• أزمة النظام السياسي العربي في ظل "كورونا"

    عادة ما تكون المحن والابتلاءات أو المتغيرات الكبرى في حياة البشرية وقفات تفكير وتقويم لتعديل مسارات خاطئة في نظام الحياة البشري، أو مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تتشكَّل الكثير من النظم والسياسات والأدوات على نتائج جدليات الأحداث الكبرى عندما تقوم النظم السياسية بمراجعة موقفها الواقعي وتطلعها المستقبلي، واليوم تأتي جائحة "كورونا" أمام العالم لتصيبه بعدم اليقين، وتختبر قدرته البشرية بإعادة النظر في مجمل قيم وأساسيات بناء النظام الدولي والاقتصادي والاجتماعي.. العالم الذي يبدو عاجزاً تماماً أمام هذه الجائحة، منتظراً جهود الباحثين الأطباء والمتخصصين، لاكتشاف علاج للبشرية ربما يطوِّق اجتياح هذه الجائحة وانتشارها في كل دول العالم.

    هذه مقدمة لازمة للانتقال إلى ما يمر به عالمنا العربي في ظل هذه الأزمة، فهو عالم من البشر في جغرافيا ممتدة من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، لا يختلف عن باقي دول العالم في تأثير هذه الجائحة عليه صحياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

    إلا أن العالم العربي منذ عقود وهو يعيش أزمة النظام السياسي العربي، إذ إنه بالإضافة إلى الكارثة الصحية المتوقعة؛ لضعف بنيان النظام الصحي في هذه المنطقة، وضعف البنيان الاجتماعي؛ من نظام العدالة، وتوزيع الثروة، وانتشار الفقر، والأمية فيه، فإن النظام السياسي العربي ما زال يتمتع بخصائص تختلف عن النظام السياسي الدولي، حيث يعجز النظام العربي السياسي عن دراسة واقعه من جديد، فهو لا يفكر في إعادة حساباته ومراجعاته، ويفكر في طريق صحيح للنهضة واستثمار ما لديه من إمكانات اقتصادية، وقوى اجتماعية، وبنيان سكاني من الشباب الطامح للعمل والتغيير، وللأسف فإن أزمة هذا النظام ما زال عند كل فشل في إدارته للأزمات، يلقي بعجزه على شماعات من الأوهام والفزَّاعات، ويعتقد أنه بذلك يلقي عن كاهله تحمل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع المنطقة العربية، من ضعف في البنيان الصحي والاقتصادي والاجتماعي، ويحيل ذلك الفشل إلى فزَّاعات الإرهاب والإخوان، والجماعات السياسية المعارضة، والليبرالية والعلمانية، والتدخل الأجنبي، ويقوم بدلاً من الإصلاح إلى تغذية الانقلابيين ومجموعة من الجماعات الدينية المحسوبة على النظام السياسي، ودعم الحروب الأهلية، وتفتيت الجغرافيا والاقتصاد والمجتمعات العربية، وانشغال هذا النظام بحروب وهمية، ويستخدم إعلاماً أقرب إلى تطويع المجتمعات للاستكانة والخضوع لنظريات الواقع من السلام المزيف مع الكيان الصهيوني، أو تفتيت الوحدة الوطنية في مجتمع عربي تتدهور حالته ومناعته الفكرية أمام العولمة ومنتجاتها، حتى تحوّل النظام السياسي العربي اليوم إلى كتل متشاكسة لا يجمعها مشروع ولا نهضة ولا جامع واحد.

    إن المستقبل لمنطقتنا العربية غامض غير وامض، وهو ما يدعو إلى أن تقوم كل القوى الحيّة في هذه المجتمعات بالتوقف والاستفادة من فرصة ابتلاء جائحة "كورونا"، لتعيد ترتيب حساباتها، وتعيد حيويتها للنظر في مشتركات نهضوية تضع لهذه المنطقة إطاراً سياسياً جديداً يدفع بها نحو نهضة اقتصادية واجتماعية وصحية وثقافية، وإلا فإن عقوداً طويلة من الكوارث ربما ستسود المنطقة في هذا القرن الذي نعيشه.

