• إيران تتخوف من الاتفاق الروسي الإسرائيلي

    فجرت التسريبات الروسية الإسرائيلية عقب قمة بوتين نتنياهو الداعية إلى انسحاب مختلف المليشيات الأجنبية غضب الإيرانيين الذين أصدروا بيانًا شديد اللهجة عنوانه: “إيران لا تطلب الأذن من أحد لتنفيذ سياستها الخارجية، رافضة وضع جدول زمني محدد لخروجها من سوريا، مؤكدة على بقائها في سوريا، حيث صرحت وسائل إعلامية إيرانية متحدية: بأنه لا يمكن لأي دولة في العالم الوقوف في وجه نفوذها هناك”.

     

    الإيرانيون يستغربون من تصاعد الدعوات الروسية لانسحاب القوات الأجنبية من سوريا، واعتبارها قضية خطيرة، فموسكو بدت تظهر حساسة جدًا لوجود القوات الإيرانية في سوريا، ولكن ما هو منشأ هذه الحساسية؟ ولماذا تصاعدت وتيرتها في هذا التوقيت بالذات؟ تقول إيران: إن نتنياهو قد اتفق مع السيد بوتين على مغادرة القوات الأجنبية من سوريا، لكن يبدو أن روسيا لا تعتبر قواتها أجنبية، ولا يشملها الاتفاق مع اسرائيل، تضيف طهران أن وجود القوات الإيرانية من عدمه لا يرتبط بروسيا فقط، بل هذا البلد “سوريا”، وبشار الأسد يحكم في هذا البلد وقرار بشار الأسد بمغادرة هذه القوات هو عامل مهم؛ لم نر أي مؤشرات على أن الحكومة السورية طالبت إيران أو الميليشيات غير السورية القريبة من إيران بالخروج من سوريا.

    أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني جدد مرة أخرى قوله، إلى أن إيران ستبقى تقدم “الدعم والاستشارات العسكرية” لدمشق حتى “إبادة كافة المجموعات الإرهابية”، بحسب توصيفه.

    ولن تلتفت إيران- بحسب تصريحات شمخاني- إلى الدعوات الإسرائيلية، ولا إلى مواقف الدول الأخرى بهذا الشأن، فالمحدد الوحيد لتحركات إيران هو مقتضيات الأمن القومي الإيراني، ومصالحها فضلا عن حفظ أمن المنطقة واستقرارها، هذا إلى جانب إلى أن إيران هي من أولى الدول المعنية بإعادة اعمار سوريا، محذرة بوتين من أية مغامرة غير محسوبة العواقب مع إيران.

    ولكن ما هي السيناريوهات التي تراهن عليها موسكو لإخراج طهران ومليشياتها من سوريا؟

    أولى هذه السيناريوهات: هي ممارسة الضغوط الدبلوماسية التي تعد إحدى الأدوات التي تمتلكها موسكو لإجبار إيران على الانسحاب من سوريا، وخاصة أن طهران بحاجة إلى روسيا للتخفيف من الضغوط التي تمارس عليها بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي، وضيق الخيارات أمام طهران لموازنة الضغوط الغربية عليها.

    السيناريو الثاني: هو مواصلة الضغط الروسي على إيران والذي قد يصل إلى مرحلة التلويح بفرض العقوبات على طهران وتقويض تحركاتها، وهو أشد ما تخشاه طهران، هذا في حال مضي إيران في ممارسة سياسة التحدي، وعدم الرضوخ للمطالب الروسية.

    السيناريو الثالث: وقد يكون من السيناريوهات التي تمت فعليًا وهو التوافق بين موسكو وتل أبيب، وهو  التساوق مع الخطة  العسكرية الإسرائيلية لدفع إيران على الانسحاب من سوريا، من خلال منح  إسرائيل المزيد من الحركة لتصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا، من أهمها تصعيد الضربات الجوية للأهداف الإيرانية في العمق السوري نفسه، دون التحرك  الروسي، علاوة على تقديم الروس لمعلومات استخباري للجانب الإسرائيلي والتي من شأنها الإسهام في توجيه ضربات نوعية قاصمة قد تدفع إيران وميلشياتها إلى الانسحاب.

    من المؤكد بأن التوتر بات سيد الموقف بين إيران وروسيا، التي بدأت تفكر برؤية جديدة هدفها الانتقال إلى مرحلة الحل السياسي، الأمر الذي قد يسهم في إعادة الاعمار في سوريا، ولكن هذا لن يتأتى في ظل ميل طهران إلى بناء مشروعها ومجالها الحيوي في سوريا، والذي بات يهدد المصالح الروسية.

  • التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية

    تقدير استراتيجي (103) – أيلول/ سبتمبر 2017.

    ملخص:

    سمحت الوضعية القانونية للفلسطينيين في سورية بممارسة وطنية شكلت الشخصية السياسية لهم من خلال تطور دورهم الريادي في مراحل النضال الفلسطيني المختلفة.

    لقد انقسم فلسطينيو سورية بوتيرة مشابهة لحال المجتمع السوري في اصطفافهم السياسي خلال الحرب الدائرة هناك، ووثقت التقارير الحقوقية حالة قتل واعتقال وتهجير مشابهة تقريباً للحالة السورية بالعموم.

    بعد ستة أعوام فإن سؤال المستقبل ما يزال يلقي بظلال ثقيلة وغامضة على وضع فلسطينيي سورية، خصوصاً مع تركز أكثر من ثلاثة أرباعهم في العاصمة دمشق التي تضاعف عدد سكانها من 4.4 ملايين في 2010 إلى 8 ملايين في 2016، وشهدت تحولات ديموجرافية نوعية. وهو ما يضعنا أمام ثلاث سيناريوهات محتملة، وهي:  السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. السيناريو الثاني هو عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011. وأما السيناريو الثالث فهو تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد. وعلى ما يبدو وفق المعطيات المتوفرة فإن السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحاً.

    أولاً: الفلسطينيون في سورية قبل الأزمة:

    يعتقد كثير من المراقبين لأحوال اللاجئين الفلسطينيين في المنطقة أن أوضاع فلسطينيي سورية كانت الأوضاع الأفضل نسبياً من الناحية القانونية والسياسية والاجتماعية. فالمقارنة مع أوضاع اللاجئين في الدول المجاورة وخصوصاً لبنان، تُظهر فارقاً واضحاً لصالح الوضع القانوني الذي يتمتع به اللاجئ الفلسطيني في سورية. ففي سنة 1956 صدر القانون 260 الذي عدَّ اللاجئ الفلسطيني في سورية مساوياً للمواطن السوري في كافة الحقوق والواجبات ما عدا حقَي الترشح والانتخاب. وعُدَّ هذا القانون معياراً في السنوات اللاحقة لكثير من القوانين الصادرة عن الحكومات السورية المتعاقبة. وبالرغم من التفريق بين شرائح متنوعة من اللاجئين الفلسطينيين داخل سورية على قاعدة تاريخ اللجوء إلى البلاد، فقد بقي أكثر من 85% من فلسطينيي سورية مشمولين بوضع قانوني معادل للمواطن السوري في أغلب الحقوق والواجبات على أساس القانون 260.

    بقي المكون الفلسطيني في سورية يحمل طبيعة سياسية داخل البلاد بحكم الموقع الجيو-سياسي لسورية من جهة. وبحكم طبيعة النظام السياسي الذي حكم البلاد غالبية العقود الماضية منذ سنة 1963 حتى اليوم؛ فقد قامت الأسس المعيارية لنظام البعث في سورية على تبني موقف سياسي يجعل من القضية الفلسطينية في قلب خطابه وتحركاته كأحد أهم مكتسبات الشرعية السياسية داخلياً وعلى مستوى الإقليم. وهو ما جعل البيئة الوطنية بالنسبة للفلسطينيين في مخيماتهم تحظى بما هو أكثر من المسموح به على مستوى البلاد، فأسهم ذلك في بناء الشخصية الوطنية لمجتمع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، الذين طوروا دورهم في مختلف مراحل النضال الفلسطيني كطليعة استقطبت مستوى عالٍ للعمل الفلسطيني الفصائلي والشعبي والسياسي العام.

    ثانياً: الفلسطينيون في بدايات الأزمة السورية:

    ألقت حالة الاندماج المجتمعي بين الفلسطينيين والسوريين ظلالها على كل مفاصل الحياة العامة. ويبدو أنها كانت استحقاقاً لا مفر منه مع اندلاع الأحداث في الشارع السوري سنة 2011. فقد عاش الفلسطينيون في سورية في ترقبٍ قلقٍ من تطور أحداث الشارع السوري خلال الأشهر الأولى للأزمة في 2011، خصوصاً مع تعمد بعض الأطراف الرسمية الزجّ بالفلسطينيين في الأحداث في درعا واللاذقية، كمحاولة بدت لتطويق الاحتجاجات في الأحياء السورية، والإيحاء إعلامياً أنها ذات هوية غير محلية، كما حدث في التقارير الإعلامية للصحافة الرسمية وشبه الرسمية حول أحداث درعا في 21 آذار/ مارس 2011، وفي المؤتمر الصحفي لمستشارة الرئيس السوري بثينة شعبان حول أحداث اللاذقية في 26 من الشهر نفسه. ومع امتداد الاحتجاجات السورية على مستوى البلاد ووصولها إلى مناطق بعيدة عن مركز الوجود الفلسطيني في العاصمة والمدن الرئيسية، بات رهان البعض على تصدير الأزمة إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين غير ذي جدوى، فتعاملت السلطات مع الواقع كما هو، وقامت بمحاولة تحييد المخيمات خلال المرحلة التالية. فقد اجتاحت قوات النظام السورية مدينة درعا في شهر نيسان/ أبريل 2011 ودخلت كافة أحياء المدينة، باستثناء مخيم درعا، الذي اضطلع بدور إغاثي مشهود في الأشهر التي تلت احتلال المدينة وعسكرتها. تكرر الأمر في مخيم اللاذقية الذي تمّ تهجير سكانه في آب/ أغسطس 2011 خلال قصف حي السكنتوري السوري المتاخم للمخيم، والذي قاد أول احتجاجات شعبية في المدينة، ولم يتم استهداف المخيم لذاته حينها، وإنما دفع المخيم فاتورة الجغرافيا.

    ثالثاً: دخول الفلسطينيين إلى قلب الأزمة والآثار الحالية:

    على الرغم من دخول عدد من النشطاء الفلسطينيين مبكراً على خطّ الثورة السورية، خصوصاً في مخيمي درعا واليرموك، إلا أن الانخراط الفعلي للمخيمات الفلسطينية في الأحداث لم يبدأ قبل شهر تموز/ يوليو 2012، بعد حادثة إعدام 14 جندياً من مجندي جيش التحرير الفلسطيني في منطقة إدلب، الحادثة التي خضعت لجدل كبير حول هوية الفاعل بين اتهام النظام بافتعالها أو المعارضة بارتكابها. ومع دخول دمشق، حيث يسكن ثلاثة أرباع الفلسطينيين في سورية، قلب الاضطرابات بعد تفجير مبنى الأمن القومي في حي الروضة في 18 تموز/ يوليو 2012، كانت المخيمات الفلسطينية في العاصمة تدخل مرحلة دموية قاسية.

    بدأ دخول المخيمات الفلسطينية إلى الأحداث بطابع إغاثي إنساني، حين هَجَر سكان الأحياء الدمشقية، خصوصاً الميدان والزاهرة، مساكنهم نتيجة الحملة العسكرية المكثفة هناك. ونزح إلى مخيم اليرموك وحده خلال تلك الفترة قرابة 250 ألف نازح سوري. وهي الفترة التي بدأ فيها الجدل حول تشكل قوة فلسطينية موالية للنظام بالظهور إلى السطح، حيث نفذت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة مشروع اللجان الشعبية المسلحة، بالتنسيق مع السلطات وبعض الفصائل الفلسطينية الأخرى داخل مخيم اليرموك في مرحلة شديدة التوتر، أدت إلى انهيار الأوضاع الأمنية كلياً مع نهاية سنة 2012، حين دخلت كتائب المعارضة المسلحة مخيم اليرموك، وترافق ذلك مع نزوح أهلي كبير لسكان المخيم خوفاً من القصف والأعمال الحربية المتوقعة.

    خلال هذه المرحلة، كانت الأوضاع الميدانية في العاصمة تتدهور بشكل دراماتيكي، فقد دخلت المعارضة المسلحة أكبر مخيمين بعد اليرموك في دمشق وهما الحسينية والسبينة الذي يبلغ تعداد الفلسطينيين فيهما مجتمعين قرابة 90 ألفاً. وأدى هذا إلى تهجير كبير للسكان. وبفعل الأعمال العسكرية اللاحقة فقد استعاد النظام في أواخر سنة 2013 المخيمَين، لكنه منع الأهالي من العودة إلا بشكل محدود، اعتباراً من النصف الثاني من سنة 2016.

    رابعاً: فلسطينيو العاصمة:

    وقع مخيم اليرموك الذي كان يبلغ تعداد سكانه من الفلسطينيين نحو 220 ألفاً تحت ظروف مأساوية، شهد فيها حصاراً أودى بحياة 196 جوعاً ومرضاً. وعبر المراحل المختلفة لم يتبقَ في مخيم اليرموك إلا قرابة ثلاثة آلاف نسمة فقط.

    إن القراءة العامة لأوضاع الفلسطينيين في سورية يمكن التقاطها من خلال الوجود الفلسطيني في العاصمة دمشق التي كانت حتى قبيل الأزمة موطناً لنحو ثلاثة أرباع فلسطينيي سورية أو يزيد. وعلى الرغم من حضور مخيمات درعا والرمل وحندرات بقوة في مشهد الأزمة، إلا أن التعداد العام لسكان هذه المخيمات يجعل القراءة من خلالها مسألة جزئية بالرغم من أهميتها.

    فبالنظر إلى المخيمات الكبرى في دمشق يمكن ملاحظة التراجع الحاد في التعداد السكاني الفلسطيني كما يلي:

    مخيم اليرموك من 220 ألفاً بقي داخله نحو 3 آلاف فقط.

    مخيم الحسينية من 65 ألفاً، سُمح لنحو 30 ألفاً بالعودة حتى اليوم.

    مخيم السبينة من نحو 33 ألفاً، سُمح لـ 3 آلاف فقط بالعودة حتى اليوم، ويتوقع أن يسمح لألفين آخرين. كما أن السماح بالعودة تتم فقط للقسم الجنوبي من المخيم الذي يقترب من الريف الحوراني، وما يزال سكان القسم الشمالي المتصل بأحياء القدم والعسالي القريبة من مركز العاصمة محظرواً عليهم العودة.

    لا بدّ من ملاحظة أن أكثر من نصف الفلسطينيين في سورية يسكنون هذه المخيمات الثلاث (بحدود 310 آلاف)، والباقي يتوزع على عشرة مخيمات أخرى، والأحياء والمدن السورية خارج المخيمات.

    لقد وصل الوضع الميداني في مخيم اليرموك حيث باتت كل الفصائل المسلحة داخل المخيم بما فيها تنظيم داعش الذي يطلق على نفسه تنظيم الدولة الإسلامية، على استعداد لتوقيع أيّ تسوية للخروج الآمن من المخيم، ولكن كل هذه الاتفاقيات فشلت في التوصل إلى صيغة نهائية، حتى اليوم، دون وجود أسباب جوهرية لذلك. وهذا يضع مستقبل مخيم اليرموك تحديداً (الأقرب لقلب العاصمة؛ ستة كيلومترات) أمام سؤال كبير. وبالرغم من أن مخيم خان الشيح شهد تطورات مأساوية، إلا أن سيطرة سلطات النظام عليه في أواخر سنة 2016 بعد التسوية التي أبرمت مع الجماعات المسلحة والإغاثية داخل المخيم لم تدفع بالمخيم إلى مصير مشابه لمخيمات اليرموك والحسينية أو السبينة، حيث عاد حتى اليوم قرابة نصف سكان المخيم، ورُفعت القيود تقريباً عن النازحين من سكانه في المناطق المجاورة. إن الفارق الجوهري الوحيد بين وضع مخيم خان الشيح ومخيمات جنوب العاصمة (اليرموك، والسبينة، والحسينية) هو موقعه الجغرافي الطرفي، حيث يقع على بعد 25 كم جنوب غرب العاصمة.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل لفلسطينيي سورية:

    الأمر الأهم في تصوراتنا للاحتمالات المستقبلية هو التغيرات الجوهرية التي طرأت على البنية الديموجرافية في مدينة دمشق، حيث يسكن نحو ثلاث أرباع اللاجئين الفلسطينيين، ثلثاهم في المخيمات الثلاث (اليرموك، والحسينية، والسبينة) التي يفرض النظام قيوداً صارمة على عودة أهاليها.
    بناءً على ما سبق فإن الاحتمالات قد تنحصر في ثلاثة سيناريوهات:

    السيناريو الأول: إعادة توزيع الفلسطينيين في سورية على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“:

    وهذا يلبي التطلعات الأمنية للسلطات التي تبدو في دمشق قائمة على أساس وقائع التحولات الديموجرافية التي خلفتها الحرب.

