• الإدارة الذاتية وأزمة كورونا: قطاع صحي معتل وتحديات متزايدة

    تواجه منطقة شمال شرق سورية، التي تعاني أساساً من نقص طبي حاد وقطاع صحي معتل، تهديداً جديداً يفرضه فيروس كورونا المستجد الذي تتوقع العديد من المنظمات احتياجه لكافة مناطق سورية، أمرٌ تجاوبت معه "الإدارة الذاتية" بسلسلة من المناشدات والمطالبات بالدعم والمساندة، بالإضافة إلى اعلانها عن سلسلة من الإجراءات الاحترازية على عدة صعد؛

    يتناول هذا التقرير إطلالة عامة على واقع القطاع الصحي ومدى نجاعة السياسات التي اتبعتها "الإدارة الذاتية"؛ ويقف على أهم الاجراءات التي اتخذتها وأهم التحديات التي تواجهها.

    قطاع صحي هش

    تعاني مناطق شمال شرق سورية خلال حكم النظام من نقص في المستلزمات والمباني والكوادر الطبية؛ فعلى سبيل المثال وقبل الثورة في عام 2010 ووفقاً لمكتب الاحصاء المركزي فإنه لم يتجاوز عدد الأطباء في محافظة الحسكة أكثر من (1252) طبيباً، بمعدل (1166) شخص لكل طبيب، ولم يتجاوز عدد الصيادلة لم يتجاوز (690) صيدلانياً، أي بمعدل (2116) شخص لكل صيدلي، وضمت محافظة الحسكة آنذاك (32) مشفى بين حكومي وخاص يتوفر فيها (1348) سرير فقط، أي بمعدل سرير لكل (1083) شخص، إضافة إلى افتقارها لوجود مركز خدمة الأورام السرطانية، وبعض الأجهزة مثل المرنان المغناطيسي.

    والآن؛ وباستثناء المستشفى الوطني بالقامشلي؛ تسيطر "الإدارة الذاتية" على كافة المقرات والمباني الصحية في مناطق سيطرتها وتتولى "هيئة الصحة"  إدارة المستشفيات والمراكز الطبية معتمدة على كوادر بشرية قليلة (قسم منهم  موظفين لدى حكومة النظام، وقسم تم تدريبهم للتعامل مع الحالات الإسعافية والطارئة فقط)، خاصة بعد هجرة اكثر هذه الكوادر خارج البلاد لأسباب شتى؛ ولا تقدم "الإدارة" أي خدمات سوى دفع رواتب العاملين في القطاع الصحي واللقاحات الممنوحة لها من منظمة الصحة العالمية. ويشكل الدعم الخيري المقدم من المنظمات الدولية وغير الحكومية رافداً لحاجات القطاع الطبي والصحي إضافة إلى هبات يقدمها مغتربون أكراد في البلدان الأوروبية. وبتقريرها السنوي، أوضحت "الإدارة الذاتية" أنها في مجال الصحة قد أهلت وجهزت 58 مستوصف و8 مشافي بالإضافة إلى فتح مركزين للزنين المغناطيسي وتجهيز ثلاث غرف للعمليات وتجهيز بنك دم بأجهزة فحص مخبرية وتفعيل قسم الكلية بمشفى الفرات.

    وبدراسة أعدها مركز توثيق الانتهاكات في الشمال السوري بين أنه في مناطق الإدارة الذاتية يمكن أن يصاب بفيروس كورونا قرابة مليون شخص، من أصل 5 ملايين يسكنونها، وسيحتاج 13 ألف شخص مصاب على الأقل إلى وضعهم على أجهزة التنفس الصناعي. وقدر البحث أنّ هنالك بحدود 27 – 30 جهاز تنفس صناعي في مختلف المراكز الصحية، حيث أوضح الرئيس المشترك لهيئة الصحة في شمال وشرق سوريا جوان مصطفى: “نملك الآن 27 منفس هوائي، ونسعى إلى تأمين منافس أخرى ليصل العدد إلى 100” وأنّ عدد الغرف المتوفرة بالكاد يمكن أن يصل إلى 200 غرفة، قادرة على استيعاب حتى 1500 شخص فقط، فيما ولا يتوفر في مناطق الإدارة الذاتية سوى /28/ سريراً فقط في وحدات العناية المركزة في جميع مشافي المنطقة مجتمعةً، كما ليس هناك سوى طبيبين اثنين مدربين على كيفية التعامل مع أجهزة التنفّس، ما “سيؤدي إلى كارثة إنسانية مع انتشار الفايروس في ظل الإمكانيات المتوفرة” أي إنّ قدرة الاستيعاب قد تشمل فقط 5 %، كما أن الخطوة الكبيرة تأتي من أن الفيروس سيكون سريعاً في التفشي خاصة في المخيمات وعددها 15 مخيم وحوالي 35 مركز إيواء مؤقت يقطن بها ما يصل إلى 110 ألف.

    وحذّرت هيئة الصحة في بيان لها من نقص حاد في التجهيزات الأساسية والأدوية لعلاج المصابين، بينها الفحوص المخبرية للكشف عن الفيروس وعليه فإن  جميع العينات ترسل إلى مختبرات لتحليلها، وهو ما يجعل الإدارة الذاتية تعتمد على الحكومة السورية،  الأمر الذي يؤكد أن قطاع الصحة في الإدارة الذاتية لا يزال يفتقر لمقومات التأهيل والفاعلية سواء على المستوى الفني او البشري.

    مناشدات وإجراءات احترازية

    ناشدت "الإدارة الذاتية" المنظمات الإنسانية وجميع الجهات المعنية وحكومة إقليم كردستان العراق بضرورة تقديمها المساعدة لمنع انتشار فيروس "كورونا المستجد"؛  كما ناشد مدير مشفى السلام في القامشلي، منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، لتقديم المساعدة للمشافي الخاصة في المنطقة لمواجهة احتمالات تفشي فيروس "كورونا، وبناء على ذلك قدم التحالف الدولي ضد داعش – وفقاً للمركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية- كميات من الأدوية والمعدات الطبية  لمشافي الحسكة والشدادي ، كما أنه تم الاعلان عن مساعدة طبية من  التحالف لشرق الفرات بقيمة 1.2 مليون دولار.

    مؤخراً؛ أعلنت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية إيقاف حملات التجنيد الإجباري "واجب الدفاع الذاتي"، في المناطق التي تقع تحت إدارتها، مدة ثلاثة أشهر. وقالت الإدارة الذاتية في بيان، أنه "بدأ إيقاف الحملات فعلياً، منذ 5 نيسان 2020، ليستمر حتى 5 تموز2020، وذلك حرصاً على سلامة المواطنين من انتشار وباء كورونا.

  • التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية

    تقدير استراتيجي (103) – أيلول/ سبتمبر 2017.

    ملخص:

    سمحت الوضعية القانونية للفلسطينيين في سورية بممارسة وطنية شكلت الشخصية السياسية لهم من خلال تطور دورهم الريادي في مراحل النضال الفلسطيني المختلفة.

    لقد انقسم فلسطينيو سورية بوتيرة مشابهة لحال المجتمع السوري في اصطفافهم السياسي خلال الحرب الدائرة هناك، ووثقت التقارير الحقوقية حالة قتل واعتقال وتهجير مشابهة تقريباً للحالة السورية بالعموم.

    بعد ستة أعوام فإن سؤال المستقبل ما يزال يلقي بظلال ثقيلة وغامضة على وضع فلسطينيي سورية، خصوصاً مع تركز أكثر من ثلاثة أرباعهم في العاصمة دمشق التي تضاعف عدد سكانها من 4.4 ملايين في 2010 إلى 8 ملايين في 2016، وشهدت تحولات ديموجرافية نوعية. وهو ما يضعنا أمام ثلاث سيناريوهات محتملة، وهي:  السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. السيناريو الثاني هو عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011. وأما السيناريو الثالث فهو تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد. وعلى ما يبدو وفق المعطيات المتوفرة فإن السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحاً.

    أولاً: الفلسطينيون في سورية قبل الأزمة:

    يعتقد كثير من المراقبين لأحوال اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة أن أوضاع فلسطينيي سورية كانت الأوضاع الأفضل نسبياً من الناحية القانونية والسياسية والاجتماعية. فالمقارنة مع أوضاع اللاجئين في الدول المجاورة وخصوصاً لبنان، تُظهر فارقاً واضحاً لصالح الوضع القانوني الذي يتمتع به اللاجئ الفلسطيني في سورية. ففي سنة 1956 صدر القانون 260 الذي عدَّ اللاجئ الفلسطيني في سورية مساوياً للمواطن السوري في كافة الحقوق والواجبات ما عدا حقَي الترشح والانتخاب. وعُدَّ هذا القانون معياراً في السنوات اللاحقة لكثير من القوانين الصادرة عن الحكومات السورية المتعاقبة. وبالرغم من التفريق بين شرائح متنوعة من اللاجئين الفلسطينيين داخل سورية على قاعدة تاريخ اللجوء إلى البلاد، فقد بقي أكثر من 85% من فلسطينيي سورية مشمولين بوضع قانوني معادل للمواطن السوري في أغلب الحقوق والواجبات على أساس القانون 260.

    بقي المكون الفلسطيني في سورية يحمل طبيعة سياسية داخل البلاد بحكم الموقع الجيو-سياسي لسورية من جهة. وبحكم طبيعة النظام السياسي الذي حكم البلاد غالبية العقود الماضية منذ سنة 1963 حتى اليوم؛ فقد قامت الأسس المعيارية لنظام البعث في سورية على تبني موقف سياسي يجعل من القضية الفلسطينية في قلب خطابه وتحركاته كأحد أهم مكتسبات الشرعية السياسية داخلياً وعلى مستوى الإقليم. وهو ما جعل البيئة الوطنية بالنسبة للفلسطينيين في مخيماتهم تحظى بما هو أكثر من المسموح به على مستوى البلاد، فأسهم ذلك في بناء الشخصية الوطنية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، الذين طوروا دورهم في مختلف مراحل النضال الفلسطيني كطليعة استقطبت مستوى عالٍ للعمل الفلسطيني الفصائلي والشعبي والسياسي العام.

    ثانياً: الفلسطينيون في بدايات الأزمة السورية:

    ألقت حالة الاندماج المجتمعي بين الفلسطينيين والسوريين ظلالها على كل مفاصل الحياة العامة. ويبدو أنها كانت استحقاقاً لا مفر منه مع اندلاع الأحداث في الشارع السوري سنة 2011. فقد عاش الفلسطينيون في سورية في ترقبٍ قلقٍ من تطور أحداث الشارع السوري خلال الأشهر الأولى للأزمة في 2011، خصوصاً مع تعمد بعض الأطراف الرسمية الزجّ بالفلسطينيين في الأحداث في درعا واللاذقية، كمحاولة بدت لتطويق الاحتجاجات في الأحياء السورية، والإيحاء إعلامياً أنها ذات هوية غير محلية، كما حدث في التقارير الإعلامية للصحافة الرسمية وشبه الرسمية حول أحداث درعا في 21 آذار/ مارس 2011، وفي المؤتمر الصحفي لمستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان حول أحداث اللاذقية في 26 من الشهر نفسه. ومع امتداد الاحتجاجات السورية على مستوى البلاد ووصولها إلى مناطق بعيدة عن مركز الوجود الفلسطيني في العاصمة والمدن الرئيسية، بات رهان البعض على تصدير الأزمة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين غير ذي جدوى، فتعاملت السلطات مع الواقع كما هو، وقامت بمحاولة تحييد المخيمات خلال المرحلة التالية. فقد اجتاحت قوات النظام السورية مدينة درعا في شهر نيسان/ أبريل 2011 ودخلت كافة أحياء المدينة، باستثناء مخيم درعا، الذي اضطلع بدور إغاثي مشهود في الأشهر التي تلت احتلال المدينة وعسكرتها. تكرر الأمر في مخيم اللاذقية الذي تمّ تهجير سكانه في آب/ أغسطس 2011 خلال قصف حي السكنتوري السوري المتاخم للمخيم، والذي قاد أول احتجاجات شعبية في المدينة، ولم يتم استهداف المخيم لذاته حينها، وإنما دفع المخيم فاتورة الجغرافيا.

