• إدارة سياسات التحجيم.. موسكو والاستثمار في التناقضات

    الباحث: ساشا العلو
    بعد تدخلها العسكري في العام 2015 ، أدركت موسكو
    جيدا المصالح الإقليمية المتضاربة في سورية والهواجس الأمنية لكل
    دولة على حدا، خاصة الحدودية منها، كما استوعبت طبيعة العلاقة بين كل دولة وأذرعها المحليّة في الداخل السوري،
    إضافة إلى المناخ السياس ي العام الذي حك م و
    يحكم الملف السوري
    دوليا، وخاصة الموقف الأمريكي " يسّر
    الم " خلال حقبيي
    أوباما وترامب، فكان أن بدأت موسكو بخطوات تكاد تكون متشابهة مع كل دولة من الدول الحدودية، واليي تمثلت ب:
    1 . فهم الهواجس الأمنية لكل دولة وتعزيزها بشكل أكبر كمرحلة أولى، خاصة ما يتعلق منها بالأمن الإقليمي.
    2 . ومن ثم طرح نفسها كضامن لتلك الهواجس كمرحلة ثانية، مقابل حصر دور كل دولة بحماية أمنها الإقليمي فقط،
    والتنازل بشكل مباشر أو غير مباشر عن أذرعها المحليّ ة، إضافة للقبول بقوات النظام كحل وسط وبديل على
    الحدود.
    هذا ما حدث مع الأردن قبل وخلال وبعد معارك الجنوب )درعا، القنيطرة(، عبر تعزيز مخاوفه الأمنية والاقتصادية على
    حدوده )داعش، معابر(، ومن ثم طرح حل لاستيعاب تلك المخاوف، من خلال فتح المعابر وعمليات عسكرية مشتركة ضد
    داعش وإعادة انتشار النظام على الحدود، مقابل تخلي الأردن عن فصائل الجنوب وسيطرة النظام وقوات الشرطة
    العسكرية الروسية على المدن والبلدات.
    وهذا ما حدث
    أيضا مع الكيان ا لإسرائيلي المتوجس من إيران وميلشياتها على حدوده، وما تلاه من تقديم الروس ي لنفسه
    كضامن لتراجع الإيرانيين 100 كم، وفتح السماء السورية أمام ضربات الإسرائيليين لإيران في العمق السوري، مقابل
    عودة قوات النظام إلى الحدود وانتشار الشرطة العسكرية الروسية في المنطقة.
    هو ذاته
    أيضا ما واجهت ه تركيا في العامين الأولى من التدخل الروس ي، حيث عمدت موسكو إلى تعزيز مخاوفها ا لأمنية
    بداية
    عبر دعمها ل " PYD " وذراعه العسكري " YPG " في عفرين ومحيطها، ومن ثم إنجاز صفقة تتضمن استيعاب تلك المخاوف،
    واليي انتهت بتسليم عفرين لتركيا والتخلي عن وحدات الحماية، مقابل مكاسب أستانية أكبر، ليستمر السيناريو اليوم في
    شرق الفرات، والذي يستند إلى استثمار الموقف الأمريكي الزاهد وتشتت الموقف الناتوي واستغلال مخاوف تركيا الأمنية،
    وإنجاز صفقات على حساب الأذرع المحلية ومشاريعها، وبالتالي مكاسب مجانية لموسكو والنظام.
    2
    مركز عمران للدراسات الاستراتيجية © جميع الحقوق محفوظة
    عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. | www.OmranDirasat.org
    وفي المحصلة، يمكننا القول أن موسكو نجحت إلى ح د كبير، بتحجيم دور القوى الإقليمية في الملف السوري وتحويل
    طموحات بعضها من فاعلية وتأثير في الحل السياس ي إلى حماية أمن حدودها وحرف أهداف بعضها الآخر من تحصيل
    المكاسب إلى تخفيف الخسائر، وبالتالي استطاعت تحجيم الأذرع المحليّة المرتبطة بتلك القوى وما يتبعها من مشاريع،
    وإعادة ضبط القسم الأكبر والأنشط من الحدود السورية، وضمان عودة سلطة الأسد "مؤسسات الدولة" لأكبر قدر من
    الأراض ي وتأمين طرق التجارة الدولية، وبالتالي الاقتراب أكثر وأكثر من رؤيتها في التفرد بالحل السياس ي، بل وإنجاز صفقات
    مع تلك الدول ، لصالح موسكو، تتجاوز حدود الملف السوري
    أساسا ) تعزيز التبادل تجاري، بيع ا لأسححة، وإنشاء معامل
    وقدرات عسكرية.. إلخ(.
    إذا فسياسة التحجيم الروسية مع الدول الحدودية تعتمد على: تعزيز مخاوف الأمن الإقليمي، ومن ثم إنجاز صفقة
    لتهدئتها؛
    تنتج تحجيم الدور الإقليمي نفسه، بل وتطويعه
    غالبا في خدمة رؤية موسكو لححل السياس ي.
    واللافت، أن سياسات التحجيم تلك تجاوز ت الدول الحدودية لتطال قوى إقليمية أخرى كانت فاعلة في الملف السوري،
    كالدور العربي- بالخليجي
    ممثلا -، والذي
    أيضا تم تحجيمه وتطويع جزء منه بسياق الرؤية الروسية في الملف السوري، كما
    طالت بشكل أو بآخر الأوروبيين الذين تم تحجيم دورهم نتيجة الموقف الناتوي المشتت والتراجع الأمريكي كمظلة له،
    مقابل التقدم الروس ي بالكثير من الملفات. إذ أن الإنجاز العسكري الروس ي وما تخلله من مكاسب، لم يقتصر على الأرض
    فحسب، من محاولات
    بدءا
    وإنما سعت موسكو لترجمته سياسيا "أستنة" بتغيير أولويات السلال الأربعة مع
    جنيف مرورا
    "دي مستورا" وتقديم سلة مكافحة الإرهاب على باقي السلال ، إضافة إلى تغيير وحرف مفاهيم هيئة الحكم الانتقالي وفق
    القرار 2254 إلى الحجنة الدستورية.
    وصولا
    بالمقابل، يبدو أن إدارة سياسات التحجيم اليي اتبعتها موسكو إزاء القوى الفاعلة في الملف السوري لم تقتصر على أعدائها
    ومنافسيها، وإنما طالت حلفائها بشكل أو بآخر، إذ تختلف الآراء إلى اليوم حول طبيعة العلاقة بين موسكو وطهران في
    الملف السوري، بين التحالف التكتيكي أو الشراكة الاستراتيجية اليي تتجاوز حدود سورية، وعلى الرغم من أن لأنصار كل
    من الرأيين حجج ه؛ إلا أن تنافس الطرفين في الملف السوري على أحد، خاصة بعد انحسار رقعة المعارك
    لم يعد خافيا
    من الرؤية لمستقبل
    بين القوتين، لتظهر خلافات على عدة مستويات بدءا
    عسكريا
    اليي فرضت تحالفا س ورية إلى
    وصولا
    إدارة التحالفات في الملف السوري، التنافس الذي انعكس بشكل أو بآخر بصورة محاولات تحجيم للدور ا لإيراني في عدة
    مجالات وقطاعات، سواء تحركات موسكو على مستوى إعادة هيكلة قطاعيّ الجيش والأمن ومحاولات تحجيم المليشيات،
    أو على مستوى سعيها للاستئثار بالعقود الاقتصادية الأكبر ضمن القطاعات الاستراتيجية في سورية ومحاو لات حرمان
    إيران منها، إضافة إلى احتكار ملف سور ية ، ناهيك عن تسويق موسكو دورها لبعض دول
    السياس ي دوليا المنطقة على ظهر
    الوجود الإيراني في سورية )"معادل قوى "(، خاصة تجاه الدول ذات الحساسية العالية من هذا الوجود)الخليج، إسرائيل(.
    ما كتب أعلاه؛ لا يعني ذكا ء منقطع النظير في السياسة الخارجية الروسية ضمن الملف السوري، بقدر ما يعني ت
    راجعا
    للدور الأمريكي و
    سياسيا
    ارتباكا للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في سورية وعدم قدرتها على فصل الملف السوري عن

