• سورية..... مواجهة من نوعٍ آخر

    المركز السوري سيرز - د. سامر عبد الهادي علي

    13 حزيران 2020

     منذ تدخل روسيا العسكري في سورية نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 حتى اليوم كانت سورية ساحة اللعب الرئيسية للقيصر الروسي "فلاديمير بوتين"، سياسياً من خلال الإمساك بخيوط القرار السياسي للنظام السوري، والتفاوض بدلاً عنه في المحافل الإقليمية والدولية المختلفة، واتخاذ القرارات الداخلية والخارجية، وكذلك عسكرياً من خلال قيادة عمليات ميليشيات النظام ومرتزقته في المعارك ضد الشعب السوري وقواه الثورية. واستطاعت روسيا فرض إرادتها السياسية والعسكرية في الملف السوري إلى حدٍّ بعيد رغم مواجهتها لمعارضة تركيّة منعتها من الوصول لأهدافها بالسيطرة على ما تبقى من ريفي حماة وإدلب، وإصرار أمريكي على البقاء في شرق وشمال شرق سورية، حيث الموارد النفطية الرئيسية في البلاد، وخزان الزراعات الاستراتيجية فيها.

    ولم يدع قيصر روسيا محفلاً إلا وأظهر فيه عنجهيته السياسية والعسكرية، وتفوقه في سورية على بقية اللاعبين في هذه الساحة الدموية. إلا أنّ روسيا "الغبيّة تاريخياً" في دعم الطغاة والمستبدين لم تتعلم من دروس الماضي حيث سقط كل الطغاة الذين دعمتهم على شاكلة النظام السوري، وخسرت بسقوطهم سنوات من الدعم بأشكاله المختلفة، ولم تجنِ سوى الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي أدّت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 انهياراً مدوّياً.

      واليوم.... وصلت روسيا في سورية إلى نهاية الطريق ذاته الذي سلكته سابقاً، فبالرغم من الدعم اللامحدود الذي قدّمته للنظام السوري لإعادة بسط سيطرته العسكرية على البلاد، وإعادة تعويمه سياسياً في الداخل والخارج إلا أنها فشلت في ذلك تماماً، فهي لم تستطع إعادة بسط سيطرة النظام على أهم مناطق سورية الاقتصادية والاستراتيجية من جهة، كما لم تستطع إعادة جزءاً من سمعته السياسية على المستوى الخارجي، وبقي منبوذاً عربياً وإقليمياً ودولياً.

     كانت روسيا تعتقد أنّ النظام السوري سيكون أكثر قوةً وشرعيةً فيما إذا تمكّن من السيطرة وإعادة التحكم بالبلاد أو بأجزاء واسعة منها، هذا الاعتقاد فشل هو الآخر بعد أن أصبحت المناطق الخاضعة له الأكثر فقراً ومعاناةً، لتزداد الأوضاع سوءاً مع الانهيار المتسارع للعملة السورية، رافقها غلاء غير مسبوق في المعيشة، ما جعل الحاضنة الشعبية له تعيش حالة غير مسبوقة من التذمر والغليان نتيجة فشل حكومة النظام في إيجاد حلول مرضية توقف التدهور الحاصل على الأصعدة كافة.

     بالرغم من كل ذلك..... إلا أنّ ما لم تتوقعه روسيا وقيصرها بوتين أن تكون الضربة الأقسى لأطماعه ومشروعه التوسعي في سورية من خلال قانون أمريكي "قانون قيصر" الذي يفرض عقوبات غير مسبوقة على النظام السوري برجالاته ومؤسساته وجميع داعميه "أفراد ومؤسسات ودول" في مقدمتها روسيا وإيران.

       نعم..... قانون قيصر الذي عملت عليه نخبة من السوريين في الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع مؤسسات أمريكية ذات صلة بعد أن قام "قيصر" السوري بتسليم الولايات المتحدة عشرات آلاف الصور لسوريين معتقلين قتلهم النظام بأبشع الطرق والوسائل التي لم يعرف التاريخ الحديث والمعاصر مثيلاً لها.

     هذا القانون هو التحرك السياسي والحقوقي والإنساني الأهم منذ عام 2011 حتى اليوم، بما يخص الملف السوري والصراع مع النظام وداعميه، وقد بدأت آثاره بالظهور سريعاً مع اقتراب موعد دخول حزمة العقوبات الأولى حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الجاري، فبدأ الصراع داخل الدائرة الضيقة للنظام من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الأموال المنهوبة مع استشعار رجالات النظام لخطر قيصر من جهة، وإرضاءً لحلفاء جمعهم الهدف وفرّقتهم المصالح "روسيا وإيران".