    لقد شهدت العاصمة دمشق هجرات واسعة بالاتجاهين، إلى خارج وإلى داخل المدينة، إلا أن عدد سكانها تضاعف تقريباً منذ بداية الأزمة حتى اليوم. ففي سنة 2010 قدر الإحصاء الرسمي للمدينة عدد سكانها بـ 4.4 مليون نسمة، وفي سنة 2016 تضاعف هذا العدد ليصبح 8 ملايين نسمة وفق تأكيدات عضو مجلس محافظة دمشق حسام البيش، وهذا بالرغم من حالة التهجير التي حدثت لسكان المدينة خلال سنوات الحرب (بلغت تقديرات اللاجئين السوريين كافة خارج البلاد 6 ملايين، أي ربع السكان). هذه الزيادة الهائلة في تعداد سكان العاصمة تعني بالضرورة أزمة سكن خانقة (كانت العاصمة تعاني منها قبل الأزمة). وهي أزمة تتناقض بشكل مباشر مع سلوك النظام تجاه مخيمات فلسطينية كبرى في العاصمة ما تزال مساكنها خالية في أجزاء كبيرة منها، على الرغم من الهدوء التام فيها منذ سنة 2013.

    إن المخيمات ذات الكثافة السكانية العالية والقريبة من مركز العاصمة والتي تعرضت لتطورات ميدانية خلال فترة الأزمة، قد لا يكون بالإمكان إعادتها كما كانت عليه قبل سنة 2011. وعليه فإن السلوك الحالي للسلطات تجاه هذه المخيمات ومنع أيّ تسويات فيها تسمح بعودة طبيعية للسكان خصوصاً في مخيم اليرموك، قد يعني مشروع إعادة توزيع الفلسطينيين داخل العاصمة بما يخدم الاحتياجات الأمنية للنظام. يقترب هذا الاحتمال مع تسريبات ما تزال تحتاج إلى تأكيد حول مشروع ناقشته محافظة دمشق حول إعادة تخطيط منطقة جنوب العاصمة (جنوب المتحلق الجنوبي) من المنطقة الممتدة من داريا حتى طريق المطار الدولي، وهي منطقة تقع فيها كبرى مخيمات العاصمة التي تعاني من عدم السماح للأهالي بالعودة الطبيعية (اليرموك، والحسينية، والسبينة). إذ تقول التسريبات أن المشروع يهدف لتأمين جنوب العاصمة، الذي كان البوابة الأوسع للاضطرابات العسكرية خلال الأزمة، من خلال إعادتها عمرانياً.

    السيناريو الثاني: عودة وضع الفلسطينيين لما سبق سنة 2011:

    وهو سيناريو يرى أن قدرة النظام على الصمود ارتكزت أساساً على قدرته على اجتراح جدلية قائمة على تفسير أو تبرير، أحياناً، سلوكه القمعي ارتكازاً على موقفه السياسي الذي يطرح القضية الفلسطينية في صلب خطابه العام.

    على الرغم مما يحمله هذا الطرح من موضوعية في تفسير المآلات التي وصل إليها الوضع السوري، إلا أنه يفسر جزءاً يسيراً من النتيجة التي ربما نجحت في صناعة حكاية متداولة في مستوى القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام السوري لا أكثر. ويبقى شكل التحالفات والتحولات الإقليمية وتداعيات الثورة المضادة بعد الربيع العربي وحجم إمكاناتها إطاراً تفسيرياً أوسع مما يمكن اختزاله في الحالة الفلسطينية. خصوصاً بالنظر لما تعرض له الفلسطينيون في سورية حيث وثّقت المؤسسات الحقوقية 3,580 قتيلاً فلسطينياً، تتحمل السلطات مسؤولية وفاة ثلاثة أرباعهم تقريباً، فيما ما يزال ملف أكثر من 1,600 معتقل فلسطيني مجهولاً لديها. ولو نظرنا في بعض التحولات القانونية التي شهدتها المرحلة الماضية، مثل استثناء الفلسطينيين من إعلان توظيف قدمته وزارة التربية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2012، واستثناء الفلسطينيين من الاستفادة من مرسوم الابتعاث العلمي لسنة 2013 كما كان معمولاً به في السابق، فإن كل هذا قد يعني استعداداً حكومياً كبيراً لاتخاذ إجراءات تعسفية بحق الفلسطينيين لإعادة إنتاج وضعيتهم القانونية، كأقلية تحتاج حماية السلطة في أي منعطف.

    السيناريو الثالث: تهجير الفلسطينيين من سورية إلى خارج البلاد:

    على الرغم من التداول المستمر لهذا السيناريو بشكل شعبوي، وبروز مؤشرات ما في اتجاهه، إلا أن الوقائع بعد ستة أعوام من الحرب لا تكفي للركون لهذا الاحتمال. فبالرغم من الحقيقة التي تقول إن الصراع السوري بات ملفاً إقليمياً ودولياً، ومن الصعب الوصول إلى حلّ كامل بدون نقاش كافة المسائل المرتبطة بوجود الكيان السياسي لنظام سورية المرتبط بفكرة ”القضية الفلسطينية“ وبالتالي قضية اللاجئين الفلسطينيين كجوهر للصراع، فالواقع ما يزال يشير إلى وجود أكثر من 400 ألف فلسطيني داخل سورية. والعدد المهجّر خارج البلاد من فلسطينيي سورية البالغ تقديراً 175 ألفاً يقترب من نسبة المهجرين السوريين التي تبلغ ربع التعداد العام للسكان، وهو مؤشر إلى أن عملية التهجير نتجت عن إجراءات واحدة تخص كل السكان في البلاد. أضف لكل ذلك أن فكرة ”القضية الفلسطينية“ في خطاب النظام شكلت مستنداً لا بدّ من الإقرار بثبوته لدى شريحة ليست قليلة، ولن يتم التخلي عنه إذا أثبت نجاعته.

    وعليه، فإن السيناريوهات المحتملة خلال المرحلة المقبلة قد ترجح السيناريو الأول على قاعدة ”فلسطينيون أقل في العاصمة وأكثر في الأطراف“. وهو سيناريو قد يعطي تفسيراً لتباين التعامل العام للسلطات في إعادة المهجّرين الفلسطينيين إلى مخيماتهم المختلفة بعد استقرار وضعها، إذ يُظهر الرصد تساهلاً في السماح بالعودة إلى المخيمات الطرفية مثل خان الشيح في العاصمة، ومخيمات حمص، وحماة، واللاذقية خارج العاصمة. فيما يبدو التشدد واضحاً في مخيمات الخط الجنوبي من العاصمة والتي تقترب من مركز دمشق أكثر من غيرها مثل اليرموك، والحسينية، والسبينة. وبالنظر إلى ما يتردد حول مشروع ”سورية المفيدة“، فإن ”الفلسطيني المفيد“ هو جزء من هذه الرؤية إن صدقت، وستضع الاعتبار الأمني لوجوده من عدمه معياراً للسلوك العام للسلطات في هذا الملف.

    سادساً: توصيات ومقترحات:

    1. التأكيد دوماً على ضرورة الالتزام بالقانون 260 لسنة 1956 وعدم المساس به في أي تطور لوضع الفلسطينيين في سورية.

    2. مع تآكل السيادة الوطنية للدولة السورية، فإن أي تطور على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية ينبغي ألا يكون مسألة سوريّة داخلية، بل لا بدّ من إشراك الفلسطينيين (كافة مستوياتهم) في بلورة مستقبل مخيماتهم في سورية.

    3. في ظلّ الانسجام الطارئ بين موقف منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية مع النظام السوري، فإن التوافق الفلسطيني – السوري الرسمي قد يبدو متاحاً تجاه أي رؤية مستقبلية. وهذا يطرح مخاطر الاتفاق على شكل يخدم التسوية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين التي كانت وما زالت تصطدم بعقبة اللاجئين، خصوصاً كتلة الفلسطينيين في سورية، بحكم الدور والموقف ضدّ التسوية خلال الفترة الماضية. هذا لا بدّ أن يستدعي دوراً للمستويات غير الحكومية فلسطينياً في تقرير أي تطور محتمل.

    4. ضرورة أن تولي الجهات الفلسطينية الفاعلة (فصائل ومؤسسات) أولوية لوضع ومستقبل فلسطينيي سورية، والتأكيد على نقطة الحياد التام كمحطة انطلاق في أي نقاش حول المسألة مع الجهات ذات الصلة.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ طارق حمود بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.


     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية Word (10 صفحات، 94 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (103): مستقبل فلسطينيي سورية  (10 صفحات، 559 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 29/9/2017

  • التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط

    تقدير استراتيجي (94) – كانون الأول/ ديسمبر 2016.

    ملخص:

    تسعى روسيا تحت قيادة بوتين إلى استعادة جانب من دورها ونفوذها الدولي، الذي فقدته إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. وتحاول الاستفادة من عدم الرغبة الأمريكية في التدخل المباشر في صراعات المنطقة، غير أنها تعلم أنه من الصعوبة بمكان تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية، التي ترى في الشرق الأوسط منطقة لنفوذها. وما زال سقف تدخلها في سورية وغيرها مراعياً لهذه الخطوط، ومتجنباً لأي صراع مباشر مع الأمريكان. وفي هذا الإطار تنسج روسيا علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، مع إيران، وتركيا، وسورية، والعراق، ومصر، وغيرها. ومن المحتمل أن يتطور الدور الروسي ضمن أفضل ما يستطيع الروس تحقيقه. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    مقدمة:

    انتهت الحرب الباردة التي استمرت عقوداً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بهزيمة الأخير بل وتفككه، وورثت روسيا الاتحادية تركة الاتحاد السوفياتي بجميع استحقاقاته ومكتسباته. وعلى خلاف الاتفاق الذي كان بين الرئيسين السوفياتي غورباتشوف والأمريكي بوش والذي كان يبدو في ظاهره أنه اتفاق بين ندّين، شعر الروس بأن الغرب يعاملهم بغطرسة شديدة وأن تسوية ما بعد الحرب الباردة ليست عادلة، بل واصل الغرب الضغط على روسيا لإنهاكها داخلياً واقتصادياً وضمّ ساحات النفوذ التاريخية التابعة لها لنفوذه، خصوصاً تدخل الناتو في حرب كوسوفا ثم جمهوريات آسيا الوسطى وجورجيا فيما بعد، مما عُدَّ مساساً بالأمن القومي الروسي، وأوجد شعوراً عاماً عند النخبة الروسية بأن روسيا لا يمكن أن تكون مجرد دولة أوروبية ذات وزن إقليمي؛ فهي إما أن تكون دولة عظمى —بالرغم من قلة إمكاناتها— وفي موقع الشريك مع الغرب، أو أنها ستنهار.

    كان مجيء بوتين للسلطة في روسيا نقطة تحول رئيسية في التوجهات السياسية، وقد عبر عن ذلك في خطابه السنوي في المجلس التشريعي الروسي (الدوما) في سنة 2005، حيث قال بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان ”كارثة جيوسياسية كبيرة“، وبأن الغرب لم يحسن التصرف بعد نهاية الحرب الباردة، وأنه أخطأ عندما ظنّ بأن روسيا ستستمر في الانحدار.

    إن هذا المدخل مهم جداً لشرح معظم الدوافع والتوجهات الروسية في منطقة الشرق الأوسط، واستشراف المدى الذي من الممكن أن يتطور إليه الدور الروسي، والذي لا يمكن حصره في التدخل العسكري في سورية وإن كان هذا التدخل يمثل العنوان الرئيسي.

    أولاً: دوافع روسيا في الشرق الأوسط:

    من حيث الأهمية في التسلسل الهرمي التقليدي للسياسة الروسية الخارجية يأتي ترتيب الشرق الأوسط تالياً لأمريكا وأوروبا والصين ودول آسيا الصاعدة، لكن بما أن موسكو قد حددت توجهاتها بأنها يجب أن تعود كقوة عالمية، عظمى، وأن تنهي النظام العالمي أحادي القطبية، فلا يمكن لها أن تتجاهل هذه المنطقة بما تمثله من موقع جغرافي فريد وثروات طبيعية هائلة. ورأت في حالة الاضطراب والفوضى في منطقة الشرق الأوسط فرصة لاستعادة مناطق نفوذها التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالتالي اكتسبت تلك المنطقة صفة ”منطقة اختبار“، تختبر فيها روسيا قدرتها في العودة للساحة العالمية كشريك أساسي ومؤثر.

    وفق هذا التصور، يصبح الدافع الجيو-سياسي هو الدافع الرئيسي —وليس الوحيد— لاهتمام روسيا في المنطقة العربية، وهو المنطلق الأساسي الذي على أساسه تَنسج شبكة علاقاتها بدءاً من التدخل العسكري في سورية، والتحالف مع إيران، وعقد اتفاقات مع تركيا، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع ”إسرائيل“، وليس انتهاءً بالسعي لإقامة علاقات مع العراق ومصر ودول الخليج، وهو دافع مرتبط بالأمن القومي الروسي.

    وبطبيعة الحال ليس هذا هو الدافع الوحيد، فبالإضافة لذلك يوجد الدافع الاقتصادي وهو حاضر بقوة خصوصاً عند الحديث عن العلاقات الروسية التركية، أو العراقية، أو الإيرانية، فالتبادل التجاري بين روسيا وهذه الدول في مستوى عالٍ، وتسعى روسيا لمزيد من الاستثمار، خصوصاً في مجال الطاقة البديلة، والنفط، والغاز، وصفقات السلاح.

    كما يبرز هدف أساسي ثالث وهو محاربة ما يُسمى التطرف والإرهاب، وما يمثله من تهديد أمني على الداخل الروسي، حيث تشير تقارير متفاوتة بوجود ما بين ألفين إلى خمسة آلاف ”جهادي“ يحملون الجنسية الروسية وينتمون لصفوف تنظيم الدولة الإسلامية أو التنظيمات الجهادية الأخرى. وحسب المفهوم الروسي، لا تقتصر التنظيمات الإرهابية على تنظيم الدولة، بل هو مفهوم واسع يشمل جميع الفصائل الإسلامية المسلحة التي تقاتل النظام السوري.

    ولتنظيم الدولة حضور إعلامي قوي في مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالروسية، وهناك قناعة روسية بأن انتشار التطرف الإسلامي يعزز النزعات الانفصالية في داخل روسيا، ويشكل ثغرة يمكن أن يستغلها الغرب لتهديد الأمن القومي الروسي، حيث تزيد نسبة المسلمين في روسيا عن 17% من السكان.

    ثانياً: كيف تتحرك روسيا؟

    تاريخياً كانت روسيا تنظر لنفسها من موقع ”الدولة ذات الرسالة“ فهي القيصرية الروسية حامية الكنيسة الأرثوذكسية، أو هي الاتحاد السوفياتي صاحب الرسالة العالمية الشيوعية؛ بينما تطرح نفسها حالياً من موقع براجماتي تسعى لتحقيق مصالح مشتركة مع دول المنطقة، وتعمل على الحفاظ على استقرارها، وتحرص على تكوين شبكة علاقات متوازنة مع الجميع.

