوضحه في المقالات التالية….

    -المراجع-

    [1]  نقلا عن: النظريات السياسية الإسلامية / محمد ضياء الدين الريس/ ط مكتبة التراث – القاهرة/ ط سابعة/ ص 345 ، 346.

    [2]  النظريات السياسية/ ضياء الدين الريس/ ص 345.

    [3]  تاريخنا المفترى عليه/ يوسف القرضاوي/ ط دار الشروق ط أولى 2005م/ ص 19 وما بعدها.

    [4]  رياسة الدولة في الفقه الإسلامي/ محمد رأفت عثمان/ ص 430.

    [5]  الملل والنحل/ ابن حزم (4 / 84).

    [6]  يراجع: المدخل إلى فقه الدولة في الإسلام / محمد العلمي/ ط دار الكلمة/ ط أولى 2010م / صـ173.

  • المشهد العراقي بعد اغتيال قاسم سليماني

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

         المشهد العراقي، كما لا يخفى كان مسرحًا للعملية الأمريكية ضدّ إيران، فإنه من المتوقع أن يستمر كساحة للحرب بالوكالة بين (طهران، وواشنطن) في الوقت الذي يزداد فيه احتمال نشوب عمليات أخرى وضربات جديدة، وخاصة في ظلّ تمركز العديد من القوات الأمريكية هنالك، واستمرارها بالوعيد والتهديد لإيران وقوات الحشد الشعبيّ.

         لقد أكدت وزارة الدفاع الأمريكية، فجر يوم جمعة 3/1/2020، مقتل قائد فيلق القدس الإيراني “قاسم سليماني” في بغداد، بناء على توجيهات من الرئيس دونالد ترامب مباشرة، في مؤشر لتغيير قواعد اللعبة، بحسب “مارك أسبر” وزير الدفاع.

        ويعتبر اغتيال سليماني تغييراً ملحوظا في قواعد الاشتباك، حيث اتّخذت الولايات المتّحدة قرارها السياسي بقتل سليماني، وهو القيادي الإيراني الأبرز، ومدير عمليات إيران خارج حدودها.

           جاء اغتياله بعد تصعيد حادّ بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران والفصائل المدعومة من قِبلها في العراق من جهة أخرى، في أعقاب مقتل مقاول عسكري أميركي في هجوم صاروخي على قاعدة أميركية في كركوك / العراق، فحمَّلت الولايات المتحدة إيران المسؤولية عنه، وردَّت الولايات المتحدة بهجوم جويّ على فصائل حزب الله العراقي المدعومة من إيران، وهاجم أنصار الحزب السفارة الأمريكية في بغداد، على إثره.

         ولكن لابد من سائل يسأل لماذا هذا الإعلام والضجة والصراخ على مقتل قاسم سليماني؟ فكم يقتل أبرياء في ساحات الاعتصام السلمية ولم نسمع صوتا واحدا؟!! ولم يحضر رئيس الوزراء إلى مجلس النواب بالرغم من طلبه لأكثر من مرة؟ فهل هانت دماء العراقيين لهذا الحدّ فليس لها حرمة ولا قيمة؟!!!

    من هو قاسم سليماني؟

         أحيط هذا الرجل بهالة كبيرة من خلال الدعم والصلاحيات والثقة العالية التي منحه إياها ما يسمى ب (ولي الفقيه)، حيث أصبح العقل المدبر للعمليات الإرهابية التي ينفذها فليق القدس، وهو المسؤول الأول عن تفتيت المنطقة برمتها! يستمد أهميته في الساحة الإيرانية من خلال قدرته على خلق تحالفات جديدة وغريبة لخدمة أهدافه، فهو بارع في التمدّد وحياكة المؤامرات، من خلال استخدام الرشاوي المالية لاستمالة السياسيين واستئجار المرتزقة وتخويف الخصوم أو المترددين في تنفيذ رغباته، وإنشاء المليشيات وتسليحها، وتنفيذ الاغتيالات…

           تبنّى سليماني الطائفية في العراق ووظف الخلافات الشيعية السنية في صالح السياسة الإيرانية، كما استثمر الانشقاقات لإحكام السيطرة على الجماعات المختلفة، وقد نجح بالفعل في تحقيق تلك الاستراتيجية بل وفي تطويرها من خلال حصوله على الدعم المالي الغير محدود من الدوائر الإيرانية، لدرجة تصفه تقارير إعلامية غربية بأنه الحاكم الفعلي للعراق، فقد أرسل في مطلع عام 2008 رسالة إلى الجنرال “ديفيد بترايوس” عندما كان قائد القوات الأمريكية في العراق على هاتفه الشخصي يقول فيها: ( أنا قاسم سليماني أتحكم في السياسة الإيرانية المتعلقة بالعراق، ولبنان، وغزّة، وأفغانستان، والسفير الإيراني لدى بغداد، وأنا عنصر من فليق القدس، والسفير الذي سيحل محله عنصر آخر).

          شكّل وصول محمود أحمدي نجاد علامة فارقة في نفوذ سليماني الذي سعى منذ تسليمه قيادة فيلق القدس إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح إيران، من خلال منحه الصلاحيات الواسعة ومنها التفرّد في الملف العراقي، وأصبحت وزارة الأمن تابعة له وفق أوامر المرشد دون أن تكون منافسة للحرس لثوري.

          تمكّن سليماني من إنقاذ نظام الرئيس السوري بشار أسد من الانهيار، من خلال وضع استراتيجية التصدّي للانتفاضة المسلحة التي اندلعت عام 2011، واستطاع خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من قلب موازين المعركة ودحر المعارضة السورية، إذ ساعد دعمه العسكري، مضافًا إلى الدعم الجوي الروسي على قلب دفة القتال ضدّ القوى الثورية لصالح الحكومة السورية، وسمح لها في استعادة العديد من المدن والبلدات الرئيسة، ووفقا للمعلومات فهو يدير المعركة من مبنى محصّن في سوريا، وقد أعدّ سلسلة من القادة متعددي الجنسيات الذين يديرون الحرب في الميدان، بينهم قادة سوريون، وقادة من حزب الله، وقادة من المليشيات العراقية…

         ولم تقتصر عملياته على الشرق الأوسط، فبين عامي 2012 -2013 قام بأكثر من ثلاثين عملية نوعية في كل من نيو دلهي، لاجوس، وتمكّن من نقل الرجال والمواد المتفجرة عبر تايلاند، ونيروبي، وساعد القاعدة على الدخول إلى إيران والخروج منها، واستثمارها لأهدافه!

          يتمتع سليماني بنفوذ واسع داخل إيران ويعد ثاني شخصية بعد المرشد وله دور كبير في قمع كل التظاهرات داخل إيران، وكل ذلك كان تحت سمع أمريكا وبصرها.

         وقد بلغت عملية التلميع الممنهج نوعًا من الاستعراض المسرحي للتفوق الإيراني، فطهران تصدّره كبطل عسكري ورجل يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المستقبل. ويُعد قاسم سليماني أقوى شخصية عسكرية في إيران وهو العقل الاستراتيجي الذي يقف وراء طموحات إيران في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، ووزير خارجيتها الحقيقي في شؤون الحرب والسلم.

    فلماذا قتل سليماني؟

          رصدت الولايات المتحدة تحركات قاسم سليماني في كلٍّ من: (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن) منذ عام 2007، وقد اتهمته بأنه كان وراء الهجمات التي تعرضت لها القوات الأمريكية بعد احتلال العراق، وصنفت: (قوات الحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس كمنظمات إرهابية في ابريل عام 2019، وقالت إدارة ترامب: إن فيلق القدس قدّم التمويل والتدريب والأسلحة والمعدات إلى جماعات في الشرق الأوسط تُصنفها الولايات المتحدة بأنها منظمات إرهابية أجنبية، بما في ذلك حزب الله اللبناني، وجماعة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في غزة، وفي بيان للبنتاغون يقول: إن سليماني ” دبّر بفعالية خططا لمهاجمة الدبلوماسيين الأمريكيين في العراق وفي جميع أنحاء المنطقة ” وأضاف البيان أن “الجنرال سليماني، وفيلق القدس مسؤولان عن مقتل المئات من أفراد القوات الأمريكية وقوات التحالف وجرح الألاف منهم”

           وما تسرّب من معلومات عن السيناريو الذي كان يقوده سليماني قبل أسبوعين، حيث اتفق الإيرانيون على سيناريو جديد في العراق للقيام في انقلاب عسكري والسيطرة على الحكومة بعد أن عجزت الأحزاب الحاكمة عن فرض مرشحيها لرئاسة الوزراء، وأن سليماني ذهب لدمشق لإبلاغ بشار أسد بالخطة وبعدها غادر لبغداد لإكمال الترتيبات التالية:

    • اغتيال المسؤولين العراقيين الرافضين لترشّح الأحزاب الحاكمة إلى رئاسة الوزراء.
    • إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
    • قمع الانتفاضات الشعبية وإحكام القبضة الأمنية والسياسية على البلاد.
    • اختطاف رهائن من السفارة الأمريكية والتعامل مع الأمريكان بسيناريو سنة ١٩٧٩ وهذا الأمر يساهم بخسارة فادحة للرئيس ترامب في الانتخابات القادمة ويحقّق انتصارات للديمقراطيين، وأن يتم إطلاق سراحهم بعد سقوط ترامب كرسالة تعاون بين الإيرانيين والديمقراطيين كما حدث مع الرئيس ريغان واتفاقية الجزائر عام ٨١ 19م. وصلت إلى ترامب له هذه المعلومة قبل أسبوع حين تمّت محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد.

         إن توقيت عملية الاستهداف كان ذكياً جداً، جاء في “الوقت الذي يثور فيه العراقيون في جنوب العراق ووسطها على التدخل الإيراني، فضلا عن استمرار المظاهرات في لبنان بشكل أو بآخر ضدّ سطوة حزب الله المؤتمِر بأوامر إيران، وكذلك بعد عدّة مظاهرات جرت في 29 محافظة إيرانية (مؤخراً)، وهي قابلة للاشتعال في أي وقت لاحق”.

         إن عملية مقتل سليماني تأتي تنفيذاً لتهديد الرئيس الأميركي الذي وجّه لإيران تصريحاته الأخيرة بأنها ستدفع ثمناً باهظاً نتيجة اقتحام السفارة الأمريكية، وشدّد في تصريحه بأن كلامه تهديد وليس تحذير، واعتبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، أنه من غير الصحيح أنّ قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان في بغداد بزيارة دبلوماسية، مؤكداً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتخذ قرارًا بقتل سليماني بناء على معلومات استخبارية. تهدف الضربة الأمريكية لردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية.

    البرلمان العراق وقرار إخراج القوات الأجنبية:

          على إثر ذلك تحرّكت الأحزاب الموالية لإيران وطلبت عقد اجتماع مجلس النواب العراقي وناقشت يوم الأحد الموافق 5/1/2020م مشروع خروج القوات الأمريكية من العراق باعتبار أنها تجاوزت السيادة الوطنية العراقية بشكل فجّ في محطات عدّة وأصبحت قوة احتلال تمارس ما تمارسه دون العودة للحكومة العراقية. ويشير البعض إلى أن هذا المشروع ربما كان السبب في تعجيل هذه العملية التي ربما تعيد رسم خريطة الوجود العسكري الأمريكي في البلاد. واقر مجلس النواب بحضور رئيس الوزراء السابق؛ إخراج القوات الأجنبية من العراق، حضر الاجتماع نواب الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران فقط ولم يحضر أحد من نواب السنة أو الأكراد. فرغم إصدار البرلمان العراقي قراراً يطالب الحكومة بسحب القوات الأمريكية من العراق، إلا أن اللافت في البرلمان أنه لم يصدر قانونياً ملزماً بهذا الشأن بل كان مجرد قرار غير ملزم عكس طبيعة القانون.

          وردّت الولايات المتحدة الأميركية، على قرار البرلمان بإلزام الحكومة إخراج القوات الأجنبية من البلاد، حيث هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب باحتمال فرض عقوبات على العراق تفوق تلك المفروضة على إيران، وهو ما أكّدته تقارير صحافية أميركية، وهذا ما أكده مسؤولون في البيت الأبيض حيث قالوا: إنهم أعدّوا قائمة للعقوبات المحتملة على العراق، وهذه العقوبات ستكون مؤذية بشكل كبير للعراق الذي يمرّ بظروف استثنائية”. حيث يمر بوضع هوا الأسوأ منذ زمن الحصار في التسعينيات، فإنّ الشعب العراقي يُعرّض صدره للرصاص، ويموت من أجل لقمة العيش، فعلينا أن نتصوّر المأساة التي ستحلّ بالعراقيين إذا فُرضت عليهم عقوبات أخرى وهم يمرّون بهذه الظروف الصعبة.

          أريد بهذا القرار أن  تستفرد إيران بالعراق من خلال هذه التعابير الفضاضة، والمقصود هنا في القوات الأجنبية هي القوات الأمريكية بالتحديد لأن هذه العبارة لا تعني التواجد الإيراني، فالقوات الأمريكية متواجدة وفق اتفاقيات تحدّد أسلوب العمل ومدّة البقاء وشروط إنهائه وأماكن تواجدها معلوم، أمّا التواجد الإيراني فهو موجود في كل مفاصل الدولة العراقية من خلال الأحزاب الموالية لإيران، ومن خلال المليشيات المسيطرة على الجانب الأمني ودون أي اتفاق أو ضوابط، فالمطوب هو إخراج التواجد الإيراني أولا، والذي لا يمكن إخراجه إلا بمساعدة دولية، وبعد ذلك يتم التفكير في إخراج الأمريكيين، أو تقليص نفوذهم وفق بنود الاتفاق، وإلا كيف يمكن إخراج القوات الأمريكية التي تحقّق نوعًا من الموازنة ! لأن خروج أمريكا يعني ترك العراق لإيران.

          والسؤال الأهم للبرلمان أليس دخول قاسم سليماني وخروجه وقتما يشاء وكيفما يشاء إلى إيران، وسوريا، ولبنان، وبدون تأشيرة خرقا للسيادة؟ وأين مجلس النواب من اختراق السيادة العراقية؟ فإيران تطلق 22 صاروخا على أرض العراق أليس هذا خرقا للسيادة؟ أليس هذا إعلان حرب على العراق فلماذا لم يجتمع البرلمان؟

    الردّ الإيراني:

            لا تجرؤ إيران على ضرب القواعد الأمريكية في الكويت، وقطر، والإمارات، وعمان، والسعودية، وأفغانستان، وباكستان، وتركيا، وجميع هذه الدول لها حدود مشتركة معها لكنها تضربها في العراق فقط لكثرة الذيول فيه، وحكومته عميلة ذليلة، ونقلت “اندبندنت العربية”، ومصادر دبلوماسية عراقية، أن الأيام الماضية التي أعقبت تنفيذ الولايات المتحدة هجوماً بالطيران المسير، أسفر عن مقتل قائد فيلق القدس في “الحرس الثوري” الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، شهدت حراكاً دبلوماسياً متسارعاً في المنطقة، شارك فيه العراق، أسفر عن توافق بين واشنطن وطهران بشأن الردّ، ويتضمن التوافق تنفيذ إيران هجوماً صاروخياً محدوداً على عدد من المواقع التي تضمّ قوات أميركية داخل العراق، بما يضمن عدم سقوط قتلى من جيش الولايات المتحدة، وهذا ما حدث بالفعل، وفقاً للمعلومات الأولية، كبالون إعلامي لإعادة ماء الوجه لإيران ولإيهام الشعب الإيراني بردّ مزلزل، إن هذا ما اتفقت عليه كافة الأطراف بشأن الضربة الصاروخية تجاوزا للازمة…

           وهكذا تمخضت كل التهديدات المرعبة عن زوبعة في فنجان. وهذ ما توقعناه في مقالنا السابق: (ثورة الكرامة تنتصر رغم صراع أمريكا وإيران على أرضها)

           لم يفاجئ القصف الإيراني القاعدتين التي تستخدمهما القوات الأمريكية في العراق فبعد التصعيد الكلامي الذي تبادلته واشنطن وطهران عقب مقتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني في غارة جوية أمريكية في بغداد. وتبدو الضربات الجوية الإيرانية على قاعدتي عين الأسد الجوية، ومدينة أربيل من النظرة الإيرانية كانتقام لمقتل قائد الحرس الثوري قاسم سليماني. ومباشرة بعد القصف الإيراني للقاعدتين في العراق بدأت الحرب الإعلامية بين الولايات المتحدة وإيران فيما تؤكد واشنطن أن القصف لم يخلف ضحايا بشرية.

          فتصريحات معظم المسؤولين الإيرانيين بعد القصف هي الأخرى تدفع للحديث عن ضربة رمزية بهدف حفظ ماء الوجه داخليًا وعلى مستوى المنطقة، حيث أشار وزير الخارجية جواد ظريف في تصريحاته أن هذا القصف يأتي في إطار إجراءات متكافئة للدفاع عن النفس بموجب المادة: 51 من ميثاق الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن بلاده لا تسعى إلى التصعيد أو الحرب. كما أعلن المتحدث باسم الحكومة الإيرانية أن إيران لا تسعى للحرب مع الولايات المتحدة. إلى جانب هذا، بقاء الصمت الذي تلتزم به واشنطن بعد القصف الإيراني، حيث اكتفى ترامب بكلمة واحدة على تويتر “كل شيء على ما يرام”. وثمة معطيات أخرى تشير إلى أنّ القصف الإيراني رمزيا، منها:

    1. القواعد العسكرية المستهدفة في العراق:

    تعدّ قاعدة عين الأسد الجوية ثاني أكبر القواعد الجوية بالعراق والتي تستخدمها القوات الأمريكية. ومنذ الهجوم الذي استهدف السفارة الأمريكية في بغداد ومقتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني الجمعة، حول الجيش الأمريكي في العراق كل قواته إلى قاعدة عين الأسد، وشدّد الإجراءات الأمنية حول المنشأة العسكرية، ما يجعل القاعدة محصنة بشكل كبير، ولذلك اختيرت لتوجيه الضربة لعدم وقوع خسائر.

    1. 2. صمت واشنطن:

        أكد المسؤولون الأمريكيون أن القصف الإيراني للقاعدتين العسكريتين الأمريكيتين في العراق لم يسبب خسائر بشرية لأن الصواريخ البالستية سقطت في محيط القواعد وفي مناطق غير مأهولة من قاعدة عين الأسد، وغياب الردّ المباشر من الرئيس الأمريكي المعروف بتهوره في مثل هذه المواقف خاصة، وأنه هدّد بالردّ السريع على أي استهداف للمصالح الأمريكيين في المنطقة من طرف إيران.

