• مقال: الإخوان المسلمون الفلسطينيون ونشأة فتح (2)

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    أشرنا في المقال السابق إلى علاقة الإخوان المسلمين الفلسطينيين ببدايات فتح في الكويت وقطاع غزة. ونتابع في هذا المقال الإشارة إلى هذه العلاقة في بعض البلدان الأخرى:

    مصر:

    كما ذكرنا سابقاً، فإن بؤرة النقاش التي أدت لفكرة فتح، تركزت على ما يبدو وسط طلاب الإخوان في الجامعات المصرية، خصوصاً سنة 1956. ظهرت الدعوة لفتح في القاهرة سنة 1958 تقريباً، وقد حاول ياسر عرفات إقناع زميله عدنان النحوي، مسؤول الإخوان الفلسطينييين، بالانضمام لفتح، وضم من معه من الإخوان إليها، لكنه لم ينجح، غير أن فتح أخذت تنتشر في الوسط الإخواني بشكل فردي هادئ.

    واختار رواد فتح الأوائل في القاهرة، على الأغلب، الاستمرار في عضوية الإخوان، في بدايات مشوارهم مع فتح، ومالوا إلى متابعة تجنيد من يمكن تجنيده من الإخوان، ثم انسحبوا لاحقاً بشكل هادئ. وكان من أبرز النماذج رياض الزعنون الذي كان مسؤولاً بارزاً في العمل الطلابي الإخواني في القطاع، وفي مراحل دراسته الأولى في القاهرة. وكان هناك عبد الله صيام، الذي كان من أبرز الناشطين العمل العسكري الإخواني الخاص إلى جانب خليل الوزير. وقد حاول صيام في أثناء إقامته في القاهرة أن يُجنّد أعضاء أسرته الإخوانية في فتح، وكان من بين أفراد الأسرة محمد صيام وعبد الرحمن بارود.

    الضفة الغربية وشرق الأردن:

    في الأردن، بما في ذلك الضفة الغربية (التي كان قد تم توحيدها مع شرق الأردن منذ سنة 1950)، مثَّل الإخوان حاضنة مهمة وأساسية لبدايات حركة فتح. وبحسب هاشم عزام، الذي كان من الإخوان الذين انتموا لفتح في أواخر الخمسينيات، فإن قادة الثورة (فتح) في الأردن "كلهم كانوا إخوان مسلمين في البداية".

    ويظهر أن مخيم عقبة جبر قرب أريحا (حيث كان يقيم فيه نحو 70 ألف لاجئ) كان أحد أبرز محاضن بدايات فتح في الضفة الغربية. فقد كان من أوائل القادمين إليه (ممن أصبحوا من مؤسسي فتح) حمد العايدي (أبو سامي) الذي كان مساعداً لخليل الوزير في العمل العسكري الخاص للإخوان في القطاع، إذ هرب من القطاع سنة 1954. فقد تولى مسؤولية قسم الطلاب في شعبة الإخوان في المخيم؛ كما تولى أمانة سر الشعبة نفسها. واستقر في المخيم سنة 1957 عبد الفتاح حمود بعد تخرجه مهندساً للبترول من جامعة القاهرة، وكان نائباً لرئيس رابطة الطلبة الفلسطينيين (ياسر عرفات، ثم صلاح خلف)، وكان من نشطاء الإخوان البارزين. وقد استلم حمود رئاسة قسم الطلاب في عقبة جبر خلفاً للعايدي، وحقق قفزة نوعية في تنظيم الطلبة الإخوان، وفي الشعبة ككل. وبحسب هاشم عزام، فقد كانت بداية العمل مع فتح في سنة 1959، بناء على ترتيبات قام بها عبد الفتاح حمود.

    وانتقل للإقامة في مخيم عقبة جبر محمد يوسف النجار، الذي كان من قادة النظام الخاص للإخوان في منطقة رفح، وكان من أطول القيادات المؤسسة لفتح إقامة في المخيم. وقد غادر للعمل في قطر سنة 1960.

    وفي القدس كان من الإخوان القياديين الذين انضموا لفتح رمضان البنا، الذي كان سكرتيراً لكامل الشريف في المؤتمر الإسلامي في القدس. ومن القدس أيضاً زكريا قنيبي وموسى غوشة (شقيق إبراهيم غوشة).

    وفي شرق الأردن في عمَّان، كان من رواد فتح من ذوي الخلفية الإخوانية محمد غنيم (أبو ماهر)، وعبد الله جبر، ومحمد أبو سردانة (وكان في التنظيم الخاص في قطاع غزة مساعداً لخيري الأغا).

    وفي الأردن أيضاً، حافظ خليل الوزير على علاقته القوية بكامل الشريف، الذي كان قائداً لأبي جهاد ضمن التنظيم الخاص من مكان إقامته في العريش. وحسب الشريف نفسه، فمنذ تأسيس فتح كان أبو جهاد وعرفات كثيراً ما يرجعون إليه مستشيرين فيما يتعلق بالحركة. وعندما انعقد المؤتمر التأسيسي لفتح سنة 1962 أصرَّت قيادة فتح على حضور الشريف للمؤتمر، وقام خليل الوزير ورمضان البنا بأخذه إلى الكويت من لاجوس (عاصمة نيجيريا) حيث كان سفيراً للأردن هناك.

    وهناك شخصيتان قياديتان فتحاويتان (من أبناء الضفة الغربية) أشار يزيد صايغ إلى خلفية إخوانية لهما، دون أن تسعفنا المعلومات المتوفرة لدينا بتأكيد ذلك، هما ماجد أبو شرار وأحمد قريع.