  • الإسلام.. وزمن "الكورونا"

    أ.محمد سالم الراشد

    رئيس جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي

    نستقبل التقارير العالمية حول نجاح الصين في حصار فيروس "كورونا" الذي أردى 21.116 ضحية حول العالم، وأصاب 465.274 إنساناً -حتى تاريخ كتابة هذا المقال 26 مارس 2020م- لكن تظل الصين، بسبب سياستها الترويجية الخائفة من فقدان المصداقية والثقة بمنتوجاتها الاستهلاكية، لا تعترف أخلاقياً عن مسؤوليتها عن هذا الوباء العالمي؛ الذي أثر على حياة البشر في هذا العالم؛ بتأخرها عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية عنه.

    ومن جهة أخرى، يتضح قمة الكبر والغرور الإنساني في أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث ظن قادة تلك الدول أن الوباء صينيّ؛ فليكن هذا الجنس الأصفر وقوداً لهذا المرض؛ وأن هذا الفيروس ربما يميز بين الجنس الأبيض والأصفر، وأتت التحذيرات متأخرة بعدما فتك الفيروس بالآلاف من الناس في أوروبا والولايات المتحدة؛ بسبب حمأة الرأسمالية المتوحشة، التي ترى أن امتصاص ملكية الإنسان من خلال العمل والضرائب هي الأولوية على حياة الإنسان؛ لأنها تخدم الطبقة الرأسمالية في مجتمعاتها، إنها تريد جني المال على حساب الحياة البشرية والإنسانية.

    في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ما زال غرور ترمب مستمراً؛ إذ إنه على مضض يوافق على إيقاف العمل لمدة أسبوعين، لكنه مُصِرّ على أن تفتح الشركات والأعمال الحكومية مجدداً بعدها، ولا يضره ذلك، لأن الأساس هو الناتج الاقتصادي.

    في الولايات المتحدة من أجل إنقاذ "وول ستريت" على حساب الإنسان تم ضخ تريليون ونصف تريليون دولار.

    ولإنقاذ قطاعات الشركات الكبرى في النظام الرأسمالي فهو يسعى لتحقيق الأرباح، لقد كشف الفيروس عن عوار الرأسمالية والنظام العالمي السياسي، ففي الولايات المتحدة لا تستطيع الدولة تقديم الرعاية الصحية لكامل الشعب الأمريكي.

    إذاً؛ أين رفاهية الرأسمالية؟! فغالبية الشعب الأمريكي إذا حاول طلب العلاج فإنهم سيصبحون مدينين؛ لأن كل شيء إما بالتأمين الصحي، وهذا يغطي فئة محدودة في الولايات المتحدة، أو الاقتراض من البنك، وهذا يركب فوائد كبيرة على المقترض، هذه هي حقيقة الرأسمالية المتوحشة، يهمها المنفعة المادية على حساب القيمة الحياتية للإنسان؛ الأرباح أهم من الناس.

    فالرعاية الصحية الخاصة والرسمية لا تستطيع التعامل مع الأزمة بكل بساطة.

    • 30 مليون أمريكي لا يملكون تأميناً صحياً.
    • 15 مليوناً منهم لديهم تأمينات خاصة.
    • 60 مليوناً آخرون عليهم دفعات مسبقة عالية لدرجة أنهم سيصبحون مدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا أن يطلبوا العلاج.
    • 45 % لا يمتلكون أو يدخرون دولاراً واحداً.
    • 24 % لديهم أقل من 1000 دولار.