    1. 3. الحرب الإعلامية:

        مباشرة بعد بدء القصف الإيراني للأهداف الأمريكية، انتهجت طهران سياسة إعلامية دعائية كبيرة، حيث تمّ وصف هذه العملية بالثأر الذي وعدت به إيران من الولايات الأمريكي لمقتل قاسم سليماني. فالإعلام الرسمي الإيراني بث صور القصف ووزعه على كافة وسائل الإعلام العالمية، كما سارعت وسائل الإعلام الإيرانية إلى الحديث عن وقوع عدد كبير من القتلى بهدف حفظ ماء الوجه، في الجانب الأمريكي وهو الأمر الذي نفاه الأمريكيون.

    1. 4. تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين

      :

        سارع المسؤولون الإيرانيون بعد القصف مباشر لجملة من التصريحات تراوحت ما بين النبرة الحادّة داخليا والتطمين على المستوى الدولي، وقال وزير الخارجة ظريف: إن “رد طهران على اغتيال الجنرال سليماني انتهى، نحن لا نسعى للتصعيد أو الحرب، لكننا سندافع عن أنفسنا ضدّ أي عدوان.

    1. 5. أثبت الخبراء من خلال الحطام أن الصواريخ برؤوس فارغة لا يوجد فيها رئس حربي أي (بدون مواد متجرة).

    فما هي تبعات مقتل سليماني؟

    1. كان التصور العام أن إيران قويّة داخل العراق بوجود سليماني، ونائبه أبو مهدي المهندس، الشخصية التي أصبحت تأمر وتنهى، أما بعد مقتلهما فقد اهتزت تلك الصورة، وأظهرت ضعف إيران ذات المخالب المتوزعة على أكثر من بلد، حيث دفعت الثمن غاليا مقابل الأحجار التي رمتها على السفارة الأميركية.

     2.من ناحية أخرى فإن الدعم الإيراني للميليشيات في سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان ستشهد انحسارا خلال الأيام المقبلة… وسوف تحاول إيران إعادة تنظيم نفسها من جديد بعد سليماني الذي كان المدبر الأساسي لجميع أنشطة الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة”.

    1. إن مقتل سليماني قد يحرّر بشار الأسد أكثر من ذي قبل، فسليماني كان الرجل المتابع للملف السوري منذ 9 سنوات وكان يشكّل ضغطاً على القرار السوري، وبعد مقتله سيتحرر بشار أسد من سطوته وتحكّمه”.
    2. الجغرافية العراقية لم تعد تحتمل الأمريكان والإيرانيين كلاهما، ولا بد من خروج أحدهما، ويبدو أن سليماني كان يخطّط من خلال أذرعه لإجبار أمريكا على الانسحاب من العراق… فإيران بدأت تخسر العراق وإن هي ردت رداً حقيقياً على مقتل سليماني فهذا يعني إعطاء ذريعة لأمريكا باستهداف الأراضي الإيرانية بعمليات عسكرية، وهناك بنك أهداف موجود لدى واشنطن، وهذا قد يعطي أيضا ذريعة للشعب الإيراني للثورة ضد نظامه”.
    3. لا ردّ حقيقي من قبل إيران، إلا أنه لم يستبعد حدوث عمليات “عشوائية وغير مخطط لها” من فصائل الحشد الشعبي العراقي “وهذا لا يمكن التكهن به”، وأن الأمريكيين حريصون جداً على حفظ التوازنات في العراق، وسوريا، وعدم الإخلال بها وعدم الاحتكاك مع الروس، وإعطائهم مبرر للتدخل بالملف العراقي، واللبناني”.
    4. وفي إطار متصل فإن العملية تلك ربما تقضي على ما تبقى من أمل في إحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أمريكا منفردة عام 2018، فالاتفاق الذي كان ميتًا سريريًا بعد انسحاب واشنطن، في ظل مساعٍ أوروبية لبث الروح فيه من جديد، بات اليوم بعد التصعيد الأخير ميتًا بصورة شبه رسمية، فقد طالب الرئيس الامريكي الدول بالانسحاب من الاتفاق، وسط احتمالات للتوصّل إلى اتفاق جديد وهذا ما تطلبه أمريكا.

    هل ستغادر القوات الأمريكية؟

         احتلت الولايات المتحدة الأمريكية القواعد العراقية بعد احتلال العراق عام 2003، وقامت بتطويرها فيما يتناسب مع قواتها، وأصبح عدد القواعد المشغولة 12 قاعدة موزعة بشكل دقيق بما يؤمن إحكام السيطرة على كل العراق، وتعتبر العراق مركز الشرق الأوسط الذي ينبغي السيطرة عليه لأحكام السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية، ولذلك فإن القوات الأميركية تعتزم إنشاء مطار دولي عملاق بمواصفات عالمية، لطائرات “بي 52” العملاقة، في قاعدة عين الأسد الجوية بناحية البغدادي، في قضاء هيت غربي محافظة الأنبار وفي حال تمّ إنشاء هذا المطار، فإنه سيكون “من أهم المطارات في العالم”، كونه مخصّص لـطائرات “بي 52″، كالمطار الموجود في بريطانيا.

             ترامب أبلغ الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية: «لدينا قاعدة جوية هناك باهظة التكلفة بشكل استثنائي. لقد احتاجت مليارات الدولارات لبنائها منذ فترة طويلة قبل مجيئي. لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا تكلفتها».

            اعتبرت السفارة الأمريكية في بغداد يوم الجمعة 10/1/2020 أن الوجود العسكري لبلاده في العراق هو لموصلة القتال ضدّ تنظيم داعش، وأعلنت أمريكا بأنها لا نفكر في الانسحاب من العراق، ولن تناقش هذا الموضوع!!!

    الاحتمالات المستقبلية:

            مع كل ما ذكر آنفا فلا تزال إيران تواجه الاحتمالات الكارثية فما لحق بها أمر شديد الوطأة أيّا كانت المقاييس، لذا فإن تجاوز الأزمة بالتهدئة أو المقايضة أمر أقرب إلى التحقّق فيما يبقى أمر الردّ على العدوان كابوسا مخيفا فعواقبه ستجعل إيران اليوم شيئًا من الأمس البعيد… واغتيال سليماني رسالة أمريكية قد وصلت إلى إيران،  وفهمت بأن ترامب يريدّ التفاوض، وليس من الحكمة النفخ في كير الحرب، وليس من الحكمة المسارعة في الاصطفاف فيها، وهم منذ أربعين عاما متفقون على تدمير دولنا العربية، ومحو هويتنا، واستنزاف طاقاتنا وثرواتنا، ومنذ عشرين عاما ذهبوا معًا بعراقنا ودمروا كل شيء ، وقبل سبعة أعوام دمروا سوريا، واليمن …

         لقد أعرب دونالد ترامب عن هذا التخادم في قوله: “تدمير داعش الذي هو عدو طبيعي لإيران يصبّ في مصلحتنا، ويجب أن نعمل سويًا على هذا الأمر وغيره من الأمور المشتركة”.” أَدعوا قادة إيران إلى التعاون معنا ضدّ داعش”.

          فكلّ ما حدث لا يعدو أن يكون سوى تحذير أمريكي لإيران كي لا تخرج عن النص فواشنطن أرادت تنبيهها إلى ضرورة البقاء داخله، وفي هذا السياق يفهم مقتل سليماني. وهذه هي اللعبة القذرة بين إيران وأمريكا والمتضرر الأكبر منها، هو العراق.

         أقول سوف تقلّم أمريكا أذرع إيران ومعهم مليشيات العراق وتغدر بهم لأنهم خونه ومن يخن بلده يسهل عليه خيانة الآخرين. وستجلس أمريكا وإيران للتفاوض من جديد حول:

    1. الملف النووي بما لا يهدّد أمن إسرائيل
    2. تقاسم كعكة النفوذ في المنطقة.

        واستمرار تظاهرات ثورة الكرامة بهذه الصورة المدهشة، وراء مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ستقولون كيف؟

        أقول إن تلك التظاهرات كانت أحد أهم أسباب تحرّك قاسم سليماني بكتائب حزب الله العراق لضرب القاعدة الأميركية، ثم الهجوم الأميركي ومقتل قياديين من الكتائب، ثم ما حصل ضدّ السفارة الأميركية بعد اجتياح المنطقة الخضراء، وبأمر بطبيعة الحال من قاسم سليماني مباشرة، وبالفعل تمّت التغطية تمامًا على التظاهرات خلال الأيام الماضية.

       عاش العراق موحدا حرًا مستقلًا، وأسأل الله الرحمة لكل شهداء ثورة الكرامة شهداء ثورة العراق، والشفاء التام لجرحى الكرامة، ونسأل الله العودة الكريمة لكل المغيبين قسرًا في سجون الميليشيات إلى أهلهم وذويهم.

  • بوتين وأكذوبة الديمقراطية

    محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    نهاية التحالف الغربي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي

    لقد أدى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي إلى نهاية نظام التحالف المضاد للشيوعية الذي شكله هاري ترومان عند نهاية الحرب العالمية الثانية.

    وبعد عام من وقوع تلك الأحداث، كان بيل كلينتون يتبادل النكات مع رئيس روسيا آنذاك، بوريس يلتسين، وأصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية نافذة وحيدة في العالم، ولكن عوضاً عن استخدام تلك القوة لصياغة إطار دولي جديد لحماية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتصديرها إلى العالم، كما فعل ترومان من أجل ضبط ومراقبة ستالين، تصرف العالم الحر وكأنه انتصر إلى الأبد.
    لقد أخطأت روسيا وعدد من الدول المستقلة حديثاً والمتلهفة لتحقيق مستقبل واعد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الحكم البوليسي الشيوعي القمعي، بحيث أخفقت روسيا وهذه الدول في التعامل مع ماضيها الأسود، وفي هذا الإطار؛ لم تشكل لجان للكشف عن حقائق، ولا لجان لمحاسبة من ارتكبوا جرائم قمع وترهيب على مدار عشرات السنين، ولَم تؤد انتخابات لاستئصال “السيلوفيكي” (شبكة نافذة من المسؤولين الأمنيين والعسكريين)، فقد واصل بيروقراطيون سوفييت العمل كسماسرة للسلطة، دون محاسبة أو شفافية.

    وقد تم الجمع في روسيا بين الديمقراطية والثروة، ولَم يهتم يلتسين ببناء مؤسسات قوية قادرة على تحدي السلطة، ما أدى إلى انتشار الفساد في إدارته. ولكن تلك السياسة خلفت آثاراً أشد حدة عندما حل مكانه رجل أكثر سطوة وشدة.

    بوتن يتسلم مقاليد السلطة في موسكو

    عندما تسلم فلاديمير بوتين السلطة في عام 2000، لم تقف عراقيل كثيرة أمام رغبته الجامحة في إعادة تنظيم روسيا على صورة كي جي بي. كما وجد بوتن أمامه شعباً روسياً يشعر بخيبة أمل من وعود بالديمقراطية، وبخوف من حالات عنف وفساد حوله.

    وكان من شأن خطاب بوتن الشعبوي بشأن الأمن والكبرياء الوطني أن يتلاشى بسرعة لولا الارتفاع الكبير في أسعار النفط في بداية الألفية الجديدة. وهكذا قايض الشعب الروسي على حرياته في مقابل تحقيق الاستقرار له.

    العالم الغربي يتساهل مع بوتن

    لقد تساهل العالم الغربي مع بوتين، بل أشاد به “كزعيم قوي”، لدرجة أن روسيا دخلت في عام 1997 نادي الدول الثماني الغنية، ومضى بوتين في إقناع شعبه بمزاياه وبنفاق العالم الغربي الذي يتعامل مع روسيا كبلد غني، ويتغاضى عما عداه.

    مولد بوتن ونشأته

    ولد فلاديمير فلاديميروفتش بوتين في لينين غراد (تعرف الآن باسم بطرسبرغ) في روسيا في 7 تشرين الأول عام 1952.

    نشأ فلاديمير بوتين في شقة مجتمعية تسكن فيها ثلاث عائلات في سانت بطرسبرغ (التي كانت تعرف آنذاك بليننغراد)، ويتذكر بوتن اصطياده للجرذان على درج الشقة.

    عمل جد بوتن طاهيًا في منزل لينين الريفي وبعد ذلك أعد الطعام مرات عدة لستالين، كما حصل بوتن على الحزام الأسود في رياضة الجودو عندما كان في الثامنة عشر من عمره، وهو لايزال يمارس رياضات الدفاع عن النفس حيث يصفها بأنها فلسفة حياة.

    مسيرة بوتن في الاستخبارات السوفييتية والمناصب الإدارية

    بعد أن تخرج من جامعة ولاية ليننغراد تخصص في القانون عام 1975 بدأ بوتن مسيرته في الاستخبارات السوفييتية ضابط استخبارات، وقد ظل يشغل هذا المنصب في ألمانيا الشرقية حتى عام 1990 ثم تقاعد برتبة مقدم. وقضى فترة الثمانينات وهو يساعد الشرطة السرية السوفييتية على تجنيد أشخاص يتجسسون على الغرب.

    وعند عودته لروسيا شغل بوتن منصبًا إداريًا في جامعة ليننغراد، ثم بعد انهيار الشيوعية عام 1991 أصبح مستشارًا للسياسي الليبرالي أناتولي سوبتشاك، وعندما انتخب سوبتشاك رئيسا لبلدية ليننغراد في وقت لاحق من العام ذاته أصبح بوتن مسؤول العلاقات الخارجية لديه، ومع حلول عام 1994 أصبح بوتن أول نائب رئيس عمدة لسوبتشاك.

    عيّن بوتين رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهو أحد أذرع الاستخبارات السوفييتية سابقًا، ورئيسًا لمجلس أمن يلسن، وفي آب/ أغسطس عام 1999 أقال يلسن رئيس الوزراء آنذاك سيرغي ستاباسين وجميع وزرائه ورشح بوتن لخلافته.

    يلتسن يختار بوتن لخلافته في الحكم ليصبح رئيساً لروسيا لثلاث دورات

    في كانون الأول من عام 1999 استقال بوريس يلسن من منصبه في رئاسة روسيا وعين بوتن ليحل محله حتى يحين موعد الانتخابات الرسمية، وكان الثمن إصدار بوتين مرسوماً رئاسياً يمنع محاسبة يلتسين على فساده المالي خلال فترة حكمه، وأعاد بوتين هيكلة الحكومة وشن حملة تحقيقات في جرائم متعلقة بالمعاملات التجارية لمواطنين روس في مناصب رفيعة، كما واصل حملة الجيش الروسي العسكرية على الشيشان.

     وفي آذار/ مارس عام 2000 انتخب بوتن للدورة الأولى بأصوات بلغت نسبتها 53% من إجمالي الأصوات.

    ثم في عام 2004 أعيد انتخاب بوتن لمنصب الرئاسة، وفي نيسان/ إبريل من العام التالي أجرى زيارة تاريخية لدولة الكيان الصهيوني؛ لإجراء محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، فكانت تلك أول زيارة للكيان الصهيوني يقوم بها رئيس للكرملين.

    بوتن يتضامن مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب

    في أيلول/ سبتمبر عام 2001 أعلن بوتن ردًا على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، عن تضامن روسيا مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب، إلا أنه عندما تحولت “الحرب الأمريكية على الإرهاب” للتركيز على تنحية الرئيس العراقي صدام حسين، انضم بوتن إلى المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك في معارضتهم للمخطط الأمريكي.

    في تبادل مسرحي للسلطات ميدفيدف رئيساً لروسيا وبوتن رئيساً للوزراء

    بعد ذلك لم يتمكن بوتين من الترشح للرئاسة عام 2008 لأنه كان مقيدا بطول الفترة الرئاسية حسب الدستور الروسي، إلا أنه في ذلك العام تم تمديد الفترة الرئاسية في الدستور من أربع سنوات إلى ست سنوات، وراح مع تلميذه ديمتري ميدفيدف يتناوبان الانتخابات الرئاسية في مسرحية هزلية  ممجوجة أضحكت العالم عليه وعلى الديمقراطية المزيفة التي يحكم بها روسيا، وفي آذار عام 2008 عين بوتن رئيس وزراء على الفور، وهو ما أتاح الفرصة لبوتن للحفاظ على موقع رئيسي مؤثر على مدى السنوات الأربعة التالية.

    بوتن رئيساً لروسيا مجدداً

    في 4 آذار عام 2012 أعيد انتخاب فلاديمير بوتن لفترة رئاسية ثالثة، فبعد مظاهرات واسعة عمت البلاد وأخبار عن عمليات تزوير تخللت الانتخابات تم تنصيبه في السابع من أيار/مايو عام 2012، وبعد استلامه المنصب بفترة وجيزة عين مدفيدف رئيسًا للوزراء، كما عاد مرة أخرى ليصدر من موقعه قرارات جديدة مثيرة للجدل تتعلق بالشؤون الداخلية لروسيا وسياستها الخارجية.

    بوتن ينقذ بشار بعد ضربه للسوريين بالمواد الكيميائية

    في أيلول عام 2013 تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والنظام السوري جراء امتلاكه أسلحة كيماوية واستخدامها في ضرب السوريين، حيث لوحت الولايات المتحدة بتدخل عسكري في حال عدم تخلي النظام عن تلك الأسلحة، وقد تم تفادي حدوث أزمة مباشرة من خلال عقد اتفاق بين الحكومتين الروسية والأمريكية يتم على إثرها تدمير تلك الأسلحة.

    وفي أيلول عام 2013 نشرت النيويورك تايمز مقالة كتبها بوتن تحت عنوان “نداء من روسيا لتوخي الحذر”، وفيها تحدث بوتين إلى صانعي القرار الأمريكيين حول قرار التحرك ضد سورية مؤكدًا على أن مثل هذا التحرك من جانب واحد قد يتسبب في تصعيد أعمال العنف في الشرق الأوسط.

    كما أكد بوتين على أن زعم الولايات المتحدة بأن بشار الأسد استخدم أسلحة كيماوية قد يكون في غير موضعه، في ضوء تفسيره الأمر باحتمالية حيازة الثوار السوريين للأسلحة الكيماوية واستخدامها غير المشروع، واختتم المقالة معبرًا عن ترحيبه بمواصلة الحوار المفتوح بين الدول ذات الصلة من أجل تجنب أي صراعات أخرى في المنطقة.

    بوتن يحتل شبه جزيرة القرم

    بعد نشوء حالة من عدم الاستقرار السياسي في أوكرانيا نتجت عن انتخاب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أرسل بوتين قواته إلى القرم، وهي شبه جزيرة على الساحل الشمالي الشرقي للبلاد على البحر الأسود، وقد كانت جزءًا من روسيا حتى تنازل عنها نيكيتا كروشيف، رئيس الوزراء السابق للاتحاد السوفييتي، لصالح أوكرانيا عام 1954.

    وأشار سفير أوكرانيا في الأمم المتحدة يوري سيرغييف إلى أن ما يقرب من 16,000 جندي روسي احتلوا المنطقة، وقد لفتت تحركات روسيا أنظار العديد من دول أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة، التي رفضت بدورها الاعتراف بشرعية الاستفتاء الذي صوتت فيه أغلبية سكان القرم لصالح الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا.