    صراعاتها المتعددة، واليي أمّ نت لم وسكو هوامش كبيرة للتحرك عبر التناقضات العديدة اليي ولدتها تلك الصراعات،
    بدءا
    من الصراع الخليجي-الخليجي، والخليجي-الإيراني، والإيراني-الإسرائيلي، والخليجي-التركي، خ لا
    وأخيرا فات شركاء الناتو
    أنفسهم أمريكا-تركيا-أوروبا.
    كل تلك الصراعات والخلافات منعت تشكيل جبهة دولية أو إقليمية موحدة من الملف السوري كان من الممكن أن تحجّ م
    دور موسكو في سورية، وب من
    دلا ذلك سهّلت لها الولوج من مختلف التناقضات وتحقيق اتفاقات جزئية ومكاسب مجانيّ ة
    وإنجاز تحالفات استراتيجية مع شركاء أمريكا التقليدين، بل وجعلت من نظام الأسد "بيضة القبان" في أغلب تلك
    الاتفاقات الجزئية، نتيجة إدراك الأسد لتلك التناقضات وما تؤمنه من هوامش تحرك، سواء في ظل الدور الروس ي وما
    يستتبعه عليه من مكاسب مجانية، أو حيى من خلال استثمار هوامش الخلاف بين حلفائه )روسيا، إيران(.
    وقد أتاحت الصراعات والخلافات الإقليمية-الدولية حول سورية لموسكو إمكانيّة تحجيم بعض القوى وإخراج بعضها
    الآخر من دائرة التأثير المباشر في الملف السوري، ولعل الطرح الألماني المتأخر بعد الاتفاقين التركي-الأمريكي والتركي-الروس ي
    لنشر قوات دولية في شرق الفرات، يوضّ ح بأن الأوروبيين شعروا متأخرين بإبعادهم خارج مساحة الفاعلية الحقيقية في
    الملف السوري.
    قابل تلك الصراعات والخلافات الإقليمية-الدولية رت ه
    ّ
    وما وف من هوامش للدور الروس ي، استمرار الفاعلين المحليين في
    التعويل على التحالفات الخارجية، بل والسير الأعمى في ركبها، دونما فهم لطبيعة الصراع والمصالح الدولية والإقليمية
    فيه. كل تلك الظروف والمناخات المحلية والإقليمية والدولية أمّ نت لموسكو القدرة لإدارة سياسات التحجيم، وحالت دون
    إنتاج أي سياسة دولية تساهم في تحجيم موسكو نفسها في الملف السوري، كما عرقلت إنتاج أي فعل محلي موحد
    ومستقل يؤدي هذا الغرض ويفرض نفسه على الطاولة.
    وبنظرة عامة اليوم على الملف السوري، نجد أنه يدار بفاعلية روسية بالدرجة الأولى ومن ثم تفاهمات تركية- روسية
    بالدرجة الثانية، تلك المرشحة بأي لحظة لأن تتحول باتجاه خلاف مع شريك أستانة الثالث )إيران( بدعم قوى إقليمية
    ودولية أخرى. إذ يبدو أن موسكو ستستمر في سياسة التحجيم المبنيّ ة على تناقضات القوى المختلفة واليي تؤمن ل
    ها تفردا
    في صياغة الحل النهائي، التحجيم الذي لم ولن يقتصر على أعداء موسكو، وإنما يبدو أنه طا ل أو يطا ل أو سيطا ل حلفائها
    )النظام، إيران(
    أيضا وشركائها )تركيا( في سبيل محاولات فرض رؤيتها وتصورها الخاص لمستقبل سورية، التصور الذي
    بالأمر السهل في سياق الملف السوري وتعقيداته
    قد لا يبدو تطبيقه عمليا وتحولاته غير المتوقعة، لكنه ليس بالأمر
    المستحيل وسط استمرار الظروف الموضوعية والذاتية اليي أوصلت الدور الروس ي في سورية إلى ما هو عليه اليوم.

  • التصعيد الروسي في الشمال السوري الدوافع والمآلات المحتملة

    ملخصٌ تنفيذيّ

    • تشهد خارطة التحالفات في سوريا تغييراً ملحوظاً، حيث بدأت خلافات "ثلاثي أستانة" بالظهور للعلن على عدة مستويات، الأمر الذي يشير إلى احتمالية انفراط عقد أستانة بعد أن أدى الأهداف المشتركة للأطراف الثلاثة.
    • تعتبر الحملة العسكرية التي تشنها روسيا والنظام آخر محطات مسار أستانة، والذي حقق أهدافه العسكرية بالنسبة لموسكو، وفشل في تحقيق نتائج سياسية على مستوى الحل نتيجة لخلافات الثلاثي الراعي للمسار (روسيا، تركيا، إيران) وعرقلة أممية تتمثل بإعادة تفعيل مسار جنيف.
    • تحاول موسكو طي صفحة منطقة "خفض التصعيد" الرابعة على غرار سابقاتها من المناطق، مدفوعة برغبتها في تأمين الطرق الدولية لإنعاش الوضع الاقتصادي المتهالك للنظام، ومستغلةً رفع الفيتو التركي عن المعركة.
    • رفع الفيتو التركي عن المعركة والصمت إزاء التصعيد الروسي، ناتج على ما يبدو عن تغيّر أولويات أنقرة بعد التقارب مع الولايات المتحدة حول المنطقة الآمنة، باتجاه تأمين الشريط الحدودي مع سوريا دون التوغل في العمق السوري.
    • لا يشير الصمت التركي عن التصعيد العسكري الأخير لروسيا والنظام إلى وجود صفقة مقايضة (منطقة مقابل منطقة)، بقدر ما يشير إلى رفع الفيتو التركي (غض طرف) عن عمل عسكري روسي يحقق ما لم تنجزه أنقرة على عدة مستويات.
    • يبدو من خلال بيانات ومواقف الفصائل العاملة في المنطقة منزوعة السلاح والمعارك التي لاتزال تخوضها ضد قوات النظام وحلفائه؛ أنها ليست جزءاً من تفاهمات أنقرة مع موسكو، ليبقى موقف هيئة "تحرير الشام" ملتبساً، وهي صاحبة السيطرة الأكبر في المنطقة والموقف الأكثر مرونة بين الفصائل الأخرى حول دخول الدوريات الروسية للمنطقة العازلة.
    • الظروف المحيطة بالمعركة سياسياً وعسكرياً، تشير إلى أن العملية ليست لمجرد الضغط فقط لتسيير الدوريات الروسية وفتح الطرق الدولية، وإنما الهدف منها تصفية الفصائل الرافضة للدوريات الروسية عبر قضم مناطقها والتوغل إلى عمق معيّن يؤمن لموسكو عدة أهداف أُخرى.