    ثالثاً: دخول الفلسطينيين إلى قلب الأزمة والآثار الحالية:

    على الرغم من دخول عدد من النشطاء الفلسطينيين مبكراً على خطّ الثورة السورية، خصوصاً في مخيمي درعا واليرموك، إلا أن الانخراط الفعلي للمخيمات الفلسطينية في الأحداث لم يبدأ قبل شهر تموز/ يوليو 2012، بعد حادثة إعدام 14 جندياً من مجندي جيش التحرير الفلسطيني في منطقة إدلب، الحادثة التي خضعت لجدل كبير حول هوية الفاعل بين اتهام النظام بافتعالها أو المعارضة بارتكابها. ومع دخول دمشق، حيث يسكن ثلاثة أرباع الفلسطينيين في سورية، قلب الاضطرابات بعد تفجير مبنى الأمن القومي في حي الروضة في 18 تموز/ يوليو 2012، كانت المخيمات الفلسطينية في العاصمة تدخل مرحلة دموية قاسية.

    بدأ دخول المخيمات الفلسطينية إلى الأحداث بطابع إغاثي إنساني، حين هَجَر سكان الأحياء الدمشقية، خصوصاً الميدان والزاهرة، مساكنهم نتيجة الحملة العسكرية المكثفة هناك. ونزح إلى مخيم اليرموك وحده خلال تلك الفترة قرابة 250 ألف نازح سوري. وهي الفترة التي بدأ فيها الجدل حول تشكل قوة فلسطينية موالية للنظام بالظهور إلى السطح، حيث نفذت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة مشروع اللجان الشعبية المسلحة، بالتنسيق مع السلطات وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى داخل مخيم اليرموك في مرحلة شديدة التوتر، أدت إلى انهيار الأوضاع الأمنية كلياً مع نهاية سنة 2012، حين دخلت كتائب المعارضة المسلحة مخيم اليرموك، وترافق ذلك مع نزوح أهلي كبير لسكان المخيم خوفاً من القصف والأعمال الحربية المتوقعة.

    خلال هذه المرحلة، كانت الأوضاع الميدانية في العاصمة تتدهور بشكل دراماتيكي، فقد دخلت المعارضة المسلحة أكبر مخيمين بعد اليرموك في دمشق وهما الحسينية والسبينة الذي يبلغ تعداد الفلسطينيين فيهما مجتمعين قرابة 90 ألفاً. وأدى هذا إلى تهجير كبير للسكان. وبفعل الأعمال العسكرية اللاحقة فقد استعاد النظام في أواخر سنة 2013 المخيمَين، لكنه منع الأهالي من العودة إلا بشكل محدود، اعتباراً من النصف الثاني من سنة 2016.

    رابعاً: فلسطينيو العاصمة:

    وقع مخيم اليرموك الذي كان يبلغ تعداد سكانه من الفلسطينيين نحو 220 ألفاً تحت ظروف مأساوية، شهد فيها حصاراً أودى بحياة 196 جوعاً ومرضاً. وعبر المراحل المختلفة لم يتبقَ في مخيم اليرموك إلا قرابة ثلاثة آلاف نسمة فقط.

    إن القراءة العامة لأوضاع الفلسطينيين في سورية يمكن التقاطها من خلال الوجود الفلسطيني في العاصمة دمشق التي كانت حتى قبيل الأزمة موطناً لنحو ثلاثة أرباع فلسطينيي سورية أو يزيد. وعلى الرغم من حضور مخيمات درعا والرمل وحندرات بقوة في مشهد الأزمة، إلا أن التعداد العام لسكان هذه المخيمات يجعل القراءة من خلالها مسألة جزئية بالرغم من أهميتها.

    فبالنظر إلى المخيمات الكبرى في دمشق يمكن ملاحظة التراجع الحاد في التعداد السكاني الفلسطيني كما يلي:

    مخيم اليرموك من 220 ألفاً بقي داخله نحو 3 آلاف فقط.

    مخيم الحسينية من 65 ألفاً، سُمح لنحو 30 ألفاً بالعودة حتى اليوم.

    مخيم السبينة من نحو 33 ألفاً، سُمح لـ 3 آلاف فقط بالعودة حتى اليوم، ويتوقع أن يسمح لألفين آخرين. كما أن السماح بالعودة تتم فقط للقسم الجنوبي من المخيم الذي يقترب من الريف الحوراني، وما يزال سكان القسم الشمالي المتصل بأحياء القدم والعسالي القريبة من مركز العاصمة محظرواً عليهم العودة.

    لا بدّ من ملاحظة أن أكثر من نصف الفلسطينيين في سورية يسكنون هذه المخيمات الثلاث (بحدود 310 آلاف)، والباقي يتوزع على عشرة مخيمات أخرى، والأحياء والمدن السورية خارج المخيمات.

    لقد وصل الوضع الميداني في مخيم اليرموك حيث باتت كل الفصائل المسلحة داخل المخيم بما فيها تنظيم داعش الذي يطلق على نفسه تنظيم الدولة الإسلامية، على استعداد لتوقيع أيّ تسوية للخروج الآمن من المخيم، ولكن كل هذه الاتفاقيات فشلت في التوصل إلى صيغة نهائية، حتى اليوم، دون وجود أسباب جوهرية لذلك. وهذا يضع مستقبل مخيم اليرموك تحديداً (الأقرب لقلب العاصمة؛ ستة كيلومترات) أمام سؤال كبير. وبالرغم من أن مخيم خان الشيح شهد تطورات مأساوية، إلا أن سيطرة سلطات النظام عليه في أواخر سنة 2016 بعد التسوية التي أبرمت مع الجماعات المسلحة والإغاثية داخل المخيم لم تدفع بالمخيم إلى مصير مشابه لمخيمات اليرموك والحسينية أو السبينة، حيث عاد حتى اليوم قرابة نصف سكان المخيم، ورُفعت القيود تقريباً عن النازحين من سكانه في المناطق المجاورة. إن الفارق الجوهري الوحيد بين وضع مخيم خان الشيح ومخيمات جنوب العاصمة (اليرموك، والسبينة، والحسينية) هو موقعه الجغرافي الطرفي، حيث يقع على بعد 25 كم جنوب غرب العاصمة.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل لفلسطينيي سورية:

    الأمر الأهم في تصوراتنا للاحتمالات المستقبلية هو التغيرات الجوهرية التي طرأت على البنية الديموجرافية في مدينة دمشق، حيث يسكن نحو ثلاث أرباع اللاجئين الفلسطينيين، ثلثاهم في المخيمات الثلاث (اليرموك، والحسينية، والسبينة) التي يفرض النظام قيوداً صارمة على عودة أهاليها.
    بناءً على ما سبق فإن الاحتمالات قد تنحصر في ثلاثة سيناريوهات:

    السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“:

    وهذا يلبي التطلعات الأمنية للسلطات التي تبدو في دمشق قائمة على أساس وقائع التحولات الديموجرافية التي خلفتها الحرب.

    لقد شهدت العاصمة دمشق هجرات واسعة بالاتجاهين، إلى خارج وإلى داخل المدينة، إلا أن عدد سكانها تضاعف تقريباً منذ بداية الأزمة حتى اليوم. ففي سنة 2010 قدر الإحصاء الرسمي للمدينة عدد سكانها بـ 4.4 مليون نسمة، وفي سنة 2016 تضاعف هذا العدد ليصبح 8 ملايين نسمة وفق تأكيدات عضو مجلس محافظة دمشق حسام البيش، وهذا بالرغم من حالة التهجير التي حدثت لسكان المدينة خلال سنوات الحرب (بلغت تقديرات اللاجئين السوريين كافة خارج البلاد 6 ملايين، أي ربع السكان). هذه الزيادة الهائلة في تعداد سكان العاصمة تعني بالضرورة أزمة سكن خانقة (كانت العاصمة تعاني منها قبل الأزمة). وهي أزمة تتناقض بشكل مباشر مع سلوك النظام تجاه مخيمات فلسطينية كبرى في العاصمة ما تزال مساكنها خالية في أجزاء كبيرة منها، على الرغم من الهدوء التام فيها منذ سنة 2013.

    إن المخيمات ذات الكثافة السكانية العالية والقريبة من مركز العاصمة والتي تعرضت لتطورات ميدانية خلال فترة الأزمة، قد لا يكون بالإمكان إعادتها كما كانت عليه قبل سنة 2011. وعليه فإن السلوك الحالي للسلطات تجاه هذه المخيمات ومنع أيّ تسويات فيها تسمح بعودة طبيعية للسكان خصوصاً في مخيم اليرموك، قد يعني مشروع إعادة توزيع الفلسطينيين داخل العاصمة بما يخدم الاحتياجات الأمنية للنظام. يقترب هذا الاحتمال مع تسريبات ما تزال تحتاج إلى تأكيد حول مشروع ناقشته محافظة دمشق حول إعادة تخطيط منطقة جنوب العاصمة (جنوب المتحلق الجنوبي) من المنطقة الممتدة من داريا حتى طريق المطار الدولي، وهي منطقة تقع فيها كبرى مخيمات العاصمة التي تعاني من عدم السماح للأهالي بالعودة الطبيعية (اليرموك، والحسينية، والسبينة). إذ تقول التسريبات أن المشروع يهدف لتأمين جنوب العاصمة، الذي كان البوابة الأوسع للاضطرابات العسكرية خلال الأزمة، من خلال إعادتها عمرانياً.

    السيناريو الثاني: عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011:

    وهو سيناريو يرى أن قدرة النظام على الصمود ارتكزت أساساً على قدرته على اجتراح جدلية قائمة على تفسير أو تبرير، أحياناً، سلوكه القمعي ارتكازاً على موقفه السياسي الذي يطرح القضية الفلسطينية في صلب خطابه العام.

    على الرغم مما يحمله هذا الطرح من موضوعية في تفسير المآلات التي وصل إليها الوضع السوري، إلا أنه يفسر جزءاً يسيراً من النتيجة التي ربما نجحت في صناعة حكاية متداولة في مستوى القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام السوري لا أكثر. ويبقى شكل التحالفات والتحولات الإقليمية وتداعيات الثورة المضادة بعد الربيع العربي وحجم إمكاناتها إطاراً تفسيرياً أوسع مما يمكن اختزاله في الحالة الفلسطينية. خصوصاً بالنظر لما تعرض له الفلسطينيون في سورية حيث وثّقت المؤسسات الحقوقية 3,580 قتيلاً فلسطينياً، تتحمل السلطات مسؤولية وفاة ثلاثة أرباعهم تقريباً، فيما ما يزال ملف أكثر من 1,600 معتقل فلسطيني مجهولاً لديها. ولو نظرنا في بعض التحولات القانونية التي شهدتها المرحلة الماضية، مثل استثناء الفلسطينيين من إعلان توظيف قدمته وزارة التربية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2012، واستثناء الفلسطينيين من الاستفادة من مرسوم الابتعاث العلمي لسنة 2013 كما كان معمولاً به في السابق، فإن كل هذا قد يعني استعداداً حكومياً كبيراً لاتخاذ إجراءات تعسفية بحق الفلسطينيين لإعادة إنتاج وضعيتهم القانونية، كأقلية تحتاج حماية السلطة في أي منعطف.

    السيناريو الثالث: تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد:

    على الرغم من التداول المستمر لهذا السيناريو بشكل شعبوي، وبروز مؤشرات ما في اتجاهه، إلا أن الوقائع بعد ستة أعوام من الحرب لا تكفي للركون لهذا الاحتمال. فبالرغم من الحقيقة التي تقول إن الصراع السوري بات ملفاً إقليمياً ودولياً، ومن الصعب الوصول إلى حلّ كامل بدون نقاش كافة المسائل المرتبطة بوجود الكيان السياسي لنظام سورية المرتبط بفكرة ”القضية الفلسطينية“ وبالتالي قضية اللاجئين الفلسطينيين كجوهر للصراع، فالواقع ما يزال يشير إلى وجود أكثر من 400 ألف فلسطيني داخل سورية. والعدد المهجّر خارج البلاد من فلسطينيي سورية البالغ تقديراً 175 ألفاً يقترب من نسبة المهجرين السوريين التي تبلغ ربع التعداد العام للسكان، وهو مؤشر إلى أن عملية التهجير نتجت عن إجراءات واحدة تخص كل السكان في البلاد. أضف لكل ذلك أن فكرة ”القضية الفلسطينية“ في خطاب النظام شكلت مستنداً لا بدّ من الإقرار بثبوته لدى شريحة ليست قليلة، ولن يتم التخلي عنه إذا أثبت نجاعته.