    ومن خلال خبرتها مع الثورات التي حدثت في المجال الحيوي لروسيا؛ في أكرانيا وجورجيا…، في العقد الماضي، ترى موسكو أن ثورات الربيع العربي لم تكن عفوية وإن كانت في البداية عفوية، لكن استطاع الغرب أن يتحكم بها ويوظفها لخدمة مصالحه، وأن الموقف الأمريكي كان مهادناً لها لدرجة أنه تخلى عن أقرب حلفائه وهو الرئيس المصري المخلوع مبارك. وكانت الضربة الكبرى هي تدخل الناتو في ليبيا. وفي خطابه أمام الجمعية العمومية في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2015، انتقد الرئيس الروسي السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وحمَّلها نتيجة الفوضى الحادثة فيها، وأن تلك الحالة ناتجة عن تجاوز الولايات المتحدة لمجلس الأمن في إجراءاتها، وفي تدخلها في الصراعات بشكل مباشر، مما نتج عنه ظهور تنظيم الدولة وأزمة اللاجئين في أوروبا. ووجه سؤاله للأمريكان قائلاً: ”هل تدركون ما فعلتم الآن؟“

    ثالثاً: الفرص الروسية في المنطقة:

    1. التدخل في سورية:

    بطبيعة الحال، يُعدُّ النفوذ الروسي في سورية هو العنوان الرئيسي لنفوذها في المنطقة ومنذ البداية حرصت روسيا على أن يكون تدخلها شرعياً بالاتفاق مع النظام الحاكم في سورية والمعترف به دولياً. ولأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة تتخذ موسكو موقفاً استباقياً وتتدخل بهذا الشكل المباشر في الأزمات الدولية، واستطاعت روسيا بتدخلها العسكري أن توقف تدهور قوات النظام السوري وأعادت له زمام المبادرة، وقامت بمناورات عسكرية حقيقية، وأعادت تقييم جاهزية قواتها المسلحة، واحتفظت بقاعدتها البحرية العريقة في طرطوس، وأنشأت قاعدة جوية في حميميم في اللاذقية، ونشرت منظومة الدفاع الجوي أس 400 المتطورة، وحمت نفسها في الوقت ذاته من تورط قواتها البرية في المستنقع السوري. وبالتالي نستطيع أن نقول بأن روسيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها في سورية، وفرضت نفسها كلاعب دولي أساسي لا يمكن تجاوزه.

    وتتلخص الرؤية الروسية للأزمة السورية في:

    • ليس من حقّ أي دولة أن تتدخل لقلب النظام الحاكم في أي دولة أخرى، ولا تغيير حدودها الجغرافية، لذلك فروسيا مع وحدة الأراضي السورية، وأن مصير الشعب السوري يحدده الشعب دون إملاءات خارجية.

    • الأولوية لمحاربة التنظيمات الإسلامية المتشددة وفق التصنيف الروسي الذي لا يقصرها في تنظيم الدولة والنصرة.

    • حلّ الأزمة السورية هو حلّ سياسي ولا يمكن حسم المعركة عسكرياً، لذلك كان هدف الحملة العسكرية الروسية هو فرض واقع جديد ثم الدعوة للحوار السياسي.

    • وغاية ما تطمح له الديبلوماسية الروسية هو الجلوس من موقع الشريك مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حلّ سلمي، الأمر الذي تقابله الإدارة الأمريكية بعدم اعتبار روسيا لاعباً دولياً بل هي لاعب فوق إقليمي، حسب تصريح الرئيس أوباما.

    2. التحالف مع إيران:

    لروسيا علاقات وثيقة جداً مع إيران على مختلف المستويات بالرغم من وجود ثغرات في الثقة المتبادلة بينهما، فالتدخل الروسي في سورية ما كان ليتم لولا الغطاء البري من إيران والقوات المتحالفة معها. وبالرغم من تشابك المصالح بين الدولتين، إلا أن هناك جواً من الحذر في التعامل فيما بينهما، فإيران من مصلحتها المزيد من الانخراط الروسي في المعارك في سورية، بينما تحرص روسيا على الاكتفاء بالضربات الجوية وعمليات القوات الخاصة. لكن مستوى مقبولاً من التناغم قائم بينهما فيما يتعلق بالأزمة السورية وفيما يتعلق بمواجهة السياسة الأمريكية. وأظهرت روسيا قدراً كبيراً من القدرة على التفاهم مع إيران على الرغم من تصويتها في مجلس الأمن لصالح فرض عقوبات على إيران، بسبب برنامجها النووي، لأنها تتعامل مع هذه المسألة وفق محددين، أولهما: تأييد حقّ إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للاستخدامات السلمية، وثانيهما: رفض امتلاك إيران أسلحة نووية.

    3. اتفاقيات مع تركيا:

    استطاعت الدولتان تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية والمضي في التعاون الاقتصادي بالرغم من الخلافات السياسية الجوهرية بين البلدين فيما يتعلق بسورية، لكن تعامل الطرفين ببراجماتية عالية أدى إلى تطور على الأرض أيضاً، فعلى مدى سنوات كانت أنقرة تُسوِّق لمشروعها القاضي بإيجاد منطقة آمنة على حدودها السورية، الأمر الذي كانت ترفضه واشنطن. لكن بعد التفاهم مع الروس تمكن الأتراك من التوغل في الأراضي السورية، وفرض أمر واقع جديد في مواجهة القوات الكردية. غير أن العنوان الأبرز للعلاقات الروسية التركية هو الاقتصاد، خصوصاً في مجالات الطاقة، والغاز، والزراعة، والبناء.

    4. العلاقة مع العراق:

    نتيجة لعلاقاتها الجيدة مع إيران، تحظى روسيا بعلاقات جيدة مع العراق وتسعى للحصول على صفقات في مجال التسليح والطاقة، كما أنها في الوقت نفسه على علاقات تاريخية مع الأحزاب الكردية.

    5. السعودية وغياب الثقة:

    لم تكن العلاقات بين السعودية وروسيا مميزَّة في يوم من الأيام. ويوجد تضارب في وجهات النظر فيما يتعلق بالتعامل مع ملفات المنطقة بما في ذلك العلاقة مع إيران، ومستقبل سورية ونظام الحكم فيها. كما تنظر روسيا إلى ما تُسمِّيه ”الفكر الوهابي“ الذي تتبناه السعودية نظرة ريبة، وبأن انتشاره بين مسلمي روسيا يهدد الأمن القومي الروسي. لكن شهدت الآونة الأخيرة اتصالات مكثفة بين الجانبين، وتريد روسيا من السعودية التفاهم حول أسعار النفط، ومن مصلحة السعودية انتهاج سياسة التنويع في العلاقات الخارجية، لذلك من المتوقع استمرار الاتصالات بين الجانبين.

    6. تحسن العلاقات مع مصر:

    تاريخياً، كانت مصر تمثل عماد المصلحة الجيو-سياسية السوفياتية في المنطقة، قبل أن تتحول باتجاه الولايات المتحدة. تحسنت العلاقات المصرية الروسية بشكل كبير بعد وصول عبد الفتاح السيسي للرئاسة، والرئيس بوتين ينظر إليه باعتباره الشخص القادر على استعادة الاستقرار في أكبر بلد عربي. ومن خلال التمويل السعودي حصلت مصر على صفقة أسلحة روسية كبيرة، الأمر الذي نُظر إليه على أنه شراء موقف، لأن الجيش المصري يعتمد بشكل أساسي على الأمريكان في التسليح والتدريب.

    7. روسيا و”إسرائيل“:

    يشكل الناطقون بالروسية في دولة الاحتلال خمس السكان، كما أنه يوجد حضور معتبر لليهود في روسيا، والعلاقات بين البلدين جيدة، على الرغم من أن روسيا ليست على اتفاق مطلق مع ”إسرائيل“ وتتبنى حلّ الدولتين، وتختلف مع وجهات النظر الإسرائيلية في الموقف من إيران وحزب الله وحماس، وهي بالتالي تنتهج نهجاً مرناً يخالف النهج الأمريكي، الذي يُعدّ حليفاً تقليدياً لدولة الاحتلال.

    رابعاً: عقبات تحد من القدرة الروسية:

    1. المُحدِّد الأمريكي: تُعد منطقة الشرق الأوسط بشكل عام منطقة نفوذ أمريكي ضمن التقسيمات التقليدية في فترة الحرب الباردة (ثنائية القطبية الأمريكية الروسية). وبالرغم من محاولات الروس الدائمة لإيجاد موطئ قدم ودوائر نفوذ وتحالفات، إلا أن الأمريكان ظلوا اللاعب الأكبر في المنطقة. وبغض النظر عن الأسلوب الذي أدار به أوباما السياسة الأمريكية في المنطقة، وما بدا وكأنه تراجعٌ في الدور الأمريكي، إلا أنه لم يحصل تغير على جوهر السياسة الأمريكية، بالرغم من سعي الأمريكان لتخفيض التكاليف والنأي عن التدخل المباشر. ولا يظهر أن التحرّك الروسي مسَّ حتى اللحظة المصالح الحيوية الأمريكية وخطوطها الحمراء، بغض النظر عن انزعاج عدد من الأنظمة الصديقة لأمريكا من طريقتها في إدارة النزاعات.

    ويبدو أن التدخل الروسي في سورية لم يتعارض مع السياسة الأمريكية في استمرار استنزاف الحكومة والمعارضة السورية، وتغذية الصراع بما يمزّق النسيج الاجتماعي السوري طائفياً وعرقياً، ويدمر الاقتصاد؛ وبما يؤدي لإضعاف الدولة المركزية في سورية لصالح الانقسامات الداخلية التي قد تنشأ في أي ترتيبات مستقبلية؛ وهي ترتيبات ما تزال لأمريكا يدٌ دولية طُولى فيها مقارنة بالروس. كما أن النظم الحاكمة في المنطقة ما تزال أكثر ميلاً في علاقاتها مع الأمريكان مقابل الروس لأسباب مختلفة. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    2. ضعف الإمكانيات المادية الروسية، بسبب الأزمة المالية الكبيرة التي تتعرض لها موسكو، بسبب تراجع أسعار النفط، والعقوبات الاقتصادية الأوروبية.

    3. احتمال تمدّد الحرب في سورية واتساعها، وفي هذه الحالة ستتعرض روسيا لاستنزاف شديد تحاول تجنبه، لأن الثمن الذي سيدفع حينها سيكون باهظاً جداً إذا قورن بالمكتسبات، وسيعيد ذكريات حرب أفغانستان إلى الرأي العام الروسي. وحتى الآن فالعملية العسكرية الروسية في سورية ما تزال محدودة التكاليف، وهي تقارب تكلفة أي مناورة كبيرة.

    4. التعاون الوثيق مع إيران، كما أنه يمثل فرصة لروسيا، إلا أنه أيضاً يمثل عقبة تُقِّيد يدها في المنطقة. فعلى سبيل المثال تحتاج روسيا إلى إيران في مدَّ علاقات اقتصادية قوية مع العراق.

    5. تشابك مصالحها مع نقيضين في المنطقة، وهما ”إسرائيل“ وإيران، مما سيؤثر على مصالحها في حالة حدوث صراع بين الطرفين، لذلك تتعامل روسيا مع المسألة بحذر شديد.

    6. العامل الداخلي الروسي، وهو العامل الأهم لكنه عامل بعيد المدى، مرتبط بفشل روسيا في التحول لدولة مؤسسات، وبالتالي هناك خشية من مرحلة ما بعد بوتين.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل:

    من خلال استعراض الحراك الروسي في المنطقة، يظهر أن موسكو تحاول إيجاد صورة اللاعب الواقعي وغير العقائدي، الذي يمتلك الخبرة والقوة بما فيه الكفاية، ويمثل الشريك الذي يمكن الوثوق به، والقادر على التأثير في الوضع من خلال ثنائية الديبلوماسية والقوة. روسيا تطرح نفسها كقوة عالمية كبرى مستعدة لتقديم شراكة لجميع الذين يشتركون معها في الرؤية لعالم متعدد الأقطاب. وفي هذا الإطار يبرز أمامنا سيناريوهان:

    السيناريو الأول: سيناريو استمرار تمدد الدور الروسي:

    وهو سيناريو يدعمه ما شهدناه من القدرة على نسج شبكة علاقات متنوعة ومتشابكة تتفاوت من التحالف الاستراتيجي إلى العلاقات الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من التحولات الدولية والإقليمية، والمهارة في التعامل مع الأحداث مثل المبادرة بالتدخل الاستباقي في سورية ومنع سقوط النظام، واحتواء حادثة إسقاط طائرة الركاب الروسية في سيناء، واستخدام سياسة التصعيد المدروس في احتواء الأزمة مع تركيا إثر إسقاط الطائرة.

    السيناريو الثاني: سيناريو انحسار الدور الروسي:

    وهو مرتبط بسير المعارك في سورية، وقدرة ورغبة الدول الداعمة لقوات المعارضة السورية على إحداث تغير استراتيجي في الميدان، وهو أمر لم تتضح بوادره حتى هذه اللحظة، كما أنه مرتبط بتفكك التحالف الإيراني – الروسي، ولا يوجد أي مؤشر على خلافات جوهرية بين الطرفين.

    سادساً: توصيات:

    من خلال الاستعراض السابق، يظهر لنا أن هناك دوراً متنامياً للروس في تفاعلات المنطقة، وتبدو القوى الشعبية الإسلامية منها والوطنية في موقف المناهض للدور الروسي، الأمر الذي يستدعي:

    1. مزيداً من الفهم للعقلية الروسية وللمصالح الروسية في المنطقة، وأنها مصالح جوهرية تمس الأمن القومي الروسي وتتجاوز أمر التطلعات الشعبية فيها.

    2. فلسطينياً تتميز السياسة الروسية بأنها تحتفظ بعلاقة جيدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا تتبنى جميع مواقفها، ولا تصنف الحركات المقاومة تصنيفاً إرهابياً، الأمر الذي يوفر هامشاً للمناورة.

    3. تنشيط الديبلوماسية الشعبية، من خلال الانفتاح أكثر على الرأي العام الروسي لا سيّما وأن 17% من المواطنين الروس هم مسلمون، ولهم دورهم ومكانتهم في الحياة الروسية، وكان لموقف مفتي روسيا دور إيجابي في تحسين العلاقات الروسية التركية إثر إسقاط الطائرة الروسية.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ علي البغدادي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط Word (12 صفحة، 95 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط  (12 صفحة، 546 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/12/2016

  • الحرب في سوريا انتهكت كل المعايير والقواعد الدولية المقدّسة

    كريم شاهين     

              نهاية العقد: لقد دمّر الصراع في سوريا كل هذه الخرافات التي طورناها عن أنفسنا كمجتمع دولي- حيث لم نظهر التعاطف اللازم، ولم نتعامل معها بالجديّة المطلوبة، ولم نتحمل المسؤولية الملقاة على عواتقنا في حماية المدنيين!

           كانت الأيام الماضية مروّعة في سوريا. حيث فرّ عشرات الآلاف من المدنيين إلى المناطق الحدودية خوفًا من تقدّم النظام. فهناك احتمال كبير في أن يقوم النظام بذبح جماعي مرة أخرى لسكان هذه المناطق.

            لقد فُرض حظر على المساعدات الإنسانية التي تَعْبر الحدود من تركيا إلى ثلاثة ملايين مدني محاصرين داخل صندوق للقتل في الشمال الغربي، وهو واحد من الجيوب القليلة المتبقية الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تعيش تحت قصف المدافع والرشاشات والطائرات المقاتلة. لقد دُمرت مدينة معرّة النعمان بشكل كامل في ظل الصمت العالمي والتقاعس الدولي.

            إنه لأمر محزن ولكنه ذو طابع كلّي. فمنذ عقد من الزمن تمّ تدمير كل القواعد الأخلاقية في هذه الحرب بشكل ممنهج، فالحرب في سوريا لم تُراعَ فيها أخلاق الحرب إطلاقًا.