    قطر:

    تمثل قطر حالة فريدة في البيئة الإخوانية التي تمكنت عناصر فتح فيها من التموضع القيادي في التنظيم، و"اقتناص" وتجنيد أفراد الإخوان فيها. فمن ناحية كان رفيق النتشة الذي وصل لقطر سنة 1958 مسؤولاً عن الإخوان القادمين من الأردن (شرق الأردن والضفة الغربية)؛ بينما كان محمد يوسف النجار الذي وصل لقطر سنة 1960 مسؤولاً عن الإخوان الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة. وسهَّل مهمتهما أن الإخوان المصريين (وكانوا أصحاب نفوذ خصوصاً في دائرة التعليم (المعارف)، التي أصبحت وزارة التربية لاحقاً) كانوا ينظرون بإيجابية لفتح وعناصرها القيادية، بل ويعتبرونها حركة "إخوانية".

    وقد قوّى من وضع فتح في الوسط الإخواني في قطر قدوم أحمد رجب عبد المجيد الأسمر، وسعيد تيم، وكمال عدوان وعبد الفتاح حمود، وفتحي البلعاوي.

    لبنان:

    كانت جماعة عباد الرحمن تمثل الوجه المعلن للإخوان المسلمين في خمسينيات القرن العشرين، وكان توفيق راشد حوري، نائب الأمين العام لجمعية عباد الرحمن منذ الخمسينيات، واستمر في منصبه فترة طويلة. وكان لقادة فتح المؤسسين (خصوصاً خليل الزير وياسر عرفات) علاقة قوية بحوري؛ وهو الذي وفر لهم الغطاء لإصدار مجلة "فلسطيننا"، التي كانت أداة رئيسية لنشر فكر فتح، وهو الذي صاغ البيان الأول لانطلاقة حركة فتح. وهناك أيضاً العضو في جماعة عباد الرحمن هاني فاخوري الذي كان له دور أساس في ترتيبات جمع التبرعات وتحويل الدعم المالي لصالح حركة فتح.

    وفي الوسط الفلسطيني في لبنان، كان محمد عبد الهادي (أبو الهيثم) من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً قيادياً حركياً منذ الخمسينيات، فقد كان مسؤولاً في جماعة عباد الرحمن في مخيم عين الحلوة. وذكر عبد الهادي لكاتب هذه السطور بأن ياسر عرفات كان يحضر إلى صيدا، وينام في بيوت الإخوان، ومن بينهم أحمد الأطرش. وكان أحمد الأطرش من أوائل شباب الإخوان الذين التزموا مع حركة فتح، واستشهد في التدريب خلال إحدى الدورات العسكرية. وقد عُيّن محمد عبد الهادي مسؤولاً إعلامياً في أول مكتب حركي لفتح تشكل في المنطقة؛ حيث عمل في مجال التعبئة.

    سوريا:

    وبحسب دراسة يزيد صايغ، فإن هاني الحسن ومحمود عباس كانا من بين كثيرين من الشبان الفلسطينيين الذين انضموا للإخوان المسلمين في سوريا في أوائل الخمسينيات. غير أن معظم مصادر الإخوان تنفي أو لا تشير إلى انضمام محمود عباس للإخوان، عدا مصدر واحد هو عبد الله أبو عزة، ولعل هذا الانتماء كان لفترة ضئيلة في أثناء إقامته في سوريا.

    السعودية:

    كان خليل الوزير من أوائل من ذهب للسعودية، ورتب لعدد من رفاقه العمل فيها منذ منتصف الخمسينيات؛ غير أن أبا جهاد لم يمكث فيها إلا قليلاً.

    ومن أوائل من استقروا في السعودية ممن كان لهم دور تأسيسي في فتح، ومن ذوي الخلفية الإخوانية، سليمان أبو كرش (أبو خالد)، وسعيد المزين ( أبو هشام) المعروف بـ"فتى الثورة" وهو من أبرز شعراء الثورة الفلسطينية. وهناك أيضاً عبد الفتاح حمود وكمال عدوان اللذان عملا في المنطقة الشرقية قبل أن ينتقلا إلى قطر.

    تقييم:

    نلاحظ مما سبق أن جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، كانت الحاضنة الأولى لنشأة حركة فتح، وخصوصا بين أفرادها من أبناء قطاع غزة. ولكن المبادرة لإنشاء هذه الحركة لم تكن بقرار من قيادة الإخوان الفلسطينيين في قطاع غزة، وإنما من عدد من القيادات التي كانت تتمتع بدينامية عالية، وتملك قدرا كبيرا من النشاط والتأثير في الأفراد. حيث كان أعضاء الإخوان ينظرون إلى هذه القيادات باحترام ويفترضون (في جو العمل السري) أن ما يصدر عن هذه القيادات هو توجه الإخوان، خصوصا أولئك الذين يصعب عليهم الاتصال المباشر بالقيادة، كأفراد الإخوان في الكويت وقطر والسعودية.