    في المقابل دافع بوتن عن تحركاته مدعيًا أن قواته التي دخلت القرم كانت مجرد قوات دعم للجيش الروسي داخل البلاد (ويعني بذلك الأسطول الروسي في البحر الأسود الذي له مقرات في القرم)، كما نفى جميع الاتهامات الموجهة له من قبل الدول الأخرى خاصة الولايات المتحدة بأن روسيا كانت تنوي إقحام أوكرانيا في حرب.

    كما زعم أنه على الرغم من أن مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أعطاه الإذن باستخدام القوة في أوكرانيا إلا أنه لم يجد من داع لذلك، ونفى أيضا أي توقعات عن اعتزامه الهجوم على المناطق الأوكرانية قائلًا: “هذا الإجراء سيكون في التأكيد الحل الأخير”، ليعلن في اليوم التالي عن ترشيح بوتن لجائزة نوبل للسلام عام 2014.

    كلاب بوتن المدللة

    لدى بوتن كلاب أليفة يحبها كثيرًا ويصطحبها إلى المحادثات السياسية، حيث يشير البعض إلى أنه يسعى بذلك إلى إخافة قادة العالم، ولعل من أشهر الحوادث على ذلك اصطحابه لكلب اللابرادور الخاص به في اجتماع عقده مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؛ مع علمه بخوفها من الكلاب.
    يتحدث بوتن الألمانية بطلاقة إلا أنه لا يجيد الإنجليزية جيدًا.

    بوتين يعين ميخائيل رئيسا للحكومة الجديدة

    في خطوات سريعة، كلها تمت في يوم واحد، أعلن بوتين عن نيته في إدخال تعديلات دستورية، وعقب الإعلان مباشرة؛ قدم رئيس الوزرء ديميتري مدفيديف استقالة حكومته بهدف إفساح المجال لتعزيز سلطة البرلمان عن طريق التعديلات الدستورية الرئاسية المقترحة، وعقب مرور سويعات، عين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤولا غير معروف للرأي العام لرئاسة الحكومة الجديدة.

    واختار بوتين مباشرة ميخائيل ميشوستين، الذي ترأس إدارة الضرائب الاتحادية منذ عام 2010، ويعتبر صاحب اختصاص، لتشكيل حكومة جديدة.

    وأثارت هذه التغييرات تكهنات حول كيفية تأثير هذه التعديلات على النظام السياسي الروسي، وإن كانت ستتيح لبوتين البقاء في السلطة إلى ما بعد نهاية ولايته الرئاسية الرابعة في 2024.

    ورأى البعض أن بوتين ربما يستعد لتولي منصب جديد أو الحفاظ على دور قوي له من خلف الكواليس كعادته، وهذه المرة الأولى التي يقترح فيها بوتين في خطاب له عن تغييرات فعلية في دستور البلاد الذي أقر عام 1993. 

    وتنص التغييرات التي اقترحها بوتين الأربعاء على نقل مزيد من السلطات إلى البرلمان بما في ذلك السلطة لاختيار رئيس الوزراء وأعضاء بارزين آخرين في الحكومة، بدلا من أن يقوم الرئيس بذلك كما كان يفعل هو، حتى يفوّت فرصة التفرد في الحكم لمن سيأتي من بعده، ليظل هو الرجل القوي الذي يحكم روسيا (للأبد)  من وراء الستار، كحال صاحبه نمرود الشام.

  • تركيا تذهب إلى ليبيا لأجل السلام لا الحرب

    د.ياسين أقطاي

    منذ دعوة أردوغان وبوتين الأطرافَ في ليبيا إلى وقف إطلاق النار، أعلنت حكومة الوفاق الشرعية استجابتها للدعوة على الفور، بينما رفضتها إدارة المعتدي حفتر. هناك أمران غريبان، الأول في الدعوة ذاتها ولقد تحدثنا عن ذلك، والثانية في ردة فعل حفتر.

    دعوة الأطراف في ليبيا لوقف إطلاق النار

    أما الغرابة في دعوة الأطراف في ليبيا لوقف إطلاق النار؛ هو أنه لا طرفين متساويين يتصارعان في ليبيا، بل الموضوع عبارة عن وجود طرف عدواني يشن عدوانه. وفي الحقيقة كان على تلك الدعوة أن تتوجه نحو الطرف المعتدي وهو حفتر، وفي حال لم ينصع لهذه الدعوة، فالخطوة الأخرى المفترضة من المجتمع الدولي والضمير أ الحقوق، هو التحرك ضده وفرض عقوبات تردعه.

    على الرغم مما سبق، يبقى أن الوجود التركي في ليبيا بالتأكيد ليس لأجل الحرب، بل لإظهار أنها مستعدة لحماية حقوق الليبيين وأمنهم واستقرارهم، ولأجل ذلك قامت بدعوة حتى الطرف المعتدي حفتر، لوقف إطلاق النار تلبية لهذه الهدف.

    أما الغرابة الثانية في القضية، فقد كانت رفض حفتر بداية الأمر، لدعوة إيقاف النار التي صدرت عن روسيا التي هي تدعمه أصلًا. حينما رفض ذلك بماذا كان يثق يا ترى؟ فالسلاح الذي بين يده ليس له أصلًا، هل بإمكانه أن يخرج عن سياق النص الذي يرسمه من يدعموه بالسلاح؟.

    دعونا لا نتسرّع بالحكم، ربما قد فكر للحظة ما أنه يمكنه فعل ذلك، لكن عندما أمعن بالأمر فمن المؤكد أنه أدرك أن ليس بالإمكان الاستمرارية بذلك. إن حفتر لا يمكن له أن يستمر خطوة واحدة، دون الدعم المادي الإماراتي، والتقني الروسي، وما تقوم به فرنسا من دعم عبر نشاطاتها في الاتحاد الأوروبي.

    على صعيد تركيا، إنها لا تبحث عن شيء آخر سوى تهيئة الجو لحوار سياسي، يمكن من خلاله إيقاف هدر المزيد من الدماء في ليبيا، وتوفير الاستقرار للبلد والسلام لعموم الشعب الليبي. وهذا بدوره يمثل نصرًا كبيرًا وكافيًا بالنسبة لتركيا. ليس لتركيا عين في ليبيا ولا في أرض أي دولة أخرى، ولو أن كل دولة في الأصل كانت تُدار من قبل شعبها، وتسعى على الدوام لجلب مزيد من الاستقرار والحرية لهم، فإن هذا التأكيد لم يكن ليسبب إزعاجًا لتركيا.

    وبينما الحال كذلك، نرى الإعلام العربي وبخاصة المصري، قد أطلق حملة دعاية سوداء مكثفة، تتهم تركيا بأنها قد جاءت إلى ليبيا من أجل الحرب مع العرب. إنهم يعزفون على النغمة نفسها التي يعزف عليها حلفاؤهم من الشعب الجمهوري هنا.

    لكن سرعان ما ظهرت الحقيقة التي جعلتهم يطمسون أعينهم؛ سواء الشعب الجمهوري بتركيا، أو أصحاب الدعاية السوداء في مصر: لم تطلب تركيا إلا وقف إطلاق النار ليس إلا، ولقد نجحت بذلك عبر الطرق الدبلوماسية المكثفة، وعبر علاقاتها الجيدة مع روسيا.

    لو كان هدف تركيا الحرب فعلًا، فإنها كانت تستطيع أن تحارب الطرف المعتدي “حفتر”، الذي لا يمتلك أي شرعية، لكنه للأسف يمتلك قوة. ومن الواضح جدًّا أن لا حظ لحفتر في هذه المعركة أمام تركيا، إلا أن هذا النجاح العسكري الذي ستحققه تركيا لا شك أن له فاتورة على حساب الشعب الليبي.

    إن تركيا لم تدخل إلى ليبيا عبر قوة عسكرية فحسب، بل دخلت عبر أواصر تاريخية وثقافية وثيقة، وبالطبع الأهم من ذلك هو لأجل مستقبل ليبيا، وعبر رؤية تكمن في توفير مستقبل آمن لجميع الليبيين. لا يوجد رؤية بديلة لهذه الرؤية، ولا يوجد أرضية أصلية يمكن أن تحل مكانها على الصعيد الأخلاقي والسياسي.

    ألا يمكن أن تكون ليبيا محل فرصة للعلاقات المصرية-التركية؟

    حينما كانت الحملة الإعلامية في مصر تتحدث عن أن تركيا قادمة إلى ليبيا من أجل محاربة مصر، قلنا وأوضحنا أن تركيا لا يمكنها أن تحارب أي دولة عربية أو مسلمة، بل على العكس من ذلك؛ هي تريد إيقاف تلك الحرب المشتعلة في ليبيا، والأهم أنها جاءت إثر دعوة رسمية من حكومة شرعية.

    إن دوافع التعاون فيما بين مصر وتركيا تفوق بحد ذاتها وبشكل كبير، وجود دوافع لإشعال حرب بين البلدين. إلى جانب الوضع المتأزم والخارج عن السيطرة، الذي نشأ إثر انقلاب السيسي الذي يقوم بانتهاك حقوق شعبه كل يوم، فإن الانقطاع فيما بين تركيا ومصر قد ولّد بدوره فرصًا كبيرة بالنسبة للآخرين، كما أنه كان مكلفًا للغاية على البلدين والعالم الإسلامي بأسره. لكن على الرغم من ذلك، فإن البلدين ليس لهما مفرّ من التعاون والتضامن فيما بينهما، وسيتعين عليهما فعل ذلك في النهاية.

    إن الاتفاق التركي-الليبي بدوره، يعيد الحقوق المصرية في حدود المنطقة الاقتصادية المنحصرة التي ضاعت بسبب الاتفاق الذي تم فيما بين مصر واليونان. كما يمكن الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك وطرح هذا السؤال؛ لماذا لا يمكن عقد اتفاقية مع مصر أيضًا، على غرار اتفاقية ليبيا؟، إن اتفاقية من هذا النوع في شرق المتوسط، بين تركيا وليبيا ومصر، ألا يعني تعزيزًا وحماية لحقوق شعوب تلك الدول؟.

    من الذي يدفع مصر كي تلعب ضد مصر، وتلجأ إلى عقد اتفاقيات من تلك النوع ليس معها، بل مع دول كاليونان وإسرائيل؟.

    وفي النتيجة، لم يتم ذكر حتى مجرد اسم مصر، في الاتفاقية التي تم عقدها فميا بين اليونان وإسرائيل وجنوب قبرص. ألا يكفي تحييد مصر من هذه الاتفاقية على الرغم من مناوئتها تركيا؛ أن يكون رادعًا ومنبّهًا بما فيه الكفاية؟.

    لقد لاقت هذه الدعوة التي نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي صدى واسعًا؛ تجسد في الآلاف من الرسائل وردود الفعل، إيجابية كانت أو سلبية، ما يعني أن هذه الدعوة قد لاقت بالفعل صداها.

    من يعلم؟ ربما قد حان الوقت فعلًا للتفكير بجدية حول ذلك.

     

  • تصدير محاربة الأعداء

    د.فادي شامية

    مع إحكام الإمام الخميني قبضته على زمام الحكم في طهران؛ اعتمد نظامه –علنا- إستراتيجية “تصدير الثورة”، لكن الشق الآخر -غير المعلن- لهذه الإستراتيجية؛ كان وما يزال: “تصدير محاربة أعداء الثورة إلى وكلائها”. وعليه؛ لم تحارب إيران لا “الشيطان الأكبر” ولا “الشيطان الأصغر” مباشرة، وإنما عبر الوكلاء. “منسق الوكلاء” قاسم سليماني كان أكبر شخصية عسكرية في النظام لهذا السبب بالذات، ومعه انتقلت حدود إيران إلى البحر المتوسط كما أعلن آية الله أحمد علم الهدى، في 20/9/2019.

    ويبدو أن ثقافة الدفاع عن إيران ومشروعها في المنطقة قد انتقلت من أعلى هرم السلطة إلى الشرائح الشعبية المؤيدة لها، وهذا ما يفسر طلب ابنة سليماني الانتقام لأبيها من السيد نصر الله وليس من القائد الخامنئي. وبما أن سليماني كان يشغل هذه المنزلة المرموقة؛ فقد وضع اغتياله إيران أمام المعادلة الآتية: “ضرورة الرد (حماية للمشروع) وتجنب الحرب (حماية للمشروع)”، ولذا؛ فقد جاء القصف الإيراني للقواعد الأمريكية متجنبا موجبات تهديد ترامب؛ “قتل الأمريكيين”، ومسبوقا بإبلاغ الجانب العراقي -وتاليا الأميركي- عن الهجوم، ومترافقا مع دعاية زائفة -عن الأضرار والقتلى- موجهة للشعب الإيراني وجماهير الوكلاء، ومتبوعا بإعلان وزير الخارجية جواد ظريف للعالم بأن “الرد كان متكافئا. كل شيء انتهى. ولا نسعى للتصعيد”، بالتناغم مع إعلان ترامب: “كل شيء على ما يرام ولا نسعى للحرب”.

    بالمعطيات الصلبة؛ إيران تأذت ماديا ومعنويا باغتيال سليماني، ورغم العنتريات الفارغة؛ ما تزال إستراتيجيتها هي نفسها؛ نقل عبء ترميم هيبة المشروع الإيراني إلى وكلائه، ولهذا السبب بالذات وضع المتحدث باسم الحرس الثوري على نحو لافت أعلام وكلاء إيران خلفه: “الحشد الشعبي- العراق”، و”حزب الله- لبنان”، و”زينبيون- سوريا”، “أنصار الله- اليمن”، و”حماس- فلسطين”.

    أما الرد الإيراني الفعلي فقد جاء على الشكل الآتي:
    – مقتل وجرح المئات في تظاهرة التشييع في كرمان.
    – مقتل 176 مسافراً على متن الطائرة الأوكرانية التي قصفتها إيران عن طريق الخطأ؛ غالبيتهم إيرانيون.
    – تدمير إضافي لمصداقية ما تعلنه إيران:

    أ‌- الانتقال من التوعد بـ “رد قوي وقاس ومزلزل”، و”13 سيناريو أضعفها كابوس” ، و”قطع رجل الولايات الأمريكية في المنطقة”، و”إزالة إسرائيل عن الخارطة”.. وتعهد قائد فيلق القدس الجديد بـ “مشاهدة العالم لجثث الأمريكيين في كل الشرق الأوسط”.. ولاحقاً؛ الإعلان عن “مقتل 80 أمريكيا نقلوا بالمروحيات”… إلى تأكيد الحرس الثوري أن “القصف لم يكن يستهدف قتل جنود أمريكيين” (9/1/2019).

    ب‌- الانتقال من اعتبار منظمة الطيران الإيرانية أنه “من غير المنطقي تقنيا القول إن الطائرة الأوكرانية أصيبت بصاروخ” وأن “إيران لديها وثائق تثبت أن الطائرة الأوكرانية التي تحطمت كانت تواجه مشكلة ميكانيكية قبل الإقلاع ولم تحصل على إذن بالطيران، لكن مسؤولي شركة الطيران الأوكرانية تجاهلوا هذه الاعتراضات”، ودعوة الرئيس روحاني وسائل الإعلام “عدم المشاركة في الحرب النفسية”.. ومن ثم الإقرار بالحقيقة القاسية التي أكدها أكثر من مصدر ورئيس: “إسقاط الطائرة بصاروخ عن طريق الخطأ”، وهو ما يعني عدم قدرة فاضح في التمييز بين الطائرة المدنية والطائرة العسكرية في دولة تريد منازلة أميركا!

  • ثورة العراق تنتصر رغم المكر الإيراني والصمت العربي

    د. ناجي خليفه الدهان-مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

           منظر رهيب تقشعر منه أبدان العصابات الحاكمة وهم يشاهدون المظاهرات المليونية في ساحة العز والكرامة، ساحة التحرير وقد امتلأت بالأحرار الذين يهتفون: (منصورة يا بغداد). وبات يمكننا القول: إن الحكومة الفاسدة والميليشيات المجرمة قد سقطوا جميعًا بشكل فعلي. ولا نحتاج سوى الإعلان عن حكومة إنقاذ وطني على يد الأحرار.

           ويمكننا القول: مبروك للشعب العراقي الثائر الذي تحمّل الظلم طويلًا وتجرّع الويلات من الخونة الذين باعوا ضمائرهم وشرفهم لإيران والأجنبي...

           فهذا الرفض الشعبي لكلّ الأحزاب الإرهابية فضلا عن العصابة الحاكمة التي مازالت تقتل بالشعب حتى وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ٨٠٠ شهيدًا وأكثر من ١9٠٠٠ جريحًا أغلبهم في حالة خطره، فضلًا عن مئات المخطوفين الذين يُعاملون بطريقة وحشية يندى لها جبين الإنسانية.

           إن قطرة دم من عراقي واحد هي أغلى من إيران كلها ومن أذنابها، وإن الانتفاضة المباركة التي استمرّت أكثر من أربعين يومًا قد ميزّت الصفوف إلى فريقين؛ فريق يمتلك (المال والسلطة والسلاح والمكر والخداع...) لكنه عار من الوطنية والانتماء للعراق، وفريق ثان: لا يمتلك سوى الإرادة الوطنية في التحرر من الظلم والقهر والحرمان...

           يتحدث القتلة والفاسدون في مؤتمراتهم ومن خلال وسائل الإعلام عن إجراء انتخابات مبكّرة وتشكيل حكومة جديدة واختيار البديل المناسب، وهذا يعني بقائهم في السلطة! وبقاء هؤلاء القتلة يعني بقاء المحاصصة الطائفية، وبقاء الفساد مستشريًا في مفاصل الدولة، وبقاء التمييز العنصري والطائفي، وبقاء الفقر والتهميش والاقصاء وكبت الحريات، وبقاء ألوف الأبرياء في السجون...

         والثورة ما جاءت إلا للقضاء على كل هذه الممارسات الجائرة والعناوين الباطلة، فإجراء انتخابات أو تشكيل حكومة في هذه المرحلة ستكون في صالحهم وستشكّل على مقاسات تلك الأحزاب الطائفية العميلة وهذا يعني أنّ كل شيء منذ الاحتلال عام 2003 وحتى يومنا هذا سيبقى على وضعه، وبالتالي ستستمر المأساة والمهزلة والمعاناة، ويستمر التجهيل والاستخفاف بحقوق الشعب المشروعة. إن أهداف الثورة واضحة كالشمس ولا محيد منها، وفي مقدمتها طرد كافّة الأحزاب الطائفية التي قادت البلاد والعباد إلى الدمار والخراب والفتن...

       فالاحتلال الأمريكي هو من سلّم العراق لإيران وفتح الأبواب مشرعة لها وللصوص ومبدّدي المال العام، ما شجع الذين كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على تلك الأموال حيث وفرّ لهم نظام المحاصصة الطائفية الحماية اللازمة. إن فشل الحكومات التي أنتجها الاحتلال وإصرارها على المشروع الطائفي والتقسيمي أضعف العراق وأهدر ثروته مما أدى إلى هذا الاصطفاف الوطني المتسامي فوق الطائفية والعرقية.