            قبل عشر سنوات، كان الرئيس السوري بشار الأسد ممتلئًا بالثقة، حيث أعلن في مقابلة له مع صحيفة وول ستريت جورنال أن الانتفاضات التي اجتاحت الدول العربية الأخرى لا يمكن أن تحدث في سوريا لأن الحكومة السورية كانت تتماشى مع مواطنيها عند حدّ قوله.

            بالطبع، تمّت السيطرة الواضحة على المواطنين من خلال القبضة الحديدية متمثلة بشبكات واسعة النطاق من المخبرين، ومقرّات الأمن، والمخابرات، والسجون. والقبض كذلك على الاقتصاد حيث سُمح للفاسدين العبث بمقدرات الناس، والسيطرة على كل جوانب الحياة العامة والمجتمع المدني.

             ومع ذلك، كانت سوريا الأسد تتمتّع بثمار الانفتاح الواسع على الغرب وجيرانها العرب والترك.

             لقد نجحت دمشق في انتهاز الفرصة لإصلاح علاقتها مع الولايات المتحدة على خلفية مشكلة خلقتها وهي: -تحريك الخلايا الإرهابية والسماح لها أن تعبر الحدود العراقية لمحاربة القوات الأمريكية- واستثمرت العلاقات التجارية والدبلوماسية فضلا عن الجهود المبذولة لعزل إيران.

           لقد حضر الزوجان السوريان الأولان بشار وأسماء الأسد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان احتفالا يوم الباستيل مع ساركوزي في فرنسا.  فجذبوا اهتمام الناس عندما تحدّثوا بأريحية إلى المراسلين الغربيين حول الطموحات الديمقراطية المبذولة، وأظهروا لهم كيف تناولوا الطعام مع الجماهير في المطاعم الشعبية في مديني حلب ودمشق.

            كل شيء كان سرابًا، لقد أدّت عقود من الفوضى بقيادة حزب البعث المعروف بسوء الإدارة وعدم المساواة وتفشي المحسوبيات… إلى تراجع البلاد وضعف الاقتصاد… وبخاصة قطاع الزراعة، ما تسبب بهجرة سكان الأرياف إلى المدن.

          وكان لدى الجميع قصّته محزنة عن قريب حميم اختفى قسرًا في دهاليز المخابرات، ففي كل صباح تنفّذ أجهزة المخابرات عملية اعتقال للمشتبه بهم، ولا يُعرف مصيرهم إلا بعد إنفاق الأموال الطائلة من الرشاوي على السماسرة لدى الأفرع الأمنية.

            محمد محي الدين أنيس أبو عمر 70 عاماً، يدخن الغليون، وهو يجلس في غرفة نومه المدمّرة، يستمع إلى الموسيقى على مشغل فينيله الحاكي، في حي الشعار الذي كان يسيطر عليه الثوار في حلب سابقًا.

           وكان احتجاز المراهقين عام 2011م الذين كتبوا شعارات مناهضة للأسد على حائط مدرستهم. وكان اعتقالهم وتعذيبهم بمثابة الشرارة الأولى للحراك الشعبي، وتلاها احتجاج مدني سرعان ما انتشر في جميع أنحاء البلاد.

            في البداية طالب المحتجون بإصلاحات جزئية صغيرة، وكان ردّ الحكومة عنيفًا، فطالبوا بالإطاحة الصريحة بالنظام! فقابلهم النظام بوحشية كبيرة، ورفض الدخول في حوار جديّ معهم فاستمرّ الحراك الشعبي حتى يومنا هذا.

            قام النظام بإطلاق سراح الإرهابيين المدانين في محاولة منه لعسكرة المعارضة ولوضع المجتمع الدولي أمام خيارين: إما الرئيس الأسد بتاريخه الدموي الفظيع أو مواجهة المتطرّفين.

            لقد توقفت الأمم المتحدة في نهاية المطاف عن حساب عدد القتلى الذي بلغ 400000، في عام 2016. ومن المؤكد أن الأعداد أكثر من نصف مليون شخصا.

           تم تهجير نصف سكان البلاد، معظمهم داخل سوريا، وأجبر العديد منهم على ترك منازلهم عدّة مرات خلال الحرب التي استمرت تسع سنوات. فالملايين الذين فروا إلى الخارج غيّروا بشكل جذري في شخصية البلاد المجاورة وسياستها، وأولئك الذين تحدّوا البحار ليعبروا إلى الشواطئ الأوروبية، هرباً من الموت وطمعًا بحياة كريمة لأطفالهم، استخدموا كتكتيك مهزوم من قبل الزعماء الشعبويين في جميع أنحاء العالم لدفعهم. وساهموا في عودة اليمين المتطرف إلى السياسة الأوروبية والأمريكية.

          وهذا التحول العميق أدى إلى تغييرات كبيرة وإعادة تنظيم تكتونية، سواء في الخارج أو على المستوى الإقليمي، حيث لبست موسكو الوشاح الذي تخلّت عنه واشنطن، فتدخلت في الحرب لإنقاذ الأسد مما بدا في ذلك الوقت هزيمة لا مفر منها. وتركت تركيا، الغاضبة من الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية ذات التطلعات لإقامة الدولة، وتخليها عن تحالفها مع الناتو لصالح التعاون الوثيق مع روسيا، مما زاد من تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.

    قافلة من الناس يفرون من معرة النعمان في شمال إدلب

           استفادت داعش من فراغ السلطة، ومن الظلم العميق في الحرب لإقامة ما يسمى بالدولة التي تغطي أجزاء من سوريا والعراق، وهو مشروع مزين بفظائع الوحشية الخطيرة مثل الاستعباد المنتظم للأقلية اليزيدية فضلا عن اغتصاب نسائهن، وطرده للمسيحيين من وطنهم وإعدام الآلاف من المدنيين بطرق مروّعة ومتعددة.

          خلال هذا الوقت، تم تدمير سوريا بشكل ممنهج. اتبع النظام وحلفاؤه سياسة الأرض المحروقة لمحاصرة مناطق المعارضة. فأمطرها بمئات البرميل المتفجرة ما جعل هذه المناطق غير صالحة للسكن.

           تحتاج سوريا إلى 200 مليار دولار على الأقل لإعادة الإعمار، وربما ضعف هذا المبلغ، ولكن هذه المساعدات تمنعها الدول الغربية بسبب غياب الإصلاحات السياسية الحقيقية.

           ربما يكمن إرث سوريا الدائم في كيفية تفكيكها النظام الدولي القائم على القواعد الأخلاقية، على مدى عقد من الحرب والتدمير بشكل ممنهج، تم ّخلالها انتهاك كل المعايير الدولية التي كانت تعتبر ذات يوم مقدسة!!!!

          إنه تناقض صارخ للرسالة التي خرج بها العالم بعد عمليات الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، -شعار “لم يسبق له مثيل” في قاعات المحاكم الدولية. وبمرور الوقت، تلاشت شيئا فشيئا دورات الفظائع التي أعقبها الغضب والعجز في المبادئ التي قررنا أنها تشكل سلوكًا حضاريًا في الحرب وشؤون الدولة شيئًا، وكانت إنسانيتنا تتآكل باستمرار!!

          فهذه الانتهاكات العديدة تستحق التوضيح لأنها توضّح إلى أي مدى سقطنا. استخدمت في سوريا الأسلحة الكيماوية مرارًا وتكرارًا ضدّ المدنيين في محاولة ناجحة إلى حدّ كبير لإرهابهم وإخضاعهم، دون أي عقاب!! ثم الحصار والتجويع بشكل متكرر كسلاح حرب من قبل السيد الأسد وميليشياته في الحملة الشرسة المسعورة لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.

    مهجرّة معمّرة من النعمان في شمال غرب محافظة إدلب

            القصف الممنهج للمدنيين بأسلحة غير دقيقة مثل البراميل المتفجرة، والتي يعتبر استخدامها جريمة حرب فعلية، فضلا عن الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع، والاختفاء القسري لعشرات الآلاف من المدنيين، واستهداف المستشفيات واستخدام المساعدات الإنسانية ومساعدة الأمم المتحدة كأدوات سياسية لصالحهم… جعلت الحياة لا تطاق.

           من الصعب التنبؤ بالسنوات القليلة القادمة في سوريا لأن النزاع دمر كل الخرافات التي زرعناها عن أنفسنا – مدى تعاطفنا، ومدى جديتنا وتحملنا المسؤولية كمجتمع دولي لحماية المدنيين، وإيماننا الجماعي بالعدالة وفي المصير المشترك.

           لقد دمرت سوريا كل ذلك من خلال سحق أحلام شعب بأكمله ومنعه من حقوقه في العيش بكرامة وسلام ورخاء.

          حتى مع استمرار الجدل حول الرماد، فإن إرث العقد الماضي سيستمر. لقد نحتت سوريا مثال الضمير الجماعي للمجتمع الدولي.

  • الواقع الحوكمي وإعادة الإعمار في مناطق النظام السوري خلال شهر كانون الثاني 2019

    تظهر المؤشرات الدالة حجم الضغوط الاقتصادية التي يعاني منها النظام، سيما مع تكثيف العقوبات عليه وعلى الحلقات الاقتصادية المرتبطة، وكان أن استغلت إيران الواقع الناشئ لتكثف من ضغوطها على النظام، مجبرة إياه على منحها امتيازات اقتصادية، هذا وأثرت العقوبات على حركة رأس المال لرجال الأعمال المستهدفين بها، ممن وجهوا أموالهم للاستثمار في القطاعات الريعية في مناطق سيطرة النظام كالعقار، ومما أظهره رصد كانون الثاني 2019 جمود حركة الأسواق يمكن رده إلى تدني مستوى التدخل والقيمة الشرائية لليرة السورية، كذلك تزايد أزمات النظام الخدمية وضعف متنامي لقدراته الحوكمية.

  • تصورات الطفل العامل لدور بدائل التعليم التقليدي كحل للتسرب المدرسي

    المركز السوري سيرز - غياث أحمد دك

    إن ظاهرة العمل في الشارع أصبحت من الظواهر الملفتة للانتباه وخاصة في الآونة الأخيرة في سوريا بسب ظروف الحرب، فعند خروجنا للشارع نلحظ العدد الهائل من الأطفال اللذين يعملون إن النظر إلى قيمة ودور المدرسة في ايامنا هذه يعاني نوعا من التذبذب بين اهمية وقيمة المدرسة والتعلم في مقابل الكسب المادي للعائلات الفقيرة النازحة التي اعيتها سنوات الحرب، سوف نجري مسح ميداني للأطفال الذين تركوا مقاعدهم الدراسية واتجهوا للعمل بسبب النزوح وفقدان المعيل، والفرصة الإيجابية لبدائل التعليم في ظل الظرف الراهن وما توفره لهؤلاء الطلاب من امكانية متابعة تحصيلهم العلمي وهم في عملهم.

    مشكلة البحث:

    تتمحور المشكلة حول واقع عمالة الاطفال وظروف الحرب والعوز الذي أجبرهم على التسرب من المدرسة من أجل كسب لقمة العيش وكيف لنا أن نحد من مخاطر انقطاعهم عن التعليم التقليدي (المدرسي) من خلال بدائل التعليم التقليدي التي تناسب ظروفهم.

    ويمكن التعبير عن إشكالية الدراسة من خلال التساؤل الرئيسي التالي:

    ماهي تصورات الطفل العامل لبدائل التعليم التقليدي التي من الممكن أن تحد من تسربهم المدرسي؟

    فرضية البحث:

    يمتلك الطفل العامل في الشمال السوري المحرر تصورات مناسبة له لأكثر من أسلوب كبديل عن التعليم التقليدي يمكن أن يحد من تسربهم المدرسي.

    اهمية البحث:

    تستمد هذه الدراسة أهميتها من أهمية الفئة التي تتناولها الدراسة، الا وهي الطفولة وما تلعبه هذه الشريحة في مستقبل الأفراد والمجتمعات من أدوار فعالة في شتى مجالات الحياة وكذا بالنظر إلى انتشار ظاهرة عمل الأطفال في الشارع وما ينتج عنها من انزلاقات ومخاطر قد تفتك بأطفالنا، إن لم نعر هذه الظاهرة الدراسة والاهتمام اللازمين ومحاولة القضاء عليه قبل فوات الأوان، وفي هذا السياق جاءت هذه الدراسة للكشف عن بدائل التعليم التقليدي التي من الممكن أن تناسبهم وتحد من مخاطر تسربهم المدرسي.

    أهداف الدراسة:

    1-              الكشف عن تصورات الطفل العامل التي تناسبه كبديل عن التعليم التقليدي لإكمال تعليمه.

    2-              الكشف عن مدى أدارك الطفل المعرفي بمخاطر تسربه من المدرسة على مستقبله.

    3-              الكشف عن مدى التزام الطفل العامل بالبدائل التعلمية كحل جذري لتسربهم المدرسي.

    منهج الدراسة:

    سيتناول الباحث الدراسة من خلال:

    قسم نظري ويعتمد على المنهج الوصفي.

    وقسم عملي من خلال تصميم استمارة مناسبة تجيب على فرضيات الدراسة.

    حدود الدراسة المكانية والزمانية:

    ستتناول الدراسة الاطفال العاملين في منطقة اعزاز بشمال سوريا منذ بداية عام 2020 الى تاريخ 15\5\2020 بعد التحول الذي شهدته المنطقة والعالم إلى التعليم الإلكتروني.

  • جبهة السلام والحرية.. رجاءٌ بالفاعلية بواقع متخم بالتحديات

    بعد مفاوضاتٍ طويلة توجهت مجموعة من القوى المحلية شرق الفرات لعقد اتفاق حول رؤى سياسية موحدة، تتعلق بمصير منطة شرق الفرات، وسوريا عموماً، تحت عنوان " جبهة السلام والحرية "، وضمت كل من المجلس العربي للجزيرة والفرات، وتيار الغد السوري، والمنظمة الآثورية

    الديمقراطية، والمجلس الوطني الكُردي، وتزامن هذا الإعلان في وقتٍ تشهد فيه منطقة شرق الفرات حواراتٍ كُردية بينية تهدف لصيغة توافق حول إدارة المنطقة سياسياً وعسكرياً.

    ولأهمية الموضوع ولما له من تأثير على تموضع القوى المشاركة في الجبهة المشكلة حديثاً سواءً ضمن التفاعلات المحلية، أو على صعيد المفاوضات الجارية بين المعارضة والنظام السوري، يحاول تقدير الموقف هذا توضيح السياقات المتعلقة بتوقيت إعلان الجبهة، وما تمتلكه من نقاط قوة سواءً فيما يخص التفاعلات السياسية المحلية، أو ضمن اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض وما ستؤول إليه العملية التفاوضية النهائية، ويحاول تقدير الموقف هذا تسليط الضوء على مدلولات هذا الاعلان واختبار التماسك البنيوي بين الكيانات الموقعة على الاتفاق بالإضافة إلى محاولة الإحاطة بسياق التشكل وتحدياته ومآلاته.

  • درعاستان سلاح إيران القادم لتهديد الأردن والسعودية ... د. نبيل العتوم

        د.نبيل العتوم                       

    رئيس وحدة الدراسات الإيرانية            

    مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

    ما هي  مصادر التهديد التي يمكن أن يتعرض لها الأمن الأردني والسعودي والخليجي   في الفترة القادمة جراء سيطرة إيران ومليشياتها على درعا ؟ قد تتزايد بعد انتشار الحرس الثوري الإيراني ، ومليشيا حزب الله ، ، كما تتزايد مع احتمال وصول تنظيم داعش إلى جنوبي سورية ،و تزايد  عمليات نزوح  اللاجئين السوريين ، ودخول إسرائيل على الخط  بعد تلاشي فكرة  استكمال المسيرة السلمية ، و إبعاد فرص بناء الدولة الفلسطينية عن طريق إشغال الدول الإقليمية والكبرى عن دعم تحقيق هذا الهدف ،وصعود أصوات وتوجهات متعددة تطالب بحل القضية الفلسطينية على حساب الأردن ،أو من خلاله- بعد إضعافه طبعاً-، بعد أن تبدّت مصادر تهديد خطيرة على الأردن من جانب إيران ومحورها ، إلى جانب ضبابية الموقف الأمريكي والروسي إزاء هذه التطورات ، مما يوحي  بوجود مسار جديد لإعادة رسم التوازنات السياسية والعسكرية في المنطقة .