    مدخل

    عقب انتهاء أعمال الجولة الثانية عشرة من اجتماع أستانة بتاريخ 25-26 نسيان/أبريل؛ أطلق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من بكين تصريحات منافية لما تم التوافق عليه في الاجتماع، حيث اعتبر أن "احتمال المعركة على إدلب لايزال قائماً غير أن التوقيت ليس مناسباً"([1])؛ لتبدأ بعد تلك التصريحات عملية تصعيد عسكري من قبل روسيا والنظام لم تشهدها منطقة "خفض التصعيد" الرابعة منذ اتفاق سوتشي في سبتمبر/أيلول 2018.

     تمثّل التصعيد العسكريّ بقصف جويّ عنيف على عشرات القرى والبلدات في المنطقة، شمل أرياف حماه الشمالي والغربي وإدلب الجنوبي بالتزامن مع حشود عسكرية للنظام ومحاولات للتقدم في قرى ريفي حماه الشمالي والغربي، بالمقابل ردت فصائل المعارضة وهيئة "تحرير الشام" المتواجدة في المنطقة بتصعيد حسب إمكاناتها، وتمكّنت من صد بعض هجمات النظام المدعومة بالطيران الروسي المكثّف معلنة موقفاً حاسماً من التصدي لأي محاولة للتقدم. لتبقى المعارك إلى لحظة كتابة هذه الورقة بين كرّ وفرّ من قبل الطرفين، مقابل تقدم النظام في بعض قرى ريفي حماه الشمالي والشمالي الغربي.

    يأتي ذلك التصعيد وسط تنديد أمريكي أوروبي خجول، وصمت لافت من الضامن التركي، الطرف المعنيّ باتفاق سوتشي، حيث بدأت تركيا والفصائل المتحالفة معها بالتزامن مع التصعيد الروسي عملاً عسكرياً بدا محدوداً في ريف حلب الشمالي ضد وحدات الحماية الكردية، مما أوحى بوجود تفاهمات حول ما يجري، أو ما اعتبره البعض "صفقة مقايضة" بين موسكو وأنقرة.

    وعليه، تسعى هذه الورقة إلى فهم دوافع موسكو لخرق تفاهماتها مع أنقرة حول منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، في الوقت الذي يكاد يسير فيه الملف السوري باتجاه إطلاق العمليّة السياسيّة وطي صفحة العسكرة، مقابل فهم دلالات الموقف الصامت للضامن التركي إزاء هذا التصعيد العسكري على المنطقة. كما تسعى الورقة إلى استشراف حدود هذا التصعيد الروسي عسكرياً وما يمكن أن يفضي إليه من تغييرات في حدود منطقة "خفض التصعيد" الرابعة. إضافة إلى حدوده السياسية وآثاره المحتملة على مستقبل مسار أستانة،

    أولاً: الحملة العسكرية (الظروف المُشكّلة للدوافع)

    لا يمكن فصل التحرك العسكري لموسكو والنظام في هذا التوقيت عن جملة من المتغيرات على مستوى الملف السوري سياسياً، والتي يمكن أن تشكل دوافع هذا التصعيد الروسي، ولعل أبرزها:

    1. تحالفات جديدة: تشهد خارطة التحالفات في سوريا تغييراً ملحوظاً بعد انحسار الأعمال العسكرية، نتيجة تراجع مساحات سيطرة المعارضة وإعلان نهاية تنظيم الدولة، حيث بدأت خلافات "ثلاثي أستانة" بالظهور للعلن على عدة مستويات، وخصوصاً بين إيران وروسيا من ناحية، وبين موسكو وأنقرة من ناحية أخرى، الأمر الذي يشير إلى احتمالية انفراط عقد أستانة بعد أن أدى الأهداف المشتركة للأطراف الثلاثة، والتي باتت تتنافس على تثبيت مكاسبها على الأرض عبر تحالفات جديدة.
    2. فشل سياسي: يبدو أن خلافات الرعاة الثلاثة لأستانة انعكست بشكل فشل الجولة الثانية عشرة في إعلان تشكيل اللجنة الدستورية وإحالتها إلى جنيف، مما يعني فشلاً في تحويل هذا المسار إلى بديل عن المسار الأممي المتمثل في جنيف. وهذا ما يمكن اعتباره إخفاقاً لموسكو في تحويل النتائج التكتيكية التي أحرزتها من مسار "سوتشي" على المستوى العسكري إلى نتائج استراتيجية على مستوى الحل السياسي، بشكل يمكنّها من الانفراد بمسار هذا الحل وإقصاء (إيران وتركيا) عنه من جهة، إضافة لمجموعة العمل المصغرة (الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، مصر، السعودية، الأردن) من جهة أخرى، وهذا ما يؤكده فشل موسكو على مستوى تعويم نظام الأسد عربياً، أو على مستوى إطلاق عملية إعادة إعمار بأموال خليجية وتنشيط عودة اللاجئين، خاصة في دول الجوار السوري.
    3. عجزٌ تركيّ: لم تفلح أنقرة منذ اتفاق أستانة 6 في سبتمبر /أيلول 2017، أي قبل عام من اتفاق سوتشي بتنفيذ التزاماتها اتجاه موسكو، والمتمثلة بتشكيل منطقة عازلة بفصائل منضبطة وتفكيك التنظيمات الإرهابية؛ ليستمر هذا الفشل في تطبيق بنود اتفاق سوتشي المتمثلة بفتح الطرق الدولية (M4، M5)، والذي تجاوز بكثير المهل الزمنية التي نص عليها الاتفاق، مما جعل صبر موسكو ينفد وخلق لها ذريعة لفتح معركة لتحقيق ما لم تنجزه أنقرة على عدة مستويات، دون رد فعل من الشريك التركي في اتفاق سوتشي.

    من خلال استعراض العوامل السابقة، والتي يمكن اعتبارها بمجملها دوافع للتصعيد الروسي اتجاه منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، يمكن فهم التحرك الروسي على أنه إعلان بداية نهاية مسار أستانة كمسار عسكري تكتيكي بعد فشله بالتحول إلى مسار سياسي وتصاعد الخلافات بين أطرافه، فموسكو تحاول طي صفحة منطقة "خفض التصعيد" الرابعة على غرار سابقاتها من المناطق كخطوة أخيرة باتجاه طي صفحة مسار أستانة، مدفوعة برغبتها في تأمين الطرق الدولية لإنعاش الوضع الاقتصادي المتهالك للنظام، وتأمين قواعدها العسكرية في المنطقة، مستغلةً رفع الفيتو التركي عن المعركة، والناتج على ما يبدو عن تغيّر أولويات أنقرة بعد التقارب مع الولايات المتحدة حول المنطقة الآمنة باتجاه تأمين الشريط الحدودي مع سوريا دون التوغل في العمق السوري.