    إن رواد فتح اختطوا مسارها بعد أن لم تتجاوب قيادة الإخوان في قطاع غزة مع المشروع الذي قدموه لها في صيف 1957، بإنشاء ما عرف لاحقا بحركة فتح، ووجدوا أن عليهم أن يأخذوا زمام المبادرة بأنفسهم دون مزيد من الانتظار، حتى تُغيِّر هذه القيادة قناعاتها، أو حتى تتحسَّن الظروف التي قد تؤدي إلى ذلك. ولم يكن خلاف الإخوان الفلسطينيين مع فتح على فكرة المقاومة والجهاد، ولا على العمل في إطار وطني، وإنما على التوقيت، وإمكانات النجاح، والقدرة على التحكم في مسارات الحركة. وكانت قيادة الإخوان ترى أن ظروف الملاحقة الأمنية الشرسة للإخوان، وصعوبة العمل العلني أو شبه العلني المنظم، لا توفر حدا أدنى لنجاح العمل، خصوصا إذا ما أراد الإخوان أن يسير ضمن معاييرهم، أو إن كُشفت علاقته بالإخوان.

    غير أن خروج عناصر فتح بشكل عام كان هادئا وليس حادا. أما الصدامات التي وقعت في قطر، فكانت أساسا نتيجة رغبة القيادات الفتحاوية في البقاء في مواقع النفوذ في التنظيم الفلسطيني، وليس بسبب الرغبة بالخروج.

    وقد تعرَّض تنظيم الإخوان الفلسطينيين لهزة كبيرة، بخروج عدد لا يستهان به من عناصره القيادية التي شكلت حركة فتح، وهي عناصر نوعية تميزت بالكفاءة والحيوية وروح المبادرة؛ ومعظمها كانت قيادات وكوادر أساسية في العمل العسكري الخاص، الذي شكَّله الإخوان في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين. (وقد ذكرنا في الحلقتين السابقتين أسماء الكثير من المؤسسين في الكويت وقطاع غزة والضفة الغربية والأردن والسعودية وقطر ومصر وسوريا ولبنان)، وإن عدم قيام قيادة الإخوان الفلسطينيين من أبناء القطاع بترتيب بنيتها التنظيمية الداخلية، وضبط العلاقة بأفرادها الذين انتقلوا للإقامة في الخارج، إلاَّ في مطلع الستينيات؛ قد أعطى حركة فتح مساحة واسعة للعمل في الوسط الإخواني؛ حيث أسهمت "البيئة الرخوة" و"المنطقة الرمادية" في تسهيل قيام العديد من رموز الإخوان الذين أصبحوا قيادات في فتح بتجنيد الكثير من أفضل الكفاءات والطاقات الإخوانية، قبل أن يلملم تنظيم الإخوان المسلمين في قطاع غزة نفسه، ويوسع دائرة فروعه للأقطار العربية (عدا الأردن) ويأمر أعضاءه بالتمايز عن فتح.

    وقد استفاد مؤسسو فتح من خبرتهم التنظيمية والأمنية والعسكرية في الإخوان، وتحديدا في العمل الخاص؛ حيث شكل ذلك رصيدا مهما، أمكن الاستفادة منه في بناء التنظيم الجديد، وقاعدة انطلاق لحركة فتح. كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا مع متطوعي الإخوان في حرب القناة ضد الإنجليز (1951-1954) وتحديدا ياسر عرفات، كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا في حرب 1948 وتحديدا يوسف عميرة وكامل الشريف.

    إن القراءة المتأنية لسلوك عناصر الإخوان التي شاركت في فتح في السنوات الثلاث الأولى من نشأتها على الأقل (1960-1957)، تشير إلى أن الكثير من هذه العناصر استمر في عضويته في الإخوان، واستفاد من موقعه القيادي والتنظيمي في تجنيد عناصر الإخوان النوعية، لدرجة أشعرت قيادة الإخوان الفلسطينيين بنوع من "التهديد الوجودي" لتنظيمهم على حد تعبير عبد الله أبو عزة، أحد أبرز قيادات الإخوان. ومن ثمّ، فإن ترعرع فتح وانتشارها في الحاضنة الإخوانية، كان سببا رئيسيا لدفع قيادة الإخوان في غزة لإعادة بناء التنظيم الفلسطيني، وتوحيده تحت قيادة واحدة، واتخاذ قرار التمايز والمفاصلة مع فتح. وفي الوقت نفسه، لم يكن ثمة إجماع في الوسط القيادي الإخواني الفلسطيني على المفاصلة مع فتح؛ حيث ظلت بعض الأصوات تنادي بضرورة أو المشاركة الكلية أو الجزئية على الأقل، كما في آراء سليمان حمد ومحمد الخضري. وهو ما أثمر لاحقا في معسكرات الشيوخ.

    من جهة أخرى، فقد استفادت قيادات فتح ذات الخلفية الإخوانية من شبكات العلاقات وإمكانات الدعم المادي والمعنوي، التي وفرتها جماعات الإخوان في مختلف الدول سياسيا وماليا وإعلاميا وعسكريا؛ مما مهّد لفتح وسائل انتشار ودعم لوجيستي مبكرة. إذ إن العديد من قيادات تنظيمات الإخوان ظلت تتعامل بشكل إيجابي مع فتح، ولم تلتزم بالضرورة بموقف الإخوان الفلسطينيين منها، حتى بعد قرار المفاصلة، كما رأينا في نماذج من الإخوان المصريين والكويتيين والأردنيين والسوريين.