    هذه المتغيرات بمجملها تُمثل تهديداً للمملكتين الأردنية والسعودية على حد سواء ، لكن كيف ؟؟ .

    لا شك بأن هذه  التطورات الدراماتيكية المتسارعة لا بد من  أن ترفع من مستوى التهديد ؛و في هذا السياق لا بد من إجراء تحليل علمي وواقعي و منطقي واستشرافي لتبعات ما يجري على حدود الأردن الشمالية ، والتي باتت  تشكل مصدر تهديد غير مسبوق  .

    سيناريو  درعاستان و خطرها على الأمن الأردني والسعودي

     حتى نفهم  ما يجري لابد من تحليل  المتغيرات التالية  :

    المتغير  الأولهو الانتصارات التي حققتها إيران وحلفاؤها على الأرض في محافظة درعا ، حيث  باتت  طهران ومن خلفها في وضع شبه مسيطر ؛ حيث  دعم ذلك فرص تركيز نفوذ ها  في درعا ، بعد  تقهقر المعارضة المسلحة السورية على الأرض .

      المتغير الثاني :حسابات صانع القرار السياسي والعسكري والأمني  الإيراني والسوري في كيفية استغلال هذا الحدث المهم  لإحداث ضغط أكبر على الأردن والسعودية  ومنطقة الخليج عموماً ، واستراتيجيات تحقيق ذلك وأدواته  الفعلية على الأرض .

    المتغير الثالث :كيف يُمكن توظيف أرض درعا  لتصدير الأزمات والمشاكل للمحور الأردني السعودي الخليجي  ليصبح الأمر في نهاية الأمر  في وضع أسوأ مما كانت عليه ، واستنزاف قدرات هذه الدول وإمكاناتها ، بهدف ثنيها عن دعم المعارضة السورية ، والضغط على هذا المحور لإجباره على الابتعاد عن فكرة تغيير النظام  السوري ، فضلا عن توجيه البوصلة السعودية والخليجية عن القضية اليمنية عن طريق استنزافها بأزمة جديدة .

    المتغير  الرابع :القضاء على الأردن اقتصادياً واستنزاف طاقاته السياسية والعسكرية وتشويه القاعدة الذهبية  التي تعتمد على فكرة مفادها أن الأردن وفي ظل التغيرات الجيوسياسية في المنطقة بات أكثر قدرة  وأهمية   من ذي قبل بالنسبة لدول المنطقة ، حيث بات يُمثل المثال والساحة  الوحيدة التي تحتفظ بمقومات الأمن والاستقرار ليس لشعبها فقط ؛ بل بالنسبة لدول المنطقة  ، وبيئة  آمنة جالبة للاستثمار.

    المتغير الخامسالتأثير على الأردن اقتصاديًا في ظل وجود مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها تقتير دول مجلس التعاون الخليجي عن دعم الأردن ، وانكفاء المجتمع الدولي عن تقديم مساعدات مجزية له ، ومحاولات إيران المتكررة من خلال أدوات النظام السوري نقل الفوضى للأردن ، وتهديد اقتصاده  عن طريق التلاعب  بأمنه الداخلي .

    لا شك بأن  كل هذه  العوامل ليست  في مصلحة الأردن ، وسوف تسهم في نهاية المطاف في تعقيد الظروف المعيشية للشعب الأردني ، مما سيخلق – حسب رؤية النظامين الإيراني والسوري – أرضية خصبة لنمو التيارات الراديكالية المتطرفة ، وسيُسهل مهمة بناء الخلايا النائمة التي يطمح تنظيم داعش فرع المخابرات السورية والإيرانية بالتواصل معها لنقل الفوضى إلى الأردن ، ودول الجوار وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية .

    المتغير السادستأجيج إيران وحلفائها  للأوضاع الأمنية  في سوريا عموماً ، وفي محافظة درعا على وجه الخصوص سوف يسهم في تكثيف عمليات اللجوء السوري للأردن ، ومحاولة استغلال موجات اللجوء لزرع خلاياه النائمة ، وهو ما تنبه له صانع القرار الأمني بصورة مبكرة .

    المتغير السابع:ما تُمثله محافظة درعا من أهمية استراتيجية بالنسبة لإيران بعد أن اتضح هذا الأمر بشكل جلي من خلال تصريحات المسئولين الإيرانيين المتكررة وكان أخرها ما صرح به مساعد قائد الحرس الثوري  بعد الانتصارات التي حققتها ايران وحلفاؤها هناك بأن ” الحرس الثوري الإيراني بات على مشارف عمان، وقريباً من عاصمة آل سعود أكثر من أي وقت مضى” .

     المؤكد أن   إيران تسعى للنفوذ  إلى الأردن  بشكل دائم ومتكرر  من خلال توظيف المعادلة السياسية الداخلية؛ وتحديداً  متغير علاقات الدولة الأردنية  المضطرب مع الإسلاميين، التي ينبغي لصانع القرار الأمني والسياسي التنبه لخطورتها ، وتفويت الفرصة على طهران  لتحقيق ذلك من خلال نسج علاقة جديدة، وعلى أسس واضحة مع الإسلاميين ، إلى جانب ذلك تحاول إيران استغلال  متغير أخر وهو المتمثل بفرصة الجفاء بين إيران وحماس ،من هنا على الأردن تبني إستراتيجية جديدة تتمثل  بالسعي لتوظيف هذا المتغير  لصالحه بدلاً من أن يكون ضده ، لأن هذه الحركة ستبقى في نهاية المطاف ورقة رابحة  للوقوف ضد المشروع الإيراني والإسرائيلي على حد سواء اللذين باتا يتقاطعان معاً، مع رفع احتمالية الحوار مع حركة الجهاد الإسلامي أيضاً  ، وهو ما نجحت  الرياض في تخطيه .  

    من هنا تبرز الحاجة إلى ضرورة وأهمية  إعادة تشكيل مؤسسات صنع القرار الوطني الأردني ، ورفد مطبخ القرار بنخب قادرة ومؤهلة وغير معتلة  بما ينسجم مع المرحلة الجديدة  ، لأن هذه التحولات ترتبط، بلا شك بوجود نخب قادرة على النهوض بأعباء المسؤولية ، وأن لا تسهم في خلق بيئة تصادمية مع الأحزاب والقوى  السياسية ، وأن تكون قادرة على المساهمة الفعالة لتخفيف الأعباء عن صانع القرار السياسي والأمني على حد سواء ، والدفع باتجاه انتخابات نيابية مُمثلة لكل الأطراف وبعيداً عن ممارسة سياسة الإقصاء والتهميش .

    إيران تتلاعب بورقة درعاستان : البناء والتفكيك

    تلعب الجغرافيا دوراً مهماً في تشكيل المصالح الإيرانية في درعا ؛ فهي ستعطي طهران وحلفاءها ميزات كثيرة تجعلها متحكمة في عدد متزايد من ملفات المنطقة ؛ ومن أبرزها التأثير على الأوضاع الداخلية  في كل من  الأردن والسعودية ، وهو ما يعني مزيداً من النفوذ وتنامي الدور الإقليمي، ولكن من ناحية أخرى فإن الجبرية الجغرافية  السورية مع الأردن  ، ستضع عمان والرياض على شفير عدد من الأزمات المعقدة والمتشابكة  بسبب هذا الموضوع .

    أولاً : الاستراتيجية الأولى لإيران في التعامل مع موضوع درعا  أنهلا يوجد تقدم فعلي على الارض   لمشروعها هناك دون  التوسل لتكون الطائفية أحد أهم أدوات  السياسة الإيرانية كونها منطلقاً أساسياً له، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لدولة ولي الفقيه ، لأن هذا المنطلق مرتبط بالأمن القومي الإيراني والمصالح الاقتصادية والسياسية المختلفة، وعلى ضوء ذلك من المتوقع أن تلعب طهران ب بورقة  السكان داخل محافظة درعا  ومحاولة تفريغها من سكانها السنة الأصليين بعد سيناريو عمليات الذبح والتهجير ، حيث من المتوقع أن تتبنى إيران  سيناريو عملية  الإحلال الديموغرافي عن طريق نقل وتوطين  سكان شيعة من سوريا ، ولبنان والعراق وأفغانستان وباكستان وتوطينهم في درعا بحجج وذرائع  الشحن المذهبي؛ وفي مقدمتها سياسة إيران للتمدد ألقبوري بعد أن يخرج علينا أحد مراجع التقليد الشيعة الإيرانيين ويبشرنا باكتشاف أضرحة لآل البيت في محافظة درعا ، أو في أحد قراها المتناثرة ، مما يُسهل ذريعة التعبئة المذهبية للتوطين، و تسهيل عملية الحج نحوالمزارات المفترضة في  درعاستان المقدسة .

    ثانياً:ستعمل إيران على تشكيل واجهات عسكرية ومن ثم سياسية  في حال نجحت في تحقيق هدفها  السابق ، لتعبر عن هذه الأقليات الشيعية في درعا ، والعمل  على توحيد عملها  لكي تتمكن من ترجمة أهميتها الديموغرافية إلى نفوذ سياسي، وبالتالي تعزيز السيادة الشيعية في دمشق الجديدة  المقبلة ، بعد أن تنشط فيها مؤسسات الثورة الإيرانية تحت غطاء العمل الخيري والاجتماعي والدعوي وإنشاء الحوزات … .

    والتأسيس للطائفية والمذهبية، سعياً وراء تقسيم الشعب السوري .

    ثالثاًالتطورات في درعا  سُتسهم في النهاية في تغيير معادلة الجغرافيا السياسية لتكتسب إيران وضعاً تفاوضياً قوياً  مع الأردن والسعودية ،وبالتالي تتمكن من  إمتلاك نفوذ كبير في المنطقة؛ بعد أن  تدخلت روسيا لصالحها ؛ وبعد أن  سقِط النظام السُّني غرب إيران ممثلاً بالعراق الذي كان يُشكل العمق الجيوبولتيكي للأردن والسعودية على حد سواء ، وهو أفضل مما كانت تحلم به إيران؛ مع حرية مطلقة للدخول والخروج من وإلى الدولتين العراق وسوريا للنفوذ لدول المنطقة وفي مقدمتها الأردن والسعودية ، بعد أن تبنت طهران  إستراتيجية مذهبية خيالية شعارها الأساس  أن لدولة أم القرى “إيران” الحق بالاستيلاء على الجغرافيا التي تراها ضرورية لبناء مجالها الحيوي المذهبي، وبعد أن  رفعت أيضاً شعار” أن الوصول لمكة عبر البوابة السورية سوف يكون من خلال بوابة دولة وادي اليابس ” الأردن” .  وتمكنت من تعبئة شيعة الشتات ، وحقنهم بهذه الفكرة  .

    رابعًا :  تفعيل  إيران وحلفائها للمزايا الجيوبوليتيكية التي تتمتع بها من خلال التوسل ببوابة درعا من خلال دعم عمل مليشياتها وتقديم الدعم ألاستخباراتي والعسكري والاقتصادي والسياسي للنفوذ والعبور إلى الأردن، حيث تمتلك طهران تحكُّماً في عدد من الاستراتيجيات الخطيرة والمؤثرة  للتأثير مستقبلاً على الأردن والسعوديه  ، حيث ستوكل  لقيادة الحرس الثوري الإيراني  تنفيذ أجندته التخريبية مثل:زراعة  المخدرات التي كان للحرس الثوري دوراً في جعل أرض أفغانستان وجنوب لبنان أكبر مكان لزراعة المخدرات وصنوفها  في العالم ، لهذا سينشط في مهمة جعل أرض درعا مكاناً خصباً لزراعة المخدرات والتفنن بها ، تمهيداً لتهريبها  للأردن ودول المنطقة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ، إضافة إلى تسهيل الحرس الثوري لعمليات تهريب الأسلحة للأردن ودول المنطقة من خلال بوابة درعا  ، و التحكم في مسار ملف  اللاجئين، وإعادة رسم  الخارطة السكانية من خلال دعم توطين الشيعة فيها ، كذلك التحكم في ملف التبادل التجاري مع الأردن الذي كان يعتبر درعا شريانه البري الحيوي للتواصل مع سوريا ولبنان وتركيا ، إلى جانب تقديم الدعم العسكري لمجموعات قد تقوم بالتحالف معها من بعض عشائر درعا إذا لم يتم التواصل معها ودعمها وتسليحها قبل فوات الأوان ، لتكون أحد المصدات للوقوف بوجه النفوذ الإيراني ” نموذج الصحوات ”  ، إضافة إلى موضوع استغلال إيران لفكرة الحرب على الإرهاب لتسهيل مهمة نفوذ داعش وأخواتها إلى الأردن والسعودية بعد توفير الدعم اللوجستي والتسليحي والاستخباري لها .

      خامسًاترويج وافتعال إيران  لخلق حالة  من الفوضى في درعا ، عن طريق سياسة تفريخ المليشيات من مختلف العشائر والمناطق التابعة لمحافظة درعا ، واستدراج بعضها من خارج المنطقة ، واللعب على وتر الخلافات العشائرية وتناقضاتها كما فعلت في العراق وأفغانستان ،  بحيث تكون سهلة  التوجيه والانقياد إضافة إلى محاولة الاستثمار في سلسلة واسعة من العشائر  المتنوعة القاطنة هناك ، الذين كثيرا ما يكونون  مستعدين لتقديم الخدمات نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية المزرية ، حيث ستسعى طهران لتوظيفهم كمنافسين لتقليل المخاطر عنها  إلى الحد الأدنى ،وذلك  لضمان استمرار نقل الفوضى  وبثها على مقياس متعدد الدرجات ، ولكن قابل للسيطرة عليه من جانب إيران ، على اعتبار أنها  مفتاح الحل ، مما يجعل صانع القرار السياسي والأمني الأردني في حالة قلق دائم . ومن هنا فإنه من المحتمل أن تنظر إيران إلى توظيف ملف درعا  كجزء من منافستها الأوسع مع مخاوفها تجاه  الأردن والسعودية   وإلى قلقها المتعاظم بعد تشكيل التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب الذي اعتبرته موجهاً ضدها ، إضافة إلى التحالف السعودي التركي والتهديد بحرب برية ضد  النظام السوري من جهة تركيا ، وبالتالي فإن طهران ستكون مستفيدة بشكل أوسع من خلال إنتاج حالة عدم استقرار أكبرمن جبهة جنوب سوريا ” درعا ” للتأثير على خصومها .

    سادساً : تزامن  تعاظم التأثير الإيراني من خلال الأزمة السورية وموضوع درعا  مع تغير الرؤى في الولايات المتحدة  بالنسبة لموضوع بقاء حالة الاقتتال على ما هي عليه، دون السماح  لتغيير الموازين  على الأرض لصالح المعارضة السورية ، مع الدعم غير المعلن للإستراتيجية الروسية والإيرانية الماضية في تقدمها وسحق المعارضة والشعب السوري معاً  ، مما سيشجع طهران على   محاولة «أقلمة» القضية  السورية  حسب مقاسها ؛ خاصة مما يتعلق بموضوع درعاستان ، واستغلال فكرة انشغال أميركا بانتخاباتها الرئاسية  لتحقيق أهدافها، لتصفية حساباتها مع الخصوم  .

  • سياسات "نظام الأسد" لمواجهة كورونا: ما بين "الانكار" و"الاستثمار"

    أصدر “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، تقريراً، تناول فيه بالتفصيل، المحددات التي تدفع نظام الأسد، لعدم التعامل بشفافية مع أزمة فيروس “كورونا” المستجد (كوفيد19)، الذي تتزايد يومياً أعداد المصابين به، في دول جوار سورية.

    واعتبر التقرير، أن النظام لا يتعامل بشفافية، لـ”إخفاء عجزه البنيوي في قطاع الصحة (كتقنيات وكسياسات)”، ولـ”عدم تأجيج الاحتجاج المحلي الذي تعددت مستوياته سواء اقتصادية أو اجتماعية والآن صحية”، معتبراً أن النظام لا يستطيع التعامل بوضوح مع أزمة الفيروس، لأن هذا “قد يساهم في نشر الذعر داخل جيشه”.