    ثانياً: المعركة والفصائل (الموقف التركي)

    لا يشير الصمت التركي عن التصعيد العسكري الأخير لروسيا والنظام إلى وجود صفقة مقايضة (منطقة مقابل منطقة)؛ بقدر ما يشير إلى  رفع الفيتو التركي (غض طرف) عن عمل عسكري روسي يحقق ما لم تنجزه أنقرة على مستوى ضمان أمن قاعدة حميميم الروسية من هجمات المعارضة، وتأمين ريفي حماه واللاذقية الخاضعين لسيطرة النظام، إضافة لفتح الطرق الدولية وتأمينها عبر دوريات روسية تركية، إذ يبدو أن أنقرة أصبحت معنية أكثر بتأمين شريطها الحدودي بعد ما يشاع عن تسوية خلافاتها مع واشنطن حول المنطقة الآمنة، وبذلك فهي تسعى اليوم لتصفية الجيب الخاضع لسيطرة وحدات الحماية "الكردية" في ريف حلب الشمالي بالتوافق مع موسكو، وهي في هذا الإطار تحاول التنازل عن ملف تفكيك "هيئة تحرير الشام" والمنطقة منزوعة السلاح لصالح موسكو وتوفير جهودها لمعارك ريف حلب الشمالي وترتيبات المنطقة الآمنة، خاصةً وأن جزءاً من فشل أنقرة في تنفيذ بنود سوتشي وأستانة 12 المتعلقة بالدوريات الروسية عائد لعدم قدرتها على ضبط فصائل المنطقة منزوعة السلاح بما فيها "هيئة تحرير الشام"، وهذا ما بدا واضحاً في مواقف تلك الفصائل المتحفظة على اتفاق سوتشي ذاته ([2])، ثم الرافضة لتسيير الدوريات الروسية، إضافة إلى المقاومة الشرسة التي أبدتها فصائل المنطقة المنزوعة السلاح في وجه الهجوم البري الذي شنّته قوات النظام وموسكو.

    وعليه يمكن القول بأن الفصائل العاملة في المنطقة التي تتعرض لهجوم موسكو والنظام ليست مُنخرطة في أي تفاهمات روسية-تركية حول المنطقة، وهذا ما سيزيد من صعوبة موقفها العسكري كونها تقاتل دون دعم تركي على المستويين العسكري والديبلوماسي، وفي ظل حملة جوية روسية واسعة وقصف مكثف. وبالمقابل فإن معركة موسكو لن تكون بالسهولة التي اعتادت عليها في معارك الصفقات والتسويات، بحكم أن تلك الفصائل تخوض معركتها الأخيرة. 

    ثالثاً: خلاصات

    لا يستطيع أحد التنبؤ بما ستؤول إليه الأوضاع الميدانية في منطقة "خفض التصعيد" الرابعة، وما هو حجم التوغل الدقيق الذي تريده موسكو داخل حدود تلك المنطقة، ولكن من خلال ما تم استعراضه يمكن الوصول إلى الخلاصات التالية، والتي قد ترسم بشكل تقريبي صورة المآلات المحتملة:

    1. تعتبر الحملة العسكرية التي تشنها روسيا والنظام آخر محطات مسار أستانة، والذي حقق أهدافه العسكرية بالنسبة لموسكو، وفشل في تحقيق نتائج سياسية على مستوى الحل نتيجة لخلافات الثلاثي الراعي للمسار (روسيا، تركيا، إيران) وعرقلة أممية تتمثل بإعادة تفعيل مسار جنيف.
    2. التقدم في محادثات أنقرة مع واشنطن بخصوص المنطقة العازلة أحدث على ما يبدو تحولاً في أولويات أنقرة؛ يتمثل بالتنسيق مع موسكو حول تصفية جيب وحدات الحماية "الكردية" في ريف حلب الشمالي، وترك تنفيذ بنود اتفاق سوتشي العالقة لروسيا.
    3. انسحاب فصائل "الجيش الوطني" المدعومة من تركيا من القرى الثلاثة التي سيطرت عليها في ريف حلب الشمالي بالتزامن مع فشل قوات النظام بالتقدم خلال اليوم الأول للحملة في ريف حماه؛ يشير إلى أن استحواذ تركيا على أي أراضي جديدة في ريف حلب الشمالي رهن باستحواذ قوات النظام على مناطق داخل المنطقة منزوعة السلاح وبالعمق المحدد بين الطرفين.
    4. يبدو من خلال بيانات ومواقف الفصائل العاملة في المنطقة منزوعة السلاح والمعارك التي لاتزال تخوضها ضد قوات النظام وحلفائه؛ أنها ليست جزءاً من تفاهمات أنقرة مع موسكو، ليبقى موقف هيئة "تحرير الشام" ملتبساً، وهي صاحبة السيطرة الأكبر في المنطقة والموقف الأكثر مرونة بين الفصائل الأخرى حول دخول الدوريات الروسية للمنطقة العازلة، حيث لم ترفض تسيير الدوريات الروسية بالمطلق، ولكنها اشترطت أن ترافقها، إضافة لعدة شروط أخرى ([5]).
    5. الظروف المحيطة بالمعركة سياسياً (تفاهمات موسكو وأنقرة) وعسكرياً (إصرار قوات النظام على التوغل البري)، تشير إلى أن العملية ليست لمجرد الضغط فقط لتسيير الدوريات الروسية وفتح الطرق الدولية وتأمين قواعد روسيا العسكرية في المنطقة، وإنما الهدف منها تصفية الفصائل الرافضة للدوريات الروسية عبر قضم مناطقها والتوغل إلى عمق قد يصل، بحسب خبراء إلى 25 كم لتأمين الطرق الدولية ([6])، ثم التوقف عند هذا الحد الذي يؤمن لموسكو أهدافها بتأمين ريفي حماه واللاذقية من ناحية بما فيها من قواعد ومطارات عسكرية روسية، وفتح وتأمين طرق التجارة الدولية من ناحية أخرى. وبذلك تكون موسكو قد سيطرت على المناطق السهليّة من إدلب وحاصرت هيئة "تحرير الشام" وباقي التنظيمات في جيب جبلي ضيق وكثافة مدنية عالية.

    خريطة رقم (1): مواقع النفوذ والسيطرة، إدلب وما حولها، 10 أيار 2019

    خاتمة

    تدفع اليوم منطقة "خفض التصعيد" الرابعة ما دفعته سابقاتها من المناطق كثمن لتراكم الأخطاء السياسية والعسكرية، وعلى رأسها خطأ الانخراط في مسار أستانة، والذي أتاح للنظام الفرصة لالتقاط أنفاسه وتجميع قواه والاستفراد في مناطق "خفض التصعيد" الواحدة تلو الأخرى. واليوم وحتى في بوادر نهاية هذا المسار نتيجة لخلافات الثلاثي القائم عليه؛ فإن نظام الأسد لايزال يستفيد من تلك الخلافات والتي أمنّت ولازالت له العديد من الهوامش التي يتنقّل بينها، فالنظام إلى اليوم يعتاش على خلافات القوى الفاعلة المنخرطة في الملف السوري وذات المصالح المتضاربة.

  • التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط

    تقدير استراتيجي (94) – كانون الأول/ ديسمبر 2016.