    إن زيارة واحدة إلى غرفة الطوارئ أو العناية المركزة لفيروس "كورونا" تكلف الفرد الواحد 10 آلاف دولار، وهذا يهدد بمحو الملايين من مدخرات الأمريكيين، كما أن هناك 34 مليوناً من الناس في الولايات المتحدة لا يملكون يوماً واحداً إجازات صحية مدفوعة الأجر.

    علماً بأن 45% من العاملين في فنادق الولايات المتحدة وخدمات المطاعم فقط يحصلون على تعويض إجازات مرضية، وهم أمام خيارين؛ فقدان العمل، أو الفيروس.

    وكذلك فإن المدارس العامة في الولايات المتحدة، زعيم النظام العالمي، ظلت تعمل لأن الطلاب يعتمدون عليها لأجل الطعام المجاني؛ حيث إن 22 مليون طفل في الولايات المتحدة يعتمدون عليها.

    وسيتم طرد 700 ألف من إيصالات الطعام المجانية في الأول من أبريل؛ وهذا سيشكل جزءاً من المجاعة، علماً بأن الملايين من الأطفال في الولايات المتحدة مشردون ويعيشون في مآوٍ مكتظة، وسيكونون على اتصال مع أشخاص حاملين للفيروس، كل ذلك لا يعادل قيمة "وول ستريت".

    يقول جوزف إستيفال، الاقتصادي الحائز على جائزة "نوبل": "إن ديمقراطيتنا واقتصادنا في خطر كبير إذا استجبنا إلى مطالب الشركات ذات الأصوات الأعلى والأقوى، بدلاً من التفكير فيمن في الحقيقة يحتاجون الدعم".

    الحقيقة أن النظام العالمي اليوم نظام أثبت فشله وفساده ومرضه وهو قادم على كارثة اقتصادية، ومن الطبيعي ستصبح جائحة اجتماعية متطرفة ربما تتحول إلى حرب شاملة لا يعلم مداها إلا الله؛ بسبب طبيعة وغايات تركيبة النظام الذي يقود البشرية إلى الصراعات والهاوية.

    1- فعلى المستوى الصحي، فالفيروس ما زال يتفشى ويكسب الحرب ويثبت عجز أكبر العقول على حل معضلته.

    2- وعلى المستوى السياسي، فإن هذا النظام أثبت أنانيته وفشله في قيادة ثقافية للعالم لمواجهة حرب الفيروس الصغير، وانحاز إلى الأنانية والمصلحة القومية.

    3- وعلى المستوى الأخلاقي، فلا حدود للتفلت الأخلاقي العولمي؛ إذ إن كل شذوذ مباح وكل خبيث جائز أكله وشربه.

    4- وعلى المستوى الاقتصادي، فالرأسمالية المتوحشة وبحثها عن المنفعة والربح أغلى من حياة الإنسان.

    5- وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فإن التراحم والتكافل والاعتناء بالضعفاء والفقراء وكبار السن مفقود.

    لقد كشف فيروس "كورونا" زيف البناء الحضاري الغربي والنظام العالمي السياسي وضعف النظام الصحي في العالم المتمدن وتراجع الأخلاقيات الاجتماعية والمدنية.

    ولكن هل هذا سيدفع المسلمين إلى إعادة النظر في عمق الأخلاق الحضارية في دينهم "الإسلام العظيم"؟ وهل سيستطيع المسلمون أن يتقدموا بنموذجهم الحضاري في فرصة قد أزفت، وأن العالم اليوم يفكر بالحل الشامل لاحتمالات سقوط النظام العولمي وثقافة الحضارة الاستهلاكية المتوحشة؟

    فعلى المستوى الصحي:

    يستطيع المسلمون أن يقدموا للعالم أساسيات الطهارة التي يدرسها صغار أبناء المسلمين في مدارسهم ويتعلمونها في بيوتهم.

    الطهارة البدنية والحسية التي أسست لنظافة البدن وصحة النفس ورقي التهذيب.