    وذهب إلى أن نظام الأسد “سيستغل هذا الظرف ليكون سرديته التي تحيل سبب العجز وما يعيشه من أزمات محلية للعقوبات الدولية؛ وهو أمر تدحضه الكوارث المتراكمة في إدارة القطاعات الاقتصادية منذ عقود؛ واستنزافه المطلق لموارد الدولة لصالح العجلة العسكرية وأهدافه الأمنية وتغييبه كل أسئلة التنمية واستحقاقاتها”.

  • عقل الشمال السوري المحرر

    عقل الشمال السوري المحرر

    المركز السوري سيرز-عيسى حسين المحمد

    استهلال:

    فتحت الثورة السورية منذ انطلاقها المجال لأفكار لم تكن مألوفة لدى السوريين في ظل حكم البعث، ومع الوقت تحولت هذه الأفكار إلى مشاريع واقعية، وكون هذه الأفكار جديدة على العقلية السورية فقد تمت صياغتها بشكل جعلها تبدو مشوهة.البعض يظن أنها كاملة البناء والأداء، وهذا حال كثير من الأفكار الدخيلة على الثورة السورية ولم تكن موجودة في زمن البعث، أو ربما كانت موجودة ولكنها تسير في مسار حدده البعث فقط.

    من أهم هذه الأفكار فكرة مراكز البحث والدراسات، فهي وإن كانت موجودة في سوريا منذ السبعينيات إلا أنها كانت تستخدم لمصلحة النظام فقط، وكان أغلبها(وما زال)يعمل في مجال تطوير الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، كمركز جمرايا للبحوث العلمية، ومركز البحوث والدراسات العلمية في برزة، ومركز الدراسات والبحوث العلمية في مصياف.

    بين الحقيقة والواقع

    مراكز البحث والدراسات أشبه ما تكون مكان يجتمع فيه ثلة من الأكاديميين لكتابة المقالات فقط!، فليس لهم دور في توجيه السياسات أو صناعتها، وهذا ما يفترض أن تكون عليه الحال، أي أنها يجب أن تكون أماكن خبرة، توجه وتصنع السياسات والاستراتيجيات، وتقدم الاستشارات والمعلومات، هذا ما نراه من خلال النظر الى مراكز البحث والدراسات الغربية، حيث أن دورها قيادي في السياسة والإدارة والاقتصاد، وأصبحت معيار من معايير التقدم المعاصر.

    السؤال هنا، هل مراكز البحث والدراسات التي تعتبر حديثة النشأة في المنطقة تتمتع بالقدرة على أن يكون لها دور مؤثر في حياتنا العامة!؟

    عرّفت مؤسسة راندRand Corporation الأمريكية مراكز الأبحاث والدراسات بالتعريف التالي:تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة التي يتحدد هدفها بإجراء أبحاث مركزة ومكثفة، وتشتغل على تقديم الحلول والمقترحات للمشاكل المدروسة بصورة عامة وخصوصاً في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والاستراتيجية أو ما يتعلق بها.

    من خلال هذا التعريف نقول إنّ ما يسمى مراكز أبحاث ودراسات ما زالت بعيدة كل البعد عن التأثير في محيطها المحرر، فليس لهذه المراكز أبحاث ودراسات تتعلق بالاقتصاد أو الثقافة والإعلام، ولا علاقة تذكر بينها وبين الدراسات الإستراتيجية أو التكنولوجية.

    إن جلَ ما تقوم به هو ورشات تدريبية في مجال المهارات الشخصية أو الإدارة، وبعض المقالات عن الشارع السوري.

    الطريق وعر!

    يمكن القول بأن هذه المراكز تحاول التأثير في المجال العام ولكنها تعاني من نقاط ضعف عديدة تجعل الطريق أمامها وعراً وشاقاً ومن أهم هذه النقاط:

    1_المحتوى النظري: أغلب ما تقدمه مراكز المحرر يقع في دائرة العمل النظري فلا دراسات عمليه ولا أبحاث علمية يمكن أن تكون أساس للبناء العلمي التطبيقي، فنحن أحوج ما نكون الى هذا النوع من الدراسات، الدراسات والابحاث سواء أكانت في السياسة أو الاقتصاد(الدراسات في الاقتصاد تكاد تكون معدومة)أو التكنولوجيا أو التاريخ أو الديموغرافيا.

    2_البعد عن مراكز صنع القرار: إنها بعيدة عن صناع القرار، وليس لها صلة بها.البعد عن مراكز صنع القرار جعل مراكز الأبحاث تعيش حالة من الاغتراب، فمراكز البحث العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً كان لها دور في انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، ولها دور كبير في توجيه السياسة الخارجية الأميركية، ومؤسسة راند أفضل دليل على ذلك، ولهذا السبب أطلق عليها في الولايات المتحدة السلطة الخامسة.

    3_المال السياسي: يعتبر المال السياسي من أهم المخاطر على سوريا المستقبل وهو داء متفشي في كثيرٍ من الدول وفي تاريخ سوريا الماضي في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.

    الحالةالطبيعية أن تكون مراكز الابحاث مستقلة ماليا وبحثيا ويمكن أن يكون تمويلها حكومي ولكن يجب وبكل تأكيد ان تكون مستقلة بحثيا، ولكن ما الحيلة في وضع يكون فيه المال السياسي سيد الموقف فلا عبرة للمستوى الأكاديمي ولا عبرة للهدف من وجود هذه المراكز، فمن المعروف عالميا بأن هذه المراكز هدفها تقديم تحليل أكاديمي وموضوعي صرف.

    يلعب التمويل دوراً كبيراً في توجيه مراكز الدراسات، فيجعلها تسبح بحمد الداعم دون مراعاة للواقع ويجعل المحتوى المقدم تجاري من الدرجة الأولى.

    أكاديميين ولكن

    يمكن القول أن مراكز الشمال المحرر فيها عدد لابأس به من الأكاديميين الذين يمتلكون الأدوات العلمية تمكنهم من تقديم محتوى علمي نافع للثورة، ولكن إلى الآن ما زلنا نقرأ ما تقدمه مراكز الابحاث الغربية، كمؤسسة راند ومعهد كارنيغي وغيرهما من دراسات وأبحاث عن الأمن والاقتصاد والسكان والأمور العسكرية الخاصة بالثورة السورية، ورغم وجود الأكاديميين إلا أننا لم نقرأ لهم سوى مقالات عن أمور غير مفيدة للثورة، فلا ندوات علمية ولا مؤتمرات سياسية، أو اقتصادية أو تاريخية.وجُلَّ ما يكتبه هؤلاء الأكاديميين يتعلق بالأمور الخارجية(لا صلة لها بالثورة)ومن جهة أخرى فان هؤلاء الأكاديميين أغلبهم لم يمتهن السياسة، وهذا على عكس ما نراه في المراكز الغربية التي تضم في صفوفها قامات علمية سياسيةوعسكرية يعملون في الوزارات وبيوتالرئاسة.

    ليس لأي مركز من المراكز في المناطق المحررة هدف واضح ورؤيا تبنى عليها أعمال تلك المراكز، قد يكون هذا هو السبب في عدم وجود دراسات وأبحاث تهتم بالأمور الأمنية والعسكرية والاقتصادية للثورة السورية.

    خاتمة

    تعتبر مراكز الأبحاث والدراسات عقل الدولة وهي خزانات للأفكارThink tanks تشارك بفاعلية في صنع السياسة وتوجيهها فأين مراكز المناطق المحررة من هذا؟

    يمكن القول بأن سبب في عدم فاعلية المراكز في المحرر قلة التمويل من جهة، وعدم وضوح الهدف من جهة الاخرى، وعدم وجود الأكاديميين المختصين في المجالات الحيوية في الأمن والاستراتيجية والاقتصاد، وضعف الفاعلية له دور كبير في عدم وجود تفاعل مع المواطنين.انها بحاجة للمساعدة المالية حتى تكون قادرة على المشاركة بشكل أكثر جدية في صنع القرار والتأثير في المجتمع.

    يجب أن تتغير استراتيجية هذه المراكز(إن وجدت)وتتحول إلى المجال العملي وأن تقترب من الثورة أكثر، إنها عقل الثورة وليست متجر للمواد الغذائية.

  • مقال: السياسة الأمريكية في سوريا.. جدران الدم … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    مقدمة: 

    ناقشنا في مقال سابق السياسة الأمريكية في المنطقة وخصوصاً العراق. أما هذا المقال فيحاول تسليط الضوء على سياستها في سورية. إذ كانت هذه السياسة طوال السنوات الخمس الماضية معنية بإضعاف نظام الأسد، ولكنها لم تكن معنية بشكل جاد بإسقاطه، ولا بتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولا حتى بحماية الشعب السوري… لقد كانت معنية بإدارة لعبة الإضعاف والتفكيك، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ سايكس بيكو اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في حدود سياسية.

    وتدخل الادعاءات بأن التدخل الإيراني والروسي في سورية هو نتيجة الضعف الأمريكي وتراجع دور أمريكا في المنطقة، في إطار المبالغات التي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. كل ما هنالك أن هذه التدخلات تصب في نهاية المطاف في “الطاحونة الأمريكية”، ودون أن تكلف الأمريكان أعباء مالية أو عسكرية؛ وتسهم في إطالة أمد الصراع وإنهاك الأطراف المتنازعة في ظلّ عدم وجود رغبة أمريكية جادة في توقف الصراع أو إنهائه؛ بانتظار أن تنضج “الطبخة”، دون أن يكون ثمة مانع في أن تكون أطراف معادية أو منافسة لأمريكا حطباً يُبقي على اشتعال النار تحت هذه “الطبخة”.

      السياسة الأمريكية في سورية:

    وقريباً من الحالة العراقية، تتلخص السياسة الأمريكية في سورية في “ضبط إيقاع” الأحداث بشكل يسمح بــ:

    1. استمرار الصراع لأطول فترة ممكنة، بما يؤدي إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوري وارتفاع جدران الدم بين مكوناته الطائفية والعرقية.

    2. استمرار الصراع بشكل مدمر، بما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد والبنى التحتية ووسائل الإنتاج.

    3. استمرار الصراع بما يدمر الدولة المركزية والجيش المركزي، دون أن تحل مكانه قوة ثورية مركزية فاعلة، وبما يسمح بنشوء مليشيات وقوى طائفية وعرقية تسيطر على مساحات جغرافية محددة في ظلّ سلطة مركزية ضعيفة.

    4. ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني في أي ترتيبات مستقبلية متعلقة بالمنطقة.

    ولذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن معنية بالتدخل المباشر، ولكن بـ”إدارة اللعبة”، والإشراف العام على سيرها، بما يضمن ويحفظ المسارات الكلية التي تصبُّ في مصلحتها وتخدم سياساتها، وهو أمر يتوافق مع عقلية الإدارة الديموقراطية لأوباما التي تركز على الوسائل “الناعمة”.

    بيئة التدخل الخارجي:

    منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 واغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005 والمحافظون الجدد متحمسون للضغط على سورية، للتخلي عن ورقة المقاومة، وللتساوق مع مسار التسوية السلمية. وقد كتب شارلز كراوثامر في مقال نشرته الواشنطن بوست في 1/4/2005 أن هناك محور شرٍّ جديد يتمثل في سورية وإيران وحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي وأن “سورية هي الجائزة”؛ حيث إنه من السهل الضغط عليها. وادعى روبرت ساتلوف (المدير التنفيذي لمركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن النظام السوري في وضع هشٍّ جداً، وأن على أمريكا أن تستغل ذلك. كما كتب دينيس روس وغيره كلاماً شبيهاً بذلك. غير أن الكتابات كانت تركز على ما هو مطلوب من سورية تجاه العراق ولبنان ومسار التسوية والمقاومة؛ وتفتقر للتركيز على الإصلاح وتطبيق الديموقراطية… أي أن الحديث كان منذ البداية مرتبطاً بالسعي لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي أيلول/ سبتمبر 2005 نقل نيكولاس بلاندفورد مراسل كريستيان سيانس مونيتور عن خبير دراسات الشرق الأوسط جون لانديس قوله “سوف يمسكون بخناق سورية، ويضغطون عليهم، ويهزوهم بعنف، حتى يروا ما الذي يمكن أن ينزل من جيوبهم”!!

    عبَّر الحراك الشعبي الواسع في سورية في ربيع 2011 عن إرادة حقيقية في التغيير؛ ولعدة أشهر ظلت الانتفاضة الشعبية تأخذ طابعاً مدنياً سلمياً… غير أن النظام السوري فضَّل الحل الأمني العنيف، مما أدى لاستشهاد نحو ستة آلاف سوري مع نهاية 2011… وهو وضع جرَّ إلى “عسكرة الثورة” ، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه أي حراك ذي طبيعة مدنية، يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي نحو نظام ديموقراطي، يعبر تماماً عن الإرادة الشعبية.

    كانت عملية “عسكرة الثورة” عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ غير أن النظام السوري وجد فيها أفضل خياراته المتاحة في مواجهة التغيير، إذ كان هذا الخيار سيتيح له قمع الحراك الشعبي، ومحاصرة البؤر الثورية وعزلها عن بُعدها الجماهيري؛ كما أن لجوء جانب من المعارضة للخيار العسكري سيتيح للنظام اللعب في المنطقة التي يجيدها، حيث لا تملك المعارضة إمكانات عسكرية في مواجهته؛ وهو من جهة ثالثة سيستخدم آلته الإعلامية في وصف المعارضة العسكرية بالتطرف والإرهاب، وبالتالي سيحاول تقديم نفسه في صف واحد مع المعسكر المحارب للإرهاب… بما يتوافق مع المخاوف والرغبات الغربية؛ وبما “يُشرعن” قمعه للحراك الشعبي الثوري في أعين الآخرين.

    غير أن مثل هذا العمل لم يأخذ في حسبانه أنه مثلما أجاز لنفسه استخدام القوة العسكرية، ومثلما أجاز لنفسه الاستعانة بقوى خارجية إقليمية ودولية؛ فإن هذا الحراك الشعبي عندما يكون قوياً وواسعاً لن ينزوي في البيوت، وإنما ستتحول أطراف منه إلى الثورة المسلحة، وهو ما سيضطرها لاستجلاب الدعم الخارجي السياسي والعسكري…

    وهكذا، فقد فتح إصرار النظام على قمع الثورة، وإصرار الثورة على إسقاط النظام… فرصة هائلة للتدخل الخارجي، زادت مع الزمن، مع تحول الصراع إلى حرب استنزاف منهكة للطرفين. وهذا أعطى فرصة ذهبية للأمريكان لمحاولة الدخول كلاعب كبير في الصراع الداخلي السوري… بل كـ”مايسترو” يتحكم بالمسار الكلي للعبة.

    سياسات وإجراءات أمريكية:

    وحتى تنفذ الإدارة الأمريكية سياستها، فقد قامت من ناحية أولى بدعم قوى المعارضة في المطالبة بإسقاط الأسد، وغضت الطرف عن تسليح المعارضة وقيامها بالسيطرة على أجزاء من سورية، ووضع النظام في مرحلة صعبة، لكنها لم تسمح إطلاقاً بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تؤدي لهزيمة النظام أو لإسقاطه، ومنعت الدول الداعمة للمعارضة (كقطر والسعودية وتركيا) من توفير هذا السلاح، حتى لو توفر التمويل اللازم لذلك.