           إن الإصرار على استخدام القوة وفتح النار على المتظاهرين يعكس هلع السلطة السياسية وخوفها الشديد بعد فشل حكوماتها المتعاقبة في تلبية حاجات العراقيين من أمن واستقرار وحفاظ على أموالهم التي نهبت.

           منذ انطلاق الاحتجاجات في الأول مِن تشرين الثاني الماضي وحتى الآن، والقتل مستمر وكأن ساحات الاحتجاج أرض المعارك الكبرى، لكنها معركة غير متكافئة، إنها مبارزة المسلّح مع الأعزل!!!

       إن ما يعانيه العراق من ضائقة مالية، وعجز في الميزانية حيث عجزه عن سداد ديونه التي قاربت 145 مليار دولار وبالتالي توقفت مشاريع البناء والإعمار نتيجة حتميه لضياع تلك الاموال التي كان من المفترض أن تحمي العراق من أي أزمة طارئه!!!

           هناك محاولات من إيران وأذنابهم للالتفاف على جهود الشباب المنتفضين من خلال إسقاط حكومة عادل عبد المهدي مقابل قيامهم بتشكيل حكومة تضم الثلة المجرمة نفسها، بحيث يتم التضحية بعادل عبد المهدي ليكون كبش فداءٍ، وتأتي ببديل من أعضاء نادي المحاصصة، وبالتالي سيكون الحلُّ كالمستجير من الرمضاء بالنار!

         لقد جربت إيران عن طريق أذنابها اختراق الثورة في محاولات كثيرة، ولكن يقظة الشباب الثائر أفشلت كل تلك المحاولات. ومن هذه المحاولات:

         1. حاول التيار الصدري دخول التظاهرة رغم الرفض الشعبي ليعتلي أكتاف الشعب ويسقط التظاهرات، وإذا جوبه بالرفض الشعبي سيغير الخطة للإطاحة بالحكومة وتسلم رئاسة الوزراء وتمييع كافة مطالب الشعب لتبقى مخططات إيران مستمرة! ولكن يقظة الشباب الثائر أفشلت هذا المخطط الماكر.

         2. واستخدموا الطرف الثالث الذي يقتل المتظاهرين السلميين باستخدام قنابل الغاز والقنص والرصاص الحي وهم المليشيات الولائية (الخرساني والنجباء وكتائب حزب الله العراقي) التي تتبع نظام ولاية المرشد الإيراني وتلتزم بأوامر قاسم سليماني قائد فيلق القدس فقنابل الغاز القاتلة إيرانية الصنع. بل إن عادل عبد المهدي، ونجاح الشمري وباقي أعضاء حكومته مجرد بيادق وصناعة إيرانية ليس لهم لاحول ولا قوة!

           3. أرسلوا مندسين يستخدمون السلاح الأبيض لطعن المتظاهرين من الخلف، لكن تم كشف نواياهم وجوبهوا بالصمود والإصرار على استمرا الثورة.

           4. وأخيرااستخدموا مسلحين ملثمين يستقلون سيارات مدنية رباعية الدفع، قد فتحوا النار بشكل عشوائي من مسافات قريبة على المحتجين، الجمعة 6/11، لتخيم حالة من الهلع على أجواء المتظاهرين في ساحة الخلاني، القريبة من جسر السنك.وارتفعت حصيلة ضحايا احتجاجات الجمعة إلى 25 قتيلا و130 مصابا، وفق ما ذكرت مصادر عراقية.

           لقد جربوا كل هذه الأعمال الإجرامية ضد الشباب الأعزل الذي يطالب في إعادة السيادة للعراق والكرامة للمواطن العراقي... لكن كيدهم لم يثني الشباب الثائر عن مطالبه بل زاده إصرارًا!!

           فانتقلت إيران إلى محاولة الالتفاف من خلال استخدام أذنابها في البرلمان عن طريق التشريعات القانونية لاحتواء الثورة في تعديل بعض القوانين والتشريعات الترقيعية ظنًا منها أنها ستنطلي على الثوار!!! تحاول إيران استغلال تعديل الدستور، لصالحهاولتعزيز نفوذها. فدستور العراق وثيقة مزورة فهو مليء بالألغام والمطبات، ومراجعة الدستور العراقيمن أجل طمأنة المحتجين الغاضبين مطبّ كبير تريده إيران كي تضعف سيادة العراق.وهناك شك في رغبة النخبة العسكرية الإيرانية -التي ترى العراق مجرد جزء من مشروع جيوسياسي- في استغلال تعديل القانون الأساسي العراقي.

         تجدر الإشارة إلى أن المطلب الأساسي للمتظاهرين ليس هو الإصلاح الدستوري، إنما الغاء العملية السياسية برمتها لعدم شرعيتها.

         وفعلا فقد باشرت أذرع إيران في البرلمان في إصدار بعض التشريعات حيث أصدر البرلمان العراقي، خلال جلسته التي عقدت الإثنين 28 أكتوبر 2019، قرارات جديدة وصفت بـ "غير المسبوقة"، وأنها ما كانت لتتم لولا ضغط التظاهرات على الحكومة والبرلمان، ومختلف الكتل السياسية في البلاد، وتهدف في مجملها إلى تهدئة الاحتجاجات التي تصاعدت بشكل خطير منذ انطلاق ثورة تشرين.

         ومن أهم هذه القرارات المضي بإجراءات تعديل الدستور، وحلّ مجالس المحافظات، وإلغاء الامتيازات المالية للرئاسات الثلاث وكبار مسؤولي الدولة، بمن فيهم النواب في البرلمان والوزراء ووكلاؤهم والمدراء العامون ورؤساء الهيئات. وأخيرا قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وقانون الانتخابات الجديد المزمع إصداره في الأسبوع القادم.

         والسؤل الذي يطرح نفسه أين كانت الحكومات المتعاقبة خلال 16 عاما منذ الاحتلال البغيض إلى اليوم لتصدر عشرات القرارات خلال أيام لإرضاء الثوار؟

         إلى الشباب الذين اتخذوا ساحة التحرير وساحات المحافظات مكاناً ليعبروا فيه عن رأيهم، إلى المحرومين والمعذبين، إلى كل من أنهكه الجوع والحرمان والحاجة، إلى كل المهمشين؛ (لا تتراجعوا).

           نعم؛ للأحزاب الحاكمة سطوة، وللفساد عند أصحابه نشوة، لكن كونوا على يقظة وحذر لا تغرنكم بعض العمائم التي نزلت إلى الساحة، لا تنخدعوا ولا تنجروا وراء شعارات رنانة بل انظروا إليها بعين الحذر.لا تحاوروا الحكومة فهي غير شرعية كونها شاركت في قتل المتظاهرين وخطفهم...

    ولا تحاوروا البرلمان الذي ساند الحكومة وخدع الشعب بقرارات لا تطبق وليس لها سند قانوني.

           لا تحاوروا رئاسة الجمهورية لأنها ساندت الحكومة والبرلمان وكان كلامها انشائيا للتسويق الإعلامي وتسويف مطالب المتظاهرين.

           المطلوب لإنقاذ العراق وإعادة سيادته وكرامته؛ إلغاء العملية السياسية بالكامل، وطرد الوجود الإيراني و طرد عملائه من كل أرض العراق، فالعلاج الناجع للداء المستفحل ليس في توفير الأمصال واللقاحات، وإنما في ردم المستنقع الحاضن للجراثيم: ردم مستنقع المحاصصة، وإقامة حكومة إنقاذ وطنية مؤقتة تمهيدا لإجراء انتخابات نزيهة بإشراف دولي، وإعادة كتابة الدستور الذي يحفظ للعراق سيادته وكرامته، وفتح ملفات الفساد والسرقات الخرافية، وعدم السماح للمشبوهين بمغادرة العراق بغية محاكمتهم لإيقاع العقاب اللائق بجرائمهم واستعادة ما سرقوه...

         هذا ما يجري على أرض العراق من تأمر على الشعب والوطن، أمام أنظار كل العالم ولكن عتبي على الدول العربية، التي باعت العراق بل ساهمت في احتلاله، وكأنهم لم يكتووا بحقد إيران!

         ويبقى السؤال المحير: لماذا تقف الدول العربية صامتة إزاء ما يجري في العراق؟ لماذا لا تقف صراحة وعلنا في وجه كل هذا الإرهاب الإيراني المباشر وما تخطط له من جرائم؟ لماذا لا تنصر الشعب العراقي وتدعم انتفاضته الوطنية العربية؟

           هل تنتظر الدول العربية حتى تنفذ إيران مخططها الإجرامي فعلا وتذبح شعب العراق، ثم تكتفي بالإدانة بعد ذلك؟ الجواب متروك للإيام وسيجب عنه شباب العرق قريبا ان شاء الله، وما النصر الا صبر ساعة.

    د . ناجي خليفه الدهان: دكتوراه علوم سياسية / علاقات دولية، باحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية.

  • خطاب الملك أمام البرلمان الاوروبي واتفاقية الغاز

    فرج شلهوب – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

          أقف أمام المشهد الأردني الحالي حائرًا، وأنا استمع إلى خطاب الملك قبل أيام أمام البرلمان الأوروبي، وكفاح المؤسسة الرسمية بالأيدي والأسنان من أجل تمرير صفقة الغاز مع المحتل الصهيوني، رغم المعارضة الشعبية له، وما تلقيه هذه الاتفاقية من ظلال فاجعة، على الموقف الرسمي الأردني إزاء شعبة، وأمته، والقضية الفلسطينية. 

          تحدّث الملك أمام البرلمان الأوربي بروح عربية أصيلة، وحسٍّ إنساني عال جدًا، واستحضر المسؤولية الوطنية والقومية والإنسانية، إزّاء ما يجرى في الإقليم، وانعكاسات ذلك على مستقبل المنطقة بخاصة والعالم بعامة.

          فقضية فلسطين، حسب خطاب الملك، هي الجرح العميق في المنطقة، وإدارة الظهر لما يجري نت حلّ الدولتين الذي تمارسه حكومة اليمين الإسرائيلي، هو الخطر الأبرز الذي قد يطيح بآمال الشعوب في تحقيق العدالة، حيث يسعى مناصرو حلّ الدولة الواحدة إلى فرض حلٍّ لا يمكن تصوره على المنطقة والعالم: دولة واحدة مبنية على أسس غير عادلة، تضع الفلسطينيين في مرتبة مواطنين من الدرجة الثانية، وتدير ظهرها للمنطقة، وتديم الانقسامات بين الشعوب والأديان في جميع أنحاء العالم.

          أما القدس العزيزة على قلب الملك شخصيا والهاشميين بشكل عام، فإن العبث بمصيرها سيقود الى عواقب خطيرة ووخيمة يصعب تصور احتمالها. كما أنّ استمرار العنف الاسرائيلي، واستمرار بناء المستوطنات، وعدم احترام القانون الدولي… سيفاقم الوضع ويزيد من المخاطر. لتكون الخلاصة المقتضبة حسب تأكيد الملك: “لا يمكن الوصول إلى عالم أكثر سلامًا دون شرق أوسط مستقرّ، والاستقرار في الشرق الأوسط لن يكون ممكنًا دون سلام مع الفلسطينيين”.

         هذا بعض ما جاء في خطاب الملك، أما الشق الآخر من الخطاب، فقد ركّز على التحذير من غياب المعالجات الحكيمة، التي تحول دون انتشار الفوضى في الإقليم، والتي سيدفع الجميع ثمنها (غربًا، وعربا)، بدءا من ” المواجهة الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران، وماذا لو لم يبتعد أي من الجانبين عن حافة الهاوية، متسببًا بانزلاقنا جميعا نحو فوضى لا توصف، ونحو حرب شاملة تهدد استقرار المنطقة بأسرها، وتهدد بإحداث اضطرابات هائلة في الاقتصاد العالمي، وتهدد بعودة الإرهاب إلى الظهور في جميع أنحاء العالم؟!! “.

          وكذا تَرك العراق، الذي عانى شعبه أربعة عقود من الحرب والعقوبات والاحتلال والصراع الطائفي وإرهاب داعش… فاقدًا للأمن والأمل وبقائه ساحةً مفتوحةً لصراعات الآخرين…

     إلى أين سيقود؟!

         وماذا لو بقيت سوريا رهينة للصراعات بين القِوى العالمية، وانزلقت مرّة أخرى في صراع أهلي وطائفي؟! ماذا لو شهدنا عودةً لداعش، وأصبحت سوريا نقطة انطلاق لهجمات ضدّ بقية العالم.

          هل يريد أي منا، أن يشهد أزمة لجوء سورية جديدة، بكل ما فيها من رعب ومآس؟

    أو رؤية طفل بريء آخر يقذفه البحر على شواطئكم؟

    ماذا لو انهارت ليبيا باتجاه حرب شاملة، لتصبح في النهاية دولة فاشلة؟

    ماذا لو أصبحت ليبيا سوريا جديدة، ولكنها هذه المرة أقرب إلى قارتكم؟

    ماذا لو فشلت الحكومات العربية في توفير أكثر من 60 مليون وظيفة سيحتاجها شبابنا خلال العقد القادم؟

     ألن نكون قد هيأنا البيئة المثالية للتطرف؟

     إننا نسهّل عملية التجنيد والاستقطاب ونساهم في صناعة التطرّف إن خلّفنا وراءنا الضعف واليأس”.

          هذا الخطاب الملكي الرفيع، الذي يستحضر ما تمثلّه حكومة اليمين الإسرائيلي، من أخطار على الأردن وفلسطين، والذي يستحضر أيضا بمسؤولية عالية ما يحوط الاقليم من تحديات وأخطار عاصفة، كيف يمكن جمعه في قارب واحد مع مغامرة الارتباط مع المحتل، عبر اتفاقية التزود بالغاز المسروق، الذي وقّعته جهات رسمية أردنية، تحت سمع الحكومة وبصرها؟!!!

          إن صفقة الغاز مع المحتل، ليست فقط تطبيعًا مرفوضًا ومفروضًا على كل بيت أردني، وليست فقط دعما لاقتصاد المحتل وتعزيز قوّته العسكرية، وليست خذلانا لفلسطين واهلها وقضيتها فحسب، بل لقد وضعت العصب الحساس من احتياجات الأردنيين تحت رحمة عدو لا تُؤمن خيانته.

           إنها فوق ذلك كله تطبيقًا لخطة قديمة تستهدف جعل (إسرائيل) جزءا طبيعيًا من المنطقة، فتتشابك مصالحها مع مصالح الإقليم، من مشاريع مائية وطاقة وربطا كهربائيا واستثمارات اقتصادية بما يعني قبول “اسرائيل” كما هي، وكما يريدها ويخطط لها اليمين الاسرائيلي، السائد والحاكم في دولة الاحتلال شريكا وحليفا… فكيف يستقيم هذا وموقف الملك؟!!

         وحين يتعهد نتنياهو بعدم اخلاء أي مستوطنة في الضفّة الغربية، ويؤكد عزمه على ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، بعد إعلان القدس موحّدة تحت السيادة الاسرائيلية… وإدارة ترامب الداعمة له في كلّ خطوة يخطوها! كما جاء على لسان السفير الأمريكي لدى تل ابيب “ديفيد فريدمان”: إن صفقة القرن المنتظرة تتضمن القبول بضمّ اسرائيل لأجزاء من الضفة معتبرا الحكم الأردني للضفة احتلالا!!!

          حين يقع كل هذا، فإن اتفاقية الغاز تتحوّل لكارثة وطنية… ولا ينسجم توقيعها وتفعيلها، مع خطاب الملك عن مخاطر الحلّ السياسي القادم، وسعي تل أبيب لشطب حلّ الدولتين واستهداف القدس وضمّ الضفة، وإلغاء حق العودة للاجئين الفلسطينيين، والأخطر الترتيب لموجات نزوح جديدة باتجاه الأردن، من خلال تكريس سياسات الضمّ لأراضي الضفة والتضييق على السكان هناك.

          كيف يمكن الجمع بين هذا وذاك؟!!

          شراكة استراتيجية عبر صفقة الغاز، وتحذير يقظ من سياسة إسرائيلية خطرة، تستهدف الأردن وتهدّد وجوده!!! 

          ثمّة تناقض كبير، وثمّة تعارض غير مفهوم، فالحكومة والبرلمان معنيان بتسوية الأمر عاجلًا، وعلى نحو يحفظ مصالح الأردن، ويمنع التشويش على نصاعة موقفه السياسي، إزّاء القادم المجهول.

  • خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط (صفقة القرن)

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

           جميع النزاعات في الشرق الأوسط مستعرة، ويأتي في مقدمتها الصراع }الصهيوني (الإسرائيلي)، الفلسطيني {حيث مضى عليه 100 عام وهو الصراع الأكثر صعوبة. على الرغم من أن الجانبين وقّعا اتفاق سلام في أوسلو عام 1993، إلا أنهما -ولأكثر من ربع قرن- متباعدان أكثر من أي وقت مضى.

           بعد مرور عامين من التكتم التام على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أطلق عليها “خطة السلام” للشرق الأوسط، تمّ إعلان الخطة التي طال انتظارها للسلام في الشرق الأوسط، متعهدًا بأن تظلّ القدس عاصمة “غير مقسمة” لإسرائيل. واقترح حل دولتين، وقال: إنه لن يجبر أي إسرائيلي أو فلسطيني على ترك منزله. وقال ترامب، في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض وإلى جواره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إن خطته “قد تكون الفرصة الأخيرة” للفلسطينيين. وتوالت ردود الفعل العربية والدولية على هذه الخطة بين التأييد والمعارضة والصمت. وطرحت الكثير من الأسئلة حول مضمون هذه الخطة.

    فما هي أبرز محاورها؟

            أُعدّ هذا المشروع خلف الكواليس بين الكيان الصهيوني (اسرائيل) والولايات المتحدة، من خلال إعادة صياغة المشاريع الصهيونية القديمة، ولكن لابد من السؤال لماذا لم يؤخذ رأي الطرف الثاني في أثناء الإعداد له، وقبل الإعلان عنه ليكن مقبولا إذا كانوا يرغبون في السلام الحقيقي؟ وماذا حقّق المشرع الجديد من امتيازات لفلسطين عن المشاريع القديمة المرفوضة فلسطينيا؟ وما هو الدور العربي لخدمة القضية المركزية قضية فلسطين؟

    مشروع جديد على أنقاض الحلول القديم

         منذ عام 1947 طرحت العديد من القرارات والمبادرات الإقليمية والدولية لحل الصراع العربي الصهيوني، تأثرت بالمجريات التاريخية ونتائج الحروب العربية الإسرائيلية وبتقلبات الأوضاع الدولية، لكن معظم هذه القرارات والحلول كانت تصطدم بتعنّت إسرائيلي يسنده انحياز أميركي لتل أبيب.