    ملخص:

    تسعى روسيا تحت قيادة بوتين إلى استعادة جانب من دورها ونفوذها الدولي، الذي فقدته إثر انهيار الاتحاد السوفييتي. وتحاول الاستفادة من عدم الرغبة الأمريكية في التدخل المباشر في صراعات المنطقة، غير أنها تعلم أنه من الصعوبة بمكان تجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية، التي ترى في الشرق الأوسط منطقة لنفوذها. وما زال سقف تدخلها في سورية وغيرها مراعياً لهذه الخطوط، ومتجنباً لأي صراع مباشر مع الأمريكان. وفي هذا الإطار تنسج روسيا علاقاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، مع إيران، وتركيا، وسورية، والعراق، ومصر، وغيرها. ومن المحتمل أن يتطور الدور الروسي ضمن أفضل ما يستطيع الروس تحقيقه. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    مقدمة:

    انتهت الحرب الباردة التي استمرت عقوداً بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بهزيمة الأخير بل وتفككه، وورثت روسيا الاتحادية تركة الاتحاد السوفياتي بجميع استحقاقاته ومكتسباته. وعلى خلاف الاتفاق الذي كان بين الرئيسين السوفياتي غورباتشوف والأمريكي بوش والذي كان يبدو في ظاهره أنه اتفاق بين ندّين، شعر الروس بأن الغرب يعاملهم بغطرسة شديدة وأن تسوية ما بعد الحرب الباردة ليست عادلة، بل واصل الغرب الضغط على روسيا لإنهاكها داخلياً واقتصادياً وضمّ ساحات النفوذ التاريخية التابعة لها لنفوذه، خصوصاً تدخل الناتو في حرب كوسوفا ثم جمهوريات آسيا الوسطى وجورجيا فيما بعد، مما عُدَّ مساساً بالأمن القومي الروسي، وأوجد شعوراً عاماً عند النخبة الروسية بأن روسيا لا يمكن أن تكون مجرد دولة أوروبية ذات وزن إقليمي؛ فهي إما أن تكون دولة عظمى —بالرغم من قلة إمكاناتها— وفي موقع الشريك مع الغرب، أو أنها ستنهار.

    كان مجيء بوتين للسلطة في روسيا نقطة تحول رئيسية في التوجهات السياسية، وقد عبر عن ذلك في خطابه السنوي في المجلس التشريعي الروسي (الدوما) في سنة 2005، حيث قال بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان ”كارثة جيوسياسية كبيرة“، وبأن الغرب لم يحسن التصرف بعد نهاية الحرب الباردة، وأنه أخطأ عندما ظنّ بأن روسيا ستستمر في الانحدار.

    إن هذا المدخل مهم جداً لشرح معظم الدوافع والتوجهات الروسية في منطقة الشرق الأوسط، واستشراف المدى الذي من الممكن أن يتطور إليه الدور الروسي، والذي لا يمكن حصره في التدخل العسكري في سورية وإن كان هذا التدخل يمثل العنوان الرئيسي.

    أولاً: دوافع روسيا في الشرق الأوسط:

    من حيث الأهمية في التسلسل الهرمي التقليدي للسياسة الروسية الخارجية يأتي ترتيب الشرق الأوسط تالياً لأمريكا وأوروبا والصين ودول آسيا الصاعدة، لكن بما أن موسكو قد حددت توجهاتها بأنها يجب أن تعود كقوة عالمية، عظمى، وأن تنهي النظام العالمي أحادي القطبية، فلا يمكن لها أن تتجاهل هذه المنطقة بما تمثله من موقع جغرافي فريد وثروات طبيعية هائلة. ورأت في حالة الاضطراب والفوضى في منطقة الشرق الأوسط فرصة لاستعادة مناطق نفوذها التي فقدتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبالتالي اكتسبت تلك المنطقة صفة ”منطقة اختبار“، تختبر فيها روسيا قدرتها في العودة للساحة العالمية كشريك أساسي ومؤثر.

    وفق هذا التصور، يصبح الدافع الجيو-سياسي هو الدافع الرئيسي —وليس الوحيد— لاهتمام روسيا في المنطقة العربية، وهو المنطلق الأساسي الذي على أساسه تَنسج شبكة علاقاتها بدءاً من التدخل العسكري في سورية، والتحالف مع إيران، وعقد اتفاقات مع تركيا، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع ”إسرائيل“، وليس انتهاءً بالسعي لإقامة علاقات مع العراق ومصر ودول الخليج، وهو دافع مرتبط بالأمن القومي الروسي.

    وبطبيعة الحال ليس هذا هو الدافع الوحيد، فبالإضافة لذلك يوجد الدافع الاقتصادي وهو حاضر بقوة خصوصاً عند الحديث عن العلاقات الروسية التركية، أو العراقية، أو الإيرانية، فالتبادل التجاري بين روسيا وهذه الدول في مستوى عالٍ، وتسعى روسيا لمزيد من الاستثمار، خصوصاً في مجال الطاقة البديلة، والنفط، والغاز، وصفقات السلاح.

    كما يبرز هدف أساسي ثالث وهو محاربة ما يُسمى التطرف والإرهاب، وما يمثله من تهديد أمني على الداخل الروسي، حيث تشير تقارير متفاوتة بوجود ما بين ألفين إلى خمسة آلاف ”جهادي“ يحملون الجنسية الروسية وينتمون لصفوف تنظيم الدولة الإسلامية أو التنظيمات الجهادية الأخرى. وحسب المفهوم الروسي، لا تقتصر التنظيمات الإرهابية على تنظيم الدولة، بل هو مفهوم واسع يشمل جميع الفصائل الإسلامية المسلحة التي تقاتل النظام السوري.

    ولتنظيم الدولة حضور إعلامي قوي في مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالروسية، وهناك قناعة روسية بأن انتشار التطرف الإسلامي يعزز النزعات الانفصالية في داخل روسيا، ويشكل ثغرة يمكن أن يستغلها الغرب لتهديد الأمن القومي الروسي، حيث تزيد نسبة المسلمين في روسيا عن 17% من السكان.

    ثانياً: كيف تتحرك روسيا؟

    تاريخياً كانت روسيا تنظر لنفسها من موقع ”الدولة ذات الرسالة“ فهي القيصرية الروسية حامية الكنيسة الأرثوذكسية، أو هي الاتحاد السوفياتي صاحب الرسالة العالمية الشيوعية؛ بينما تطرح نفسها حالياً من موقع براجماتي تسعى لتحقيق مصالح مشتركة مع دول المنطقة، وتعمل على الحفاظ على استقرارها، وتحرص على تكوين شبكة علاقات متوازنة مع الجميع.

    ومن خلال خبرتها مع الثورات التي حدثت في المجال الحيوي لروسيا؛ في أكرانيا وجورجيا…، في العقد الماضي، ترى موسكو أن ثورات الربيع العربي لم تكن عفوية وإن كانت في البداية عفوية، لكن استطاع الغرب أن يتحكم بها ويوظفها لخدمة مصالحه، وأن الموقف الأمريكي كان مهادناً لها لدرجة أنه تخلى عن أقرب حلفائه وهو الرئيس المصري المخلوع مبارك. وكانت الضربة الكبرى هي تدخل الناتو في ليبيا. وفي خطابه أمام الجمعية العمومية في الأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2015، انتقد الرئيس الروسي السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وحمَّلها نتيجة الفوضى الحادثة فيها، وأن تلك الحالة ناتجة عن تجاوز الولايات المتحدة لمجلس الأمن في إجراءاتها، وفي تدخلها في الصراعات بشكل مباشر، مما نتج عنه ظهور تنظيم الدولة وأزمة اللاجئين في أوروبا. ووجه سؤاله للأمريكان قائلاً: ”هل تدركون ما فعلتم الآن؟“

    ثالثاً: الفرص الروسية في المنطقة:

    1. التدخل في سورية:

    بطبيعة الحال، يُعدُّ النفوذ الروسي في سورية هو العنوان الرئيسي لنفوذها في المنطقة ومنذ البداية حرصت روسيا على أن يكون تدخلها شرعياً بالاتفاق مع النظام الحاكم في سورية والمعترف به دولياً. ولأول مرة منذ انتهاء الحرب الباردة تتخذ موسكو موقفاً استباقياً وتتدخل بهذا الشكل المباشر في الأزمات الدولية، واستطاعت روسيا بتدخلها العسكري أن توقف تدهور قوات النظام السوري وأعادت له زمام المبادرة، وقامت بمناورات عسكرية حقيقية، وأعادت تقييم جاهزية قواتها المسلحة، واحتفظت بقاعدتها البحرية العريقة في طرطوس، وأنشأت قاعدة جوية في حميميم في اللاذقية، ونشرت منظومة الدفاع الجوي أس 400 المتطورة، وحمت نفسها في الوقت ذاته من تورط قواتها البرية في المستنقع السوري. وبالتالي نستطيع أن نقول بأن روسيا حققت الجزء الأكبر من أهدافها في سورية، وفرضت نفسها كلاعب دولي أساسي لا يمكن تجاوزه.