    ومن ناحية ثانية، سكتت أمريكا عن التدخل الإقليمي لدعم النظام السوري (إيران وحزب الله…)، وغضت الطرف عن تدفق السلاح والمقاتلين الداعمين للنظام (خصوصاً وأنه يعطي للصراع طبيعة مذهبية طائفية، في أعين قطاعات شعبية واسعة، ويتوافق مع الرغبات الأمريكية في توريط وإنهاك إيران وقوى “المقاومة والممانعة”، وحرف بوصلتها، واستعداء شعوب المنطقة ضدها، وإظهارها كمُعادٍ وقامع لتطلعات الشعوب)؛ بحيث يتمكن النظام من البقاء، وأخذ زمام المبادرة والتوسع؛ ثم يتبع ذلك سماح أمريكا بتدفق السلاح للمعارضة لاسترداد المواقع التي خسرتها… بحيث تتواصل حالة الشعور لدى كلا الطرفين بإمكانية الانتصار والحسم العسكري للمعركة، وبالتالي تستمر عملية التدمير والقتل والإنهاك المتبادل. وهذا مشهد بات مألوفاً ومتكرراً في الحالة السورية.

    وقد أدت هذه السياسة إلى معاناة هائلة للشعب السوري وللأطراف المتصارعة. فقد بلغ عدد الضحايا، خلال نحو خمس سنوات وشهرين (حتى 25/5/2016) إلى نحو 282 ألف سوري، وأُصيب نحو مليونين بجراح، وتمّ تشريد نحو 11 مليوناً. مع الإشارة إلى أن الخسائر البشرية في القوات العسكرية للنظام والمليشيات الموالية بلغت أكثر من مائة ألف.

    ومن ناحية ثالثة، فبالرغم من تباكي أمريكا على الحالة الإنسانية، فقد رفضت إعلان سورية منطقة حظر لطيران النظام (ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان)، وتركت المجال واسعاً وآمناً لهذا الطيران لقصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ في الوقت الذي منعت فيه وصول أسلحة نوعية مضادة للطيران لقوى المعارضة. ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان، الذين وفروا حظراً جوياً على طائرات النظام العراقي في شمال العراق لحماية الأكراد منذ سنة 1991؛ والذين وفروا هذه الحماية أيضاً في أثناء عملية إسقاط النظام الليبي. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان فإن سنة 2015 لوحدها شهدت 619 مجزرة من بينها 413 ارتكبها طيران النظام السوري و79 ارتكبها الطيران الروسي.

    ومن ناحية رابعة، فقد تعمدت الولايات المتحدة إفشال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية على الحدود مع تركيا، والتي كانت ستخفف كثيراً من معاناة مئات الآلاف من المهجرين السوريين، وتوفر ملاذاً للمعارضة السورية. بالرغم من أن ذلك لم يكن أمراً مكلفاً للأمريكان، إذ كان أصدقاؤهم الأتراك والسعوديون والقطريون سيتولون تكاليفه المادية والعسكرية. مع ملاحظة أن أمريكا وفرت “عملياً” هذا النوع من الحماية للقوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب) التي تمكنت من مدِّ نفوذها على مناطق واسعة في الشمال السوري، بما يكرس الهيمنة العرقية لأحد مكونات الشعب السوري دون غيره من قوى المعارضة؛ وبما يتوافق مع فكرة الإضعاف والتقسيم ورفع الجدران الطائفية والعرقية التي تتبناها الإدارة الأمريكية.

    ومن ناحية خامسة، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد تحمست للتدخل لحماية المدنيين السوريين بعد ظهور تقارير عن استخدام النظام السوري لغاز السارين الذي أدى لقتل 1,400 مدني في الغوطة في صيف 2013، قد تراجعت دون أسباب واضحة عن مهاجمة النظام السوري. وقد اعتبر جيفري غولدبيرغ في المقال الذي نشر في مجلة ذا أتلانتيك في نيسان/ أبريل 2016 أن يوم 30/8/2013 هو اليوم الذي طوى فيه أوباما حكم أمريكا للعالم، عندما قرر عدم ضرب سورية؛ مكرساً ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” بأن التدخل الأمريكي يكون فقط لحماية الأمن القومي الأمريكي، وأن ما لا يُحلُّ بالتفاوض لا يُحلُّ بالقوة، وأنه لا ينبغي تعريض الجنود الأمريكيين للخطر، وفق مبدأ “مسؤولية الحماية” للحؤول دون كوارث إنسانية.

    هذا المقال الذي جرى تسويقه على نطاق واسع، باعتباره مُعَبِّراً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، يحمل الكثير من التضليل فيما يتعلق بالشأن السوري. إذ إن استخدام الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات الأمريكية أو الطائرات العسكرية الأمريكية المتقدمة لم تكن تحمل مخاطر تذكر على أمن الجنود الأمريكيين. وفي المقابل فإن الطيران الأمريكي له الدور الرئيسي في مهاجمة معاقل داعش، وفي دعم القوات الكردية في سورية. كما أن الأمريكان لديهم نحو  4,600 جندي أمريكي في العراق، يشاركون بغطاء جوي أمريكي في مهاجمة مناطق نفوذ داعش هناك. بمعنى أن الأمر لم يكن متعلقاً بتغير في الاستراتيجية الأمريكية، بقدر ما أنه لم تكن هناك رغبة أمريكية في التدخل في سورية، ما دام سياق الأحداث يصبُّ في المسارات التي ترغبها.

    ولذلك فقد اكتفت أمريكا في موضوع الأسلحة الكيماوية بحلٍّ يخدم استراتيجية إضعاف سورية، كما يخدم الكيان الإسرائيلي، ويتلخص في موافقة النظام السوري على التخلص من أسلحته الكيماوية. ولكنه حلٌّ يترك للنظام السوري حرية الاستمرار في حربه ضدّ المعارضة براً وبحراً وجواً؛ ولا يأبه إن كان المدنيون السوريون سيقتلون بأي وسائل أخرى. وبالتالي، فإن النظام السوري قتل بالأسلحة العادية عشرات أضعاف ما قتله بالكيماوي. ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا المدنيين على أيدي النظام خلال السنوات الخمس الأولى للصراع نحو 184 ألفاً، بينما قتل من المدنيين على يد فصائل المعارضة نحو ثلاثة آلاف وعلى يد داعش ألفان ومئتان.

    من ناحية سادسة، فإن التدخل الروسي لصالح النظام السوري لم يكن ليتم لولا عدم الممانعة الأمريكية لذلك. وهو تدخل لم يُفرض فرضاً على الأمريكان. إذ لا مانع لدى الأمريكان من انزلاق الروس في المستنقع السوري، ولا مانع لديهم من أن يعيد الروس الكفة لصالح النظام، ويقوموا بضرب المعارضة طالما أن هذه المعارضة لم تنضبط مع المعايير الأمريكية، سواء في هويتها الإسلامية والوطنية أم في سقف تطلعاتها في التغيير.

    وقد أنقذ التدخل الروسي النظام السوري من حالة تراجع متسارعة شهدها في ربيع وصيف 2015… وبالتالي أدى إلى العودة إلى حالة النزيف المتبادل بين الجانبين، التي يرغب الأمريكان باستمرارها. كما أن التدخل الروسي أضعف من النفوذ الإيراني على النظام السوري وعلى مجريات الأحداث، وإن بدا وكأنه تخفيف للعبء الإيراني في سورية. بالإضافة إلى أن هذا التدخل خدم الأمريكان ضمناً، لأنه أسهم في توسيع حالة الغضب والعداء ضدّ الروس لدى معظم شعوب المنطقة. ثم إن التفاهم الأمريكي مع الروس بشأن مستقبل سورية وفق ترتيبات استراتيجية وبراجماتية بين الطرفين، بحيث يحصل الروس على نصيب مقبول من الأمريكان من الكعكة، يظل أسهل بالنسبة للأمريكان من التفاهم المباشر مع الإيرانيين أو النظام السوري. وقد ظهر من التدخل الروسي أن معظم هجماته استهدفت قوى معارضة غير داعش، بخلاف السبب المعلن للتدخل الروسي، كما أنه دمر مستشفيات ومدارس ومخابز ومرافق حياة مدنية، وقتلت طائراته في سبعة أشهر (حتى 30/4/2016) حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان 5,800 بينهم 2,005 مدنيين من ضمنهم 800 طفل.

    وقد عكست زيارة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي نتنياهو لموسكو في 7/6/2016 مؤشراً واضحاً على أن التدخل الروسي لن يمس بحجر الأساس للسياسة الأمريكية في المنطقة وهو “إسرائيل وأمنها”. وكانت الهدية التي سلمها الروس لنتنياهو، وهي دبابة إسرائيلية من نوع باتون 48 غنمها السوريون سنة 1982 في معركة السلطان يعقوب من الإسرائيليين؛ ذات دلالة بالغة. إذ تؤكد على التأثير الروسي على صانع القرار السوري، كما تؤكد على الطمأنة الروسية للإسرائيليين بشأن الدور الروسي في سورية. وهذا ما جعل نتنياهو يقول قبيل الزيارة “إن تعزيز العلاقات مع روسيا هو عامل الأمن القوي الحاسم، الذي أنقذ الدولة اليهودية من مواجهة على الحدود الشمالية للبلاد…”. وقد أظهرت الأحداث أن الروس ينسقون بشكل كامل مع الإسرائيليين بشأن طلعاتهم الجوية في المناطق المحاذية للاحتلال الإسرائيلي.

    من ناحية سابعة، فإن الأمريكان تساوقوا مع الفكرة التي يروجها النظام السوري وحلفاؤه من أنه يحارب “الإرهاب” و”التكفيريين”…، وبدا وكأن المشكلة في سورية في جوهرها “محاربةً لـلإرهاب” وليس “ثورةً” للشعب السوري. واختار الأمريكان أن تنصبَّ جهودهم العسكرية المعلنة على حرب داعش والنصرة، واشترطوا لتسليح وتدريب فصائل المعارضة أن تقاتل داعش وليس النظام السوري. غير أن ثمة معطيات تحتاج إلى استيضاح، أبرزها أن المتضرر الأكبر من تمدد “داعش” لم يكن النظام السوري وإنما قوى المعارضة، التي تمدد داعش في معظم الأحيان على حسابها، وأنهكها في معارك استنزاف دموية واسعة. كما أن النظام السوري كان المستفيد الأكبر من رسم صورة المعارضة في شكل داعشي تكفيري متطرف، ليبرر بقاءه وليبرر ممارساته، ليس في قمع داعش فقط وإنما بشكل أساسي في قمع الثورة السورية بكافة فصائلها المعتدلة الإسلامية والوطنية. ولعل إفراج النظام السوري عن مئات المتطرفين الإسلاميين في بداية الثورة السورية، يعطي مؤشراً على رغبة النظام في وجود أمثال هؤلاء في أوساط المعارضة لتشويهها أو لحرف بوصلتها.

    ولعل تقييم “داعش” ودوره يحتاج إلى دراسة خاصة. أما كيف تمكن داعش من السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية وبسرعة مذهلة، وتحت سمع وبصر أمريكا والنظام السوري وحلفائه. ولماذا تعلن أمريكا بكل ما تملك من جبروت عسكري (والتي احتلت العراق في ثلاثة أسابيع) أنها بحاجة لسنوات لمحاربة هذا التنظيم؟ فيستحق وقفة خاصة. فقد تحدث جيمس تيري James Terry  قائد الحملة العسكرية الأمريكية على داعش في كانون الأول/ ديسمبر 2014 عن الحاجة لثلاث سنوات على الأقل ليتمكن التحالف من بلوغ نقطة التحول ضدّ داعش. أما وزير الخارجية جون كيري فتحدث في حزيران/ يونيو 2015 عن الحاجة من ثلاث إلى خمس سنوات لهزيمة داعش. أما ليون بانيتا وزير الدفاع السابق في حكومة أوباما فقد ذكر في تصريح، لا يخلو من مبالغة متعمدة، لجريدة يو أس إيه تودي في 6/10/2014 أنه يتوقع أن تستمر الحرب على داعش ثلاثين عاماً وفق الطريقة التي تعتمدها إدارة أوباما.

    هذا يعني أن أمريكا تريد الإبقاء على “فزاعة” داعش لأطول فترة ممكنة، للوصول للوضع الذي تريد، لأن حالة التطرف التي يمثلها داعش تعطي وَصفة مثالية للتموضع الطائفي والعرقي وارتفاع جدران الدم والكراهية، التي تصب طريقة عمل داعش مباشرة في طاحونتها. فـ”الإرهاب السني”؟! (حسبما يريدون تقديمه، وليس الثورة الشعبية السورية) سيقابله تموضعات علوية وشيعية ودرزية ومسيحية، كما سيتيح المجال للتموضع العرقي الكردي. أما وجود ثورة سورية شعبية تملك رؤية حضارية ونهضوية، فإنها لن تكون بديلاً مقبولاً للنظام السوري، لأنها ستفسد على الأمريكان رغبتهم في إضعاف المنطقة وإنهاكها. ولذلك فإن محاربة داعش ستبقى شعاراً يملأ الأجواء ويشغل السياسة والإعلام، بانتظار إنهاك وإضعاف المكون الشعبي الأوسع للحراك والتغيير في المنطقة (والذي تتحرك داعش في أحشائه) وهو “المكوِّن السني”.

    من ناحية ثامنة، فإن هناك رغبة أمريكية في استمرار الضغط على نظام الأسد بغرض إنهاكه وتطويعه، بما يخدم تخليه عن برامج وشعارات المقاومة، ويدخله في منظومة التسوية السلمية وفي محور “الاعتدال” والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي الوقت نفسه، فإن أمريكا و”إسرائيل” تقدران عالياً هدوء الجبهة مع سورية طوال السنوات الأربعين الماضية، وعدم رغبة النظام السوري في الدخول في صراع مباشر مع الكيان الإسرائيلي. ولذلك، فثمة إجماع أمريكي إسرائيلي بعدم الرغبة في إسقاط النظام أو تغييره (خصوصاً مع استناده إلى أقلية طائفية)، حتى ولو بقوى علمانية ديموقراطية ليبرالية، إلا إذا كان ذلك يضمن مزيداً من النفوذ الإسرائيلي الأمريكي. ولأن الخط العام لقوى المعارضة السورية لا يقل تشدداً تجاه “إسرائيل” عن موقف نظام الأسد… فإن بقاء النظام (ولو من دون شخص الأسد) يظل خياراً مفضلاً.

    من ناحية تاسعة، فإن الولايات المتحدة ترى في وجود نظام سياسي في سورية يستند في جوهره إلى أقلية طائفية، أو إلى نظام شمولي، فرصةً أفضل لتعريضه للضغط وابتزاز المكاسب منه، لعدم استناده على قاعدة شعبية واسعة أو على أسس حكم راسخة، يحتمي بها عند تعرضه للضغط الخارجي. ولذلك فلن تبدو متحمسة لوجود نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن الإرادة الشعبية، لأن الإرادة الحقيقية للشعوب ستُمثل خطراً على مصالحها في المنطقة، وستسعى أمريكا لتعطيل هذا المسار أو إضعاف دوره، بحجة حماية الأقليات وضمان أدوارها في السياسة وصناعة القرار… .

    سياسة أمريكية غير معلنة:

    إنّ جزءاً كبيراً من السياسة الأمريكية في سورية لا يظهر بشكل معلن. وقد تسبب ذلك في إظهار الولايات المتحدة وكأنها طرف ضعيف فاقد للاتجاه. ولعل الإدارة الأمريكية فضّلت هذه الصورة السيئة، في سبيل ألا تُصرِّح بسياستها الرسمية الفعلية. ولذلك فقد ظهر كلٌّ من وزير الدفاع آشتون كارتر Ashton Carter ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دنفورد  Joseph Dunford في حالة بئيسة ومرتبكة ومزرية في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة الدفاع في الكونجرس الأمريكي في 27/10/2015… ولم يجدا إجابات منطقية لأسئلة السيناتور ليندسي جراهام Lindsey Graham.

    فقد كانت لديهما إجابات محددة حول دعم مقاتلين سوريين لضرب داعش، لكنهما كانا مرتبكين تماماً عندما تعلق الأمر بدعم المعارضة لإسقاط النظام أو تغييره… ولذلك علق جراهام في نهاية كلمته قائلاً:

    إذا كنت مكان الأسد، فهذا يوم جيد بالنسبة لي، لأن أمريكا قالت دون تصريح أنها لن تقاتل لتغييري؛ وهذا يوم جيد لحلفاء الأسد، لأنه ليس عليه تهديد عسكري حقيقي. ما فعلتما أنكما بالتوافق مع الرئيس [أوباما] أخبرتم الشعب السوري الذي مات بمئات الآلاف “نحن قلقون أكثر بشأن استقرارنا السياسي من الذي قد يأتي”. كل ما يمكنني قوله أن هذا يوم تعيس لأمريكا، وأن المنطقة ستدفع ثمن هذا الجحيم؛ لأن العرب لن يقبلوا بذلك، والشعب في سورية لن يقبل بذلك. هذه استراتيجية حمقاء على أفضل تقدير.