    مشاريع وخلفيات

         يبدو أنّ ما تسرّب من “صفقة القرن” يتشابه إلى حدّ كبير مع ما طرحه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق جيورا آيلاند (Giora Eiland) في دراسة نشرها عام 2010 تحت عنوان “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”. كما تأخذ الصفقة أيضا أجزاء من خطة طرحها أفيغدور ليبرمان -رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” ووزير الخارجية والدفاع سابقا- المعروفة بخطة “تبادل الأراضي المأهولة”، وخطة أخرى طرحها يسرائيل كاتس القائم بأعمال وزارة الخارجية ووزير النقل والاستخبارات.

         ويأخذ المشروع أيضا أفكارًا من دراسة موسعة طرحها الرئيس السابق للجامعة العبرية البروفيسور يوشع بن آريه عام 2003، جمعت تحت عنوان خطة “تبادل أراض ثلاثية”؛ وترتكز مجمل هذه المشاريع على فكرة توطين الفلسطينيين في أرض ثالثة.

         وفي تموز/يوليو 2018، أشار الصحفي الإسرائيلي شاؤول أرئيلي -في مقال له في جريدة “هآرتس”، تعقيبا على تسريبات للخطة- إلى أنها مجرّد حزمة أفكار إسرائيلية أعدّها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتم تقديمها في حلّة أمريكية. مما يتضح أنّ “خطة السلام” للشرق الأوسط لم تأتِ بشيء جديد بل هي جمع الأفكار بحلّة أمريكية، رغم أنّ كل هذه الأفكار والمشاريع رفضت من قبل فلسطين.

    هكذا حارب ترامب القضية الفلسطينية

         منذ فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2016 قدّم لدولة الاحتلال الإسرائيلي جملة من القرارات التاريخية التي تمسّ بالأراضي الفلسطينية المحتلة إضافة إلى أخرى عربية، كهضبة الجولان المحتلة.

         وكان أبرز قرارات ترامب وأشدها ألماً على الفلسطينيين والعرب اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لـ “إسرائيل”، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في (ديسمبر 2017). هذا القرار جاء بعد عام تقريباً من تولي ترامب رئاسة البيت الأبيض، لكن ذلك التاريخ شهد بعده سلسلة قرارات كانت كفيلة بزيادة ثقل كاهل القضية الفلسطينية.

    1. إغلاق مكتب منظمة التحرير. في واشنطن في نوفمبر 2017 وبعدها بأسبوع تقريباً تراجع ترامب عن القرار، واستبدل به فرض “قيود” على بعثة منظمة التحرير، وهو ما لم يرق للسلطة الفلسطينية التي أعلنت تخليها عن واشنطن كـ “وسيط لعملية السلام”.
    2. القدس عاصمة لـ “إسرائيل”. في 6 ديسمبر 2017 أعلن ترامب القدس عاصمة لـ “إسرائيل. أشعل موجة غضب شعبية ورسمية واسعة في العالمين العربي والإسلامي.
    3. تجميد 125 مليون دولار من مخصصات “أونروا”. بعد شهر بالتمام من إعلان القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وبدأت قرارات ترامب التضييقية على القضية الفلسطينية تتضح أكثر، وخاصة عندما أمر بتجميد 125 مليون دولار أمريكي من مخصصات “أونروا”.
    4. نقل سفارة واشنطن إلى القدس. نفذ ترامب وعده بمنح ما لا يملك إلى من لا يستحق وفي 14 مايو 2018، افتتحت الولايات المتحدة سفارتها الجديدة لدى دولة الاحتلال في مدينة القدس المحتلة.
    5. في مايو 2018 نفذت الإدارة الأمريكية ما أمر به ترامب من إعادة توجيه مساعدات اقتصادية بأكثر من 200 مليون دولار كانت مخصصة إلى قطاع غزة والضفة الغربية إلى مشاريع في أماكن أخرى.
    6. وقف دعم مستشفيات القدس. في سبتمبر 2018 حجبت وزارة الخارجية الأمريكية 25 مليون دولار، كان من المقرر أن تقدمها كمساعدة للمستشفيات الفلسطينية في القدس، وعددها 6 مستشفيات.
    7. إغلاق مكتب منظمة التحرير. في سبتمبر 2018 الإدارة الأمريكية أبلغتهم رسمياً بقرارها بإغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وجاء القرار كـ “عقاب” على مواصلة عمل السلطة الفلسطينية مع المحكمة الجنائية الدولية ضدّ جرائم الحرب الإسرائيلية، كما قالت واشنطن: إنها ستنزل علم فلسطين في واشنطن.
    8. طرد السفير الفلسطيني. قرّرت الإدارة الأمريكية طرد السفير الفلسطيني لديها، حسام زملط وعائلته، في سبتمبر 2018 وهو ما وصفته المنظمة بـ “السلوك الإنتقامي الذي يعكس ما وصلت إليه الإدارة الأمريكية من حقد على فلسطين قيادة وشعباً”.
    9. شرعنة المستوطنات. أعلن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أن واشنطن لم تعد تعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية “مخالفة للقانون الدولي”.
    10. ترامب يعلن صفقة القرن. بعد سنوات من التكهنات والتمهيد الإعلامي والسياسي، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صمته، الثلاثاء 28 يناير 2020، وأعلن خطة السلام التي أعدتها إدارته، المعروفة باسم “صفقة القرن”، وسط رفض فلسطيني لها ودعوات للمواجهة مع الاحتلال رداً على إعلانها.

         يتضح من خلال سلسلة قرارات الرئيس ترامب أعلاه شدّة كرهه للقضية الفلسطينية وانحيازه للكيان الصهيوني المحتل، وكانت كفيلة بزيادة ثقل كاهل القضية الفلسطينية.

    أبرز محاور الصفقة

        ركّزت الولايات المتحدة دائما، خلال سنوات الوساطة في محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، على رغبات إسرائيل وقيودها مع إيلاء أولوية خاصة لأمنها، بيد أن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين قبلوا فكرة مفادها أن السلام يتطلب قيام دولة فلسطينية جنبا إلى جنب مع إسرائيل، حتى وإن كانوا غير مستعدين للسماح لها بسيادة كاملة على قدم المساواة.

         قد تبدو صفقة ترامب وثيقة استسلام أكثر من كونها أي شيء آخر، إذ تمثل فرصة لإسرائيل لتأكيد انتصارها على الفلسطينيين مرّة أخرى وإلى الأبد، بعد 7 عقود من الاستقلال وأكثر من قرن منذ بدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

         الخطة كانت مختلفة، كونها تتعامل مع الوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض منذ التوقيع على اتفاق أوسلو، وليست قائمة على تطلعات وأحلام الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق عودة اللاجئين.

        تقترح “صفقة القرن” إقامة دولة فلسطينية بلا جيش أو سيادة، على مساحة 70% من الضفة الغربية، يمكن أن تكون عاصمتها بلدة “شعفاط” شمال شرقي القدس. وإن الخطة تسمح لإسرائيل بضم ما بين 30 إلى 40% من أراضي الضفة الغربية.

        إن الدولة الفلسطينية الموعودة، بموجب “رؤية السلام” الأمريكية، يجب أن تكون “منزوعة السلاح” وبلا سيادة وهي لن ترى النور إلا بعد أن يعترف الفلسطينيون بيهودية الدولة الإسرائيلية. والدولة المنزوعة السلاح تعني تخلي حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة عن أسلحتها، وهو شرط يصعب تحقيقه في ظل سيطرة حماس على غزة.

    توقيت الصفقة

         اختيار دونالد ترامب لتوقيت الإعلان عن خطته للسلام حساس جدًا بسبب موقفه الحالي في مجلس الشيوخ فقد ضيّق الديمقراطيون عليه الخناق واستدعوا مزيدا من الشهود لعزله. أما نتانياهو، فهو يواجه انتخابات مفصلية في بلاده بحلول شهر مارس المقبل لذا يرى المحللون أن ترامب قد ألقى بطوق النجاة لنتنياهو لكي ينقذ نفسه وصديقه”.

       “فصفقة القرن” بمثابة صفقة بين ترامب ونتنياهو قبيل الانتخابات سواء في إسرائيل أو أميركا، مؤكدا أن الخطة تهدف إلى تمهيد الطريق أمام نتنياهو لضم جميع المستوطنات في الضفة إلى السيادة الإسرائيلية من دون أن تدفع إسرائيل أي مقابل للسلطة الفلسطينية.

        والامتحان الحقيقي للخطة الأميركية سيكون بحال انتخب ترامب رئيسا لولاية ثانية، وحتى ذلك الحين فإن الخطة ما هي إلا تدخل في الانتخابات الإسرائيلية وصرف الأنظار عن محاكمة نتنياهو الذي يواجه تهما بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشى.

    رؤية القيادة الفلسطينية للخطة الأمريكية

         أعلن الرئيس الفلسطيني رفضه الخطة رفضًا قاطعًا وعدم قبوله بالتفاوض على صفقة القرن، وأكد كذلك رفض الشعب الفلسطيني لها.

         وحول رؤية القيادة الفلسطينية للخطة الأمريكية، شدّد “نبيل شعث” على أنها “أكاذيب تحاول الولايات المتحدة من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، وليس تحقيق السلام، وطموح الشعوب”.

        هاجم نبيل شعث، الممثل الخاص لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حضور دول خليجية لإعلان “صفقة القرن”، معتبرًا أنّ عذر هذه الدول “أقبح من ذنب”.

        فوّضت القيادة الفلسطينية الرئيس محمود عباس، بتنفيذ كل القرارات التي صدرت عن المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، المتمثلة بوقف التنسيق الأمني، ووقف العلاقة الاقتصادية مع “إسرائيل”، وغيرها من الالتزامات التي لم تلتزم بها “إسرائيل”،

       منذ إعلان الصفقة خرج للشوارع آلاف الفلسطينيين منددين بها، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس، وبعض الدول العربية.

    مستقبل خطّة السلام للشرق الأوسط

        أجمعت غالبية الصحف الأوروبية على أن خطّة ترامب لحلّ أزمة الشرق الأوسط لن تجلب السلام المنشود، لأنها تحمل في طياتها خطرًا كبيرا في تصعيد الصراع بين الطرفين، كونها تراعي فقط مصالح إسرائيل على حساب الفلسطينيين.

        فقد أعلن مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، في دورته غير العادية، أمس، رفض «صفقة القرن» الأميركية الإسرائيلية، باعتبارها لا تلبي الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته وتخالف مرجعيات عملية السلام. وشددت كذلك على عدم التعاطي مع هذه الصفقة التي وصفتها بـ «المجحفة»، أو التعاون مع الإدارة الأميركية في تنفيذها بأي شكل من الأشكال.

         ورغم ضعف ردود الفعل الدولية على خطة الولايات المتحدة ـالإسرائيلية الذي يطرح كثيرا من الأسئلة. والشيء نفسه يقال عن التعليقات العربية المزدوجة المعنى. فالدول العربية مرتبطة وتابعة للولايات المتحدة، ولا تستطيع اتخاذ موقف مضاد لترامب، ويجدون صعوبات متزايدة في إسناد “الجهود” التي يبذلها ترامب من أجل التوصل إلى سلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين، لأنهم متردّدون في أن يكونوا شركاء في قرارات أمريكية تعد موالية لإسرائيل.

          وهناك احتمالات لنجاح الخطة ولو بشكل محدود، “وهذا النجاح يتوقف على قبول الطرف الفلسطيني بالبدء في مفاوضات مع الطرف الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية. وفي ظلّ الموقف المعلن للسلطة الفلسطينية برفض الخطة الأمريكية، فإن هذا المسار ونجاح الخطة غير ممكن والفشل قد يلحق بالخطة التي تؤسس لدولة فلسطينية منزوعة السيادة عاصمتها “شعفاط” (يديعوت).

         إن إعلان الخطة في هذا التوقيت وبدون توافق فلسطيني لا يمكن استبعاد عنصر الانتخابات من توقيت إعلان صفقة القرن، وذلك لخدمة ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ثالث انتخابات برلمانية تشهدها إسرائيل خلال أقل من عام.

          ويبدو أن الصفقة لها هدف سياسي أوحد: وهو مساعدة نتانياهو في معركته السياسية-القضائية وتعزيز الدعم لترامب في صفوف الناخبين المؤيدين لإسرائيل”.

         ورغم أن التعبير عن الإحباط من مواقف الحكومات العربية بشكل خاص والعالم بشكل عام  إزاء صفقة القرن، ورغم تآمر البعض على القضية الفلسطينية من خلف الكواليس وأخيرا وليس آخرًا، لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني مع نتنياهو يوم الإثنين الموافق 3/1/ 2020، سيكون مصيرها الفشل كما في المشاريع السابقة رغم أن ظروف الدول العربية  الآن تختلف عن السابق، لأن هناك شعب فلسطيني مقاوم ورافض لكل مشاريع  الاستسلام والمساومات، والقدس ليست للبيع، وسيدافع عن القدس الشعب الفلسطيني الذي قال عنه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لإوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.

  • رئاسيات الجزائر 12 ديسمبر 2019م: النتائج والدلالات، وسيناريوهات الحراك، وحلول الأزمة

    محـمـد تـناح – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

     ملخـص

          تحاول هذه الورقة تبسيط مجريات الأحداث السياسية في الجزائر بعد انطلاق الحراك الشعبي يوم الجمعة 22 فيفري 2019م، ضدّ ترشيح الرئيس المخلوع “عبد العزيز بوتفليقة” لعهدة رئاسية خامسة، وإلى غاية تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية 12 ديسمبر من السنة نفسها. كما ستسلط الضوء على أسباب تطوّر مطالب الحراك من إسقاط العهدة الخامسة إلى إسقاط النظام السياسي بكل رموزه. ثم ستحاول شرح الأسباب التي أدت إلى استمرار الحراك لـ 10 أشهر رغم تنحية بوتفليقة بعد 40 يومًا من بدايته، وستجيب عن كثير من الأسئلة من بينها:

    ماذا حدث بعد تنحية بوتفليقة؟

    ومن استلم السلطة؟

    ومن كان الحاكم الفعلي للجزائر طوال الأشهر الماضية؟

    وهل بقي الحراك متماسكا؟

    وكيف كان موقفه من رئاسيات 12 ديسمبر؟

    مقدمة

         في الثاني والعشرين من فيفري 2019م، انطلق الحراك الشعبي الجزائري، ضدّ عهدة رئاسية خامسة للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، ثم توسّعت مطالبه إلى إسقاط السلطة الحاكمة في كل البلاد، فتحقّق المطلب الأول، بينما لم تتحقق أهم المطالب الأخرى، ممّا جعل الحراك يستمرّ لقرابة 10 أشهر كاملة، إلى أن تمّ إجراء انتخابات رئاسية يوم الخميس 12 ديسمبر 2019م، رغم وجود رفض شعبي واسع لها. وطوال الفترة التي سبقت الانتخابات، اعتقد الموالون لإجرائها في موعدها، أن الغالبية العظمى من الشعب الجزائر تؤيد مسعى السلطة الفعلية ([1]في إجراء الانتخابات الرئاسية، والبقية المعارضة مُجرّد أقلية. وبغض النظر عن نتائج هذه الانتخابات، وظروف إجرائها، فإن رئاسيات 12 ديسمبر قد طغت على كل النقاشات السياسية داخل البلاد طوال الأشهر الماضية، باعتبارها قد قسّمت فعلا الشارع الجزائري بين مؤيد ومعارض، وأثارت فتنة كبيرة بين أبناء الشعب الواحد، فالموالون يعتبرونها الحلّ الوحيد للتخلص من العهد القديم، والمعارضون يعتبرونها مجرّد تجديد للنظام الحاكم. وبناء على ذلك، سنطرح السؤال الجوهري والرئيس:

    هل السلطة الفعلية الحاكمة في الجزائر استغلت انتخابات 12 ديسمبر في تجديد نظام الحكم؟

    ويندرج تحت السؤال الرئيس أسئلة فرعية منها:

    من فاز في انتخابات 12 ديسمبر، حزب المقاطعون الذي يمثله الحراك الشعبي؛ أم حزب المشاركون الذي بات يعتبر من يخرج إلى الشارع كل يوم جمعة (بعد تنحية بوتفليقة) أقلية ومن بقايا الحراك؟

    وهناك فصيل من هذا الحزب يصفهم بـ “أذناب فرنسا ([2])” أو “الزواف ([3])” وهم أيضا ضدّ الجيش الجزائري!!!

    وماهي السيناريوهات المطروحة أمام الحراك الشعبي الحالي؟

    وماهي الحلول المقترحة للأزمة السياسية الحالية؟

    وهل سترضخ السلطة الفعلية لمطالب الحراك؟

    وما مستقبل هذا الحراك؟

    أولا: قبل حراك 22 فيفري؛ العهدة الخامسة وشرارة الثورة

          قبل 22 فيفري 2019م، كان الجميع (ماعدا أنصار العهدة الخامسة وما قبلها من عُهد) متفقون على أن النظام السياسي الحاكم في البلاد لابد أن يسقط بكل رموزه السياسية والعسكرية، وهذا الموقف يعبّر عن الجهة ذات الطابع الراديكالي؛ التي تؤمن فقط بهذا الطرح؛ لإحداث تغيير حقيقي في البلاد. والجهة الأخرى أقلّ منها نبرة في التوجّه، كان هدفها الإطاحة فقط بالسلطة السياسية المتمثلة في الحكومة ورئيس الجمهورية مع الإبقاء على القيادات العسكرية، على أن يتنازلوا عن مناصبهم طواعية أو يأتي رئيس “منتخب” ليزيحهم جميعًا.

            قبل 22 فيفري، لم يتوقع النظام الحاكم في البلاد – بواجهته المدنية ([4]وسلطته الفعلية، وحتى المواطنون أن يخرج الشعب في حراك ثم يتحوّل إلى ثورة سلمية شملت كلّ مدن البلاد (ما عدا من كان يستشرف طوال السنوات الماضية حدوثها بناء على معطيات ومؤشرات اجتماعية خطيرة قد تؤدي يوما ما إلى انتفاضة ثم ثورة شعبية كبيرة ضدّ الجماعة الحاكمة وكانت تنتظر فقط سببًا لحدوثها)، وقد كان إعلان واجهة النظام المدنية ترشيح الرئيس المخلوع بوتفليقة لعهدة خامسة، وهو السبب المباشر في اندلاع ثورة سلمية شملت كل أطياف المجتمع الجزائري (ماعدا أنصار بوتفليقة والنظام الحاكم).