    وعلى أي حال، فلا ينبغي للإخوان أن يبالغوا في نسبة حركة فتح إليهم، كما لا ينبغي لحركة فتح أن تتنكر لجذورها وبداياتها الأولى، فإذا كان الإخوان هم المحضن الذي خرجت منه الفكرة وبداياتها الأولى، فإن فتح لم تنشأ بقرار من قيادة الإخوان ولا وفق خططهم، كما أن مشروعها لم يحمل أيديولوجية الإخوان، ولا الضوابط التي تضمن سيره كمشروع يخدم أهدافهم. وعندما طالبت قيادة الإخوان في غزة بالإشراف المباشر على فتح، رفضت قيادة فتح ذلك. وهذا، وإن كان يدل على وجود صلة قوية بين الإخوان وفتح، إلا أنه يدل على أن قيادة فتح كانت تملك من الجرأة والثقة ما جعلها ترفض التوجيه، كما يدل أن فتح كانت قد اختطت منذ أمدٍ خطا مستقلا في التعبئة والتنظيم والعمل.

    وربما تعود حالة الالتباس لدى العديد من الباحثين حول نشأة فتح، إلى أن بعض القيادات الفتحاوية التي اتجهت اتجاهات علمانية أو قومية أو وطنية مختلفة، حاولت أن تنفي لاحقا خلفياتها الإخوانية (كما فعل صلاح خلف/ أبو إياد)، أو أن تقلل المدى الزمني لعضويتها، خصوصا أن التجربة الإخوانية تحولت إلى فترة عابرة في حياتها، كما لم يكن ثمة مصلحة في ذكر هذه الخلفية، في ضوء حالة العداء والنظرة السلبية للإخوان التي طبعت سلوك العديد من الأنظمة العربية، وخصوصا النظام المصري. ثم إن حالة التنافس التي نشأت وتصاعدت لاحقا مع جماعة الإخوان الفلسطينيين وحماس، دفعت باتجاه محاولة التخفيف من الخلفية الإخوانية لهؤلاء. وفوق ذلك، فإن الإخوان أنفسهم لم يكتبوا إلا قليلا حول الخلفيات التاريخية لنشأة فتح، في الوقت الذي لم يصل مؤرخو الحركة الوطنية الفلسطينية إلى العديد من شهود المرحلة من الإسلاميين الذين ظلوا على التزامهم "الإخواني"، بينما سجلوا الشهادات التاريخية لمناضلي فتح.

    وثمة ملاحظة أخيرة ومهمة، هي أن بعضا من القيادات الفتحاوية راعت حساسية ياسر عرفات ورمزيته، بعدم التركيز على تجربة العمل المقاوم التي سبقته؛ وهو ما أشار إليه محرر مجلة الدراسات الفلسطينية في استنتاجه لماذا قام خليل الوزير (أبو جهاد) بإتلاف معظم نسخ كراس "حركة فتح: البدايات" وإيقاف توزيعه؛ من أنه يُرجِّح أن ذلك يعود للرغبة في عدم إغضاب ياسر عرفات وصلاح خلف، لأن فترة العمل العسكري في النصف الأول من الخمسينيات لا تشير لدور لهما في ذلك، وتمّت قبل لقائه الأول بعرفات. من ناحية ثانية، فإن أبا جهاد في كراسه الذي أعد سنة 1986 بدا أكثر حذرا في الإشارة إلى الإخوان من مقابلته التي أجراها مع سلوى العمد في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1980. (انظر: خليل الوزير، "حركة فتح: البدايات،" مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 104، خريف 2015).

    وعلى سبيل المثال، في مراعاة الحساسيات، فإن فتحي البلعاوي لم يتطرق في أوراقه لانتخابات الدورة الثالثة لرابطة طلبة فلسطين في مصر؛ ربما (كما أشار معين الطاهر الذي حرر الأوراق) لأنه في تلك السنة ترأس عبد الفتاح حمود قائمة الإخوان في مواجهة قائمة منافسة شكلها ياسر عرفات حيث فازت قائمة الإخوان بكافة المقاعد، لأن البلعاوي عندما تحدث عنها كان لا يرغب في إحراج ياسر عرفات؛ الذي أصبح لاحقا زعيما للشعب الفلسطيني، بينما أصبح البلعاوي نفسه عضوا (وإن كان مؤسسا) في حركة فتح التي يترأسها عرفات. (انظر: معين الطاهر، "بين تأسيس رابطة طلاب فلسطين ومقاومة الإسكان والتوطين: أوراق فتحي البلعاوي،" مجلة أسطور، العدد 5، كانون الثاني/ يناير 2017).

    وأخيرا، فليس ثمة "إنجاز" تاريخي كبير من الفكرة التي يريد المقال توصيلها، وإنما هي محاولة بسيطة لوضع بعض النقاط في سياقها التاريخي الصحيح. وعلى كل حال، فليس ثمة كثير فخر الآن لدى فتح بخلفيتها الإخوانية، وليس ثمة كثير فخر لدى الإخوان بخلفية فتح؛ خصوصا أن تأثير الخلفية اقتصر على البدايات الأولى، إذ لم يطل الزمان بفتح إلى أن تحولت إلى حركة علمانية براغماتية بهوية وطنية، ومسارات نضالية واجتهادات سياسية خاصة.