    وعليه، فإن السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة المقبلة قد ترجح السيناريو الأول على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. وهو سيناريو قد يعطي تفسيراً لتباين التعامل العام للسلطات في إعادة المهجّرين الفلسطينيين إلى مخيماتهم المختلفة بعد استقرار وضعها، إذ يُظهر الرصد تساهلاً في السماح بالعودة إلى المخيمات الطرفية مثل خان الشيح في العاصمة، ومخيمات حمص، وحماة، واللاذقية خارج العاصمة. فيما يبدو التشدد واضحاً في مخيمات الخط الجنوبي من العاصمة والتي تقترب من مركز دمشق أكثر من غيرها مثل اليرموك، والحسينية، والسبينة. وبالنظر إلى ما يتردد حول مشروع ”سورية المفيدة“، فإن ”الفلسطيني المفيد“ هو جزء من هذه الرؤية إن صدقت، وستضع الاعتبار الأمني لوجوده من عدمه معياراً للسلوك العام للسلطات في هذا الملف.

    سادساً: توصيات ومقترحات:

    1. التأكيد دوماً على ضرورة الالتزام بالقانون 260 لسنة 1956 وعدم المساس به في أي تطور لوضع الفلسطينيين في سورية.

    2. مع تآكل السيادة الوطنية للدولة السورية، فإن أي تطور على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية ينبغي ألا يكون مسألة سوريّة داخلية، بل لا بدّ من إشراك الفلسطينيين (كافة مستوياتهم) في بلورة مستقبل مخيماتهم في سورية.

    3. في ظلّ الانسجام الطارئ بين موقف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع النظام السوري، فإن التوافق الفلسطيني – السوري الرسمي قد يبدو متاحاً تجاه أي رؤية مستقبلية. وهذا يطرح مخاطر الاتفاق على شكل يخدم التسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي كانت وما زالت تصطدم بعقبة اللاجئين، خصوصاً كتلة الفلسطينيين في سورية، بحكم الدور والموقف ضدّ التسوية خلال الفترة الماضية. هذا لا بدّ أن يستدعي دوراً للمستويات غير الحكومية فلسطينياً في تقرير أي تطور محتمل.

    4. ضرورة أن تولي الجهات الفلسطينية الفاعلة (فصائل ومؤسسات) أولوية لوضع ومستقبل فلسطينيي سورية، والتأكيد على نقطة الحياد التام كمحطة انطلاق في أي نقاش حول المسألة مع الجهات ذات الصلة.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ طارق حمود بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.


     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية Word (10 صفحات، 94 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية  (10 صفحات، 559 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 29/9/2017

  • التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط

    تقدير استراتيجي (94) – كانون الأول/ ديسمبر 2016.

    ملخص:

    تسعى روسيا تحت قيادة بوتين إلى استعادة جانب من دورها ونفوذها الدولي، الذي فقدته إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. وتحاول الاستفادة من عدم الرغبة الأمريكية في التدخل المباشر في صراعات المنطقة، غير أنها تعلم أنه من الصعوبة بمكان تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية، التي ترى في الشرق الأوسط منطقة لنفوذها. وما زال سقف تدخلها في سورية وغيرها مراعياً لهذه الخطوط، ومتجنباً لأي صراع مباشر مع الأمريكان. وفي هذا الإطار تنسج روسيا علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، مع إيران، وتركيا، وسورية، والعراق، ومصر، وغيرها. ومن المحتمل أن يتطور الدور الروسي ضمن أفضل ما يستطيع الروس تحقيقه. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    مقدمة:

    انتهت الحرب الباردة التي استمرت عقوداً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بهزيمة الأخير بل وتفككه، وورثت روسيا الاتحادية تركة الاتحاد السوفياتي بجميع استحقاقاته ومكتسباته. وعلى خلاف الاتفاق الذي كان بين الرئيسين السوفياتي غورباتشوف والأمريكي بوش والذي كان يبدو في ظاهره أنه اتفاق بين ندّين، شعر الروس بأن الغرب يعاملهم بغطرسة شديدة وأن تسوية ما بعد الحرب الباردة ليست عادلة، بل واصل الغرب الضغط على روسيا لإنهاكها داخلياً واقتصادياً وضمّ ساحات النفوذ التاريخية التابعة لها لنفوذه، خصوصاً تدخل الناتو في حرب كوسوفا ثم جمهوريات آسيا الوسطى وجورجيا فيما بعد، مما عُدَّ مساساً بالأمن القومي الروسي، وأوجد شعوراً عاماً عند النخبة الروسية بأن روسيا لا يمكن أن تكون مجرد دولة أوروبية ذات وزن إقليمي؛ فهي إما أن تكون دولة عظمى —بالرغم من قلة إمكاناتها— وفي موقع الشريك مع الغرب، أو أنها ستنهار.

    كان مجيء بوتين للسلطة في روسيا نقطة تحول رئيسية في التوجهات السياسية، وقد عبر عن ذلك في خطابه السنوي في المجلس التشريعي الروسي (الدوما) في سنة 2005، حيث قال بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان ”كارثة جيوسياسية كبيرة“، وبأن الغرب لم يحسن التصرف بعد نهاية الحرب الباردة، وأنه أخطأ عندما ظنّ بأن روسيا ستستمر في الانحدار.

    إن هذا المدخل مهم جداً لشرح معظم الدوافع والتوجهات الروسية في منطقة الشرق الأوسط، واستشراف المدى الذي من الممكن أن يتطور إليه الدور الروسي، والذي لا يمكن حصره في التدخل العسكري في سورية وإن كان هذا التدخل يمثل العنوان الرئيسي.

    أولاً: دوافع روسيا في الشرق الأوسط:

    من حيث الأهمية في التسلسل الهرمي التقليدي للسياسة الروسية الخارجية يأتي ترتيب الشرق الأوسط تالياً لأمريكا وأوروبا والصين ودول آسيا الصاعدة، لكن بما أن موسكو قد حددت توجهاتها بأنها يجب أن تعود كقوة عالمية، عظمى، وأن تنهي النظام العالمي أحادي القطبية، فلا يمكن لها أن تتجاهل هذه المنطقة بما تمثله من موقع جغرافي فريد وثروات طبيعية هائلة. ورأت في حالة الاضطراب والفوضى في منطقة الشرق الأوسط فرصة لاستعادة مناطق نفوذها التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالتالي اكتسبت تلك المنطقة صفة ”منطقة اختبار“، تختبر فيها روسيا قدرتها في العودة للساحة العالمية كشريك أساسي ومؤثر.

    وفق هذا التصور، يصبح الدافع الجيو-سياسي هو الدافع الرئيسي —وليس الوحيد— لاهتمام روسيا في المنطقة العربية، وهو المنطلق الأساسي الذي على أساسه تَنسج شبكة علاقاتها بدءاً من التدخل العسكري في سورية، والتحالف مع إيران، وعقد اتفاقات مع تركيا، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع ”إسرائيل“، وليس انتهاءً بالسعي لإقامة علاقات مع العراق ومصر ودول الخليج، وهو دافع مرتبط بالأمن القومي الروسي.

    وبطبيعة الحال ليس هذا هو الدافع الوحيد، فبالإضافة لذلك يوجد الدافع الاقتصادي وهو حاضر بقوة خصوصاً عند الحديث عن العلاقات الروسية التركية، أو العراقية، أو الإيرانية، فالتبادل التجاري بين روسيا وهذه الدول في مستوى عالٍ، وتسعى روسيا لمزيد من الاستثمار، خصوصاً في مجال الطاقة البديلة، والنفط، والغاز، وصفقات السلاح.

    كما يبرز هدف أساسي ثالث وهو محاربة ما يُسمى التطرف والإرهاب، وما يمثله من تهديد أمني على الداخل الروسي، حيث تشير تقارير متفاوتة بوجود ما بين ألفين إلى خمسة آلاف ”جهادي“ يحملون الجنسية الروسية وينتمون لصفوف تنظيم الدولة الإسلامية أو التنظيمات الجهادية الأخرى. وحسب المفهوم الروسي، لا تقتصر التنظيمات الإرهابية على تنظيم الدولة، بل هو مفهوم واسع يشمل جميع الفصائل الإسلامية المسلحة التي تقاتل النظام السوري.

    ولتنظيم الدولة حضور إعلامي قوي في مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالروسية، وهناك قناعة روسية بأن انتشار التطرف الإسلامي يعزز النزعات الانفصالية في داخل روسيا، ويشكل ثغرة يمكن أن يستغلها الغرب لتهديد الأمن القومي الروسي، حيث تزيد نسبة المسلمين في روسيا عن 17% من السكان.

    ثانياً: كيف تتحرك روسيا؟

    تاريخياً كانت روسيا تنظر لنفسها من موقع ”الدولة ذات الرسالة“ فهي القيصرية الروسية حامية الكنيسة الأرثوذكسية، أو هي الاتحاد السوفياتي صاحب الرسالة العالمية الشيوعية؛ بينما تطرح نفسها حالياً من موقع براجماتي تسعى لتحقيق مصالح مشتركة مع دول المنطقة، وتعمل على الحفاظ على استقرارها، وتحرص على تكوين شبكة علاقات متوازنة مع الجميع.

    ومن خلال خبرتها مع الثورات التي حدثت في المجال الحيوي لروسيا؛ في أكرانيا وجورجيا…، في العقد الماضي، ترى موسكو أن ثورات الربيع العربي لم تكن عفوية وإن كانت في البداية عفوية، لكن استطاع الغرب أن يتحكم بها ويوظفها لخدمة مصالحه، وأن الموقف الأمريكي كان مهادناً لها لدرجة أنه تخلى عن أقرب حلفائه وهو الرئيس المصري المخلوع مبارك. وكانت الضربة الكبرى هي تدخل الناتو في ليبيا. وفي خطابه أمام الجمعية العمومية في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2015، انتقد الرئيس الروسي السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وحمَّلها نتيجة الفوضى الحادثة فيها، وأن تلك الحالة ناتجة عن تجاوز الولايات المتحدة لمجلس الأمن في إجراءاتها، وفي تدخلها في الصراعات بشكل مباشر، مما نتج عنه ظهور تنظيم الدولة وأزمة اللاجئين في أوروبا. ووجه سؤاله للأمريكان قائلاً: ”هل تدركون ما فعلتم الآن؟“

    ثالثاً: الفرص الروسية في المنطقة:

    1. التدخل في سورية:

    بطبيعة الحال، يُعدُّ النفوذ الروسي في سورية هو العنوان الرئيسي لنفوذها في المنطقة ومنذ البداية حرصت روسيا على أن يكون تدخلها شرعياً بالاتفاق مع النظام الحاكم في سورية والمعترف به دولياً. ولأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة تتخذ موسكو موقفاً استباقياً وتتدخل بهذا الشكل المباشر في الأزمات الدولية، واستطاعت روسيا بتدخلها العسكري أن توقف تدهور قوات النظام السوري وأعادت له زمام المبادرة، وقامت بمناورات عسكرية حقيقية، وأعادت تقييم جاهزية قواتها المسلحة، واحتفظت بقاعدتها البحرية العريقة في طرطوس، وأنشأت قاعدة جوية في حميميم في اللاذقية، ونشرت منظومة الدفاع الجوي أس 400 المتطورة، وحمت نفسها في الوقت ذاته من تورط قواتها البرية في المستنقع السوري. وبالتالي نستطيع أن نقول بأن روسيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها في سورية، وفرضت نفسها كلاعب دولي أساسي لا يمكن تجاوزه.

    وتتلخص الرؤية الروسية للأزمة السورية في:

    • ليس من حقّ أي دولة أن تتدخل لقلب النظام الحاكم في أي دولة أخرى، ولا تغيير حدودها الجغرافية، لذلك فروسيا مع وحدة الأراضي السورية، وأن مصير الشعب السوري يحدده الشعب دون إملاءات خارجية.

    • الأولوية لمحاربة التنظيمات الإسلامية المتشددة وفق التصنيف الروسي الذي لا يقصرها في تنظيم الدولة والنصرة.

    • حلّ الأزمة السورية هو حلّ سياسي ولا يمكن حسم المعركة عسكرياً، لذلك كان هدف الحملة العسكرية الروسية هو فرض واقع جديد ثم الدعوة للحوار السياسي.

    • وغاية ما تطمح له الديبلوماسية الروسية هو الجلوس من موقع الشريك مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حلّ سلمي، الأمر الذي تقابله الإدارة الأمريكية بعدم اعتبار روسيا لاعباً دولياً بل هي لاعب فوق إقليمي، حسب تصريح الرئيس أوباما.