    ثانيا: 22 فيفري؛ بداية الحراك وصدمة النظام البو تفليقي

          في يوم الجمعة 22 فيفري 2019م، خرج مئات الآلاف من الجزائريين في معظم المدن الكبرى، فمثـّـلَ هذا الخروج صدمة للنظام، ثم خرج قائد السلطة الفعلية، في خطاب وصف فيه المتظاهرين بالمغرّر بهم ([5])، وكان بالفعل يقف ضدّ الحراك في بدايته، وقد استمر أفراد هم واجهة للنظام في مسعاهم نحو العهدة الخامسة.. وفي الجمعة التي تلتها زاد عدد المتظاهرين إلى الملايين، وتوسّع الحراك وامتدّ إلى مدن أخرى، وكانت ردّة فعل الشرطة مرنة.  ومازال قائد السلطة الفعلية وأفراد الواجهة المدنية مُصرّين نحو التوجه إلى العهدة الخامسة… فتحوّل الخروج الشعبي من حراك إلى ثورة عظيمة. وهنا بدأت السلطة الفعلية في تغيير موقفها من الحراك، وقد تبيّن ذلك من خطابات قائدها ([6])؛ بعد التقارير التي وصلتها حول الحجم الحقيقي لعدد المتظاهرين والمدن التي شملتها التظاهرات. وكانت ردت فعل الواجهة المدنية سريعة في إلغاء العهدة الخامسة يوم الإثنين 11 مارس 2019م، ثم محاولتها الالتفاف حول مطالب الشعب بالتمديد، إلى أن وصلت إلى التخطيط لإقالة قائد السلطة الفعلية وإعلان ما أسمته هذه الأخيرة بـ “الحالة الاستثنائية” بعد إقالة قائدها، ثم تعيين قائد جديد لها سيقمع الحراك الشعبي.. كانت محاولة فاشلة مهدت الطريق نحو الضغط على الرئيس للتنحي ([7]) ثم إلقاء القبض على كبار رجال المال الفاسد، وعلى مهندس الواجهة المدنية شقيق الرئيس المخلوع (السعيد بوتفليقة) وقادة المخابرات السابقين (توفيق وطرطاق) ورميهم في الحبس، في خطوة اعتبرها جزء من الحراك “مجرد انتقام”، وتوالت الأحداث بعدها…

    ومن ذلك:

    1- ضغط قادة السلطة الفعلية على الرئيس المخلوع بالتنحي، وسجن رموز واجهة الحكم المدنية، وقادة المخابرات، واستحسنه الشارع. 

    2- بعد الإطاحة ببوتفليقة رجع ثلث الحراك إلى البيت. 

    3- تفاوتت أعداد المتظاهرين مع دخول شهر رمضان وفصل الصيف بين جمعة وأخرى، من بين الأسباب الموضوعية طبيعة الطقس خاصة في الجنوب.

    4- بعد الدخول الاجتماعي نهاية فصل الصيف، بدأ الحراك يعود تدريجيا إلى ما كان عليه في الجمعات الأولى.

    5- لماذا استمر الحراك رغم أن المطلب الأساسيّ بتنحي الرئيس قد تحقق؟

          في الجمعة الأولى والثانية من الحراك كان المطلب يقتصر على إلغاء العهدة الخامسة، ثم تطوّر إلى إسقاط الحكومة وكل سلطة الواجهة المدنية، من خلال تطبيق مواد معينة في الدستور الحالي للبلاد (المادة 7([8]) و 8([9]) إقالة الحكومة التي عينها الرئيس المخلوع وتسليم السلطة إلى حكومة مؤقتة تدير شؤون البلاد في فترة محدّدة تتفق عليها كل الأطراف وتحضر لانتخابات رئاسية جديدة) (والمادة 102([10]) إقالة رئيس الجمهورية بسبب حالته الصحية) بل كان هذا أيضا مطلب قائد السلطة الفعلية في خطاباته المُعلنة([11]) وطبقت المادة 102 بإقالة رئيس الجمهورية، وتولى عبد القادر بن صالح رئيس مجلس الأمة رئاسة الدولة لمدة 90 يوما. وباقي المواد لم تطبق. فاعتبره المتظاهرون خيانة لهم، فكان هذا السبب المباشر في استمرار حراكهم السلمي.

    6- لم تستجب قيادة السلطة الفعلية لمطالب الشعب، وقد أدى هذا إلى التصعيد من فئة واسعة من الحراك، بحيث ظهرت ولأول مرة لافتات وأصوات تدعوا إلى إسقاط قائد السلطة الفعلية. 

    7- ومع ذلك بقي الحال كما هو، فالحراك متمسك بمطالبه، والسلطة الفعلية ترفض الاستجابة. ورغم الرفض الشعبي الواسع في الشارع، أعلن رئيس الدولة عبد القادر بن صالح يوم الأحد 15 سبتمبر 2019م عن موعد إجراء الانتخابات الرئاسية بتاريخ 12 ديسمبر من نفس السنة.. وكان الحراك قبلها قد أسقط الانتخابات الرئاسية التي كان من المفروض أن تجرى يوم 4 جويلية 2019م أي بعد ثلاث أشهر من إقالة بوتفليقة.

    ثالثا: مؤشرات الثورة المضادة ومحاولات السيطرة على الحراك

           في الفترة التي تلت إقالة بوتفليقة، وسجن رجال المال الفاسد، وقادة الواجهة المدنية للنظام، والمخابرات السابقين، بدأت جهات في السلطة الفعلية تلعب على وتر الهوية، والتاريخ، لتوجيه الحراك والسيطرة عليه وفق مقاساتها، وقد عملت مجموعات “التفكير” التابعة لها على ترويج واسع النطاق لكتابات تصنع الكذب الممنهج والمبرمج، وتزيّف الحقائق، في شبكات التواصل الاجتماعي، وبعض المواقع الإلكترونية، بالاعتماد على مجموعة كبيرة من الكتاب والصحفيين والمصورين، كان الهدف منها السيطرة على العقول وتضليلها، وتوجيه جُمهور المُخاطبين وقيادتهم نحو الأفكار التي ترغب السلطة الفعلية في أن يعتنقها الجميع، ثم اختراق الحراك، والسيطرة عليه، ثم القضاء عليه، وكل ذلك سيتم عبر مراحل:

    المرحلة الأولى:  تجنيد بعض الصفحات الكبرى على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك (باعتباره الأكثر شهرة واستعمالا في الجزائر) وفتح صفحات أخرى، لإعطاء صورة نمطية عن الحراك وأنه قد انتهى بخاصة بعد إقالة بوتفليقة وسجن العصابة، وأن كلّ من بقي في الشارع من بقايا الحراك مدفوعون مما يسموهم بـ “الدولة العميقة ([12])” و”أذناب فرنسا”، وهم أيضا ضدّ الجيش الوطني!، مع تكثيف الحرب النفسية ضدّ الحراك، ونشطائه البارزين، وتشويه صورهم. فضلا عن الضغط على القنوات الإعلامية الخاصة، بالكفّ عن تصوير الحراك الشعبي، مع إبراز جوانبه السيئة، في حال ما إذا وُجدت، وإخفاء الجوانب الإيجابية وطمسها وتجاهلها، واستبدالها بخطابات السلطة الفعلية، وإضفاء بروباغندا سياسية ([13])، واللعب على وتر الأمن والاستقرار، والتخويف من التدخل الأجنبي، والتحذير من أنّ البلاد ستكون في خطر “إذا لم تتوجهوا إلى انتخاب رئيس جديد يقود البلاد ويحميها من التدخلات الأجنبية”. 

    المرحلة الثانية: تقسيم الحراك، بضرب وحدته، بعد التركيز على مناطق معينة من البلاد وتخوينها ثم عزلها، ثم إعطاء صورة عن نهاية الحراك وانحصاره في هذه المناطق المشكوك في وطنية أبنائها.

    المرحلة الثالثة: تقزيم الحراك وإفراغه من محتواه والسيطرة عليه بالقوّة إن لزم الأمر. 

    المرحلة الرابعة: بعد تنفيذ المخطط، ستختفي بعض أقلام بروباغندا التضليل والتخوين، إما بانسحابهم من صفحات الفيسبوك، بعد تقديم اعتذار لمتابعيهم والانصراف لأمور خاصة، أو غلقها مباشرة، أو تركها مع وقف نشاطهم الكتابي، ثم ستعود في الوقت الذي يُطلب منهم ذلك.

    المرحلة الخامسة: سيعمل الرئيس المعين، منذ بداية تنصيبه على تقديم خطابات شعبوية مثل التي كان يقدمها بوتفليقة في بداية عهدته الأولى (واكتشف الجميع فيما بعد أنها كانت مجرّد كذب ووهم وخديعة كبرى)، في محاولة لجذب الملايين التي قاطعت الانتخابات.

    المرحلة السادسة: سيقدم الرئيس المعيّن، فكرة الحوار مع الحراك، بناء على خطّة مسبقة ستضعها مجموعات “التفكير” التابعة للنظام، ستبدأ بإعداد قائمة ممن يسمونهم بـ “ممثلي الحراك”، معظمهم من الأقلام التي كانت ومازالت مع توجّه السلطة الفعلية، ثم سيتم الترويج لها على نطاق واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، وربما حتى على قنواتهم الإعلامية الخاصة، لمعرفة ردة فعل الرأي العام، وتهيئته لقبول فكرة الحوار، باعتبارها المخرج الوحيد للأزمة السياسية، وسيتم تنفيذ مخرجات هذا الحوار، وسيكون بعدها للسلطة الفعلية مبرر لمواجهة الحراك الشعبي بالقوة. لأنها ستقول “ها قد اخترتم ممثليكم، وتحاوروا معنا نيابة عنكم، ووصلنا إلى اتفاق مُرضي للطرفين، والآن لا مبرر لبقائكم في الشارع”. بمعنى آخر الحوار الذي تريده السلطة الفعلية هو حوار تكون نتائجه محسومة لها، وهذا سبب رفضها لبعض المبادرات الجادّة التي قدمتها بعض الشخصيات الوطنية خلال الأشهر الماضية دعت فيها السلطة للحوار الجاد ([14]). ولذلك فهي ستتحاور مع من كان يروج لخطاباتها في الأشهر الأخيرة، حتى وإن كان مع الحراك في أسابيعه الأولى ثم انسحب ورمى أفكاره في أحضانها.

           وسيكتشف بعدها الحراك الشعبي أن السلطة الفعلية تحاورت مع نفسها فقط، مثلما حدث مع الحوار الذي دعا إليه الرئيس السابق عبد القادر بن صالح، من أجل التوافق على تنظيم انتخابات رئاسية في أقرب الآجال، وقد تم تأسيس هيئة الوساطة والحوار الوطني شهر جويلية 2019م من طرف رئيس الدولة، واكتمل تشكليها شهر أوت من السنة نفسها ([15])، وعُيّن “كريم يونس” منسقاً لها على أساس أنه شخصية وطنية، وهو من رموز نظام بوتفليقة، وقد تعرّض لانتقادات حادّة من المتظاهرين، ثم تمّ التحاور مع بعض الأشخاص من ما يسمى بـ “المعارضة” وأحزاب السلطة، أضْفتْ في النهاية إلى فرض منطق السلطة الفعلية في إجراء الانتخابات الرئاسية، مع تعيين سلطة عليا مستقلة لتنظيمها والإشراف عليها.

          ولابد من التذكير أيضًا بالحوار الذي دعا إليه المخلوع بعد تعيينه رئيسا للجمهورية سنة 2014م، وكلف مدير ديوانه آنذاك أحمد أويحيى (المسجون حاليا بـ 15 سنة سجن نافذة بتهم فساد) بإدارة المشاورات مع الشخصيات الوطنية، والمعارضة، حول تعديل الدستور، ثم في النهاية اكتشف الشعب تلاعب هذه السلطة بالدستور، والقوانين، إلى أن انتفض ضدها بعدما قررت المُضي نحو العهدة الخامسة ([16])، والتي كانت سببا في الإطاحة بكبار رموزها، القابعين في السجون اليوم.

            وكذلك التذكير بحوار 1994م، الذي قاده آنذاك عبد القادر بن صالح، تحت ما يسمّى بـ “لجنة الحوار الوطني”. وبعد الحوار والتشاور بين مختلف “القوى السياسية، وممثلي المجتمع المدني” آنذاك في عزّ الأزمة الأمنية التي عرفتها البلاد في غياب المعارضة الحقيقية، أعِدّت ندوة الوفاق المدني (فيفري 1994م) التي انبثقت عنها أرضية الوفاق الوطني، قامت بموجبها هيئات المرحلة الانتقالية. ثم تمّ إنشاء المجلس الوطني الانتقالي (برلمان المرحلة الانتقالية) وترأسه عبد القادر بن صالح. وكل هذه الخطوات أتت بعد انقلاب 11 جانفي 1992م على الشرعية الشعبية، وبعد حل البرلمان وإلغاء نتائج الدور الأول للانتخابات التشريعية (26 ديسمبر 1991م) التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وتوقيف المسار الانتخابي.

    وماذا بعد؟

    1- بعد حملات التضليل الكبرى على شبكات التواصل الاجتماعي، وبروباغندا القنوات الإعلامية الخاصة والعامة، نجحت السلطة الفعلية في تحييد فئة معتبرة من الحراك، ونقلهم من الشارع إلى البيت، مع التحكم في نمط تفكيرهم، باعتبارهم محدودي التفكير، وليس لهم اطلاع سياسي طويل يمكّنهم من التمييز بين الحقيقة والتزييف.

    2- كانت هذه الفئة رغم قلة عددها -مقارنة بين من مازال يخرج إلى الشارع أو مازال مع مطالب الحراك والتزم بيته- هي التي ستمر بها السلطة الفعلية انتخابات 12 ديسمبر، إلى جانب وعائها الانتخابي المعتاد الذي كان يصوت للرئيس المخلوع طوال العهدات السابقة.

    3- في أثناء الحملة الانتخابية لرئاسيات 12 ديسمبر، تم الترويج على نطاق واسع لفكرة: أنّ الغالبية العظمى من الشعب مع الانتخابات. والأقلية وهي التي مازالت تخرج إلى الشارع ضد الانتخابات. ولا تأثير لها مادامت هي أقلية. وستجرى الانتخابات في موعدها. لكن مسار الحملة الانتخابية والاستقبال المحتشم للمترشحين الخمسة أعطى انطباعا على أن الأغلبية ضد الانتخاب، فهل هذا صحيح أم مجرد وهم؟

     ومن كانت له الأغلبية؟

    رابعا: رئاسيات 12 ديسمبر، مقاطعة شعبية كبيرة

             بدأ الصمت الانتخابي قبل يومين من موعد الانتخاب؛ وكان الجميع يترقب -موالاة ومعارضة- يوم الخميس 12 ديسمبر، تاريخ إجراء الانتخابات الرئاسية داخل البلاد.

             صبيحة يوم الخميس 12 ديسمبر بدأ الاقتراع، بلغت نسبة المشاركة إلى غاية منتصف النهار 7.92% حسب ما صرّح به رئيس السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات محمد شرفي ([17])، ثم في نهاية الاقتراع على الساعة 7 مساء صعدت فجأة إلى 41.13% مع احتساب نسبة الجالية في الخارج 8.69 بالمائة ستصبح 39.83% حسب النتائج الأولية.

    بالأرقام الأولوية الصادرة عن سلطة الإنتخابات ([18])

    • الهيئة الناخبة المسجّلة داخل الوطن وخارجه = 24 مليونا و474 ألفا. و161 مسجلا، منهم 900 و14 ألفا و308 من الجالية في الخارج.
    • المصوتون = 9 مليون و747 ألفاو804.
    • مع حذف عدد الأوراق الملغاة الغير معبر عنها المقدرة بـ مليون و243 ألفا و458 صوتا، و11 ألفا 588 صوتا متنازعا فيه، وسيصبح العدد 8 مليون و504 ألفا و346 صوتا معبرا عنه. هذا هو العدد الكامل الذي صوت في انتخابات 12 ديسمبر.والمقاطعون = 14 مليونا و726 ألفا و357 صوتا.

            بهذه الأرقام الرسمية الأولية المعلن عنها من السلطة العليا المستقلة للانتخابات ينتصر حزب المقاطعون بفارق يصل أو يقارب 5 ملايين.. وبالتالي فتلك الفكرة التي كانت تعتقد أن الأغلبية مع الإنتخابات قد أسقطتها الأرقام المذكور.

    خامسا: مرشّح السلطة الفعلية نحو قصر المرادية!

             أفرزت انتخابات 12 ديسمبر فوز المترشح المتوقع “عبد المجيد تبون”، وبكل تأكيد هو مرشح السلطة الفعلية، الذي ظلمته واجهة الحكم المدنية عام 2017م بعد إقالته من منصبه، وزير أول ([19]).

            وطريقة إقالة تبون، أصبح يُروج لها في أثناء الحملة الانتخابية من جماعة البروباغندا السياسية، على أنها دليل يثبت أنّ الرجل هو المناسب لقيادة البلاد، وسيواجه “بقايا العصابة” وسيلبي ما تبقى من مطالب الحراك، بل هو مرشح التيار النوفمبري ([20]) الباديسي ([21]). وقد انساق وراء هذه البروباغندا محدودي التفكير. ولكن السؤال الذي تطرحه جماهير الحراك هنا: بما أن “تبون” المترشح المنقذ الفائز هو مرشح الجماهير التي كانت تروّج إلى نهاية الحراك وما تبقى منه هم “أذناب فرنسا” أو “زواف” ومجرد أقلية تقف ضد المؤسسة العسكرية.. كم تحصل على صوت من الأصوات المعبر عنها والتي ظهرت أنها قليلة جدا لم تصل إلى 40% من مجموع الهيئة الناخبة؟

          وفقا للنتائج الأولية، تحصّل عبد المجيد تبون (المترشح الحر) على 4 ملايين و945 ألفا و116 صوتا، أي 58.15% من مجموع الأصوات المعبر عنها المقدرة بـ 8 مليون و504 ألفا و346 صوتا. 

    والأصوات الأخرى موزعة بين:

          عبد القادر بن قرينة (مترشح عن حركة البناء الوطني) مليون و477 ألفا و735 صوتا، أي 17.38%.

          علي بن فليس (مترشح عن حزب طلائع الحريات ويعتبر نفسه مرشح حر) 896 ألفا و934 صوتا، أي 10.55%.

          عز الدين ميهوبي (مترشح عن التجمع الوطني الديمقراطي) 617 ألفا و753 صوتا، أي 7.26%.

           عبد العزيز بلعيد (مترشح عن جبهة المستقبل) 566 ألفا و808 صوتا، أي 6.66%.

            هذا يعني أن الجماعة التي صوتت على المترشح “تبون” عددها قرابة 5 مليون فقط هذا حجمها. أما من كانوا يوصفون بالأقلية تبين أن عددهم يفوق 14 مليونا كلهم قاطعوا انتخابات 12 ديسمبر. 

            بمنطقهم فكل هؤلاء الـ 14 مليونا هم “زواف” و”أذناب فرنسا” وأعداء لمؤسسة الجيش الوطني الشعبي!