    ولعل أبرز درسين من هذه التجربة؛ أن العمل لفلسطين قد يحتمل تخفيف قوة الموجة، لكنه لا يحتمل الانكفاء والانعزال؛ وإن حدث فهو للاستثناء وللضرورة التي تقدر بقدرها. وإن عدم قدرة جماعة الإخوان على استيعاب وتوجيه طاقة مجموعة من أفضل كفاءاتها (لأسباب ذاتية وموضوعية)، قد أدى إلى خسارتها، وإلى ملء هذه الكفاءات للساحة الفلسطينية بطريقة أثَّرت لاحقا على المسار الوطني الفلسطيني. والدرس الثاني هو لأولئك الذين لا ينتبهون إلى ضبط مساراتهم وحسم خطوطهم الحمراء (العقائدية والأيديولوجية)، ويستجيبون للتكتيكات والاعتبارات البراغماتية المصلحية، ويتخففون من التزاماتهم (الدينية والسلوكية والفكرية)، قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، وقد ابتعدوا عن أهدافهم، وتغيرت معاييرهم، وتضاءلت قيمهم. وربما وجد بعضهم نفسه في أحضان خصومه!!

  • مقال: المقاومة الفلسطينية من 1948 إلى انطلاقة فتح: خليل الوزير والنظام الخاص للإخوان (2)

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    أشرنا فيالمقال السابق إلى أن كامل الشريف استمر في العمل المقاوم بعد حرب 1948، عبر قطاع غزة وسيناء. ويظهر لنا، من خلال مجموعة من المصادر والمقابلات مع مشاركين في تلك الحداث، أن الشريف ورفاقه كانوا يتابعون خطين للعمل العسكري "الإخواني" المقاوم: الأول مرتبط بإنشاء وتطوير عمل "النظام الخاص" في القطاع من خلال شباب الإخوان المسلمين، ليأخذ شكلاً صلباً مستقراً، وإن كان يحتاج وقتاً حتى تظهر ثماره، والثاني متابعة العمل العسكري من خلال شبكة المجاهدين والعلاقات التي كَوَّنها الشريف في حرب 1948، والتي تعتمد أساساً على عناصر من الإخوان الأكبر سناً، وعناصر من غير الإخوان، المستعدين للعمل تحت إشرافهم أو بالتعاون معهم. وهذه العناصر كانت في غالبها من البدو الجاهزين للقتال، والخبراء بمناطق جنوب فلسطين ذات الطبيعة الصحراوية. ونركز في هذا المقال على "النظام الخاص"الذي أنشأه الإخوان في القطاع.

    "النظام الخاص" في القطاع:

    يذكر أعضاء هذا التنظيم العسكري الخاص الذين قابلهم الباحث (محمد الخضري، وفوزي جبر، وخيري الأغا، ومحمد صيام) أن هذا العمل كان عملاً سرياً منظماً جداً. ولضمان نجاح العمل، لم يكن هذا النشاط موضوعاً تحت إشراف القيادة الرسمية "التقليدية" للإخوان في غزة. ولكن كانت له صلة وصل بكامل الشريف في العريش، الذي كانت تتم متابعته تنظيمياً من عضو مكتب الإرشاد الشيخ محمد فرغلي.

    وكان من بين "الإخوان" الذين نشطوا تحت إمرة الشريف في قطاع غزة خليل الوزير (أبو جهاد)، حيث أسهمت سمعة الإخوان الطيبة في حرب 1948 في انضمامه للإخوان سنة 1951. ويذكر الوزير (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد، ونشرتها جريدة السفير، 25/4/1988) أنهم في سنة 1949 عندما كانوا يَسألون الناس، كان أغلبهم يقولون لهم إنهم قاتلوا في صفوف الإخوان المسلمين. وهذا مما قوى علاقة الإخوان بالشباب في قطاع غزة. ويضيف: "لقد استهوتنا تجربة "الإخوان" كمجموعة شباب، خاصة وأنه لم تكن في القطاع قوى سياسية سوى "الإخوان المسلمين" والشيوعيين. الشيوعيون كانوا قلة، وكانت لهم نظرة خاصة للأمور، لا تلتقي ومشاعر الناس... أما الكثرة المنفتحة فكانت تنسق مع شباب الإخوان".

    وفي مقابلة مع كاتب هذه السطور، أكد كامل الشريف وجود هذا العمل المسلح المنظم، وأنه كان له نقباؤه في كافة مناطق القطاع. وأن الأشخاص المعنيين بهذا العمل في القطاع، مثل محمد أبو سيدو وخليل الوزير (أبو جهاد) كانوا يزورونه بشكل منتظم، لاستلام الأوامر ولمتابعة العمل. وقد أشار عدد من أعضاء هذا الجهاز الذين قابلهم الكاتب، أن الأوامر كانت تأتي بالفعل من كامل الشريف، وكذلك من أخيه محمود الشريف، بالإضافة إلى عباس السيسي (من الإخوان المصريين) الذي كان يقيم أيضاً في العريش.

    وكان أبو سيدو صلة وصلٍ رئيسية بين الشريف وبين القيادات في القطاع، فقد كان يعمل سباكاً في الجيش المصري في العريش، وكان معتاداً على العودة إلى غزة في عطلة نهاية الأسبوع. وقد وفر له ذلك غطاء مناسباً لتوصيل المعلومات والتعليمات، ابتداء من رفح مروراً، بخان يونس، ووصولاً إلى مكان إقامته في غزة.

    من ناحية تنظيمية، تمّ تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق:

    1- غزة: ويتولى قيادتها خليل الوزير (أبو جهاد)، وكان من بين مساعديه فوزي جبر، ومحمد الخضري، ومعاذ عابد، وعبده أبو مريحيل، وحمد العايدي.

    2- الوسطى (خان يونس): ويتولى قيادتها خيري الأغا.

    3- الجنوب (رفح): ويتولى قيادتها محمد يوسف النجار؛ وكان يساعده موسى نصار، وتولى إبراهيم عاشور في وقت لاحق القيادة مكان النجار.