     الخلاف الأهم ما ظهر للعلن مؤخراً بين أقوى شخصية اقتصادية ومالية في النظام "رامي مخلوف" مع رأس النظام "بشار الأسد وزوجته". هذا الخلاف انعكس على الحاضنة المؤيدة للنظام، حيث بدأ التصدع والخلاف بينها، بين مؤيد للأسد وآخر لمخلوف، وهو ما لم يحصل طوال تسعة أعوام من الثورة.

     نعم..... نحن اليوم أمام مواجهة من نوعٍ آخر بين قيصر روسيا الذي استشعر الخطر الحقيقي، وقيصر سورية الذي شكّل ضربة غير متوقعة لروسيا والنظام وجميع داعميه. مواجهة بدأتها روسيا بمقاربة جديدة في تعاملها مع الملف السوري، بحيث تسعى لتلافي السقوط غير المحسوب للنظام، وبالتالي سقوط جميع أحلامها ومطامعها ومصالحها في سورية وخارجها، وهي اليوم أمام خيارين، الأول: استمرار دعمها غير المجدي للنظام السوري المتهالك، ما يعني خسارة محتّمة لها ما بعد قيصر القانون. والثاني: أن تقود روسيا بنفسها وضمن تفاهمات إقليمية مع تركيا، ودولية مع الولايات المتحدة الأمريكية، عملية إنهاء حكم الأسد الهزيل، وقيادة مرحلة انتقالية يجري فيها تجميع حكومة ائتلافية ما، أو مجلس عسكري- مدني يوقف في النهاية تطبيق قانون قيصر وتبعاته على مصالحها في سورية، وهو الاحتمال الأقرب للواقع. لذلك يأتي تعيين سفير روسيا في سورية "ألكسندر يفيموف" ممثلاً رئاسياً لبوتين في سورية في 25 أيار/ مايو الماضي أولى الخطوات الروسية في هذا الطريق، ما يعني أنّ سورية "الأسد" أصبحت تحت الانتداب الروسي المباشر، والمفاوض على حاضر ومستقبل سورية.

     وبين قيصر روسيا وقيصر سورية "الأمريكي" تبقى سورية الدولة والوطن، ويبقى الشعب السوري بأطيافه كافة الخاسر الأول والأخير في جميع المواجهات السابقة، وهذه المواجهة اليوم.

  • قيصر الإنجاز، وأعراضه الجانبية

    المركز السوري سيرز - مصطفى إبراهيم

      يسمونها "الدبلوماسية الموازية"، ويقصد بها تلك القنوات الخلفية الموازية لقنوات الدبلوماسية التقليدية، التي توظفها الدول للضغط على صناع القرار والرأي في دول أخرى، لتسهيل مصالحها، وتحسين صورتها، وتشويه صورة خصومها. ويحصل هذا عن طريق أشخاص ليسوا محسوبين على السلك الدبلوماسي، عن طريق التواصل مع شركات العلاقات العامة، وجماعات الضغط التي تنفذ طلبات الزبون من خلال أساليبها الخاصة مقابل مبالغ مالية محددة. وفيما كان النظام السوري يدفع الكثير لتلك الجهات لتشويه صورة الثورة وتقديمه كمحارب للإرهاب. كانت بعض الفعاليات السورية تعمل باتجاه آخر، لتجعل الأموال التي بددها في هذا المجال تذهب هباء.

     مؤخرا، استطاع بعض السوريين المغتربين، والذين ترفع لهم القبعة احتراما، وبعد جهود حثيثة وعمل دؤوب، أن يجعلوا من أهم عملية فدائية نفذها القيصر المسمى بقيصر، حدثا تاريخيا ربما هو الفيصل في تاريخ الثورة السورية رغم محاولات النظام السوري وطابوره الخامس تقزيمه، ومن يعتقد أن حدثا ما، كانشقاق شخصية كبيرة، أو مقتل ضباط ذوي أهمية، أو سقوط مدينة؛ آلم النظام وحلفاءه أكثر؛ فهو واهم.

     يمكن تلمس آثار الألم تلك من خلال تصريح نائب وزير الخارجية الروسي عن استعداد موسكو للتفاوض مع واشنطن بشأن سوريا، فيما يبدو وكأنه محاولة لإنجاز صفقة، ومنذ أيام قليلة لاحظ الجميع في تصريحات وليد المعلم مقدمات لنوع من الرضوخ. ومؤخرا، وزير الخارجية الأمريكي "بومبيو" يقول: "عقوباتنا على النظام السوري أظهرت نتائج إيجابية". وربما يشي الهدوء النسبي في التصريحات الأمريكية بما يمكن أن يكون النظام السوري قد قدمه من وعود وتنازلات نتيجة ذلك الألم.