    نحتاج اليوم إلى الفقيه والمفكر والطبيب من المسلمين الذين يجتمعون ليطلقوا مبادرة "الصحة الحضارية في الإسلام".

    التي تقوم أساساً على "رفع الحدث وإزالة الخبث"، لقد قدم الإسلام تعاليم ثابتة في الاهتمام بالبدن والعورة ونظافة الملبس والمكان.

    إن تلك التعليمات وضعت أساساً صحياً لمواجهة أي مرض وفيروس أياً كان نوعه ومصدره، لقد قدم الإسلام نموذجاً في الطيبات التي يجب أن تتناولها البشرية، والخبائث والمحرمات التي يجب أن تتركها في النظام الغذائي للإنسان المسلم، وآداباً صحية للمأكل والمشرب واللباس والزينة.

    وعلى المستوى الاقتصادي:

    فإن الإسلام وضع شرائع البيع والشراء، فأحل البيع وحرم الربا، ووضع قواعد العمل والكسب الحلال، وقدم نموذجاً في الاقتصاد المتوازن الذي يثبت الملكية ويطلق حرية السوق وضبطها بالأخلاق بعيداً عن الغرر والكسب الباطل "الحرام" والغش والاحتكار، لكنه أيضاً يضع المسؤولية الاجتماعية على عاتق المستثمر بأن يؤدي زكاة ماله للأصناف الثمانية في المجتمع.

    وعلى المستوى الاجتماعي:

    فالإسلام حث على التكافل والتعاون والحب والإخاء والتعارف بين البشرية، وإنّ رقابة الله أو تقواه مع البشر هي المعيار لكرامة الإنسان، فلا يترك ذا حاجة وإلّا على المجتمع أن يتعاون في استيفائها له.

    وألا تعلو طبقة على طبقة أخرى في المجتمع الإنساني الذي ينشئه الإسلام مهما كانت ألوانهم أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.

    إن لغة المساواة والحب والكرامة التي تشكلها المبادئ الحضارية للإسلام جاهزة لمعالجة الاهتزاز الاجتماعي العولمي.

    أما على مستوى الصحة النفسية:

    • فإن العقيدة الإسلامية التي أساسها أن القدر مكتوب خيره وشره، وأن المسلمين يتقبلون قضاء الله وفق مشيئته، وأن الموت لا يؤخر أو يقدم لإنسان من غير أن يحل أجله المكتوب، لهي عقيدة تغذي روح الإنسان بالطمأنينة والراحة والسعادة.
    • وإذا عرفنا أن الإنسان إذا أمسى آمناً في سربه معافى في بدنه يملك قوت يومه فقد حيزت له الدنيا، فلا صراع على المال ولا المادة ولا صراع أو خوف أو هلع من جوع، فتصبح الروح الإنسانية آمنة مطمئنة، فأي صحة نفسية عالية تلك التي يؤسسها الإسلام في حياة الناس.

    إذاً؛ من سيتجرأ لهذه المهمة "مهمة تبليغ العالم أن الإسلام لديه حل شامل لنظام الحياة الحضاري في العالم".

    وأن قادم الأيام سيثبت أن النظام الحضاري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب سيتهاوى، وسينشأ نظام عالمي جديد، إنها فرصة للمسلمين ليُهدوا العالم أغلى كنز للبشرية وهو "الإسلام العظيم".

    إن لدينا مئات من المنظمات الإسلامية والعربية والأوروبية المتخصصة في الفكر الحضاري الإسلامي والأبحاث الشرعية سواءً كانت تلك المنظمات رسمية أم أهلية.

    إننا ندعو المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة واتحاد الجامعات الشرعية والمؤسسات الإسلامية للقيام بواجب الوقت.