    ومن بين أعداد كبيرة من الطلاب الإخوان، كان يتم انتقاء دقيق للأفراد بناء على مواصفات محددة، خصوصاً أولئك الملتزمين، النشطين، الكتومين، الذين لا يواجهون مشاكل اجتماعية. وكان عباس السيسي وأبو سيدو يتنقلان بين شُعب الإخوان لتجنيد الأعضاء، ولعب أبو جهاد دوراً نشطاً في تجنيد عدة مجموعات من الإخوان.

    وكان رياض الزعنون عضواً نشطاً في "الجهاز الخاص"، وكان مسؤولاً عن قسم الطلاب في المدارس المتوسطة والثانوية؛ وكان طالباً في مدرسة فلسطين الثانوية، وكان من الأعضاء الناشطين ابراهيم عاشور،ومحمد الإفرنجي، وعبد الله صيام.

    أُسرة الحق:

    وكانت هناك مجموعة يُنظر إليها كمجموعة غير منضبطة، وكان في عضويتها سليم الزعنون وصلاح خلف (أبو إياد) وسعيد المزين (أبو هشام). وكانت تطلق على نفسها اسم "أُسرة الحق" أو "كتيبة الحق". غير أن خليل الوزير تمكن من استيعابها في التنظيم العسكري الخاص..وقد استخدم القسم العسكري اسم "شباب الثأر الأحرار" لإصدار بيانات وتصريحات في الفترة 1953-1956. وقد أشار الباحث زياد أبو عمرو إلى هاتين المجموعتين في دراسته حول الإخوان المسلمين في قطاع غزة، غير أنه قدمهما على أنهما مجموعتان تخططان لأعمال عسكرية؛ ولم يُشر إلى أنهما كانتا ضمن التنظيم الإخواني العسكري في القطاع. وقد ذكر أبو عمرو أسماء أخرى ضمن هاتين المجموعتين، مثل أسعد الصفطاوي، وعمر أبو الخير، وإسماعيل سويرجو، ومحمد النونو، وحسن عبد الماجد.

    عمليات مقاومة:

    كانت عملية التدريب متناسبة مع الإمكانات المحدودة للتنظيم، ومع البيئة السريّة للعمل. غير أنها استفادت من إمكانات الإخوان المصريين، ومن الضباط الإخوان في الجيش المصري، والمتعاطفين مع الإخوان والمقاومة. كما استفادت من غطاء المخيمات الكشفية في التدريب الخشن وشبه العسكري، لتوفير حدٍّ أدنى مرتبط باللياقة البدنية والانضباط والاستعداد الرجولي للتضحية.

    ويذكر أبو عزة أن الاهتمام بالتدريب العسكري كان أمراً طبيعياً في الوسط الإخواني الفلسطيني في قطاع غزة، باعتبار أن حركة الإخوان هي حركة جهادية.

    ويشير أبو جهاد (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد) إلى قيامه وإخوانه بعمليات زراعة ألغام، في المناطق المقابلة لمنطقة المنطار في غزة، وعلى طريق غزة- بئر السبع، وفي مكان متقدم من الطريق إلى المجدل، ومن المجدل إلى الفالوجة، كما كان يتم نسف أنابيب المياه في المستعمرات. وبحسب الوزير، فإن العمليات تعددت وتوسعت تدريجياً حتى وصلت إلى منطقة يازور قرب يافا.

    أما العملية الأبرز التي تحدث عنها أبو جهاد فهي عملية تفجير خزان زوهر، وهو سدّ مياه قرب منطقة الفالوجة، وهو جزء من مشروع المياه القُطري الإسرائيلي. وبحسب أبي جهاد، فقد قامت إحدى المجموعات بزرع عدد من "التنكات" المليئة بمادة "تي.إن.تي" (TNT) في 25 شباط/ فبراير 1955، فانفجر الخزان بشكل هائل، وتدفقت المياه وغطت مساحات واسعة من الأرض إلى أن وصلت إلى منطقة "بيت لاهيا"، لتصبُّ بعد ذلك في البحر المتوسط. وهي حسب رأي الوزير العمليةُ التي استدعت العدوان الانتقامي الإسرائيلي الكبير في 28 شباط/ فبراير 1955؛ والتي شكلت نقطة تحول في السياسة المصرية. فتحت ضغط المظاهرات الواسعة في القطاع المطالبة بتسليح أهله وتجنيدهم للقتال، والمطالبة بإسقاط مشروع التوطين في سيناء، قام عبد الناصر بتكليف مصطفى حافظ بتنفيذ حرب عصابات ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما تمّ إلغاء مشروع التوطين في سيناء.

    لم نجد في دراسة بني موريس الشاملة، حول الاشتباكات الحدودية ومحاولات اختراق الحدود بين البلدان العربية و"إسرائيل" في الفترة 1949-1956، ما يشير إلى عملية خزان زوهر التي تحدث عنها الوزير؛ كما لم نجد في الوثائق البريطانية ما يشير لذلك في تلك الفترة. ولم يجد الباحث يزيد صايغ أيضاً ما يؤكدها، حسبما أشار في كتابه "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة"، وإن كان ذلك لا ينفي أن العملية قد وقعت. وثمة إشارات في الوثائق البريطانية إلى عملية وقعت في ليل 23 شباط/ فبراير 1955 في ريشونلازيون جنوب تل أبيب، وإلى عملية أخرى أدت لقتل إسرائيلي في منطقة القبيبة بعد ذلك بيومين (25 شباط/ فبراير 1955) على بعد 15 كيلومتراً جنوب شرق تل أبيب (35 كيلو متراً شمال قطاع غزة).