            النتائج النهائية الصادرة عن المجلس الدستوري الجزائري يوم الإثنين 16 ديسمبر 2019م، والتي رسمت فوز تبون، ليست متباعدة كثيرًا عن التي أصدرتها السلطة العليا المستقلة للانتخابات وهي كالتالي ([22]):

    داخل الوطن:

    الناخبون المسجلون 23 مليونا و559 ألفا و853

    الناخبون المصوتون 9 ملايين و675 ألفا و515

    الأصوات الملغاة مليون و233 ألفا و460

    الأصوات المعبر عنها 8 ملايين و442 ألفا و55

    نسبة المشاركة 41.07 بالمائة

    داخل الوطن وخارجه:

    الناخبون المسجلون 24 مليونا و464 ألفا و161

    الناخبون المصوتون 9 ملايين و755 ألفا و340

    الأصوات الملغاة مليون و244 ألفا و925

    الأصوات المعبر عنها 8 ملايين و510 ألفا و415

    نسبة المشاركة 39.88 بالمائة

    الأصوات التي تحصل عليها كل مترشح:

    عبد المجيد تبون: 4 ملايين و947 ألفا و523 بنسبة 58.13 بالمائة

    عبد القادر بن قرينة: مليون و477 ألفا و836 بنسبة 17.37 بالمائة

    علي بن فليس: 897 ألفا و831 بنسبة 10.55 بالمائة

    عز الدين ميهوبي: 619 ألفا و225 بنسبة 7.28 بالمائة

    عبد العزيز بلعيد: 568 ألفا بنسبة 6.67 بالمائة

    المقاطعون داخل الوطن وخارجه: 14 مليونا و708 ألفا و821.

    سادسًا: من هو عبد المجيد تبون؟

           عبد المجيد تبون (74 سنة) من مواليد 17 نوفمبر 1945م في ولاية النعامة جنوب غرب الجزائر، تخرّج من المدرسة الوطنية العليا للإدارة اختصاص اقتصاد ومالية سنة 1965م. شغل وظائف عليا في الدولة، بداية من أمين عام في عدّة ولايات جزائرية، ثم عُين ما بين 1991م- 1992م وزيرًا منتدبًا للجماعات المحلية، ثم أصبح وزيرًا للسكن والعمران عام 1999م، ثم وزيرًا للاتصال ما بين 2001م – 2002م، في حكومة “علي بن فليس”، ثم اختفى عن الساحة السياسية بعد تفجّر قضية بنك الخليفة الجزائري، المعروفة بفضيحة القرن.

             وكان “تبون” من ضمن مجموعة الوزراء المشتبه بتورطهم في القضية، على خلفية إعطائه تعليمات لمدير صندوق التسيير العقاري الذي يشرف على إدارة الأملاك العقارية والإسكانية، بنقل أموال الصندوق من بنك حكومي لإيداعه في هذا البنك الخاص الذي كان يمنح فائدة أعلى بكثير من تلك التي تمنحها البنوك الحكومية، وتصل لـ 7 في المائة. لكنه نجا من التهمة ومثل أمام المحكمة في نوفمبر 2007م كشاهد فقط. ونفى جملة ما وُجه إليه أو أن يكون أصدر أي تعليمات مكتوبة في هذا السياق لأي هيئة تابعة لوزارته بذلك. وعاد “تبون” مجددًا إلى العمل الحكومي ليعين بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في مايو 2012م وزيرًا للسكن، ثم كلّف عام 2017م، إضافة إلى منصبه كوزير للسكن، بإدارة وزارة التجارة بالنيابة، بعد وفاة وزير التجارة الأسبق بختي بلعايب ([23]). ثم يخلفه أحمد أويحيى بعد ثلاث أشهر.

          وفي أثناء مجريات ترشّحه لرئاسيات 12 ديسمبر، يجيب تبون على سؤال حول علاقته بقضية بنك الخليفة، في حوار بثته قناة “الحياة” الخاصة في الجزائر، قال تبون: “هناك أطراف أرفض تسميتها، ضخّت أموالا طائلة في حساب الخليفة من أجل توريطي، ولا صلة لي بما سعوا لإلصاقه بي”([24]).

           ويُذكر أنّ ابن تبون المدعو “خالد تبون”، متابع قضائيًا في قضية الـ 701 كيلوغرام من الكوكايين الشهيرة التي تفجّرت في صائفة 2018م، والمتهم الرئيس فيها المدعو “كمال شيخي” المعروف باسم كمال “البوشي – Boucher” (الجزار – بائع اللحم).

    سابعًا: المقارنة مع تونس ومصر

            هناك من يقارن بين نسبة المشاركة في انتخابات الجزائر 12 ديسمبر مع انتخابات تونس ومصر بعد الثورة، وانتخابات تونس الأخيرة.

    1- منطقيا لا يجوز المقارنة بأوّل انتخابات رئاسية جزائرية في ظلّ الحراك، مع انتخابات رئاسية أخرى أتت بعد 8 سنوات من الثورة في تونس، المقارنة تكون مع انتخاباتهم الأولى بعد الثورة.

    2- هناك تباعد كبير بين الإنتخابات الرئاسية بعد الثورة في تونس وانتخابات الجزائر 12 ديسمبر سواء من ناحية ظروف إجراء الإنتخابات أو من ناحية المشاركة. في تونس سقط النظام السياسي كاملا، وحُلّ الحزب الحاكم، ودخلت البلاد في مرحلة انتقالية دامت ثلاث سنوات، انبثق عنها دستور جديد، وقانون انتخابات جديد، وهيئة عليا مستقلة للانتخابات منظمة جيدا، ثم في 2014م أجْريت الانتخابات الرئاسية، وكانت نسبة المشاركة في الدور الأول قد بلغت 62%؛ وفي الدور الثاني 60%، ولم يكن هناك شعب في الشوارع رافض للانتخابات. أما في الجزائر، فلم يسقط النظام السياسي، وحكومته لم تتغير، وكل رموز النظام لم تتغير؛ ولم يتغير قانون الانتخابات، ولا يوجد دستور جديد، ولا سلطة عليا مستقلة للانتخابات منظّمة مثل التي في تونس (انبثقت ولكن غير منظمة)، ونسبة المشاركة 39.88% أقل بكثير من تونس. وهناك شعب في الشارع رافض لظروف إجراء الانتخابات. ([25])،  حتى إذا قارنا مع انتخاباتهم الأولى الخاصّة بالمجلس التأسيسي أكتوبر 2011م والتي فازت بها حركة النهضة، فإن النسبة بلغت 70%. وانتخاباتهم الرئاسية 2019 بلغت 55% الأغلبية شاركت.

    3- وفي مصر نسبة المشاركة في أول انتخابات رئاسية بعد الثورة وصلت إلى 51% وهي الأغلبية مادام النسبة أكثر من 50%.

    إذا لا مجال للمقارنة بين تونس ومصر مع الجزائر… فهناك فرق كبير وشاسع، وخاصة مع تونس.

    ثامنا: مجريات الحراك وطريقة تعامل السلطة الفعلية معه

    1- الطريقة التي تعاملت بها السلطة الفعلية مع الحراك الشعبي بعد إقالة بوتفليقة كانت سيئة الإخراج.

    2- السلطة الفعلية كانت تعرف جيدًا أن نسبة المقاطعة ستكون كبيرة وقد اعترفت بذلك من خلال أرقامها الرسمية، التي يعتبرها البعض مُضخمة.

    3- السلطة الفعلية مرّرت الإنتخابات في المرّة الثانية عندما تيقنت أنها نجحت في تحييد جزء من الحراك لصالحها حتى تستغله في تأطير الإنتخابات والمشاركة فيها.

    4 الوعاء الانتخابي الذي شارك في الانتخابات ضمّ ما يلي:

    • من كان يصوّت لبوتفليقة.
    • الجديد في هذه الإنتخابات هو مشاركة فئة من المواطنين وهم الذين وصفتهم بمحدودي التفكير أغلبهم لم يشارك في الاستحقاقات الانتخابية السابقة وقد شاركوا هذه المرة اعتقادًا منهم أنّ النظام فعلا تغير، وهذه الإنتخابات ستنقل البلاد إلى عهد جديد، خالي مما يسموه هم بـ “الزواف ” و”أذناب فرنسا”.
    • فئة شاركت في الانتخاب بمنطق “النكاية” تشفّـيًا في منطقة معينة من البلاد. وهذه الفئة لعبت دورًا كبيرًا في التأثير على الفئة الثانية محدودي التفكير.
    • فئة لها حسابات خاصة مصلحية، مثل من يريد الحصول على اعتماد رسمي لحزبه، أو من يطمح لمسح ديونه، منهم بعض من شباب المستفيدين من قروض “أونساج – ANSEJ([26])“، بعض من شباب عقود ما قبل التشغيل الطامحون في الإدماج، المتخوفون من الإقصاء من قوائم السكن الاجتماعي إلخ.
    • أتباع الأحزاب المشاركة في الإنتخابات.

            كلهم مجتمعون لم يصلوا إلى 40% من مجموع الهيئة الناخبة المسجلة داخل وخارج الوطن. طبعا لا يصح تخوينهم جملة، كما لا يصح تخوين من هم في الحراك، ما داموا جزائريين، (فمن تثبت عمالته لأطراف خارجية فهو خائن يطبق عليه القانون كشخص)، الذي يصح قوله: هو أن الذين كانوا مع مسعى السلطة الفعلية في إجراء الانتخابات لم يكونوا صفا واحدا (فهناك فئة واسعة منهم هي في الأصل لا تريد تغيير النظام وهي من أنصار الرئيس المخلوع كانت لهم محاولات فاشلة في اختراق الحراك -ولا أقصدها في سياق هذا الكلام- اعتقدوا أن النظام ربما تغير فعلا، ولابد من انتخاب رئيسا جديدا لينقل البلاد إلى عهد يختلف تماما عن العهد القديم، وهذا يعتبره أنصار الحراك تقديرًا خاطئاً. في حين تنظر الجماهير التي مازالت في الحراك الشعبي أن النظام يريد من خلال هذه الإنتخابات تجديد نفسه، ولن يحدث تغيير بعدها، بل ربما ستعود البلاد إلى ما كانت عليه قبل 22 فيفري أو أسوأ.

    تاسعًا: السيناريوهات والحلول

    1- السيناريوهات:

    السيناريو الأول:

          أن يستمر الحراك ويُرفض الاعتراف بالرئيس الجديد ويرفض التفاوض معه، إلى أن يتم ّإسقاطه. وهذا يكلف الكثير من الوقت في حال بقاء الحراك مقتصرا على يوم أو يومين في الأسبوع. لأنّ التجربة الحالية المقتصرة على الخروج يوم الجمعة مع ثلاثاء الطلبة فقط، أثبتت أن النظام لا يستجيب لها بسرعة، والدليل هو مرور قرابة 10 أشهر ولم تستجب السلطة الفعلية لمطالبه الكاملة.

    السيناريو الثاني:

            يقبل الحراك التفاوض بشروط، بعد تكليف ممثلين حقيقيين له، وليس مزيفين كمثل القائمة التي أشرت إليها أعلاه. هؤلاء سيمثلون الحراك والأغلبية التي قاطعت الإنتخابات المقدر عددها بـ 14 مليونا. والتفاوض من المفروض سيكون مع السلطة الفعلية، لأنها هي الحاكم الفعلي للبلاد، أو مع من يمثلها (رئيس الجمهورية أو من ينوب عنه).

    2- الحلول:

           يبقى السيناريو الثاني سيناريو التفاوض قائمًا، وسيكون بالشروط التالية:

    • استمرار الحراك باعتباره الضامن الأول والأخير لتلبية المطالب الشعبية.
    • تفويض ممثلين حقيقيين لا يساومون ولا يتلاعبون بمطالب الحراك، مهمتهم تقتصر على نقل مطالب الحراك إلى السلطة الفعلية والتفاوض معها نيابة عنه، وأن يكون لهم تواصل دائم مع الحراك.
    • أن تقبل السلطة الفعلية بالحوار الجاد.
    • إطلاق سراح سجناء الرأي والنشطاء السياسيين دون استثناء حتى الذين اعتقلوا في سنوات التسعينيات، لا يشمل هذا رجال المال الفاسد، ورموز النظام.
    • التعهد بعدم اعتقال النشطاء السياسيين، والصحفيين، وكتّاب الرأي. وإلغاء كل المتابعات القضائية بحقهم سواء كانوا في الداخل أو في الخارج.
    • فكّ الخناق الأمني عن ميادين التظاهر، خصوصا في العاصمة. ووقف الاعتقالات.
    • إبعاد المتطرفين والمتنطعين عن الحوار من كل الأطراف، سواء من الحراك أو من أتباع السلطة الفعلية.
    • وقف كافّة حملات التحريض والتخوين من الطرفين.

    التفاوض مع السلطة الفعلية سيكون بناء على المطالب التالية:

    • تشكيل حكومة كفاءات وطنية يمنع فيها كل من تقلّد مسؤوليات عليا في السنوات الثلاثين الماضية أو من كان يروّج لنظام بوتفليقة في الإعلام، أو كان عضوًا في حملته الانتخابية.
    • يتنازل رئيس الجمهورية عن جزء من صلاحيته للحكومة الجديدة.
    • تغيير قانون الإنتخابات جذريًا، مع إعادة هيكلة السلطة العليا المستقلة للانتخابات.
    • وضع قانون العزل السياسي، بحيث يُطبق على كل من تقلد مناصب عليا في الثلاثين سنة ماضية، يشمل رؤساء الدوائر، والولاة، والوزراء، قادة أحزاب السلطة، على الأقل مدة فترتين انتخابيتين رئاسيتين، وإقصاء من ثبت فساده وإجرامه إلى الأبد.
    • الاستقلالية التامة للقضاء.
    • تحييد المؤسسة العسكرية عن السياسة والشأن المدني نهائيا. لا يقبلون في البداية، ولكن لابد من الوصول إلى تسوية معهم، تجبرهم على الانحياز إلى إرادة الشعب وحكم القانون ودولة المؤسسات، بحيث يكون الجيش خاضعًا إلى السيطرة الديمقراطيةDemocratic Control ([27])، بمعنى السيطرة الديمقراطية على القوات المسلحة، حتى تتجنب البلاد صراعات قد تُضعف الدولة والجيش (من بين ما تتضمنه التسوية مثلا: تحصين كبار قادة الجيش الحاليين من المحاسبة، بمقابل امتناعهم من التدخل في الشأن السياسي والمدني، ثم يسلموا مناصبهم وديا إلى قيادات عسكرية جديدة بأمر من رئيس الجمهورية).
    • إجراء انتخابات برلمانية وبلدية في وقت قريب جدًا، بحيث يعمل البرلمان الجديد على تأسيس دستور جديد للبلاد مع إشراك المجتمع المدني في المناقشات، ثم يُعرض على الاستفتاء الشعبي.
    • الإعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة.

    خاتمة

           دخل الحراك الشعبي الجزائري شهره العاشر، ومازالت الملايين تخرج إلى الشوارع، معظمهم من الشباب، المتضررين من حقبة النظام البوتفليقي، مصرّين على تحقيق مطالبهم المشروع: (دولة مدنية يحكمها القانون). وبما أن الحراك مُستمر، فلابد من وضع هذه النقاط دائما في الحسبان:

    1- تسعى بعض الأطراف في الداخل إلى اختراق الحراك وتوجيهه وفقًا لمقاساتها. ففي بداية الحراك مثلا سعى مُناصري الرئيس المخلوع إلى اختراقه من خلال تأييده بهدف السيطرة عليه، وبعد خسارتهم العهدة الخامسة ثم إقالة بوتفليقة، أعلنوا ولائهم للسلطة الفعلية، في محاولة منهم لتوجيه الأنظار عن سيئاتهم، والنجاة من المُحاسبات القضائية. أما حاليًا يسعى الطرف الاستئصالي الذي برز بشكل كبير في محرقة التسعينيات (الداعم الرئيس للنظام آنذاك ضد الإسلاميين) إلى اختراق الحراك، والسيطرة عليه… وتبقى كل هذه المحاولات مكشوفة وفاشلة، ومرفوضة من شباب الحراك.

    2- النظام الحاكم في الجزائر منذ نصف قرن، لن يتنازل بسهولة عن الحكم، ولن يسلّم السلطة إلى الشعب بهذه السهولة. 

    3- بعد أي تحرّك شعبي يسعى النظام الحاكم إلى تجديد نفسه بطرقه الخاصة.

    4- الصندوق ليس معيار للسلطة الفعلية أبدًا فهو مجرّد وسيلة يتم من خلالها إعطاء انطباع للقوى الكبرى أن الجزائر يعيش انتخابات وديمقراطية…

    5- تنصيب عبد المجيد تبون رئيسا للجمهورية، يعني أنّ النظام الحاكم في الجزائر قد نجح في تجديد نفسه، باعتبار أن (تبون) هو واحد من رموز واجهة النظام المدنية، الذي شغل مناصب عليا في الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان آخرها؛ منصب وزير أول سنة 2017م في العهدة الرابعة من فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة.

    6- إن وافق الحراك على التفاوض، ستحاول السلطة الفعلية في البداية التلاعب بمخرجات الحوار، لكن مع استمرار ضغط الشارع، سيجبرها على تحقيق المطالب. ولذلك وكما أشرت، فإنّ استمرار الحراك سيبقى الضامن الوحيد لتحقيق المطالب الشعبية.

    7- يبقى مستقبل الحراك مرهونا بمدى استجابة السلطة الفعلية لمطالبه المشروعة.

             إن الديمقراطية تفرض على من يُؤمن بها احترام آراء كل الأطراف ماعدا من يمارس العنف اللفظي أو الجسدي. أو من له أجندات خاصة هدفها إثارة الفتنة بين أبناء الشعب الواحد واللعب على وتر الهُوية والتاريخ.

     

    -الهوامش- 

    ([1])  السلطة الفعلية هي قيادة الأركان ممثلة في الجنرال أحمد قايد صالح (79 سنة)، ثم بعد وفاته المُفاجئة بـ “أزمة قلبية” صبيحة الإثنين 23 ديسمبر 2019م، خلفه قائد القوات البرية اللواء سعيد شنقريحة.

    ([2])   أذناب فرنسا يقصد بهم عملاء فرنسا في الداخل، أو حزب فرنسا.

    ([3])  الزواف ((Zouaves  مصطلح تاريخي يعبر عن الخيانة والعمالة للخارج، وفرنسا على وجه التحديد. وهو تحريف فرنسي أخِذ من “زوافة zuave ” = النطق التركي لكلمة زواوة، أطلق على ما تبقى من فرقة الزواوة التي أنشأها العثمانيون قبل الإحتلا الفرنسي (كانت متواجدة في منطقة القبائل) كما ضمت أيضا بعض من العرب والكراغلة والزنوج الأوائل الذين تم تجنيدهم في الجيش الفرنسي بعد شهر من الإحتلال الفرنسي للجزائر، وكان أكثرهم من الزواوة zouave. كانت مهمة الزواف الأساسية تتمثل في مساندة الفرنسيين في إحتلال المناطق الجزائرية الرافضة للتواجد الفرنسي في الجزائر. للمزيد أنظر: https://bit.ly/38H9Ejx . في السنوات الأخيرة، تم توظيف كلمة زواف خارج سياقها التاريخي. وقد تم إستخدامها بشكل واسع أثناء الحراك الشعبي وخاصة بعد تنحية عبد العزيز بوتفليقة، لتُستغل في إثارة الفتنة بين الشعب الواحد.