    2. التحالف مع إيران:

    لروسيا علاقات وثيقة جداً مع إيران على مختلف المستويات بالرغم من وجود ثغرات في الثقة المتبادلة بينهما، فالتدخل الروسي في سورية ما كان ليتم لولا الغطاء البري من إيران والقوات المتحالفة معها. وبالرغم من تشابك المصالح بين الدولتين، إلا أن هناك جواً من الحذر في التعامل فيما بينهما، فإيران من مصلحتها المزيد من الانخراط الروسي في المعارك في سورية، بينما تحرص روسيا على الاكتفاء بالضربات الجوية وعمليات القوات الخاصة. لكن مستوى مقبولاً من التناغم قائم بينهما فيما يتعلق بالأزمة السورية وفيما يتعلق بمواجهة السياسة الأمريكية. وأظهرت روسيا قدراً كبيراً من القدرة على التفاهم مع إيران على الرغم من تصويتها في مجلس الأمن لصالح فرض عقوبات على إيران، بسبب برنامجها النووي، لأنها تتعامل مع هذه المسألة وفق محددين، أولهما: تأييد حقّ إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للاستخدامات السلمية، وثانيهما: رفض امتلاك إيران أسلحة نووية.

    3. اتفاقيات مع تركيا:

    استطاعت الدولتان تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية والمضي في التعاون الاقتصادي بالرغم من الخلافات السياسية الجوهرية بين البلدين فيما يتعلق بسورية، لكن تعامل الطرفين ببراجماتية عالية أدى إلى تطور على الأرض أيضاً، فعلى مدى سنوات كانت أنقرة تُسوِّق لمشروعها القاضي بإيجاد منطقة آمنة على حدودها السورية، الأمر الذي كانت ترفضه واشنطن. لكن بعد التفاهم مع الروس تمكن الأتراك من التوغل في الأراضي السورية، وفرض أمر واقع جديد في مواجهة القوات الكردية. غير أن العنوان الأبرز للعلاقات الروسية التركية هو الاقتصاد، خصوصاً في مجالات الطاقة، والغاز، والزراعة، والبناء.

    4. العلاقة مع العراق:

    نتيجة لعلاقاتها الجيدة مع إيران، تحظى روسيا بعلاقات جيدة مع العراق وتسعى للحصول على صفقات في مجال التسليح والطاقة، كما أنها في الوقت نفسه على علاقات تاريخية مع الأحزاب الكردية.

    5. السعودية وغياب الثقة:

    لم تكن العلاقات بين السعودية وروسيا مميزَّة في يوم من الأيام. ويوجد تضارب في وجهات النظر فيما يتعلق بالتعامل مع ملفات المنطقة بما في ذلك العلاقة مع إيران، ومستقبل سورية ونظام الحكم فيها. كما تنظر روسيا إلى ما تُسمِّيه ”الفكر الوهابي“ الذي تتبناه السعودية نظرة ريبة، وبأن انتشاره بين مسلمي روسيا يهدد الأمن القومي الروسي. لكن شهدت الآونة الأخيرة اتصالات مكثفة بين الجانبين، وتريد روسيا من السعودية التفاهم حول أسعار النفط، ومن مصلحة السعودية انتهاج سياسة التنويع في العلاقات الخارجية، لذلك من المتوقع استمرار الاتصالات بين الجانبين.

    6. تحسن العلاقات مع مصر:

    تاريخياً، كانت مصر تمثل عماد المصلحة الجيو-سياسية السوفياتية في المنطقة، قبل أن تتحول باتجاه الولايات المتحدة. تحسنت العلاقات المصرية الروسية بشكل كبير بعد وصول عبد الفتاح السيسي للرئاسة، والرئيس بوتين ينظر إليه باعتباره الشخص القادر على استعادة الاستقرار في أكبر بلد عربي. ومن خلال التمويل السعودي حصلت مصر على صفقة أسلحة روسية كبيرة، الأمر الذي نُظر إليه على أنه شراء موقف، لأن الجيش المصري يعتمد بشكل أساسي على الأمريكان في التسليح والتدريب.

    7. روسيا و”إسرائيل“:

    يشكل الناطقون بالروسية في دولة الاحتلال خمس السكان، كما أنه يوجد حضور معتبر لليهود في روسيا، والعلاقات بين البلدين جيدة، على الرغم من أن روسيا ليست على اتفاق مطلق مع ”إسرائيل“ وتتبنى حلّ الدولتين، وتختلف مع وجهات النظر الإسرائيلية في الموقف من إيران وحزب الله وحماس، وهي بالتالي تنتهج نهجاً مرناً يخالف النهج الأمريكي، الذي يُعدّ حليفاً تقليدياً لدولة الاحتلال.

    رابعاً: عقبات تحد من القدرة الروسية:

    1. المُحدِّد الأمريكي: تُعد منطقة الشرق الأوسط بشكل عام منطقة نفوذ أمريكي ضمن التقسيمات التقليدية في فترة الحرب الباردة (ثنائية القطبية الأمريكية الروسية). وبالرغم من محاولات الروس الدائمة لإيجاد موطئ قدم ودوائر نفوذ وتحالفات، إلا أن الأمريكان ظلوا اللاعب الأكبر في المنطقة. وبغض النظر عن الأسلوب الذي أدار به أوباما السياسة الأمريكية في المنطقة، وما بدا وكأنه تراجعٌ في الدور الأمريكي، إلا أنه لم يحصل تغير على جوهر السياسة الأمريكية، بالرغم من سعي الأمريكان لتخفيض التكاليف والنأي عن التدخل المباشر. ولا يظهر أن التحرّك الروسي مسَّ حتى اللحظة المصالح الحيوية الأمريكية وخطوطها الحمراء، بغض النظر عن انزعاج عدد من الأنظمة الصديقة لأمريكا من طريقتها في إدارة النزاعات.

    ويبدو أن التدخل الروسي في سورية لم يتعارض مع السياسة الأمريكية في استمرار استنزاف الحكومة والمعارضة السورية، وتغذية الصراع بما يمزّق النسيج الاجتماعي السوري طائفياً وعرقياً، ويدمر الاقتصاد؛ وبما يؤدي لإضعاف الدولة المركزية في سورية لصالح الانقسامات الداخلية التي قد تنشأ في أي ترتيبات مستقبلية؛ وهي ترتيبات ما تزال لأمريكا يدٌ دولية طُولى فيها مقارنة بالروس. كما أن النظم الحاكمة في المنطقة ما تزال أكثر ميلاً في علاقاتها مع الأمريكان مقابل الروس لأسباب مختلفة. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    2. ضعف الإمكانيات المادية الروسية، بسبب الأزمة المالية الكبيرة التي تتعرض لها موسكو، بسبب تراجع أسعار النفط، والعقوبات الاقتصادية الأوروبية.

    3. احتمال تمدّد الحرب في سورية واتساعها، وفي هذه الحالة ستتعرض روسيا لاستنزاف شديد تحاول تجنبه، لأن الثمن الذي سيدفع حينها سيكون باهظاً جداً إذا قورن بالمكتسبات، وسيعيد ذكريات حرب أفغانستان إلى الرأي العام الروسي. وحتى الآن فالعملية العسكرية الروسية في سورية ما تزال محدودة التكاليف، وهي تقارب تكلفة أي مناورة كبيرة.

    4. التعاون الوثيق مع إيران، كما أنه يمثل فرصة لروسيا، إلا أنه أيضاً يمثل عقبة تُقِّيد يدها في المنطقة. فعلى سبيل المثال تحتاج روسيا إلى إيران في مدَّ علاقات اقتصادية قوية مع العراق.

    5. تشابك مصالحها مع نقيضين في المنطقة، وهما ”إسرائيل“ وإيران، مما سيؤثر على مصالحها في حالة حدوث صراع بين الطرفين، لذلك تتعامل روسيا مع المسألة بحذر شديد.

    6. العامل الداخلي الروسي، وهو العامل الأهم لكنه عامل بعيد المدى، مرتبط بفشل روسيا في التحول لدولة مؤسسات، وبالتالي هناك خشية من مرحلة ما بعد بوتين.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل:

    من خلال استعراض الحراك الروسي في المنطقة، يظهر أن موسكو تحاول إيجاد صورة اللاعب الواقعي وغير العقائدي، الذي يمتلك الخبرة والقوة بما فيه الكفاية، ويمثل الشريك الذي يمكن الوثوق به، والقادر على التأثير في الوضع من خلال ثنائية الديبلوماسية والقوة. روسيا تطرح نفسها كقوة عالمية كبرى مستعدة لتقديم شراكة لجميع الذين يشتركون معها في الرؤية لعالم متعدد الأقطاب. وفي هذا الإطار يبرز أمامنا سيناريوهان:

    السيناريو الأول: سيناريو استمرار تمدد الدور الروسي:

    وهو سيناريو يدعمه ما شهدناه من القدرة على نسج شبكة علاقات متنوعة ومتشابكة تتفاوت من التحالف الاستراتيجي إلى العلاقات الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من التحولات الدولية والإقليمية، والمهارة في التعامل مع الأحداث مثل المبادرة بالتدخل الاستباقي في سورية ومنع سقوط النظام، واحتواء حادثة إسقاط طائرة الركاب الروسية في سيناء، واستخدام سياسة التصعيد المدروس في احتواء الأزمة مع تركيا إثر إسقاط الطائرة.

    السيناريو الثاني: سيناريو انحسار الدور الروسي:

    وهو مرتبط بسير المعارك في سورية، وقدرة ورغبة الدول الداعمة لقوات المعارضة السورية على إحداث تغير استراتيجي في الميدان، وهو أمر لم تتضح بوادره حتى هذه اللحظة، كما أنه مرتبط بتفكك التحالف الإيراني – الروسي، ولا يوجد أي مؤشر على خلافات جوهرية بين الطرفين.

    سادساً: توصيات:

    من خلال الاستعراض السابق، يظهر لنا أن هناك دوراً متنامياً للروس في تفاعلات المنطقة، وتبدو القوى الشعبية الإسلامية منها والوطنية في موقف المناهض للدور الروسي، الأمر الذي يستدعي:

    1. مزيداً من الفهم للعقلية الروسية وللمصالح الروسية في المنطقة، وأنها مصالح جوهرية تمس الأمن القومي الروسي وتتجاوز أمر التطلعات الشعبية فيها.

    2. فلسطينياً تتميز السياسة الروسية بأنها تحتفظ بعلاقة جيدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا تتبنى جميع مواقفها، ولا تصنف الحركات المقاومة تصنيفاً إرهابياً، الأمر الذي يوفر هامشاً للمناورة.

    3. تنشيط الديبلوماسية الشعبية، من خلال الانفتاح أكثر على الرأي العام الروسي لا سيّما وأن 17% من المواطنين الروس هم مسلمون، ولهم دورهم ومكانتهم في الحياة الروسية، وكان لموقف مفتي روسيا دور إيجابي في تحسين العلاقات الروسية التركية إثر إسقاط الطائرة الروسية.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ علي البغدادي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط Word (12 صفحة، 95 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط  (12 صفحة، 546 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/12/2016

  • الرؤية الجيواستراتيجية الروسية لوصل روسيا بسورية عبر البر

    د. عبادة التامر – المركز السوري سيرز 10.02.2020

    تشير التطورات المتعاقبة وفصول الحرب التي تشن في سورية وإصرار روسيا على مسألة السيطرة على طريقي الM5 وM4 إلى توجه يبدو أقرب لمحاولة فتح طريق بري يربط روسيا بسورية عبر إيران والعراق. وهنا تتجلى عقدة من أهم عقد الملف السوري في استراتيجيات الدول المعنية بالملف.

    إذ تتشارك كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا الإشراف على أجزاءٍ من هذا الطريق البري الذي يربط الموانئ الإيرانية المطلة على بحر قزوين بميناء اللاذقية، وبدمشق.

    لطالما اعتبرت روسيا نفسها قوة برية من المنظور الجيوبوليتيكي، ولطالما كان الهدف الأساسي لاستراتيجية الروسية متمثلاً في الوصول إلى منطقة الحافة (الريم لاند) والإطلال على المياه الدافئة وكسر الطوق الجيواسراتيجي الذي فرضته حولها القوى الأطلسية. ولهذا الهدف وبعد إعادة تعريف روسيا لنفسها باعتبارها قوة عاملية إثر غزوها لجورجيا عام 2008 بدأت تنشط من جديد التوجهات الجيوبوليتكية الروسية الرامية إلى إعادة تعريف نفسها بوصفها القوة المسيطرة في أوراسيا عبر سلسلة من التحركات البطيئة نسبياً، وما لبثت أن تسارعت هذه التحركات بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية عام 2015.