    إن البشرية قد مرت بثلاث موجات حضارية؛ الموجة الزراعية، تلتها الموجة الصناعية، ثم أخيراً موجة "البتات"، فهل يستطيع المسلمون أن يقدموا للبشرية الموجة الرابعة؟ وهي موجة "عالم القيم"؛ حيث إن كل قيمة من قيم الإسلام العظيم لها وزن ماديّ ومعنويّ يعادل كل مكاسب الرأسمالية وتقنية "البتات" وحضارتها، وتستطيع البشرية أن تحول تلك القيم إلى "سلعة حضارية" قابلة للتداول بما يحقق الرفاهية والسعادة للبشرية.

  • مجلة “المجتمع” ذلك الحصن المنيع علي امتداد نصف قرن ( 2-2) . وقفات مع مؤسسها الشيخ عبدالله المطوع

    شعبان عبد الرحمن

    خلال مسيرتها علي امتداد نصف قرن (1970م – 2020م)، ارتبطت #مجلة_المجتمع الكويتية باسم الشيخ الجليل #عبد_الله_العلي_المطوع، رئيس مجلس إدارتها – يرحمه الله – (1345هـ 1926م – 1427هـ 2006م)، وقد انعكست المكانة الكبيرة التي حظي بها الرجل في #الكويت وفي العالم الإسلامي أجمع علي تلك المجلة، بما أكسبها حضورا قويا علي الساحة الإعلامية والسياسية والفكرية، فالرجل كان – ولا أزكي على الله أحدا – مدرسة متكاملة الأركان.

    فهو على الصعيد الاجتماعي رجل مجتمع من طراز فريد، بسط علاقاته مع المجتمع الكويتي بكل تفريعاته وطبقاته من أعلى الهرم إلى قاعدته العريضة، بل ومع الوافدين على الكويت والقاطنين بها، وقد حكمت حركته وعلاقاته قيمه الإسلامية الرفيعة التي صبغت عاداته العربية الأصيلة كشيخ قبيلة من الطراز الأول.

    وهو على المستوي السياسي زعيم بكل ما تعني الكلمة، يتابع الشؤون السياسية على مستوى القطر وعلى مستوى العالم ويحتك ببعضها، ويتبادل الرأي بشأنها مع أصدقائه ومعارفه حول العالم، إضافة إلى عضويته في العديد من المنتديات.. كل ذلك كان يولد لديه أفكارا تتحول إلى كتابات وموضوعات تثري المجلة، كما أن متابعاته المتواصلة لقضايا الأقليات المسلمة وزياراته الميدانية للشعوب المنكوبة بالكوارث، انعكس على إيلاء المجلة تلك القضايا اهتماما كبيرا.

    وقد دعم ذلك كون الرجل – يرحمه الله – من رجال الأعمال البارزين، فهو العصامي الذي بات من كبار التجار، وبات يدير ثروة كبيرة إدارة حكيمة يحكمها الحرص على إخراج زكاتها وصدقاتها لمستحقيها حول العالم، واستحق لقب “#رائد_العمل_الخيري_الكويتي“.

    ومن خلال قيامي بمسؤولية إدارة تحرير المجلة على امتداد أحد عشر عاما (2004م – 2015م)، وتعاملي مع الرجل عن قرب، وبمناسبة احتفال المجلة يوم السابع عشر من الشهر الجاري بمرور نصف قرن على إصدارها، أستطيع أن أشهد أنه كان رغم كثرة مشاغله وأسفاره ظلت المجلة تشكل ركنا أساسيا في حياته، يبدأ يومه – تقريبا – بالاطمئنان عما ستتناوله في عددها القادم ويختتم يومه بمراجعة ما تم إعداده، وكان أي اتصال هاتفي يصله من “المجتمع” خلال تواجده في أي مكان بالعالم، يقطع عليه عمله ويسارع بالرد ولا ينهي المكالمة حتي يطمئن علي كل شيء.