    مساران للحلول:

    القراءة المتأنية للسلوك السياسي والعملي الأمريكي، وخلاصة الدراسات الصادرة عن مراكز الدراسات والكتَّاب والمؤثرين في صناعة القرار تصبُّ في اتجاهين:

    الأول: بقاء الدولة السورية بحدودها الرسمية، مع نشوء نظام سياسي ضعيف، لا يستطيع التعامل مع المشاكل والصراعات الداخلية، حيث ترتفع جدران الدم الطائفية والعرقية، وحيث تسيطر القوى المحلية على مناطقها؛ ويكون في الوقت نفسه لديه من القوة ما يكفي للحفاظ على أمن واستقرار الحدود الخارجية، خصوصاً مع الكيان الإسرائيلي.

    هذا النظام سيكون أشبه بالحالة اللبنانية والعراقية، وسيكون دوره أقرب إلى “طفاية حرائق” محلية، دون أن يمتلك مقومات النهوض والاستقرار والتنمية والقوة، بينما ستستعين القوى الطائفية والعرقية المحلية بقوى إقليمية ودولية، للحفاظ على مكاسبها ولمنع “تغوُّل” النظام عليها.

    الثاني: تقسيم سورية إلى دويلات: علوية وسنية ودرزية وكردية تنشأ على أنقاض الدولة السورية؛ وهو تقسيم لا يكتفي بجدران الدم الاجتماعية، وإنما يسعى لإعطائها شرعيات وحدوداً سياسية.
    ولعل الاتجاه الغالب حتى هذه اللحظة هو الاتجاه الأول، خصوصاً مع وجود مخاوف حقيقية من أن نشوء دويلات ضعيفة سيُسهّل على ما يُسمى القوى “المتطرفة” النفاذ عبر الحدود وإشعال العمل المقاوم ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما أن الكيانات الضعيفة ستدفع بشكل أقوى أصحاب المشاريع النهضوية والوحدوية لتقديم مشاريعهم بشكل أكثر جدية وحيوية. ثم إن هذه التقسيمات ستثير مخاوف دول إقليمية كبيرة لديها أقلياتها المتحفزة كما في إيران وتركيا.

    ومع ذلك، يبقى خيار التقسيم خياراً مفضلاً لدى أمثال المستشرق الشهير برنارد لويس وتلاميذه المنبثِّين بين “المحافظين الجدد” واليمين الديني المتطرف… والذين يرون أن هذا التقسيم يجعل من الكيان الصهيوني بهويته اليهودية كياناً طبيعياً وسط كيانات قائمة على هويات طائفية وعرقية. وهو ما يتوافق مع ما دعا إليه الخبير السياسي الأمريكي ذو الأصل الهندي باراج خانا Parag Khanna في 13/1/2011 عندما نشر مقالاً في أحد أهم المجلات الأمريكية والعالمية وهي الفورين بوليسي Foreign Policy دعا فيه “أن تُنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك، يجب أن يدرك العالم أنّ هذه الانقسامات لا مفر منها”.  وكذلك عما كتبه خانا بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في النيويورك تايمز في 22/9/2012، حيث توقعا، بالنسبة لسورية، إما نموذجاً كالنموذج اللبناني حيث يتم تفريغ السطة المركزية من محتواها، أو العودة للشكل الذي فرضه الاستعمار الفرنسي بإيجاد دويلات منفصلة واحدة علوية وثانية درزية، ودُويلتي مدن في كلٍّ من دمشق وحلب (بأغلبيتين سُنِّيتين)؛ غير أنهما لم يشيرا إلى مصير المناطق ذات الكثافة الكردية في شمال شرق سورية، وإن كانا قد دعما إنشاء دولة كردية في شمال العراق. كما دعوا إلى إعادة تشكيل خرائط  إيران وأفغانستان وباكستان من خلال إنشاء باشتونستان وبلوشستان وأذربيجان الكبرى.

    وبشكل عام، تبدو الحلول التي يتجه إليها الأمريكان للأزمة السورية متوافقة مع مسارات الإضعاف والتقسيم الداخلي. وهي حلول تتوافق إلى حدٍّ ما مع الاقتراح الروسي بالحلّ الفيدرالي في سورية. وبحسب جوناثان ستيفنسون في مقاله المنشور في نيويورك تايمز في 19/3/2016 (ونشرت الحياة ترجمته في 23/3/2016) فقد ألمح وزير الخارجية الأمريكي كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أن التقسيم قد يكون هو الخطة ب Plan B إذا أخفقت المفاوضات السياسية. وتحدث ستيفنسون عن رواج فكرة “مركز قرار رخو، وصلاحيات واسعة للمناطق” لدى المعنيين بصناعة القرار. كما ألمح جون يرينان John Brennan، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، إلى احتمال سيطرة بعض من وصفها بالجماعات الأيديولوجية على مناطق مستقلة من سورية، في كلمة ألقاها الجمعة 29/7/2016 في منتدى أسبين الأمني السنوي.

    وتصب طروحات مركز راند للدراسات (الذي يعد أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة) في الاتجاه نفسه، فقد نشر دراسة في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وحدثها في حزيران/ يونيو 2016، بعنوان خطة سلام لسورية A Peace Plan for Syria تجعل الأولوية لوقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى أربع مناطق، بحيث تكون هناك منطقة تحت نفوذ النظام الحالي، وثانية تحت نفوذ المعارضة، وثالثة تحت نفوذ الأكراد. أما الرابعة فيتم التعامل معها دولياً باعتبارها تحت نفوذ داعش. وتركز الفكرة على ضمانات دولية ودورٍ خارجي، وإطلاق نقاش “طويل” لتحديد سورية المستقبل. مع التأكيد على فكرة الحكم اللا مركزي ضمن الدولة الديموقراطية الواحدة. وتحاول هذه الدراسة “عملياً” إعطاء الأولوية لوقف القتال، وتوجيه الجهود نحو محاربة داعش أو الـ”التطرف”… وتجعل إسقاط النظام… أو إنشاء نظام ديموقراطي حقيقي أمراً مؤجلاً على المدى الطويل.

    خاتمة:

    أياً تكن قوة الولايات المتحدة وعظمتها، فإنها ليست القدر، وهي لا تستطيع فرض إرادتها على الشعوب التي تسعى للاستقلال، وبناء نموذجها الحضاري بعيداً عن الهيمنة الغربية.

    ولذلك، فإن المطلوب سورياً وعراقياً وعربياً وإسلامياً، التأكيد على حرية الشعوب وحقها في إقامة الأنظمة السياسية التي تعبر عن إرادتها، والتعاون على تأسيس مشروع نهضوي حضاري يسع الجميع، ويواجه الانقسامات الطائفية والعرقية، والتكاتف في إغلاق المنطقة في وجه النفوذ والتدخل الخارجي وخصوصاً الإسرائيلي والأمريكي.

    هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 13/8/2016

  • موقف تركيا من الضيوف السوريين لم ولن يتغير

    د.ياسين أقطاي

    أعلن الاتحاد الأوروبي توصله إلى قرار يقضي بمنح 700 مليون يورو لدولة اليونان بهدف تحصين حدودها، 350 مليونا منها ستُدفع مباشرةً، أما بقية المبلغ فسيتم تقديمها بناء على طلب اليونان.

    صدر هذا القرار مباشرة بعد تخلي تركيا عن سياستها المتبعة لمنع اللاجئين السوريين من الخروج من أراضيها والدخول إلى أوروبا أو أي مكان آخر، الأمر الذي أدى إلى تزاحم ما يقارب 150 ألف لاجئ على أبواب اليونان.

    إن الحدود التي ستتكفل اليونان بحمايتها هي حدود الاتحاد الأوروبي التي تمثل أيضا حدود اليونان. وقد دفع وصول اللاجئين إلى هذه النقطة أوروبا إلى أخذ الأمور على محمل الجد، وجعلها تفهم أن منع اللاجئين من الوصول إلى أوروبا يقتضي مصاريف مالية ضخمة.

    ما هي طبيعة هذه العوائق والتحصينات التي ستقيمها اليونان؟ لم يُفصح عن ذلك بعدُ. هل ستُستخدم هذه الأموال من أجل إنشاء أسوار سلكية شائكة مكهربة، أم لإنشاء جدران سميكة مرتفعة، أم ستوظَّف التكنولوجيا المتقدمة من أجل مراقبة الحدود، أم سيتم استخدامها من أجل تطوير طرق معينة لتوطين وتأمين معيشة اللاجئين داخل حدود اليونان؟

    إن المعاملة التي يتلقاها اللاجئون في اليونان واضحة؛ فإطلاق القنابل الغازية، ومهاجمة خيام اللاجئين بالمياه العادمة وبالرصاص الحي، أسفرت كلها حتى الآن عن موت ثلاثة أشخاص. ونظرًا لأننا لم نسمع حتى الآن أي شكاوى أو انتقادات من قبل الاتحاد الأوروبي بخصوص هذه المعاملة؛ فإن هذه الأموال سيتم إنفاقها فقط من أجل التدابير الأمنية الوقائية.

    “إن ما حدث خلال أسبوع واحد فقط على الحدود اليونانية يُظهر مقدار التفاني الذي بذلته تركيا على مدار سنوات، وكيف شكلت جدار أمان بالنسبة لأوروبا، كما يتجلى للعيان ما تدين به أوروبا لتركيا وكيف تغاضت وتجاهلت أوروبا هذا الدَّين. لا شك أن ما فعلته تركيا حتى الآن من أجل اللاجئين السوريين لم يكن بهدف حماية أوروبا فقط”

    إن ما حدث خلال أسبوع واحد فقط على الحدود اليونانية يُظهر مقدار التفاني الذي بذلته تركيا على مدار سنوات، وكيف شكلت جدار أمان بالنسبة لأوروبا، كما يتجلى للعيان ما تدين به أوروبا لتركيا وكيف تغاضت وتجاهلت أوروبا هذا الدَّين.

    لا شك أن ما فعلته تركيا حتى الآن من أجل اللاجئين السوريين لم يكن بهدف حماية أوروبا فقط. بل على العكس من ذلك؛ هناك أزمة إنسانية حقيقية، والعالم كله -بدءًا من الأطراف التي تسببت في هذه المشكلة- يتقاعس ويتجاهل هذه الأزمة، في حين أن تركيا -التي لم تكن من الأطراف المتسببة في اندلاعها- لم تقف مكتوفة الأيدي تشاهد المشاكل الإنسانية التي أنتجتها هذه الأزمة.

    لقد طبقت تركيا -ودون أي حسابات مسبقة- سياسة الأبواب المفتوحة مع اللاجئين. وفي إطار هذه السياسة؛ تتولى تركيا -إلى جانب استضافة ما يقارب أربعة ملايين لاجئ على أراضيها- مسؤولية ستة ملايين لاجئ يعيشون في مناطق عمليات “نبع السلام”، و”غصن الزيتون”، و”درع الفرات”، وكذلك عملية إدلب التي ما زالت مستمرة حتى الآن؛ لتكون بذلك مسؤولة عن عشرة ملايين لاجئ. وهذا العدد يزيد على عدد السكان في المناطق التي يسيطر عليها نظام الأسد في سوريا.

    لقد فعلت تركيا ذلك دون حسابات مسبقة، ولم تتوان عن تشكيل مأوى آمن للبشر الذين يفرون من ظلم النظام الدموي. وبالإضافة إلى ذلك؛ إنّ تخلي تركيا عن سياستها القاضية بمنع اللاجئين من مواصلة المسير نحو أوروبا لا يعني أنها تخلت عن سياستها اتجاه اللاجئين.

    ففي الحقيقة؛ أرادت تركيا من خلال اتخاذ هذه الخطوة السياسية تنبيه بعض الأطراف المؤثرة وخصوصا الاتحاد الأوروبي، ودفعهم لتحمل المسؤوليات الملقاة على عاتقها، سعيا منها لحقن دماء السوريين. وأثناء تطبيقها لهذه الخطوة؛ لم ترسل أي لاجئ عنوة، ولن تقوم بذلك في المستقبل.

    إن اللاجئين الذين وصلوا إلى أبواب اليونان -بعد تخلي تركيا عن سياسة المنع- كان هدفهم منذ البداية الوصول إلى أوروبا. وكل ما في الأمر أن تركيا كانت تقطع عليهم هذا الطريق، وقد تخلت الآن عن تلك السياسة. لكن أنقرة لن تغيِّر السياسة المتعبة مع الأربعة ملايين ضيف الذين أسسوا حياة في تركيا مفضلين البقاء فيها.

    من خلال ممارسة الضغوط على أوروبا؛ لم تكن تركيا تهدف إلى التخلص من اللاجئين الذين تستضيفهم على أراضيها، وإنما أرادت دفع أوروبا لممارسة المزيد من الضغط على الأسد وحاميته روسيا، من أجل وقف المذابح التي تنتج موجات اللاجئين.

    فسيول اللاجئين لن تتوقف دون إيقاف الأسد، بينما تُركت تركيا وحيدة في سعيها لإيقاف الأسد. وأينما نظرت في الاتفاق الذي توصل إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم الخميس الماضي في موسكو- فستجد أن الخطوات التي اتخذتها تركيا بشأن هذه المسألة كان لها وقع مهم.

    “من خلال ممارسة الضغوط على أوروبا؛ لم تكن تركيا تهدف إلى التخلص من اللاجئين الذين تستضيفهم على أراضيها، وإنما أرادت دفع أوروبا لممارسة المزيد من الضغط على الأسد وحاميته روسيا، من أجل وقف المذابح التي تنتج موجات اللاجئين. فسيول اللاجئين لن تتوقف دون إيقاف الأسد، بينما تُركت تركيا وحيدة في سعيها لإيقاف الأسد”

    على الطرف المقابل؛ إن نهاية هذا الطريق -الذي سلكه اللاجئون الراغبون في الوصول إلى أوروبا- مغامرة على الأرجح ستنتهي بخيبة أمل كبيرة. فلو افترضنا أنهم استطاعوا الوصول إلى وجهتهم؛ فإن أوروبا -التي تملك اللازم من الإمكانات المادية وما يمكن تقديمه للاجئين- لن تتصرف بكرم معهم ولن تقدّم لهم الكثير، خاصة أنها لا تفعل ذلك الآن.

    وعلى كل حال؛ فإن هؤلاء اللاجئين غير مستعدين للتخلي عن أمل في مستقبل لم يجرّبوه بعدُ. وهم لن يدركوا الحقيقة دون خوض التجربة، ولن يفهموا دون أن يروا نتيجتها بأمّ أعينهم.

    إن أوروبا تواجه اليوم التآكل الذاتي بسبب عداء الأجانب. لندع ما يمكن أن تقدمه أوروبا للأجانب جانبا؛ فإن الوجود الأجنبي يضع كل ما يسمى بالقيم الأوروبية في مأزق لا يمكن الخروج منه. وأولئك الذين يمنعون استقبال اللاجئين ذوي الحق الإنساني هم ذاتهم ممثلو كراهية الأجانب، وقد أضحى وجود اللاجئين في أوروبا وازدياد أعدادهم يوما بعد يوم بمثابة امتحان يصعب النجاح فيه.

    إن نجاح الاتحاد الأوروبي في الامتحان دون تلقي المساعدة والمساندة التركية أمر غير ممكن. لكن يمكن لهذا الامتحان أن يتحول إلى فرصة جيدة حتى يجدّد الاتحاد الأوربي العمل على حل الأزمة الإنسانية التي يغض الطرف عنها، ويبدأ الحوار بين مختلف الأطراف، والشروع في عمليات تعاون مشترك مبنية على حسن النية المتبادلة.