    من جهة أخرى، لا شك أن بعض الأعراض الجانبية والآثار السلبية لذلك القانون سوف تطال المناطق المحررة لأن تلك المناطق لم تفك ارتباطها بالمناطق الواقعة تحت سيطرة النظام السوري، وهي ما زالت تتعامل بالعملة السورية، وهناك حركة تبادل تجاري بين المنطقتين مازالت موجودة. وهو أمر يستحق التوقف عنده وتسجيل بعض الملاحظات، فالضائقة الاقتصادية قد تدفع بالبعض للقيام بمظاهرات احتجاجية، وربما تتحول إلى أعمال تخريبية، أو ربما تصل إلى مستوى الجريمة. وهنا يجب التذكير بأن حرية التظاهر في المناطق المحررة متاحة لمن يرغب، بينما هي مغامرة في مناطق النظام. والأهم من ذلك، أنه بينما تعتبر الاحتجاجات في مناطق النظام عامل ضغط على النظام، تعتبر المظاهرات في المناطق المحررة عامل ضغط على القانون بحد ذاته. وبالتالي، هي لمصلحة النظام. لذلك، نلاحظ عناصر الطابور الخامس بدؤوا بممارسة نشاط حثيث في مجال التحريض على القانون. وهؤلاء، يعملون بشكل علني، وفي وضح النهار، فبالأمس أحد هؤلاء ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي مقارنة بين أسعار بعض السلع التي اختارها بعناية، حيث تبدو الأسعار في المناطق المحررة أكثر ارتفاعا من الأسعار في مناطق النظام، متسائلا في النهاية: هل قانون قيصر يعاقبنا أم يعاقب النظام!

     رغم ذلك، فالآثار الجانبية لقانون قيصر أثرت بشكل واضح على الشريحة الأشد فقرا في المناطق المحررة، وهذه قضية لا يمكن إهمالها أبدا، ومن أجل إمكانية التغلب على الآثار السلبية، عقدت الكثير من الندوات والمناقشات، وقدمت بعض المقترحات، والكل أدلى بدلوه في هذا المجال. لكنه، وللأسف، تبدو أغلب الطروحات غير مجدية، والمسألة معقدة أكثر مما يتوقع البعض، فعلى سبيل المثال، قد يتسبب المقترح الأكثر رواجا، وهو استبدال العملة بإمداد النظام بالعملة الصعبة عن طريق المبادلات التي مازالت تحصل كشراء الأدوية مثلا، كما أنها قد تحرم المنطقة من جزء من الموارد التي تأتيها من خلال الرواتب التي لا زال بعض الموظفين والمتقاعدين يتقاضونها. وبالتالي، حرمان هذه الشريحة من مصدر دخلها دونما تعويض.

    بعيدا عن الخوض في التفاصيل، يعتقد أن الحل الأمثل ربما يكون بإنشاء صندوق للتكافل الاجتماعي، أو الرعاية الاجتماعية، يمول من خلال اقتطاع جزء من مرتبات أصحاب الوظائف الدائمة كل حسب دخله، بالإضافة إلى أصحاب المحال التجارية، كما يمكن فتح باب للمساهمة في هذا الصندوق لمن يرغب من المغتربين. وبكل تأكيد، قد يصطدم هذا المشروع ببعض العقبات، ويأتي على رأسها التشكيك بنزاهة القائمين على هذه المهمة، وهو حق مشروع؛ لأن هذ الداء الموروث ما زال مستشريا في المناطق المحررة. ومن أجل التغلب على هذه المشكلة يمكن اعتماد مبدأ الشفافية كتجربة تنفذ للمرة الأولى، والتي تعني أن يكون كل شيء مكشوفا وواضحا، فمن خلال المعرفات يتم عرض كافة الأنشطة والعمليات، بحيث تظهر أسماء المساهمين، وكمية المبالغ المجموعة، وعدد وأسماء العوائل المستفيدة... وهكذا.

    كما تفوق بعض المغتربين على أنفسهم واقتحموا ردهات وأروقة دوائر صنع القرار في العواصم المهمة، منجزين قانون قيصر، فليحذو الجميع حذوهم، فنحن بحاجة للتصدي للطابور الخامس الذي يعمل بحرية مطلقة، كما أننا بحاجة للتكافل الاجتماعي الذي نحن أهل له، أو لإجراء آخر يمكن أن يخفف من معاناة الفقراء، فالنظام السوري في الجولات الأخيرة تلقى لكمتين قاسيتين جدا: الأولى منعه من اجتياح إدلب، والذي كان يهدف من خلاله مساومة العالم: إما رفع العقوبات، وإما استقبال ملايين المهجرين. والثانية، قانون قيصر، وهو الآن يترنح، فلنتعاون معا لدفعه إلى السقوط والاستسلام، إن قمة التفوق: معرفة من أين تؤكل الكتف.