    أولاً: الطريق البحري بين سورية وروسيا

    يبدأ هذا الطريق من ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم والتي كانت موضوع أبرز أزمة بين الشرق والغرب بعد مرحلة الحرب الباردة إذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم المتمتعة بالحكم الذاتي والتابعة لأوكرانيا عام 2014، ما شكل أزمة لاتزال تظهر مفاعليها بشكل متكرر منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

    ومع ذلك فقد وقع كلٌ من حاكم سيفاستوبل الروسي دميتري أوفسيانيكوف ومحافظ طرطوس صفوان أبو سعد عام 2018 اتفاقية لتسيير خط شحن بحري مباشر بين سيفاستوبل وطرطوس، للاتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري ومن يتعامل معه.

  • تنظيم حراس الدين.. النشأة والديناميات والاتجاهات المستقبلية

    لا تزال تواجه محافظة إدلب والمناطق المحيطة العديد من المهددات الأمنية الداخلية والخارجية، وترسم مشهداً مليئاً بالارتكاسات المحتملة؛ ومن بين تلك المهددات والتحديات ملف تنظيم "حراس الدين" الذي يتسم بآليات عمل ذاتية خاصة؛ وديناميات متعددة في العلاقة مع الفواعل الآخرين؛ وتصاعدت أهمية هذا الملف من خلال انتقال العلاقة مع هيئة تحرير الشام من علاقة مضطربة محكومة بالمصلحة إلى المواجهة العسكرية. وفي ظل أسئلة التحديات الداخلية للمحافظة وما يشكله من عبء و"حجج" تدخل عسكري تزيد من الأعباء السياسية والاجتماعية والأمنية المحلية؛ يحاول هذا التقرير تبيان ماهية تنظيم "حراس الدين" وأبرز تحولاته وعلاقاته المحلية؛ محاولاً الوقوف على الاتجاهات العامة المتوقعة لمستقبل صراعه مع "الهيئة". 

  • سورية..... مواجهة من نوعٍ آخر

    المركز السوري سيرز - د. سامر عبد الهادي علي

    13 حزيران 2020

     منذ تدخل روسيا العسكري في سورية نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 حتى اليوم كانت سورية ساحة اللعب الرئيسية للقيصر الروسي "فلاديمير بوتين"، سياسياً من خلال الإمساك بخيوط القرار السياسي للنظام السوري، والتفاوض بدلاً عنه في المحافل الإقليمية والدولية المختلفة، واتخاذ القرارات الداخلية والخارجية، وكذلك عسكرياً من خلال قيادة عمليات ميليشيات النظام ومرتزقته في المعارك ضد الشعب السوري وقواه الثورية. واستطاعت روسيا فرض إرادتها السياسية والعسكرية في الملف السوري إلى حدٍّ بعيد رغم مواجهتها لمعارضة تركيّة منعتها من الوصول لأهدافها بالسيطرة على ما تبقى من ريفي حماة وإدلب، وإصرار أمريكي على البقاء في شرق وشمال شرق سورية، حيث الموارد النفطية الرئيسية في البلاد، وخزان الزراعات الاستراتيجية فيها.

    ولم يدع قيصر روسيا محفلاً إلا وأظهر فيه عنجهيته السياسية والعسكرية، وتفوقه في سورية على بقية اللاعبين في هذه الساحة الدموية. إلا أنّ روسيا "الغبيّة تاريخياً" في دعم الطغاة والمستبدين لم تتعلم من دروس الماضي حيث سقط كل الطغاة الذين دعمتهم على شاكلة النظام السوري، وخسرت بسقوطهم سنوات من الدعم بأشكاله المختلفة، ولم تجنِ سوى الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي أدّت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 انهياراً مدوّياً.

      واليوم.... وصلت روسيا في سورية إلى نهاية الطريق ذاته الذي سلكته سابقاً، فبالرغم من الدعم اللامحدود الذي قدّمته للنظام السوري لإعادة بسط سيطرته العسكرية على البلاد، وإعادة تعويمه سياسياً في الداخل والخارج إلا أنها فشلت في ذلك تماماً، فهي لم تستطع إعادة بسط سيطرة النظام على أهم مناطق سورية الاقتصادية والاستراتيجية من جهة، كما لم تستطع إعادة جزءاً من سمعته السياسية على المستوى الخارجي، وبقي منبوذاً عربياً وإقليمياً ودولياً.

     كانت روسيا تعتقد أنّ النظام السوري سيكون أكثر قوةً وشرعيةً فيما إذا تمكّن من السيطرة وإعادة التحكم بالبلاد أو بأجزاء واسعة منها، هذا الاعتقاد فشل هو الآخر بعد أن أصبحت المناطق الخاضعة له الأكثر فقراً ومعاناةً، لتزداد الأوضاع سوءاً مع الانهيار المتسارع للعملة السورية، رافقها غلاء غير مسبوق في المعيشة، ما جعل الحاضنة الشعبية له تعيش حالة غير مسبوقة من التذمر والغليان نتيجة فشل حكومة النظام في إيجاد حلول مرضية توقف التدهور الحاصل على الأصعدة كافة.

     بالرغم من كل ذلك..... إلا أنّ ما لم تتوقعه روسيا وقيصرها بوتين أن تكون الضربة الأقسى لأطماعه ومشروعه التوسعي في سورية من خلال قانون أمريكي "قانون قيصر" الذي يفرض عقوبات غير مسبوقة على النظام السوري برجالاته ومؤسساته وجميع داعميه "أفراد ومؤسسات ودول" في مقدمتها روسيا وإيران.

       نعم..... قانون قيصر الذي عملت عليه نخبة من السوريين في الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع مؤسسات أمريكية ذات صلة بعد أن قام "قيصر" السوري بتسليم الولايات المتحدة عشرات آلاف الصور لسوريين معتقلين قتلهم النظام بأبشع الطرق والوسائل التي لم يعرف التاريخ الحديث والمعاصر مثيلاً لها.

     هذا القانون هو التحرك السياسي والحقوقي والإنساني الأهم منذ عام 2011 حتى اليوم، بما يخص الملف السوري والصراع مع النظام وداعميه، وقد بدأت آثاره بالظهور سريعاً مع اقتراب موعد دخول حزمة العقوبات الأولى حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الجاري، فبدأ الصراع داخل الدائرة الضيقة للنظام من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الأموال المنهوبة مع استشعار رجالات النظام لخطر قيصر من جهة، وإرضاءً لحلفاء جمعهم الهدف وفرّقتهم المصالح "روسيا وإيران".

     الخلاف الأهم ما ظهر للعلن مؤخراً بين أقوى شخصية اقتصادية ومالية في النظام "رامي مخلوف" مع رأس النظام "بشار الأسد وزوجته". هذا الخلاف انعكس على الحاضنة المؤيدة للنظام، حيث بدأ التصدع والخلاف بينها، بين مؤيد للأسد وآخر لمخلوف، وهو ما لم يحصل طوال تسعة أعوام من الثورة.

     نعم..... نحن اليوم أمام مواجهة من نوعٍ آخر بين قيصر روسيا الذي استشعر الخطر الحقيقي، وقيصر سورية الذي شكّل ضربة غير متوقعة لروسيا والنظام وجميع داعميه. مواجهة بدأتها روسيا بمقاربة جديدة في تعاملها مع الملف السوري، بحيث تسعى لتلافي السقوط غير المحسوب للنظام، وبالتالي سقوط جميع أحلامها ومطامعها ومصالحها في سورية وخارجها، وهي اليوم أمام خيارين، الأول: استمرار دعمها غير المجدي للنظام السوري المتهالك، ما يعني خسارة محتّمة لها ما بعد قيصر القانون. والثاني: أن تقود روسيا بنفسها وضمن تفاهمات إقليمية مع تركيا، ودولية مع الولايات المتحدة الأمريكية، عملية إنهاء حكم الأسد الهزيل، وقيادة مرحلة انتقالية يجري فيها تجميع حكومة ائتلافية ما، أو مجلس عسكري- مدني يوقف في النهاية تطبيق قانون قيصر وتبعاته على مصالحها في سورية، وهو الاحتمال الأقرب للواقع. لذلك يأتي تعيين سفير روسيا في سورية "ألكسندر يفيموف" ممثلاً رئاسياً لبوتين في سورية في 25 أيار/ مايو الماضي أولى الخطوات الروسية في هذا الطريق، ما يعني أنّ سورية "الأسد" أصبحت تحت الانتداب الروسي المباشر، والمفاوض على حاضر ومستقبل سورية.

     وبين قيصر روسيا وقيصر سورية "الأمريكي" تبقى سورية الدولة والوطن، ويبقى الشعب السوري بأطيافه كافة الخاسر الأول والأخير في جميع المواجهات السابقة، وهذه المواجهة اليوم.

  • سياسة الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية

    أحمد عبد القادر*

    مقدمة

    مع بداية ثورات الربيع العربي ازداد التواجد الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، مما شكل خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة، فسعت الأخيرة إلى تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال مجموعة من الإجراءات منها تجديد العقوبات الاقتصادية على النفط الإيراني في عام 2018م مروراً بالغارات الجوية على المواقع الإيرانية في سورية ثم اغتيال قاسم سليماني " قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني " في 3 يناير 2020م، لاحقاً ردت إيران بقصف صاروخي لقاعدة " عين الأسد" الأمريكية في 8 يناير 2020م.

    فإلى أي مدى يمكن أن يشكل ازدياد النفوذ الإيراني خطراً على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط؟

    وماهي الوسائل المحتملة التي قد تستخدمها الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية؟

    أولاً: التهديد الإيراني للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط:

    تقع إيران ضمن قائمة الأنظمة المارقة - حسب الاستراتيجية الدفاعية الوطنية الأمريكية لعام 2018م- التي تهديد مصالح الولايات المتحدة على المستوى الدولي والمستوى الإقليمي بشكل خاص، ويظهر ذلك من خلال سعيها المستمر للحصول على السلاح النووي والتي ترى فيه الولايات المتحدة خطراً وجودياً على إسرائيل حليفها الاستراتيجي، وكذلك من خلال دعمها الواضح والكبير لجماعات تصنفها الولايات المتحدة " منظمات إرهابية" ، وتطويرها لمنظومة صواريخ بعيدة المدى، وتدخلها المستمر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، فضلاً عن بسط نفوذها الكامل في دول أخرى[1]. يضاف إلى ذلك سعيها لبناء نظام أمني إقليمي تكون هي دولة المركز فيه وذلك لن يتأتى لها إلا من خلال مزاحمة النفوذ الأمريكي في المنطقة، وتهديدها بإغلاق مضيق هرمز" الذي يمر عبره ثلث الإنتاج النفط العالمي"[2]، وبناءها تحالف مع روسيا الاتحادية المنافس التقليدي للولايات المتحدة، محاولة تصديرها لنظام" الولي الفقيه" تحت مسمى تصدير الثورة الإيرانية وهو نظام استبدادي لا يتفق مع المبادئ الديمقراطية التي تتبناها الولايات المتحدة.

    ثانياً: أدوات الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية:

    تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية عدد من الوسائل والأدوات التي من الممكن استخدامها في تقليص النفوذ الإيراني بدايةً من استخدام القوة العسكرية المباشرة وصولاً إلى استخدام العقوبات الاقتصادية مروراً بتوظيف الوسائل والأدوات الإقليمية والمحلية ومن هذه الأدوات:

    1. دعم فصائل الثورة السورية

      بدأ الدعم الأمريكي لفصائل الثورة السورية في عام 2013م بهدف إسقاط النظام السوري ومن خلفه النفوذ الإيراني من خلال غرفة تنسيق الدعم لقوات المعارضة" الموك" ومن أهم الفصائل التي تلقت الدعم الأمريكي "جبهة ثوار سورية، وحركة حزم" إلا أن الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة السورية قد توقف في عام2017م بعد فشلها في مواجهة تنظيمات تصنفها الولايات المتحدة" منظمات إرهابية".