    نفذ عبد الله صيام عمليات من شمال غزة، بينما نفذ حمد العايدي عمليات من الوسط، ونفذ إبراهيم عاشور عمليات من الجنوب. وكان محمد صيام من بين أولئك الأعضاء المسؤولين عن تزويد عبد الله صيام بالسلاح والذخيرة، وكان من بين هجماتهم الهجوم على محطة القطارات في المجدل. وقد ركز عبد الله صيام على منطقة المجدل، حيث نفّذ عمليتين أو ثلاثة. وقد قبضت السلطات المصرية على عبد الله صيام عندما كان يحاول اجتياز الحدود لتنفيذ إحدى العمليات، كما اعتقل خليل الوزير على خلفية اتهامه بإعداد لُغم، غير أنه تمّ "لفلفة" القضية من خلال بعض "الواسطات" والاتصالات، وأفرج عنه بكفالة مالية بعد أسبوع من اعتقاله.

    وأشار موريس، بناء على تقارير المخابرات الإسرائيلية، إلى أن مجموعة من "الإخوان المسلمين" كانت نشيطة على طول خطوط قطاع غزة في النصف الثاني من سنة 1954؛ وأنها كانت تقوم بشكل متكرر بتدمير خطوط المياه المؤدية إلى مستعمرات النقب. وقد لاحظت مخابرات الجيش الإسرائيلي أنه في النصف الثاني من 1954 وبداية 1955 خفَّت حوادث اختراق الحدود بعد الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية، لمنع التسلل، وبعد توجيهها ضربة قاسية لجماعة الإخوان المسلمين.

    خلاصة:

    وعلى أي حال، فإن هذا "النظام الخاص" وإن كان بذل جهداً مقدراً في تجنيد الأفراد وتدريبهم، إلا أن أداءه كان متواضعاً على مستوى تنفيذ العمليات. إذ إن فترته الذهبية (1952-1954) لم تكن كافية لإطلاق عمل مسلح مقاوم فعال. وأياً تكن النتيجة، فإن هذا العمل عكس حرص وتوق شباب الإخوان للمقاومة المسلحة. ونحن عندما نقرأ هذه التجربة، في ضوء أحداث وظروف تلك المرحلة، فلعلنا نجد أنفسنا أمام عمل جاد منظم، وأداء عسكري أخذ قصب السبق والمبادرة مقارنة بكافة الاتجاهات السياسية والحزبية الفلسطينية. هذه التجربة لم تتمكن من النمو، خصوصاً لأسباب متعلقة بالصراع بين نظام عبد الناصر والإخوان، لكنها على الأقل وفّرت "الحاضنة" الأساسية لولادة حركة فتح لاحقاً.

    يتبع..

  • مقال: الوضع الفلسطيني الداخلي عام 2020: المسارات المتوقعة؟ …

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    على طريقة المثل الشعبي "فالج لا تعالج" أو القول المأثور عن سعد زغلول "مفيش فايدة يا صفية"؛ تبدو مسارات الوضع الداخلي الفلسطيني المتوقعة خلال سنة 2020 باعثة على الإحباط؛ إلا إذا دخلت عوامل جديدة خارج السياقات المعتادة.

    ابتداء، فإن الأزمة المزمنة للمشروع الوطني الفلسطيني ستستمر في هذه السنة على ما يبدو؛ لأن العناصر المسببة لها ما زالت حاضرة وحاكمة للأسف. فما زالت منظمة التحرير الفلسطينية تعاني من حالة العجز والتردي وانعدام الفعالية، ومن تعطل المؤسسات، ومن الفشل في استيعاب قوى كبيرة وفاعلة في الساحة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي.

    وما زال يتم تجاهل فلسطينيي الخارج الذين يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. ومنذ أكثر من خمسين عاماً، ما زال هناك فصيل واحد (فتح) يهيمن على صناعة القرار الفلسطيني، وعلى منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية، وُيصِرُّ على عقلية التحكم والتفرد. وفي الوقت نفسه، لا تظهر في الأفق بوادر جدية للتوافق على برنامج وطني فلسطيني يتجاوز الانقسام، ويعالج الصراع بين تياري المقاومة والتسوية؛ ويُحدّد أولويات العمل الوطني.

    من ناحية ثانية، فبالرغم من الأجواء الإيجابية التي سادت أواخر سنة 2019 في الحديث عن إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، وبالرغم من موافقة حماس والفصائل الفلسطينية على اشتراطات الرئيس عباس، بما في ذلك اعتماد النسبية الكاملة، وفك التزامن بين انتخابات رئاسة السلطة وانتخابات المجلس التشريعي؛ إلا أن الأجواء العامة لا تشجع على توقع انعقاد انتخابات حرة نزيهة خلال سنة 2020.

    وهذا لا يعود فقط إلى التعقيدات التي يضعها الاحتلال، خصوصاً مشاركة الفلسطينيين في شرقي القدس. وإنما لأن قيادة السلطة (قيادة فتح) ليست جادة في عقد انتخابات يمكن أن تفوز بها حماس، أو الخط الداعم للمقاومة. وقيادة حركة فتح التي عملت طوال السنوات الماضية لمحاصرة حماس وعزلها، وإخراجها من "الشرعية" الفلسطينية، وعطّلت كل مسارات المصالحة التي يمكن أن تؤدي إلى شراكة حقيقية في صنع القرار الفلسطيني (حكومة السلطة الفلسطينية، والمجلس التشريعي، ومنظمة التحرير...) ليس من المتوقع أن تكلّل جهودها، بفتح المجال لعودة حماس للسلطة، وفرض نفسها على الأجندة الوطنية، ولتنازعها "الشرعية" من جديد.