    ([4])   واجهة النظام المدنية هي رئيس الجمهورية وحكومته.

    ([5])   خطاب قايد صالح الذي وصف فيه المتظاهرين بالمغرر بهم:

    https://bit.ly/34gVrXe

    ([6])   خطاب القايد صالح الذي دعا فيه إلى تطبيق (المادة 102) من الدستور:

    https://bit.ly/2PM1ZYM

    ([7])  فيديو تنحية عبد العزيز بوتفليقة: https://bit.ly/2POcTNp ، بيان الإستقالة: https://bit.ly/2RRBtjh

    ([8])  نص (المادة 7) من الدستور الجزائري: “الشعب مصدر كل سلطة”.

    ([9])    نص (المادة 8) من الدستور الجزائري: “السلطة التأسيسية ملك الشعب. يمارس الشعب سيادته بواسطة المؤسسات الدستورية التي يختارها. يمارس الشعب هذه السيادة أيضا عن طريق الإستفتاء وبواسطة ممثليه المنتخبين”.

    ([10]نص (المادة 102) من الدستور الجزائري: “إذا استحال على رئيس الجمهورية أن يمارس مهامه بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكل الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التصريح بثبوت المانع. يُعلِن البرلمان، المنعقد بغرفتيه المجتمعتين معا، ثبوت المانع لرئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي (2/3) أعضائه، ويكلّف بتولّي رئاسة الدولة بالنيابة مدة أقصاها خمسة وأربعون (45) يوما رئيس مجلس الأمة الذي يمارس صلاحياته مع مراعاة أحكام المادة 104 من الدستور. وفي حالة إستمرار المانع بعد إنقضاء خمسة وأربعين (45) يوما، يُعلَن الشغور بالإستقالة وجوبا حسب الإجراء المنصوص عليه في الفقرتين السابقتين وطبقا لأحكام الفقرات الآتية من هذه المادة. في حالة إستقالة رئيس الجمهورية أو وفاته، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا ويُثبِت الشغور النهائي لرئاسة الجمهوريّة. وتُبلّغ فورا شهادة التصريح بالشغور النهائي إلى البرلمان الذي يجتمع وجوبا. يتولى رئيس مجلس الأمة مهام رئيس الدولة لمدّة أقصاها تسعون (90) يوما، تنظّم خلالها إنتخابات رئاسية. ولا يحِق لرئيس الدولة المعين بهذه الطّريقة أن يترشح لرئاسة الجمهورية. وإذا إقترنت إستقالة رئيس الجمهورية أو وفاته بشغور رئاسة مجلس الأمة لأي سبب كان، يجتمع المجلس الدستوري وجوبا، ويثبت بالإجماع الشغور النهائي لرئاسة الجمهورية وحصول المانع لرئيس مجلس الأمة. وفي هذه الحالة، يتولى رئيس المجلس الدستوري مهام رئيس الدولة. يضطلع رئيس الدولة المعين حسب الشروط المبينة أعلاه بمهمة رئيس الدولة طبقا للشروط المحددة في الفقرات السابقة وفي المادة 104 من الدستور. ولا يمكنه أن يترشح لرئاسة الجمهوريّة”.

    ([11]خطاب القايد صالح الذي دعا فيه إلى تطبيق (المادة 7 و8) من الدستور: https://bit.ly/35xdkCN

    ([12])  يقصدون بها جماعة قائد المخابرات الجزائرية السابق توفيق مدين والمسجون حليا بـ 15 سنة حبس نافذة.

    ([13])  أشْتهر مفهوم البروباغندا السياسية بداية من 13 مارس 1933م، عندما عُين باول يوزف غوبلز Paul Joseph Goebbels ‏ (29 أكتوبر 1897م – 1 مايو 1945م) على رأس وزارة الرايخ لتنوير الرأي العام والدعاية أثناء الحقبة النازية في ألمانيا. ومن بين الأساليب التي اتبعها غوبلز هي إتخاذ التكرار كأسلوب من أساليب الدعاية الجيدة لتوجيه الرأي العام. وقد إبتكر غوبلز فن صناعة الكذب وتزييف الحقائق بالإعتماد على الكتاب والصحفيين والمصورين والسينمائيين. وكانت من بين أشهر مقولاته: إكذب ثم إكذب وإكذب وأخيرًا سيضطر الناس إلى تصديقك.

    ([14])  من أبرزها المبادرة التي  تقدمت بها 16 شخصية دينية وطنية من بينها عميد علماء الجزائر الشيخ محمد الطاهر آيت علجت ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عبد الرزاق قسوم نهاية شهر مايو 2019م. تضمنت المبادرة حزمة من المقترحات للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد، أهمها تنظيم ندوة للحوار الشامل، وتفعيل المادتين 7 و8 من الدستور، وإسناد المرحلة الإنتقالية لمن يحظى بموافقة أغلبية الشعب. أنظر: 16 شخصية دينية وطنية تطرح مبادرة للخروج من الأزمة التي تعرفها البلاد، (الجزائر: الإذاعة الجزائرية، 31 مايو 2019م)، في:  https://bit.ly/2qUFTuJ 

    ([15]تشكلت لجنة هيئة الوساطة والحوار الوطني من 41 من الشخصيات الوطنية، بينهم وزراء سابقون، وأساتذة جامعيون و”خبراء”، ومن ما أسمتهم الهيئة “نشطاء في الحراك الشعبي”.

    ([16]كان الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة قد أعلن رسميا نيته في الترشّح لعهدة خامسة يوم الأحد 10 فيفري 2019م، لرئاسيات 18 أفريل من نفس السنة والتي ألغيت فيما بعد.

    ([17]للمزيد أنظر: رئاسيات 12 ديسمبر: نسبة المشاركة بلغت 7.92 بالمائة على الساعة 11 صباحا، (الجزائر: وكالة الأنباء الجزائرية، 12 ديسمبر 2019م)، في: https://bit.ly/2LWN50E

    ([18]أنظر: النتائج النهائية للإنتخابات الرئاسية 12 ديسمبر 2019، في: https://bit.ly/2EoeC6U

    ([19]عُين وزيرًا أولا نهاية شهر مايو 2017م، ثم أقيل شهر أوت من نفس السنة، وخلفه أحمد أويحيي، للمزيد أنظر: https://bit.ly/36HCNt1 

    ([20]النوفمبرية نسبة إلى ثورة التحرير الجزائرية ومبادئها الموثقة في بيان أول نوفمبر.

    ([21]الباديسية نسبة إلى العالم الجزائري ورجل الدين الإصلاحي عبد الحميد بن باديس.

    ([22]أنظر: بيان المجلس الدستوري حول النتائج النهائية لإنتخاب رئيس الجمهورية ليوم 12 ديسمبر 2019، في:    https://bit.ly/350SVF3

    ([23]أنظر: عبد المجيد تبون… رمز قضية بنك الخليفة رئيسا للحكومة الجزائرية، (العربي الجديد، 24 مايو 2017م)، في: https://bit.ly/34tQ5I6

    ([24]أنظر: تبون: حقيقة صلتي بالخليفة وقروض الـ 50 مليار دولار، (الجزائر: الشروق أون لاين، 18 أكتوبر 2019م)، في:

    https://bit.ly/2RWOeZP

    ([25]فهي في الحقيقة رفض لظروف إجراء الإنتخابات، وليس رفض الإنتخابات كآلية اقتراع تفرز رئيس جمهورية مُنتخب من الأغلبية الشعبية.

    ([26]“أونساج – ANSEJ” هي الوكالة الوطنية لدعم الشباب وتشغيلهم، أنشئت عام 1996م مكلفة بتشجيع والشباب الجزائري العاطل عن العمل والبالغ من العمر (19 – 35 سنة)، ومرافقتهم في إنشاء مؤسساتهم الخاصة بقروض بنكية.

    ([27]تعتبر السيطرة الديمقراطية على القوات المسلحة شرطا مسبقا لضمان احترام السيادة السياسية للسلطات المدنية المنتخبة ديمقراطيا، من خلال: حماية سيادة القانون وحقوق الإنسان – خدمة القوات المسلحة لمصالح السكان والتمتع بالدعم والشرعية الشعبية – توافق سياسات وقدرات الجيش مع الأهداف السياسية للبلاد وتتناسب مع موارده – ولا يساء إستخدام الجيش لأغراض سياسية. يخضع الجيش إلى السيطرة الديمقراطية من خلال الأدوات التالية: سيطرة مدنية: للسلطة المدنية سيطرة على مهام الجيش وتكوينه، وميزانيته وسياسات المشتريات الخاصة به. والسياسة العسكرية والموافقة عليها تتم من قبل القيادة المدنية، ولكن سيتمتع الجيش باستقلالية كبيرة في تحديد العمليات المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة التي تحددها السلطة المدنية.

    حكم ديمقراطي: تشرف المؤسسات البرلمانية والقضائية الديمقراطية، والمجتمع المدني ووسائل الإعلام المستقلة على أداء الجيش. وهذا يضمن مساءلة كل من المواطنين والحكومة، ويعزز الشفافية في قراراته وإجراءاته.

    خبرة مدنية: المدنيون لديهم الخبرة اللازمة للحصول على المسؤوليات المتعلقة بإدارة ومراقبة الدفاع. مما يخفف من حدّة الإحترام للخبرة المهنية للجيش، ولا سيما أن المدنيين كثيرا ما تكون لديهم خبرة تنفيذية محدودة.

    عدم التدخل في السياسة الداخلية: لا الجيش كمؤسسة، ولا القادة العسكريين كأفراد.

    الحياد الأيديولوجي: لا يؤيد الجيش أي أيديولوجية معينة تتجاوز الولاء للدولة.

    الحد الأدنى من الدور في الاقتصاد الوطني: قد يكون للجيش قطاعات إقتصادية كبرى مرتبطة بالدفاع، ومع ذلك هذا لا يجب أن يضعف ولاء الجيش للقيادة المدنية الديمقراطية، ولا يقوض مهمته الأساسية أو يؤدي إلى تنافس أو تدخل غير متناسب مع القطاع الصناعي المدني.

    القيادة الفعالة: تضمن المساءلة أمام المجتمع ومؤسسات الرقابة التابعة له، وتعزّز الإحترام لجميع القوانين واللوائح ذات الصلة، وتسعى إلى ضمان الإحتراف في الجيش.

    احترام حقوق الأفراد العسكريين: بحيث يتمتع أفراد القوات المسلحة بحرية ممارسة حقوقهم. أنظر:

    Democratic Control of Armed Forces, (Geneva Centre For the Democratic Control of Armed Forces, 05,2008), p: 2-3.

  • روسيا وتركيا والصراع على إدلب

    توران قشلاقجي

    تركيا منذ الحرب العالمية الأولى، للمرة الأولى تواجه صعوبات كبيرة مثل هذه. الغرب هو الغرب نفسه في موقفه، وروسيا هي روسيا نفسها التي لا تهتم بالاتفاقيات. الغرب وروسيا وإيران والعديد من الدول الأخرى الموجودة في سوريا. قبل أن ندخل في تحليل المشكلة في إدلب، دعونا نلقي نظرة سريعة على العلاقات التركية الروسية.
    حتى الأمس القريب، كانت روسيا وتركيا تقعان في فضاءين استراتيجيين مختلفين، أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا، واحدة تتزعم حلف وارسو الاشتراكي، والأخرى جزء فاعل في حلف الناتو الغربي. ومع أن العلاقات بين الجانبين بدأت تتحسن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، غير أنها لم تصل إلى المستوى الإيجابي، إلا من بوابة الملف السوري، بحكم الضرورات الملحة التي فرضت نفسها على العاصمتين. ومع ذلك، فعلى الرغم من الاتفاقات والتفاهمات الروسية ـ التركية في سوريا (مسار أستانة، درع الفرات، غصن الزيتون، سوتشي، شرق الفرات)، يعتبر الملف السوري جزءا من سياق أعم للمجال التداولي الاستراتيجي بين الدولتين، يحكمه الموقف من الغرب.
    على مدار القرون الثلاثة الماضية، تعاونت الدولتان معا لمواجهة الهجمات الغربية، وظهر هذا التعاون بشكل جلي في مواجهة التوسع الفرنسي بقيادة نابليون نهاية القرن الثامن عشر، وظهر ثانيا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مع توقيع اتفاقية أونكيار ـ إسكيليسكي، التي التزمت روسيا بمقتضاها تقديم الدعم العسكري لتركيا بعد عصيان محمد علي باشا في مصر. لكن في ذاك العصر نفسه، وقعت صراعات بين روسيا وتركيا، ففي عام 1768 عبر أسطول روسي مضيق جبل طارق للمرة الأولى نحو المتوسط، وخاض معركة بحرية كبرى ضد الأسطول العثماني، بسبب الصراع على شبه جزيرة القرم. وبعد ذلك بأربعة أعوام، قصف الأسطول الروسي المدن السورية الساحلية، في مشهد يشبه ما يحدث اليوم. باختصار، يمكن القول إن الخلافات الروسية ـ التركية في منطقة أوراسيا والقوقاز، كانت سببا في صراعهما، في حين كان التهديد الغربي سببا في تعاونهما.
    ما يحدث في إدلب الآن يلخص طبيعة العلاقات بين الدولتين طوال القرون الثلاثة الماضية. تشترك الدولتان بوجود حالة من فائض القوة لديهما في وقت تدخل علاقتهما مع الولايات المتحدة بمرحلة فتور، وقد برز فائض القوة الروسي والتركي بشكل جلي في سوريا: الأولى أصبحت اللاعب العسكري الدولي الرئيسي، فيما أصبحت الثانية اللاعب الإقليمي الرئيسي.
    شكلت الأزمة السورية نوعا من المفارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين: اختلاف استراتيجي حيال الموقف من الثورة، ومن النظام، ومن مستقبل سوريا السياسي، غير أن هذه الخلافات الحادّة، وبفعل تعقد المشهد السوري بسبب كثرة الفاعلين الإقليميين، دفعت الطرفين إلى الاقتراب من بعضهما بعضا، وتقديم تنازلات متبادلة فرضتها مجريات الأمور. يمكن النظر إلى التعاون والصراع الروسي ـ التركي في إدلب من خلال بعدين اثنين:
    الأول، تكتيكي مرتبط بمفاعيل الترتيبات العسكرية في الجغرافية السورية، وفي هذا المستوى ثمة تفاهمات بين الدولتين، وثمة خلافات حول السيطرة على بعض المناطق في محافظة إدلب.

    الثاني، استراتيجي أبعد وأشمل من الجغرافية السورية، ويمكن تلمس أبعاده في أوكرانيا مع زيارة أردوغان إليها مؤخرا، والتوجه التركي إلى البحر المتوسط والوصول إلى الشاطئ الليبي، وقبلها التلاقي التركي ـ الأمريكي في شرق الفرات، وهذا المستوى هو الأهم، كونه من يحدد مسار العلاقات بين الجانبين.
    مشكلة روسيا، أنها لم تنظر إلى تركيا من خلال موقعها الاستراتيجي في المنطقة، بقدر ما نظرت إليها من البوابة السورية فقط، ومن هنا اعتقد الروس أن السماح للأتراك بالبقاء في إدلب والحصول على أراض في ريف حلب الشمالي الغربي، كفيل بإبعادهم عن الولايات المتحدة وأوروبا. لكن صناع القرار في الكرملين، لم يدركوا أن موقع تركيا في قلب العالم يضعها على تماس مع قارات ثلاث، ما يجعل خياراتها واسعة جدا، بحيث يصعب اختزالها في الشرق وحده أو الغرب وحده. عند هذه النقطة الرفيعة نشهد ارتفاع التوتر بين الجانبين، لكن من المهم التأكيد على أن العلاقة بينهما لن تصل إلى نقطة الصفر السياسي والعسكري، فتركيا تتحمل خسارة بعض الأراضي في إدلب من إجل الإبقاء على علاقتها مع روسيا، والأخيرة أيضا تتحمل بقاء بعض المناطق تحت سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا، لأجل السبب نفسه. وعليه، لن تنخدع أنقرة بالوعود والتصريحات الأمريكية، ومهما حاول جيمس جيفري دغدغة مشاعر الأتراك بالتحدث باللغة التركية، ووصفه الجنود الأتراك بالشهداء، فلن ينجح في دفع تركيا للوقوع في الفخ الأمريكي، وهو توتير العلاقة مع روسيا. هذه اللعبة يعيها صناع القرار في أنقرة جيدا، لكنها كانت مفيدة لتركيا، لأنها تخيف الروس الذين سارعوا عبر سفارتهم في أنقرة إلى القول إن التصريحات الأمريكية حيال تركيا كاذبة.
    الاستراتيجية التي يرسمها الرئيس أردوغان واضحة: تركيا قادرة ومستعدة لتحمل ثمن دورها التاريخي في سوريا، وعلى الروس أن يفهموا ذلك. التصعيد التركي بدا واضحا على الأرض، من خلال ارتفاع أعداد الجنود الأتراك في سوريا من ألف جندي إلى عشرة آلاف جندي، مع نحو ألفي مركبة عسكرية. وترافق التصعيد العسكري مع خطوط حمر وضعها أردوغان في وجه النظام السوري ومن ورائه الروس: ضبط حركة طيران مقاتلات النظام السوري في المحافظة، وأي اعتداء على الجيش التركي من قبل النظام السوري، سيرد عليه مباشرة في عموم الجغرافية السورية، بما يتجاوز منطقة اتفاق سوتشي في إدلب. ويمكن رؤية مدى جدية الموقف التركي من خلال عبارتين ذكرهما الرئيس أردوغان لأول مرة، «أي كفاح لا نقوم به اليوم داخل سوريا سنضطر للقيام به لاحقا في تركيا»، والثانية «إذا تركنا المبادرة للنظام السوري والأنظمة الداعمة له فلن ترتاح تركيا». يبدو أن الروس قد فهموا جدية الموقف التركي، فبعد المحادثة الهاتفية بين بوتين وأردوغان، أعلن الكرملين أن المطلوب هو تنفيذ اتفاق سوتشي، بمعنى أن روسيا لن تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الاتفاق، وقد تم التعبير عن هذا الموقف أيضا بإعلان وزارة الدفاع الروسية مساء الأربعاء الماضي، أن السيطرة على الطريق السريع دمشق ـ حلب M5 سمح بإنشاء المنطقة الآمنة المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية. نتيجة لذلك قال رئيس مكتب الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون: «الحرية والتحرير، نضال الشعب السوري هو جزء لا يتجزأ، البقاء على قيد الحياة، والأمن القومي لتركيا، لا يمكننا السماح للأراضي السورية بأن يسيطر عليها مجرمون وإرهابيون. من واجبنا محاربة هذه العناصر، سواء في حدودنا أو في منطقتنا.»