    2. دعم تنظيم قوات سورية الديمقراطية" قسد"

      بدأت الولايات المتحدة في دعم قوات سورية الديمقراطية "قسد" مع بداية تشكيلها في عام 2015م بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية من خلال تقديم الاستشارات العسكرية ،ثم من خلال التدريب وتقديم الأسلحة والذخائر والمشاركة بالعمليات الميدانية من خلال القصف الجوي، وكانت مشاركتها الأكبر في معركة عين العرب، وتعمل الولايات المتحدة على توظيف دعمها لهذه القوات للسيطرة على منطقة الجزيرة السورية والتي تمر فيها أغلب الطرق البرية بين سورية والعراق وبخاصة بعد سيطرتها على المنطقة الممتدة شرق نهر الفرات بين الرقة ودير الزور، مانعةً بذلك إيران من السيطرة على هذه المنطقة.

    3. القواعد العسكرية

      • قاعدة التنف: تعتبر قاعدة التنف العسكرية من أهم القواعد الأمريكية في سورية وقد تم إنشاءها في العام 2014م، وكانت قد استخدمتها بداية إنشاءها لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية، ولاحقاً لتقليص النفوذ الإيراني من خلال سيطرتها على الطريق بين دمشق وبغداد، والذي تستخدمه الميليشيات التابعة لإيران كخط امداد رئيسي لقواتها المتواجدة في سورية[3]، وتعتمد هذه القاعدة على التواجد المباشر للقوات الأمريكية إضافة إلى بعض التشكيلات التابعة لقوات المعارضة السورية*. تاركةً القوات الإيرانية تستخدم طريق البو كمال -تدمر والذي يتعرض بشكل متكرر لهجمات تنظيم الدولة الإسلامية.

      • قاعدة الرميلان: تم إنشاؤها في عام 2015م وتعتبر القاعدة المركزية في منطقة الجزيرة السورية وتحتوي على مهبط للطائرات[4]، وتشكل مع مجموعة من القواعد الأخرى* حزام حمائي للطريق الدولي M4على طول المناطق الممتدة من الحدود السورية العراقية عند معبر اليعربية وصولاً منبج في ريف حلب الشرقي، وبذلك تحرم الميليشيات الإيرانية من استخدام هذا الطريق الاستراتيجي.

    4. الغارات الجوية على المواقع العسكرية

      بدأ الطيران الأمريكي باستهداف الميليشيات التابعة لإيران في أوائل العام 2018م واستمر خلال العام 2019م، وتركز القصف في دير الزور حيث استهدفت الأرتال الإيرانية ومواقع القيادة والذخائر أكثر من مرة وازدادت هذه الهجمات بعد مقتل "قائد لواء القدس" قاسم سليماني بغارة أمريكية في العراق.

    ثالثاً: السيناريوهات المحتملة لمستقبل أدوات تقليص النفوذ الإيراني في سورية:

    1. استمرار الاعتماد على الأدوات السابقة: من خلال القواعد العسكرية المتواجدة في التنف ومنطقة الجزيرة السورية ، والحفاظ على مستوى دعم قوات سورية الديمقراطية ولكن دعم هذه القوات قد يلقى معارضة شديدة من قبل تركيا حليف الولايات المتحدة في الناتو، وكذلك الحفاظ على مستوى الدعم المحدود لفصائل المعارضة المتواجدة في قاعدة التنف والتي ليس بمقدورها تحقيق مهمات كبيرة في تقليص النفوذ الإيراني بسبب قلة عددها وطبيعة المنطقة التي تتواجد فيها، واستخدام الغارات الجوية بين الحين والأخر، وكل ذلك قد لا يسهم بشكل فعّال في تحقيق هدف تقليص النفوذ الإيراني.
    2. زيادة الاعتماد على الأدوات السابقة: وهو السيناريو المرجح، ويمكن للولايات المتحدة تحقيق ذلك من خلال زيادة دعم ونفوذ قواعدها العسكرية بهدف تحقيق السيطرة المطلقة على طرق امداد الميليشيات الإيرانية، أو من خلال زيادة دعم قوات سورية الديمقراطية ولكن ذلك قد يواجه بموقف تركي رافض لهذا الدعم ، ويمكن كذلك زيادة الغارات الجوية والتركيز على استهداف قيادات في الميليشيات الإيرانية وحلفائها وهو ما ظهر في استهداف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والمسؤول عن عمليات الحرس الثوري في وتوسيع نفوذه في الدول العربية ، وزيادة دعم فصائل المعارضة وبخاصة بعد تقدم النظام وحلفائه في إدلب واحتمال فقدان المعارضة أخر معاقلها في ظل دفع إيران أعداد كبيرة من ميليشياتها إلى جبهات إدلب ، وبالتالي قد يكون زيادة دعم قوات المعارضة لمنع إيران من الاستفادة من هذا التقدم عن طريق دعم فصائل جديدة متواجدة في إدلب إضافةً إلى الفصائل الموجودة في قاعدة التنف.
    3. تقليص دعم الأدوات السابقة: يمكن للولايات المتحدة تقليص النفوذ الإيراني في سورية من خلال الحرب المباشرة مع ما يرافقها من تقليص دعم الأدوات السابقة ولكن يبقى هذا السيناريو مستبعداً بسبب التكلفة الباهظة العسكرية والسياسية والاقتصادية للحرب المباشرة، وكذلك حاجة الحرب إلى تأييد داخلي واستعداد شعبي لتحمل هذه التكاليف، فضلاً عن حشد التأييد الدولي وقد يزيد ذلك من حدة التنافس مع روسيا والصين.

    *طالب علوم سياسية في جامعة شام العالمية

    [1] ضرار الخضر، ملخص الاستراتيجية الدفاعية الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية2018، مركز نورس للدراسات،2019م.

    [2] بالخرائط: قراءة لواقع النفط في الشرق الأوسط، ن بوست، 23\12\2014م، http://bit.ly/2PWGXaA، أخر تحديث 7\3\2020م

    3] واشنطن بوست تكشف عن الأهمية الاستراتيجية لقاعدة التنف، أورينت نت، 24\10\2018، http://bit.ly/2vDGIKU، أخر تحديث 7\3\2020م

    *ومن أهم التشكيلات العسكرية لقوات المعارضة المتواجدة في قاعدة التنف فصيل" مغاوير الثورة"

    [4] سوريا مكتظة بالقواعد الأجنبة .. تعرف عليها، الجزيرة نت، 1\3\2018م، http://bit.ly/3cFINGI، أخر تحديث 7\3\2020م

    *تل تمر، تل السمن، صباح الخير، حرب عشق

  • مقال: السياسة الأمريكية في سوريا.. جدران الدم … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    مقدمة: 

    ناقشنا في مقال سابق السياسة الأمريكية في المنطقة وخصوصاً العراق. أما هذا المقال فيحاول تسليط الضوء على سياستها في سورية. إذ كانت هذه السياسة طوال السنوات الخمس الماضية معنية بإضعاف نظام الأسد، ولكنها لم تكن معنية بشكل جاد بإسقاطه، ولا بتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولا حتى بحماية الشعب السوري… لقد كانت معنية بإدارة لعبة الإضعاف والتفكيك، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ سايكس بيكو اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في حدود سياسية.

    وتدخل الادعاءات بأن التدخل الإيراني والروسي في سورية هو نتيجة الضعف الأمريكي وتراجع دور أمريكا في المنطقة، في إطار المبالغات التي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. كل ما هنالك أن هذه التدخلات تصب في نهاية المطاف في “الطاحونة الأمريكية”، ودون أن تكلف الأمريكان أعباء مالية أو عسكرية؛ وتسهم في إطالة أمد الصراع وإنهاك الأطراف المتنازعة في ظلّ عدم وجود رغبة أمريكية جادة في توقف الصراع أو إنهائه؛ بانتظار أن تنضج “الطبخة”، دون أن يكون ثمة مانع في أن تكون أطراف معادية أو منافسة لأمريكا حطباً يُبقي على اشتعال النار تحت هذه “الطبخة”.

      السياسة الأمريكية في سورية:

    وقريباً من الحالة العراقية، تتلخص السياسة الأمريكية في سورية في “ضبط إيقاع” الأحداث بشكل يسمح بــ:

    1. استمرار الصراع لأطول فترة ممكنة، بما يؤدي إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوري وارتفاع جدران الدم بين مكوناته الطائفية والعرقية.

    2. استمرار الصراع بشكل مدمر، بما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد والبنى التحتية ووسائل الإنتاج.

    3. استمرار الصراع بما يدمر الدولة المركزية والجيش المركزي، دون أن تحل مكانه قوة ثورية مركزية فاعلة، وبما يسمح بنشوء مليشيات وقوى طائفية وعرقية تسيطر على مساحات جغرافية محددة في ظلّ سلطة مركزية ضعيفة.

    4. ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني في أي ترتيبات مستقبلية متعلقة بالمنطقة.

    ولذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن معنية بالتدخل المباشر، ولكن بـ”إدارة اللعبة”، والإشراف العام على سيرها، بما يضمن ويحفظ المسارات الكلية التي تصبُّ في مصلحتها وتخدم سياساتها، وهو أمر يتوافق مع عقلية الإدارة الديموقراطية لأوباما التي تركز على الوسائل “الناعمة”.

    بيئة التدخل الخارجي:

    منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 واغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005 والمحافظون الجدد متحمسون للضغط على سورية، للتخلي عن ورقة المقاومة، وللتساوق مع مسار التسوية السلمية. وقد كتب شارلز كراوثامر في مقال نشرته الواشنطن بوست في 1/4/2005 أن هناك محور شرٍّ جديد يتمثل في سورية وإيران وحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي وأن “سورية هي الجائزة”؛ حيث إنه من السهل الضغط عليها. وادعى روبرت ساتلوف (المدير التنفيذي لمركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن النظام السوري في وضع هشٍّ جداً، وأن على أمريكا أن تستغل ذلك. كما كتب دينيس روس وغيره كلاماً شبيهاً بذلك. غير أن الكتابات كانت تركز على ما هو مطلوب من سورية تجاه العراق ولبنان ومسار التسوية والمقاومة؛ وتفتقر للتركيز على الإصلاح وتطبيق الديموقراطية… أي أن الحديث كان منذ البداية مرتبطاً بالسعي لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي أيلول/ سبتمبر 2005 نقل نيكولاس بلاندفورد مراسل كريستيان سيانس مونيتور عن خبير دراسات الشرق الأوسط جون لانديس قوله “سوف يمسكون بخناق سورية، ويضغطون عليهم، ويهزوهم بعنف، حتى يروا ما الذي يمكن أن ينزل من جيوبهم”!!

    عبَّر الحراك الشعبي الواسع في سورية في ربيع 2011 عن إرادة حقيقية في التغيير؛ ولعدة أشهر ظلت الانتفاضة الشعبية تأخذ طابعاً مدنياً سلمياً… غير أن النظام السوري فضَّل الحل الأمني العنيف، مما أدى لاستشهاد نحو ستة آلاف سوري مع نهاية 2011… وهو وضع جرَّ إلى “عسكرة الثورة” ، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه أي حراك ذي طبيعة مدنية، يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي نحو نظام ديموقراطي، يعبر تماماً عن الإرادة الشعبية.

    كانت عملية “عسكرة الثورة” عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ غير أن النظام السوري وجد فيها أفضل خياراته المتاحة في مواجهة التغيير، إذ كان هذا الخيار سيتيح له قمع الحراك الشعبي، ومحاصرة البؤر الثورية وعزلها عن بُعدها الجماهيري؛ كما أن لجوء جانب من المعارضة للخيار العسكري سيتيح للنظام اللعب في المنطقة التي يجيدها، حيث لا تملك المعارضة إمكانات عسكرية في مواجهته؛ وهو من جهة ثالثة سيستخدم آلته الإعلامية في وصف المعارضة العسكرية بالتطرف والإرهاب، وبالتالي سيحاول تقديم نفسه في صف واحد مع المعسكر المحارب للإرهاب… بما يتوافق مع المخاوف والرغبات الغربية؛ وبما “يُشرعن” قمعه للحراك الشعبي الثوري في أعين الآخرين.

    غير أن مثل هذا العمل لم يأخذ في حسبانه أنه مثلما أجاز لنفسه استخدام القوة العسكرية، ومثلما أجاز لنفسه الاستعانة بقوى خارجية إقليمية ودولية؛ فإن هذا الحراك الشعبي عندما يكون قوياً وواسعاً لن ينزوي في البيوت، وإنما ستتحول أطراف منه إلى الثورة المسلحة، وهو ما سيضطرها لاستجلاب الدعم الخارجي السياسي والعسكري…

    وهكذا، فقد فتح إصرار النظام على قمع الثورة، وإصرار الثورة على إسقاط النظام… فرصة هائلة للتدخل الخارجي، زادت مع الزمن، مع تحول الصراع إلى حرب استنزاف منهكة للطرفين. وهذا أعطى فرصة ذهبية للأمريكان لمحاولة الدخول كلاعب كبير في الصراع الداخلي السوري… بل كـ”مايسترو” يتحكم بالمسار الكلي للعبة.