    وتتلخص الرؤية الروسية للأزمة السورية في:

    • ليس من حقّ أي دولة أن تتدخل لقلب النظام الحاكم في أي دولة أخرى، ولا تغيير حدودها الجغرافية، لذلك فروسيا مع وحدة الأراضي السورية، وأن مصير الشعب السوري يحدده الشعب دون إملاءات خارجية.

    • الأولوية لمحاربة التنظيمات الإسلامية المتشددة وفق التصنيف الروسي الذي لا يقصرها في تنظيم الدولة والنصرة.

    • حلّ الأزمة السورية هو حلّ سياسي ولا يمكن حسم المعركة عسكرياً، لذلك كان هدف الحملة العسكرية الروسية هو فرض واقع جديد ثم الدعوة للحوار السياسي.

    • وغاية ما تطمح له الديبلوماسية الروسية هو الجلوس من موقع الشريك مع الولايات المتحدة للتوصل إلى حلّ سلمي، الأمر الذي تقابله الإدارة الأمريكية بعدم اعتبار روسيا لاعباً دولياً بل هي لاعب فوق إقليمي، حسب تصريح الرئيس أوباما.

    2. التحالف مع إيران:

    لروسيا علاقات وثيقة جداً مع إيران على مختلف المستويات بالرغم من وجود ثغرات في الثقة المتبادلة بينهما، فالتدخل الروسي في سورية ما كان ليتم لولا الغطاء البري من إيران والقوات المتحالفة معها. وبالرغم من تشابك المصالح بين الدولتين، إلا أن هناك جواً من الحذر في التعامل فيما بينهما، فإيران من مصلحتها المزيد من الانخراط الروسي في المعارك في سورية، بينما تحرص روسيا على الاكتفاء بالضربات الجوية وعمليات القوات الخاصة. لكن مستوى مقبولاً من التناغم قائم بينهما فيما يتعلق بالأزمة السورية وفيما يتعلق بمواجهة السياسة الأمريكية. وأظهرت روسيا قدراً كبيراً من القدرة على التفاهم مع إيران على الرغم من تصويتها في مجلس الأمن لصالح فرض عقوبات على إيران، بسبب برنامجها النووي، لأنها تتعامل مع هذه المسألة وفق محددين، أولهما: تأييد حقّ إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية للاستخدامات السلمية، وثانيهما: رفض امتلاك إيران أسلحة نووية.

    3. اتفاقيات مع تركيا:

    استطاعت الدولتان تجاوز أزمة إسقاط الطائرة الروسية والمضي في التعاون الاقتصادي بالرغم من الخلافات السياسية الجوهرية بين البلدين فيما يتعلق بسورية، لكن تعامل الطرفين ببراجماتية عالية أدى إلى تطور على الأرض أيضاً، فعلى مدى سنوات كانت أنقرة تُسوِّق لمشروعها القاضي بإيجاد منطقة آمنة على حدودها السورية، الأمر الذي كانت ترفضه واشنطن. لكن بعد التفاهم مع الروس تمكن الأتراك من التوغل في الأراضي السورية، وفرض أمر واقع جديد في مواجهة القوات الكردية. غير أن العنوان الأبرز للعلاقات الروسية التركية هو الاقتصاد، خصوصاً في مجالات الطاقة، والغاز، والزراعة، والبناء.

    4. العلاقة مع العراق:

    نتيجة لعلاقاتها الجيدة مع إيران، تحظى روسيا بعلاقات جيدة مع العراق وتسعى للحصول على صفقات في مجال التسليح والطاقة، كما أنها في الوقت نفسه على علاقات تاريخية مع الأحزاب الكردية.

    5. السعودية وغياب الثقة:

    لم تكن العلاقات بين السعودية وروسيا مميزَّة في يوم من الأيام. ويوجد تضارب في وجهات النظر فيما يتعلق بالتعامل مع ملفات المنطقة بما في ذلك العلاقة مع إيران، ومستقبل سورية ونظام الحكم فيها. كما تنظر روسيا إلى ما تُسمِّيه ”الفكر الوهابي“ الذي تتبناه السعودية نظرة ريبة، وبأن انتشاره بين مسلمي روسيا يهدد الأمن القومي الروسي. لكن شهدت الآونة الأخيرة اتصالات مكثفة بين الجانبين، وتريد روسيا من السعودية التفاهم حول أسعار النفط، ومن مصلحة السعودية انتهاج سياسة التنويع في العلاقات الخارجية، لذلك من المتوقع استمرار الاتصالات بين الجانبين.

    6. تحسن العلاقات مع مصر:

    تاريخياً، كانت مصر تمثل عماد المصلحة الجيو-سياسية السوفياتية في المنطقة، قبل أن تتحول باتجاه الولايات المتحدة. تحسنت العلاقات المصرية الروسية بشكل كبير بعد وصول عبد الفتاح السيسي للرئاسة، والرئيس بوتين ينظر إليه باعتباره الشخص القادر على استعادة الاستقرار في أكبر بلد عربي. ومن خلال التمويل السعودي حصلت مصر على صفقة أسلحة روسية كبيرة، الأمر الذي نُظر إليه على أنه شراء موقف، لأن الجيش المصري يعتمد بشكل أساسي على الأمريكان في التسليح والتدريب.

    7. روسيا و”إسرائيل“:

    يشكل الناطقون بالروسية في دولة الاحتلال خمس السكان، كما أنه يوجد حضور معتبر لليهود في روسيا، والعلاقات بين البلدين جيدة، على الرغم من أن روسيا ليست على اتفاق مطلق مع ”إسرائيل“ وتتبنى حلّ الدولتين، وتختلف مع وجهات النظر الإسرائيلية في الموقف من إيران وحزب الله وحماس، وهي بالتالي تنتهج نهجاً مرناً يخالف النهج الأمريكي، الذي يُعدّ حليفاً تقليدياً لدولة الاحتلال.

    رابعاً: عقبات تحد من القدرة الروسية:

    1. المُحدِّد الأمريكي: تُعد منطقة الشرق الأوسط بشكل عام منطقة نفوذ أمريكي ضمن التقسيمات التقليدية في فترة الحرب الباردة (ثنائية القطبية الأمريكية الروسية). وبالرغم من محاولات الروس الدائمة لإيجاد موطئ قدم ودوائر نفوذ وتحالفات، إلا أن الأمريكان ظلوا اللاعب الأكبر في المنطقة. وبغض النظر عن الأسلوب الذي أدار به أوباما السياسة الأمريكية في المنطقة، وما بدا وكأنه تراجعٌ في الدور الأمريكي، إلا أنه لم يحصل تغير على جوهر السياسة الأمريكية، بالرغم من سعي الأمريكان لتخفيض التكاليف والنأي عن التدخل المباشر. ولا يظهر أن التحرّك الروسي مسَّ حتى اللحظة المصالح الحيوية الأمريكية وخطوطها الحمراء، بغض النظر عن انزعاج عدد من الأنظمة الصديقة لأمريكا من طريقتها في إدارة النزاعات.