    وببساطة فإن استطلاعات الرأي، تعطي تفوقاً لخط حماس والمقاومة في الانتخابات القادمة، مما يعني عملياً تأجيلها بشكل مفتوح، وبأعذار مختلفة. يضاف إلى ذلك، أن حركة فتح نفسها تعاني صعوبات حقيقية في تشكيل قوائمها؛ كما تعاني سيطرةَ تيار دحلان على جانب لا يستهان به من شعبية فتح، خصوصاً في قطاع غزة.

    ثم إن الجانب الإسرائيلي والبيئات العربية والدولية، في الأوضاع الراهنة، لا تقبل بعقد انتخابات يمكن أن تجدّد الفوز و"الشرعية الرسمية" لحركة حماس ولـ"الإسلام السياسي" أو لخط المقاومة.

    أما الجانب الثالث في المسارات المحتملة، فهو أنه في الوقت الذي سيستمر فيه تدهور السلطة الفلسطينية خلال سنة 2020، وانهيار مشروعها في التحول إلى دولة فلسطينية حقيقية، وانكفائها إلى بنية مشوهة تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني؛ فإن العقلية التي تديرها ستستمر بالطريقة ذاتها دون مراجعات حقيقية أو قرارات حاسمة.

    والشكاوى من التغول الإسرائيلي الاستيطاني، ومن اقتطاع أموال الضرائب، ومن الاعتداء على المقدسات؛ ستكون شكاوى العاجزين. أما التهديدات بوقف العمل باتفاقات أوسلو وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل" فستكون أقرب للاستهلاك الإعلامي منها للإجراءات الجادة.

    بل لعل قيادة فتح ستكون مشغولة أكثر بـ"التمكين" لنفسها في الساحة الفلسطينية من خلال استخدام أدوات السلطة سواء في الإنفاق "الزبائني" على مؤيديها، ودعمهم سياسيّاً وأمنيّاً وإعلاميّاً، أم في الضغط على خصومها ومحاولة تهميشهم أو تطويعهم.

    وهذا الاتجاه الفتحاوي المنفرد جرى تكريسه في السنتين الماضيتين من خلال العقوبات على قطاع غزة، وعقد للمجلس الوطني، والمجالس المركزية بخلاف التوافق الفلسطيني، وحل للمجلس التشريعي، وتشكيل حكومة فتحاوية. وهو ما تسبب بعزلة فتح، ونفور الفصائل الفلسطينية داخل وخارج المنظمة من سياساتها؛ وهو اتجاه لا يظهر أن فتح جادة في العودة عنه خلال سنة 2020، أو فلنقل خلال حياة محمود عباس.

    وبناء على ذلك، ومن جهة رابعة فمن المتوقع أن يستمر مسار التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من قرارات المجلس المركزي الفلسطيني بوقفه، وبالرغم من إعلان الرئيس عباس وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الكيان الإسرائيلي في يوليو/ تموز 2019.

    ولعل قيادة فتح تدرك أن بقاء السلطة ومبرر وجودها "إسرائيلياً" مرهون أساساً بالتنسيق الأمني. وهو ما دفع عباس للتصريح أكثر من مرة بأن هذا التنسيق "مقدس". ومما يؤكد استمرار هذا المسار أن الجانب الأمريكي الذي أوقف كافة أشكال دعم السلطة الفلسطينية استثنى الأجهزة الأمنية وأقر لها 61 مليون دولار. كما أشارت تقارير إسرائيلية في مايو/ أيار 2019 بأن أجهزة أمن السلطة أحبطت 40% من عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

    من ناحية خامسة، فإن موضوع خلافة عباس، مع تزايد أعراض المرض والإعياء عليه (85 عاماً)، سيشغل جانباً من الهمِّ الفتحاوي، وهو انشغال سيشمل أيضاً الساحة الفلسطينية، والجهات العربية والدولية المعنية بالشأن الفلسطيني.

    إذ ثمة قلق من صعوبة لملمة "البيت الفتحاوي" بعد وفاة عباس، لعدم توفر شخصية كاريزمية تجتمع عليها فتح، سوى مروان البرغوثي الأسير في السجون الإسرائيلية. وبالإضافة إلى دحلان الذي يرغب في العودة قائداً للبيت الفتحاوي، فإن ثمة متطلعين يحاولون الاعتماد على القاعدة الفتحاوية، كما أن ثمة متطلعين آخرين يسعون للاستفادة من عوامل خارجية لتعزيز مواقعهم.

    وكما أن اختيار قائد جديد لفتح قد يعزز فرص فك عدد من "العُقد" الفلسطينية المرتبطة بمسار المصالحة والانتخابات وإصلاح منظمة التحرير، والموقف من مسار التسوية؛ فإنه قد يتسبب أيضاً في مزيد من التعقيدات، وفي مزيد من التراجع لفتح ومكانتها؛ خصوصاً إذا صعدت للواجهة شخصية تفتقد الكاريزما، وتستقوي بالسلطة وتنسيقها الأمني، وبالبيئة العربية والدولية لتثبيت مكانتها.

    المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) - تركيا، 21/1/2020