    سياسات وإجراءات أمريكية:

    وحتى تنفذ الإدارة الأمريكية سياستها، فقد قامت من ناحية أولى بدعم قوى المعارضة في المطالبة بإسقاط الأسد، وغضت الطرف عن تسليح المعارضة وقيامها بالسيطرة على أجزاء من سورية، ووضع النظام في مرحلة صعبة، لكنها لم تسمح إطلاقاً بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تؤدي لهزيمة النظام أو لإسقاطه، ومنعت الدول الداعمة للمعارضة (كقطر والسعودية وتركيا) من توفير هذا السلاح، حتى لو توفر التمويل اللازم لذلك.

    ومن ناحية ثانية، سكتت أمريكا عن التدخل الإقليمي لدعم النظام السوري (إيران وحزب الله…)، وغضت الطرف عن تدفق السلاح والمقاتلين الداعمين للنظام (خصوصاً وأنه يعطي للصراع طبيعة مذهبية طائفية، في أعين قطاعات شعبية واسعة، ويتوافق مع الرغبات الأمريكية في توريط وإنهاك إيران وقوى “المقاومة والممانعة”، وحرف بوصلتها، واستعداء شعوب المنطقة ضدها، وإظهارها كمُعادٍ وقامع لتطلعات الشعوب)؛ بحيث يتمكن النظام من البقاء، وأخذ زمام المبادرة والتوسع؛ ثم يتبع ذلك سماح أمريكا بتدفق السلاح للمعارضة لاسترداد المواقع التي خسرتها… بحيث تتواصل حالة الشعور لدى كلا الطرفين بإمكانية الانتصار والحسم العسكري للمعركة، وبالتالي تستمر عملية التدمير والقتل والإنهاك المتبادل. وهذا مشهد بات مألوفاً ومتكرراً في الحالة السورية.

    وقد أدت هذه السياسة إلى معاناة هائلة للشعب السوري وللأطراف المتصارعة. فقد بلغ عدد الضحايا، خلال نحو خمس سنوات وشهرين (حتى 25/5/2016) إلى نحو 282 ألف سوري، وأُصيب نحو مليونين بجراح، وتمّ تشريد نحو 11 مليوناً. مع الإشارة إلى أن الخسائر البشرية في القوات العسكرية للنظام والمليشيات الموالية بلغت أكثر من مائة ألف.

    ومن ناحية ثالثة، فبالرغم من تباكي أمريكا على الحالة الإنسانية، فقد رفضت إعلان سورية منطقة حظر لطيران النظام (ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان)، وتركت المجال واسعاً وآمناً لهذا الطيران لقصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ في الوقت الذي منعت فيه وصول أسلحة نوعية مضادة للطيران لقوى المعارضة. ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان، الذين وفروا حظراً جوياً على طائرات النظام العراقي في شمال العراق لحماية الأكراد منذ سنة 1991؛ والذين وفروا هذه الحماية أيضاً في أثناء عملية إسقاط النظام الليبي. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان فإن سنة 2015 لوحدها شهدت 619 مجزرة من بينها 413 ارتكبها طيران النظام السوري و79 ارتكبها الطيران الروسي.

    ومن ناحية رابعة، فقد تعمدت الولايات المتحدة إفشال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية على الحدود مع تركيا، والتي كانت ستخفف كثيراً من معاناة مئات الآلاف من المهجرين السوريين، وتوفر ملاذاً للمعارضة السورية. بالرغم من أن ذلك لم يكن أمراً مكلفاً للأمريكان، إذ كان أصدقاؤهم الأتراك والسعوديون والقطريون سيتولون تكاليفه المادية والعسكرية. مع ملاحظة أن أمريكا وفرت “عملياً” هذا النوع من الحماية للقوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب) التي تمكنت من مدِّ نفوذها على مناطق واسعة في الشمال السوري، بما يكرس الهيمنة العرقية لأحد مكونات الشعب السوري دون غيره من قوى المعارضة؛ وبما يتوافق مع فكرة الإضعاف والتقسيم ورفع الجدران الطائفية والعرقية التي تتبناها الإدارة الأمريكية.

    ومن ناحية خامسة، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد تحمست للتدخل لحماية المدنيين السوريين بعد ظهور تقارير عن استخدام النظام السوري لغاز السارين الذي أدى لقتل 1,400 مدني في الغوطة في صيف 2013، قد تراجعت دون أسباب واضحة عن مهاجمة النظام السوري. وقد اعتبر جيفري غولدبيرغ في المقال الذي نشر في مجلة ذا أتلانتيك في نيسان/ أبريل 2016 أن يوم 30/8/2013 هو اليوم الذي طوى فيه أوباما حكم أمريكا للعالم، عندما قرر عدم ضرب سورية؛ مكرساً ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” بأن التدخل الأمريكي يكون فقط لحماية الأمن القومي الأمريكي، وأن ما لا يُحلُّ بالتفاوض لا يُحلُّ بالقوة، وأنه لا ينبغي تعريض الجنود الأمريكيين للخطر، وفق مبدأ “مسؤولية الحماية” للحؤول دون كوارث إنسانية.

    هذا المقال الذي جرى تسويقه على نطاق واسع، باعتباره مُعَبِّراً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، يحمل الكثير من التضليل فيما يتعلق بالشأن السوري. إذ إن استخدام الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات الأمريكية أو الطائرات العسكرية الأمريكية المتقدمة لم تكن تحمل مخاطر تذكر على أمن الجنود الأمريكيين. وفي المقابل فإن الطيران الأمريكي له الدور الرئيسي في مهاجمة معاقل داعش، وفي دعم القوات الكردية في سورية. كما أن الأمريكان لديهم نحو  4,600 جندي أمريكي في العراق، يشاركون بغطاء جوي أمريكي في مهاجمة مناطق نفوذ داعش هناك. بمعنى أن الأمر لم يكن متعلقاً بتغير في الاستراتيجية الأمريكية، بقدر ما أنه لم تكن هناك رغبة أمريكية في التدخل في سورية، ما دام سياق الأحداث يصبُّ في المسارات التي ترغبها.

    ولذلك فقد اكتفت أمريكا في موضوع الأسلحة الكيماوية بحلٍّ يخدم استراتيجية إضعاف سورية، كما يخدم الكيان الإسرائيلي، ويتلخص في موافقة النظام السوري على التخلص من أسلحته الكيماوية. ولكنه حلٌّ يترك للنظام السوري حرية الاستمرار في حربه ضدّ المعارضة براً وبحراً وجواً؛ ولا يأبه إن كان المدنيون السوريون سيقتلون بأي وسائل أخرى. وبالتالي، فإن النظام السوري قتل بالأسلحة العادية عشرات أضعاف ما قتله بالكيماوي. ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا المدنيين على أيدي النظام خلال السنوات الخمس الأولى للصراع نحو 184 ألفاً، بينما قتل من المدنيين على يد فصائل المعارضة نحو ثلاثة آلاف وعلى يد داعش ألفان ومئتان.

    من ناحية سادسة، فإن التدخل الروسي لصالح النظام السوري لم يكن ليتم لولا عدم الممانعة الأمريكية لذلك. وهو تدخل لم يُفرض فرضاً على الأمريكان. إذ لا مانع لدى الأمريكان من انزلاق الروس في المستنقع السوري، ولا مانع لديهم من أن يعيد الروس الكفة لصالح النظام، ويقوموا بضرب المعارضة طالما أن هذه المعارضة لم تنضبط مع المعايير الأمريكية، سواء في هويتها الإسلامية والوطنية أم في سقف تطلعاتها في التغيير.

    وقد أنقذ التدخل الروسي النظام السوري من حالة تراجع متسارعة شهدها في ربيع وصيف 2015… وبالتالي أدى إلى العودة إلى حالة النزيف المتبادل بين الجانبين، التي يرغب الأمريكان باستمرارها. كما أن التدخل الروسي أضعف من النفوذ الإيراني على النظام السوري وعلى مجريات الأحداث، وإن بدا وكأنه تخفيف للعبء الإيراني في سورية. بالإضافة إلى أن هذا التدخل خدم الأمريكان ضمناً، لأنه أسهم في توسيع حالة الغضب والعداء ضدّ الروس لدى معظم شعوب المنطقة. ثم إن التفاهم الأمريكي مع الروس بشأن مستقبل سورية وفق ترتيبات استراتيجية وبراجماتية بين الطرفين، بحيث يحصل الروس على نصيب مقبول من الأمريكان من الكعكة، يظل أسهل بالنسبة للأمريكان من التفاهم المباشر مع الإيرانيين أو النظام السوري. وقد ظهر من التدخل الروسي أن معظم هجماته استهدفت قوى معارضة غير داعش، بخلاف السبب المعلن للتدخل الروسي، كما أنه دمر مستشفيات ومدارس ومخابز ومرافق حياة مدنية، وقتلت طائراته في سبعة أشهر (حتى 30/4/2016) حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان 5,800 بينهم 2,005 مدنيين من ضمنهم 800 طفل.

    وقد عكست زيارة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي نتنياهو لموسكو في 7/6/2016 مؤشراً واضحاً على أن التدخل الروسي لن يمس بحجر الأساس للسياسة الأمريكية في المنطقة وهو “إسرائيل وأمنها”. وكانت الهدية التي سلمها الروس لنتنياهو، وهي دبابة إسرائيلية من نوع باتون 48 غنمها السوريون سنة 1982 في معركة السلطان يعقوب من الإسرائيليين؛ ذات دلالة بالغة. إذ تؤكد على التأثير الروسي على صانع القرار السوري، كما تؤكد على الطمأنة الروسية للإسرائيليين بشأن الدور الروسي في سورية. وهذا ما جعل نتنياهو يقول قبيل الزيارة “إن تعزيز العلاقات مع روسيا هو عامل الأمن القوي الحاسم، الذي أنقذ الدولة اليهودية من مواجهة على الحدود الشمالية للبلاد…”. وقد أظهرت الأحداث أن الروس ينسقون بشكل كامل مع الإسرائيليين بشأن طلعاتهم الجوية في المناطق المحاذية للاحتلال الإسرائيلي.

    من ناحية سابعة، فإن الأمريكان تساوقوا مع الفكرة التي يروجها النظام السوري وحلفاؤه من أنه يحارب “الإرهاب” و”التكفيريين”…، وبدا وكأن المشكلة في سورية في جوهرها “محاربةً لـلإرهاب” وليس “ثورةً” للشعب السوري. واختار الأمريكان أن تنصبَّ جهودهم العسكرية المعلنة على حرب داعش والنصرة، واشترطوا لتسليح وتدريب فصائل المعارضة أن تقاتل داعش وليس النظام السوري. غير أن ثمة معطيات تحتاج إلى استيضاح، أبرزها أن المتضرر الأكبر من تمدد “داعش” لم يكن النظام السوري وإنما قوى المعارضة، التي تمدد داعش في معظم الأحيان على حسابها، وأنهكها في معارك استنزاف دموية واسعة. كما أن النظام السوري كان المستفيد الأكبر من رسم صورة المعارضة في شكل داعشي تكفيري متطرف، ليبرر بقاءه وليبرر ممارساته، ليس في قمع داعش فقط وإنما بشكل أساسي في قمع الثورة السورية بكافة فصائلها المعتدلة الإسلامية والوطنية. ولعل إفراج النظام السوري عن مئات المتطرفين الإسلاميين في بداية الثورة السورية، يعطي مؤشراً على رغبة النظام في وجود أمثال هؤلاء في أوساط المعارضة لتشويهها أو لحرف بوصلتها.

    ولعل تقييم “داعش” ودوره يحتاج إلى دراسة خاصة. أما كيف تمكن داعش من السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية وبسرعة مذهلة، وتحت سمع وبصر أمريكا والنظام السوري وحلفائه. ولماذا تعلن أمريكا بكل ما تملك من جبروت عسكري (والتي احتلت العراق في ثلاثة أسابيع) أنها بحاجة لسنوات لمحاربة هذا التنظيم؟ فيستحق وقفة خاصة. فقد تحدث جيمس تيري James Terry  قائد الحملة العسكرية الأمريكية على داعش في كانون الأول/ ديسمبر 2014 عن الحاجة لثلاث سنوات على الأقل ليتمكن التحالف من بلوغ نقطة التحول ضدّ داعش. أما وزير الخارجية جون كيري فتحدث في حزيران/ يونيو 2015 عن الحاجة من ثلاث إلى خمس سنوات لهزيمة داعش. أما ليون بانيتا وزير الدفاع السابق في حكومة أوباما فقد ذكر في تصريح، لا يخلو من مبالغة متعمدة، لجريدة يو أس إيه تودي في 6/10/2014 أنه يتوقع أن تستمر الحرب على داعش ثلاثين عاماً وفق الطريقة التي تعتمدها إدارة أوباما.