    ويبدو أن التدخل الروسي في سورية لم يتعارض مع السياسة الأمريكية في استمرار استنزاف الحكومة والمعارضة السورية، وتغذية الصراع بما يمزّق النسيج الاجتماعي السوري طائفياً وعرقياً، ويدمر الاقتصاد؛ وبما يؤدي لإضعاف الدولة المركزية في سورية لصالح الانقسامات الداخلية التي قد تنشأ في أي ترتيبات مستقبلية؛ وهي ترتيبات ما تزال لأمريكا يدٌ دولية طُولى فيها مقارنة بالروس. كما أن النظم الحاكمة في المنطقة ما تزال أكثر ميلاً في علاقاتها مع الأمريكان مقابل الروس لأسباب مختلفة. وبالرغم مما أبداه الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب من رغبة في التعاون مع روسيا، إلا أن طبيعته البراجماتية وقاعدته الانتخابية الجمهورية قد تجنح إلى دفعه ليكون أكثر تشدداً بما يظهر قوة أمريكا وقدرتها على فرض سياساتها.

    2. ضعف الإمكانيات المادية الروسية، بسبب الأزمة المالية الكبيرة التي تتعرض لها موسكو، بسبب تراجع أسعار النفط، والعقوبات الاقتصادية الأوروبية.

    3. احتمال تمدّد الحرب في سورية واتساعها، وفي هذه الحالة ستتعرض روسيا لاستنزاف شديد تحاول تجنبه، لأن الثمن الذي سيدفع حينها سيكون باهظاً جداً إذا قورن بالمكتسبات، وسيعيد ذكريات حرب أفغانستان إلى الرأي العام الروسي. وحتى الآن فالعملية العسكرية الروسية في سورية ما تزال محدودة التكاليف، وهي تقارب تكلفة أي مناورة كبيرة.

    4. التعاون الوثيق مع إيران، كما أنه يمثل فرصة لروسيا، إلا أنه أيضاً يمثل عقبة تُقِّيد يدها في المنطقة. فعلى سبيل المثال تحتاج روسيا إلى إيران في مدَّ علاقات اقتصادية قوية مع العراق.

    5. تشابك مصالحها مع نقيضين في المنطقة، وهما ”إسرائيل“ وإيران، مما سيؤثر على مصالحها في حالة حدوث صراع بين الطرفين، لذلك تتعامل روسيا مع المسألة بحذر شديد.

    6. العامل الداخلي الروسي، وهو العامل الأهم لكنه عامل بعيد المدى، مرتبط بفشل روسيا في التحول لدولة مؤسسات، وبالتالي هناك خشية من مرحلة ما بعد بوتين.

    خامساً: سيناريوهات المستقبل:

    من خلال استعراض الحراك الروسي في المنطقة، يظهر أن موسكو تحاول إيجاد صورة اللاعب الواقعي وغير العقائدي، الذي يمتلك الخبرة والقوة بما فيه الكفاية، ويمثل الشريك الذي يمكن الوثوق به، والقادر على التأثير في الوضع من خلال ثنائية الديبلوماسية والقوة. روسيا تطرح نفسها كقوة عالمية كبرى مستعدة لتقديم شراكة لجميع الذين يشتركون معها في الرؤية لعالم متعدد الأقطاب. وفي هذا الإطار يبرز أمامنا سيناريوهان:

    السيناريو الأول: سيناريو استمرار تمدد الدور الروسي:

    وهو سيناريو يدعمه ما شهدناه من القدرة على نسج شبكة علاقات متنوعة ومتشابكة تتفاوت من التحالف الاستراتيجي إلى العلاقات الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من التحولات الدولية والإقليمية، والمهارة في التعامل مع الأحداث مثل المبادرة بالتدخل الاستباقي في سورية ومنع سقوط النظام، واحتواء حادثة إسقاط طائرة الركاب الروسية في سيناء، واستخدام سياسة التصعيد المدروس في احتواء الأزمة مع تركيا إثر إسقاط الطائرة.

    السيناريو الثاني: سيناريو انحسار الدور الروسي:

    وهو مرتبط بسير المعارك في سورية، وقدرة ورغبة الدول الداعمة لقوات المعارضة السورية على إحداث تغير استراتيجي في الميدان، وهو أمر لم تتضح بوادره حتى هذه اللحظة، كما أنه مرتبط بتفكك التحالف الإيراني – الروسي، ولا يوجد أي مؤشر على خلافات جوهرية بين الطرفين.

    سادساً: توصيات:

    من خلال الاستعراض السابق، يظهر لنا أن هناك دوراً متنامياً للروس في تفاعلات المنطقة، وتبدو القوى الشعبية الإسلامية منها والوطنية في موقف المناهض للدور الروسي، الأمر الذي يستدعي:

    1. مزيداً من الفهم للعقلية الروسية وللمصالح الروسية في المنطقة، وأنها مصالح جوهرية تمس الأمن القومي الروسي وتتجاوز أمر التطلعات الشعبية فيها.

    2. فلسطينياً تتميز السياسة الروسية بأنها تحتفظ بعلاقة جيدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، لكنها لا تتبنى جميع مواقفها، ولا تصنف الحركات المقاومة تصنيفاً إرهابياً، الأمر الذي يوفر هامشاً للمناورة.

    3. تنشيط الديبلوماسية الشعبية، من خلال الانفتاح أكثر على الرأي العام الروسي لا سيّما وأن 17% من المواطنين الروس هم مسلمون، ولهم دورهم ومكانتهم في الحياة الروسية، وكان لموقف مفتي روسيا دور إيجابي في تحسين العلاقات الروسية التركية إثر إسقاط الطائرة الروسية.

    * يتقدم مركز الزيتونة للأستاذ علي البغدادي بخالص الشكر على الإسهام في إعداد المسودة التي اعتمد عليها هذا التقدير.

     

    لتحميل التقدير، اضغط على الرابط التالي:

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط Word (12 صفحة، 95 KB)

    >> التقدير الاستراتيجي (94): آفاق الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط  (12 صفحة، 546 KB)

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 1/12/2016

  • الحرب في سوريا انتهكت كل المعايير والقواعد الدولية المقدّسة

    كريم شاهين     

              نهاية العقد: لقد دمّر الصراع في سوريا كل هذه الخرافات التي طورناها عن أنفسنا كمجتمع دولي- حيث لم نظهر التعاطف اللازم، ولم نتعامل معها بالجديّة المطلوبة، ولم نتحمل المسؤولية الملقاة على عواتقنا في حماية المدنيين!

           كانت الأيام الماضية مروّعة في سوريا. حيث فرّ عشرات الآلاف من المدنيين إلى المناطق الحدودية خوفًا من تقدّم النظام. فهناك احتمال كبير في أن يقوم النظام بذبح جماعي مرة أخرى لسكان هذه المناطق.

            لقد فُرض حظر على المساعدات الإنسانية التي تَعْبر الحدود من تركيا إلى ثلاثة ملايين مدني محاصرين داخل صندوق للقتل في الشمال الغربي، وهو واحد من الجيوب القليلة المتبقية الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تعيش تحت قصف المدافع والرشاشات والطائرات المقاتلة. لقد دُمرت مدينة معرّة النعمان بشكل كامل في ظل الصمت العالمي والتقاعس الدولي.