    وقبل إرسال المجلة إلى المطبعة كنت أقرأ عليه معظم الموضوعات المتفق عليها، وكان حريصا أشد الحرص على عناوين الغلاف الرئيسية. أما افتتاحية العدد فكانت تحظي منه بتدقيق بالغ باعتبارها تعبر عن الرأي الرسمي للمجلة. وكان ذلك يأخذ منه جهدا جهيدا، وكم سهرنا معا على الهاتف في مثل تلك الأعمال حتى ساعات متأخرة من الليل، ولم يمنعه من ذلك مرض أو تعب أو انشغال، وأذكر أنني عندما امتد بنا السهر في إحدى الليالي حتى الثانية صباحا أشفقت عليه قائلا: اتعبت حضرتك الليلة، فرد قائلا: والله أنا أكلمك ولا أستطيع التحرك من شدة المرض، لكن المجلة لابد أن تخرج في أحسن وضع.

    وكان الباعث على السهر هو ذلك النقاش الصعب الذي كان يستغرق وقتا طويلا حول محتويات العدد الجديد، وقد شجعني على ذلك النقاش أنني في بداية التعامل اتقفنا على حرية النقاش والرأي ووفي معي بذلك – يرحمه الله – وقد اختلفت معه في موضوعات وقضايا وافتتاحيات المجلة، وأشهد أنه كان ينزل علي رأيي في كثير منها، وهو ما كان يثير استغراب القريبين منه.

    وقبل وفاته بيوم واحد، كان عائدا من السفر، وكان أول ما بدأ العمل به فور وصوله للمطار اتصاله بي مستفسرا عن العدد الجديد من المجلة ومشدّدا على ضرورة كتابة افتتاحية العدد في موضوع ما يتعلق بقضية قطر من الأقطار، فأوضحت له أن عدم إثارة هذا الموضوع أفضل وقدمت له أسبابي، فقال إذا نلتقي غدا – إن شاء الله – بمكتبي عند صلاة الظهر لنحسم القرار الأخير بمشاركة بعض أصحاب الرأي في هذه القضية.

    وفي صباح اليوم التالي اتصل بي وذكرني بالموعد، ثم أخذ يتكلم كلاما طيبا مازال محفورا في قلبي حتى اليوم. وبينما أتأهب للذهاب إلى مكتبه في الموعد المحدد اتصل بي سكرتيره الأستاذ أحمد راجج، فبادرته بالرد مطمئنا: سأكون عندك في الموعد، لكنه قاطعني قائلا بصوت متحشرج: أبو بدر تعيش أنت! .. جلست مكاني بلا حراك ثم نهضت، وبدلا من أن أتوجه إلى مكتبه أسرعت إلى المستشفى الذي امتلأ عن آخره بالناس، لألتقيه في آخر لقاء وجها لوجه – بعد أن أشار لي نجله الأستاذ يوسف بالدخول -، ساعتها تردد في خاطري قول الشاعر:
    وما من كاتب إلا ويفنى … ويبقي الدهر ما كتبت يداه
    فلا تكتب بخطك غير شيء … يسرك في القيامة أن تراه
    مات “بوبدر”، وهو يعمل في ميدان كفاحه حتى اللحظة الأخيرة.. مات في مكتبه و”المجتمع” حاضرة في بؤرة اهتمامه.. مات بعد أنتهى من وضوئه استعداد لصلاة الظهر، وأسأل الله أن يكون لقاؤنا القادم في الفردوس الأعلى من الجنة.

    تلك ملحمة الشيخ عبدالله العلي المطوع “بوبدر” الجندي الأول في بناء صرح مجلة “المجتمع” رويتها – من وجهة نظري وكما عاينتها – لأؤكد على أن الرسالة الإعلامية ذات الهدف النبيل لا يمكن أن تتحقق دون بذل وتضحية وإنكار للذات من كل الأطراف وعبر منظومة منسجمة، تؤمن بتلك الرسالة وتعمل بوعي ومهنية علي تحقيقها دون كلل، وذلك من أهم ما تعلمته من هذا الشيخ الجليل يرحمه الله.