    هذا يعني أن أمريكا تريد الإبقاء على “فزاعة” داعش لأطول فترة ممكنة، للوصول للوضع الذي تريد، لأن حالة التطرف التي يمثلها داعش تعطي وَصفة مثالية للتموضع الطائفي والعرقي وارتفاع جدران الدم والكراهية، التي تصب طريقة عمل داعش مباشرة في طاحونتها. فـ”الإرهاب السني”؟! (حسبما يريدون تقديمه، وليس الثورة الشعبية السورية) سيقابله تموضعات علوية وشيعية ودرزية ومسيحية، كما سيتيح المجال للتموضع العرقي الكردي. أما وجود ثورة سورية شعبية تملك رؤية حضارية ونهضوية، فإنها لن تكون بديلاً مقبولاً للنظام السوري، لأنها ستفسد على الأمريكان رغبتهم في إضعاف المنطقة وإنهاكها. ولذلك فإن محاربة داعش ستبقى شعاراً يملأ الأجواء ويشغل السياسة والإعلام، بانتظار إنهاك وإضعاف المكون الشعبي الأوسع للحراك والتغيير في المنطقة (والذي تتحرك داعش في أحشائه) وهو “المكوِّن السني”.

    من ناحية ثامنة، فإن هناك رغبة أمريكية في استمرار الضغط على نظام الأسد بغرض إنهاكه وتطويعه، بما يخدم تخليه عن برامج وشعارات المقاومة، ويدخله في منظومة التسوية السلمية وفي محور “الاعتدال” والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي الوقت نفسه، فإن أمريكا و”إسرائيل” تقدران عالياً هدوء الجبهة مع سورية طوال السنوات الأربعين الماضية، وعدم رغبة النظام السوري في الدخول في صراع مباشر مع الكيان الإسرائيلي. ولذلك، فثمة إجماع أمريكي إسرائيلي بعدم الرغبة في إسقاط النظام أو تغييره (خصوصاً مع استناده إلى أقلية طائفية)، حتى ولو بقوى علمانية ديموقراطية ليبرالية، إلا إذا كان ذلك يضمن مزيداً من النفوذ الإسرائيلي الأمريكي. ولأن الخط العام لقوى المعارضة السورية لا يقل تشدداً تجاه “إسرائيل” عن موقف نظام الأسد… فإن بقاء النظام (ولو من دون شخص الأسد) يظل خياراً مفضلاً.

    من ناحية تاسعة، فإن الولايات المتحدة ترى في وجود نظام سياسي في سورية يستند في جوهره إلى أقلية طائفية، أو إلى نظام شمولي، فرصةً أفضل لتعريضه للضغط وابتزاز المكاسب منه، لعدم استناده على قاعدة شعبية واسعة أو على أسس حكم راسخة، يحتمي بها عند تعرضه للضغط الخارجي. ولذلك فلن تبدو متحمسة لوجود نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن الإرادة الشعبية، لأن الإرادة الحقيقية للشعوب ستُمثل خطراً على مصالحها في المنطقة، وستسعى أمريكا لتعطيل هذا المسار أو إضعاف دوره، بحجة حماية الأقليات وضمان أدوارها في السياسة وصناعة القرار… .

    سياسة أمريكية غير معلنة:

    إنّ جزءاً كبيراً من السياسة الأمريكية في سورية لا يظهر بشكل معلن. وقد تسبب ذلك في إظهار الولايات المتحدة وكأنها طرف ضعيف فاقد للاتجاه. ولعل الإدارة الأمريكية فضّلت هذه الصورة السيئة، في سبيل ألا تُصرِّح بسياستها الرسمية الفعلية. ولذلك فقد ظهر كلٌّ من وزير الدفاع آشتون كارتر Ashton Carter ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دنفورد  Joseph Dunford في حالة بئيسة ومرتبكة ومزرية في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة الدفاع في الكونجرس الأمريكي في 27/10/2015… ولم يجدا إجابات منطقية لأسئلة السيناتور ليندسي جراهام Lindsey Graham.

    فقد كانت لديهما إجابات محددة حول دعم مقاتلين سوريين لضرب داعش، لكنهما كانا مرتبكين تماماً عندما تعلق الأمر بدعم المعارضة لإسقاط النظام أو تغييره… ولذلك علق جراهام في نهاية كلمته قائلاً:

    إذا كنت مكان الأسد، فهذا يوم جيد بالنسبة لي، لأن أمريكا قالت دون تصريح أنها لن تقاتل لتغييري؛ وهذا يوم جيد لحلفاء الأسد، لأنه ليس عليه تهديد عسكري حقيقي. ما فعلتما أنكما بالتوافق مع الرئيس [أوباما] أخبرتم الشعب السوري الذي مات بمئات الآلاف “نحن قلقون أكثر بشأن استقرارنا السياسي من الذي قد يأتي”. كل ما يمكنني قوله أن هذا يوم تعيس لأمريكا، وأن المنطقة ستدفع ثمن هذا الجحيم؛ لأن العرب لن يقبلوا بذلك، والشعب في سورية لن يقبل بذلك. هذه استراتيجية حمقاء على أفضل تقدير.

    مساران للحلول:

    القراءة المتأنية للسلوك السياسي والعملي الأمريكي، وخلاصة الدراسات الصادرة عن مراكز الدراسات والكتَّاب والمؤثرين في صناعة القرار تصبُّ في اتجاهين:

    الأول: بقاء الدولة السورية بحدودها الرسمية، مع نشوء نظام سياسي ضعيف، لا يستطيع التعامل مع المشاكل والصراعات الداخلية، حيث ترتفع جدران الدم الطائفية والعرقية، وحيث تسيطر القوى المحلية على مناطقها؛ ويكون في الوقت نفسه لديه من القوة ما يكفي للحفاظ على أمن واستقرار الحدود الخارجية، خصوصاً مع الكيان الإسرائيلي.

    هذا النظام سيكون أشبه بالحالة اللبنانية والعراقية، وسيكون دوره أقرب إلى “طفاية حرائق” محلية، دون أن يمتلك مقومات النهوض والاستقرار والتنمية والقوة، بينما ستستعين القوى الطائفية والعرقية المحلية بقوى إقليمية ودولية، للحفاظ على مكاسبها ولمنع “تغوُّل” النظام عليها.

    الثاني: تقسيم سورية إلى دويلات: علوية وسنية ودرزية وكردية تنشأ على أنقاض الدولة السورية؛ وهو تقسيم لا يكتفي بجدران الدم الاجتماعية، وإنما يسعى لإعطائها شرعيات وحدوداً سياسية.
    ولعل الاتجاه الغالب حتى هذه اللحظة هو الاتجاه الأول، خصوصاً مع وجود مخاوف حقيقية من أن نشوء دويلات ضعيفة سيُسهّل على ما يُسمى القوى “المتطرفة” النفاذ عبر الحدود وإشعال العمل المقاوم ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما أن الكيانات الضعيفة ستدفع بشكل أقوى أصحاب المشاريع النهضوية والوحدوية لتقديم مشاريعهم بشكل أكثر جدية وحيوية. ثم إن هذه التقسيمات ستثير مخاوف دول إقليمية كبيرة لديها أقلياتها المتحفزة كما في إيران وتركيا.

    ومع ذلك، يبقى خيار التقسيم خياراً مفضلاً لدى أمثال المستشرق الشهير برنارد لويس وتلاميذه المنبثِّين بين “المحافظين الجدد” واليمين الديني المتطرف… والذين يرون أن هذا التقسيم يجعل من الكيان الصهيوني بهويته اليهودية كياناً طبيعياً وسط كيانات قائمة على هويات طائفية وعرقية. وهو ما يتوافق مع ما دعا إليه الخبير السياسي الأمريكي ذو الأصل الهندي باراج خانا Parag Khanna في 13/1/2011 عندما نشر مقالاً في أحد أهم المجلات الأمريكية والعالمية وهي الفورين بوليسي Foreign Policy دعا فيه “أن تُنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك، يجب أن يدرك العالم أنّ هذه الانقسامات لا مفر منها”.  وكذلك عما كتبه خانا بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في النيويورك تايمز في 22/9/2012، حيث توقعا، بالنسبة لسورية، إما نموذجاً كالنموذج اللبناني حيث يتم تفريغ السطة المركزية من محتواها، أو العودة للشكل الذي فرضه الاستعمار الفرنسي بإيجاد دويلات منفصلة واحدة علوية وثانية درزية، ودُويلتي مدن في كلٍّ من دمشق وحلب (بأغلبيتين سُنِّيتين)؛ غير أنهما لم يشيرا إلى مصير المناطق ذات الكثافة الكردية في شمال شرق سورية، وإن كانا قد دعما إنشاء دولة كردية في شمال العراق. كما دعوا إلى إعادة تشكيل خرائط  إيران وأفغانستان وباكستان من خلال إنشاء باشتونستان وبلوشستان وأذربيجان الكبرى.

    وبشكل عام، تبدو الحلول التي يتجه إليها الأمريكان للأزمة السورية متوافقة مع مسارات الإضعاف والتقسيم الداخلي. وهي حلول تتوافق إلى حدٍّ ما مع الاقتراح الروسي بالحلّ الفيدرالي في سورية. وبحسب جوناثان ستيفنسون في مقاله المنشور في نيويورك تايمز في 19/3/2016 (ونشرت الحياة ترجمته في 23/3/2016) فقد ألمح وزير الخارجية الأمريكي كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أن التقسيم قد يكون هو الخطة ب Plan B إذا أخفقت المفاوضات السياسية. وتحدث ستيفنسون عن رواج فكرة “مركز قرار رخو، وصلاحيات واسعة للمناطق” لدى المعنيين بصناعة القرار. كما ألمح جون يرينان John Brennan، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، إلى احتمال سيطرة بعض من وصفها بالجماعات الأيديولوجية على مناطق مستقلة من سورية، في كلمة ألقاها الجمعة 29/7/2016 في منتدى أسبين الأمني السنوي.

    وتصب طروحات مركز راند للدراسات (الذي يعد أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة) في الاتجاه نفسه، فقد نشر دراسة في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وحدثها في حزيران/ يونيو 2016، بعنوان خطة سلام لسورية A Peace Plan for Syria تجعل الأولوية لوقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى أربع مناطق، بحيث تكون هناك منطقة تحت نفوذ النظام الحالي، وثانية تحت نفوذ المعارضة، وثالثة تحت نفوذ الأكراد. أما الرابعة فيتم التعامل معها دولياً باعتبارها تحت نفوذ داعش. وتركز الفكرة على ضمانات دولية ودورٍ خارجي، وإطلاق نقاش “طويل” لتحديد سورية المستقبل. مع التأكيد على فكرة الحكم اللا مركزي ضمن الدولة الديموقراطية الواحدة. وتحاول هذه الدراسة “عملياً” إعطاء الأولوية لوقف القتال، وتوجيه الجهود نحو محاربة داعش أو الـ”التطرف”… وتجعل إسقاط النظام… أو إنشاء نظام ديموقراطي حقيقي أمراً مؤجلاً على المدى الطويل.

    خاتمة:

    أياً تكن قوة الولايات المتحدة وعظمتها، فإنها ليست القدر، وهي لا تستطيع فرض إرادتها على الشعوب التي تسعى للاستقلال، وبناء نموذجها الحضاري بعيداً عن الهيمنة الغربية.

    ولذلك، فإن المطلوب سورياً وعراقياً وعربياً وإسلامياً، التأكيد على حرية الشعوب وحقها في إقامة الأنظمة السياسية التي تعبر عن إرادتها، والتعاون على تأسيس مشروع نهضوي حضاري يسع الجميع، ويواجه الانقسامات الطائفية والعرقية، والتكاتف في إغلاق المنطقة في وجه النفوذ والتدخل الخارجي وخصوصاً الإسرائيلي والأمريكي.

    هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 13/8/2016