            إنه لأمر محزن ولكنه ذو طابع كلّي. فمنذ عقد من الزمن تمّ تدمير كل القواعد الأخلاقية في هذه الحرب بشكل ممنهج، فالحرب في سوريا لم تُراعَ فيها أخلاق الحرب إطلاقًا.

            قبل عشر سنوات، كان الرئيس السوري بشار الأسد ممتلئًا بالثقة، حيث أعلن في مقابلة له مع صحيفة وول ستريت جورنال أن الانتفاضات التي اجتاحت الدول العربية الأخرى لا يمكن أن تحدث في سوريا لأن الحكومة السورية كانت تتماشى مع مواطنيها عند حدّ قوله.

            بالطبع، تمّت السيطرة الواضحة على المواطنين من خلال القبضة الحديدية متمثلة بشبكات واسعة النطاق من المخبرين، ومقرّات الأمن، والمخابرات، والسجون. والقبض كذلك على الاقتصاد حيث سُمح للفاسدين العبث بمقدرات الناس، والسيطرة على كل جوانب الحياة العامة والمجتمع المدني.

             ومع ذلك، كانت سوريا الأسد تتمتّع بثمار الانفتاح الواسع على الغرب وجيرانها العرب والترك.

             لقد نجحت دمشق في انتهاز الفرصة لإصلاح علاقتها مع الولايات المتحدة على خلفية مشكلة خلقتها وهي: -تحريك الخلايا الإرهابية والسماح لها أن تعبر الحدود العراقية لمحاربة القوات الأمريكية- واستثمرت العلاقات التجارية والدبلوماسية فضلا عن الجهود المبذولة لعزل إيران.

           لقد حضر الزوجان السوريان الأولان بشار وأسماء الأسد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان احتفالا يوم الباستيل مع ساركوزي في فرنسا.  فجذبوا اهتمام الناس عندما تحدّثوا بأريحية إلى المراسلين الغربيين حول الطموحات الديمقراطية المبذولة، وأظهروا لهم كيف تناولوا الطعام مع الجماهير في المطاعم الشعبية في مديني حلب ودمشق.

            كل شيء كان سرابًا، لقد أدّت عقود من الفوضى بقيادة حزب البعث المعروف بسوء الإدارة وعدم المساواة وتفشي المحسوبيات… إلى تراجع البلاد وضعف الاقتصاد… وبخاصة قطاع الزراعة، ما تسبب بهجرة سكان الأرياف إلى المدن.

          وكان لدى الجميع قصّته محزنة عن قريب حميم اختفى قسرًا في دهاليز المخابرات، ففي كل صباح تنفّذ أجهزة المخابرات عملية اعتقال للمشتبه بهم، ولا يُعرف مصيرهم إلا بعد إنفاق الأموال الطائلة من الرشاوي على السماسرة لدى الأفرع الأمنية.

            محمد محي الدين أنيس أبو عمر 70 عاماً، يدخن الغليون، وهو يجلس في غرفة نومه المدمّرة، يستمع إلى الموسيقى على مشغل فينيله الحاكي، في حي الشعار الذي كان يسيطر عليه الثوار في حلب سابقًا.

           وكان احتجاز المراهقين عام 2011م الذين كتبوا شعارات مناهضة للأسد على حائط مدرستهم. وكان اعتقالهم وتعذيبهم بمثابة الشرارة الأولى للحراك الشعبي، وتلاها احتجاج مدني سرعان ما انتشر في جميع أنحاء البلاد.

            في البداية طالب المحتجون بإصلاحات جزئية صغيرة، وكان ردّ الحكومة عنيفًا، فطالبوا بالإطاحة الصريحة بالنظام! فقابلهم النظام بوحشية كبيرة، ورفض الدخول في حوار جديّ معهم فاستمرّ الحراك الشعبي حتى يومنا هذا.

            قام النظام بإطلاق سراح الإرهابيين المدانين في محاولة منه لعسكرة المعارضة ولوضع المجتمع الدولي أمام خيارين: إما الرئيس الأسد بتاريخه الدموي الفظيع أو مواجهة المتطرّفين.

            لقد توقفت الأمم المتحدة في نهاية المطاف عن حساب عدد القتلى الذي بلغ 400000، في عام 2016. ومن المؤكد أن الأعداد أكثر من نصف مليون شخصا.

           تم تهجير نصف سكان البلاد، معظمهم داخل سوريا، وأجبر العديد منهم على ترك منازلهم عدّة مرات خلال الحرب التي استمرت تسع سنوات. فالملايين الذين فروا إلى الخارج غيّروا بشكل جذري في شخصية البلاد المجاورة وسياستها، وأولئك الذين تحدّوا البحار ليعبروا إلى الشواطئ الأوروبية، هرباً من الموت وطمعًا بحياة كريمة لأطفالهم، استخدموا كتكتيك مهزوم من قبل الزعماء الشعبويين في جميع أنحاء العالم لدفعهم. وساهموا في عودة اليمين المتطرف إلى السياسة الأوروبية والأمريكية.

          وهذا التحول العميق أدى إلى تغييرات كبيرة وإعادة تنظيم تكتونية، سواء في الخارج أو على المستوى الإقليمي، حيث لبست موسكو الوشاح الذي تخلّت عنه واشنطن، فتدخلت في الحرب لإنقاذ الأسد مما بدا في ذلك الوقت هزيمة لا مفر منها. وتركت تركيا، الغاضبة من الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية ذات التطلعات لإقامة الدولة، وتخليها عن تحالفها مع الناتو لصالح التعاون الوثيق مع روسيا، مما زاد من تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.

    قافلة من الناس يفرون من معرة النعمان في شمال إدلب

           استفادت داعش من فراغ السلطة، ومن الظلم العميق في الحرب لإقامة ما يسمى بالدولة التي تغطي أجزاء من سوريا والعراق، وهو مشروع مزين بفظائع الوحشية الخطيرة مثل الاستعباد المنتظم للأقلية اليزيدية فضلا عن اغتصاب نسائهن، وطرده للمسيحيين من وطنهم وإعدام الآلاف من المدنيين بطرق مروّعة ومتعددة.

          خلال هذا الوقت، تم تدمير سوريا بشكل ممنهج. اتبع النظام وحلفاؤه سياسة الأرض المحروقة لمحاصرة مناطق المعارضة. فأمطرها بمئات البرميل المتفجرة ما جعل هذه المناطق غير صالحة للسكن.

           تحتاج سوريا إلى 200 مليار دولار على الأقل لإعادة الإعمار، وربما ضعف هذا المبلغ، ولكن هذه المساعدات تمنعها الدول الغربية بسبب غياب الإصلاحات السياسية الحقيقية.

           ربما يكمن إرث سوريا الدائم في كيفية تفكيكها النظام الدولي القائم على القواعد الأخلاقية، على مدى عقد من الحرب والتدمير بشكل ممنهج، تم ّخلالها انتهاك كل المعايير الدولية التي كانت تعتبر ذات يوم مقدسة!!!!

          إنه تناقض صارخ للرسالة التي خرج بها العالم بعد عمليات الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، -شعار “لم يسبق له مثيل” في قاعات المحاكم الدولية. وبمرور الوقت، تلاشت شيئا فشيئا دورات الفظائع التي أعقبها الغضب والعجز في المبادئ التي قررنا أنها تشكل سلوكًا حضاريًا في الحرب وشؤون الدولة شيئًا، وكانت إنسانيتنا تتآكل باستمرار!!

          فهذه الانتهاكات العديدة تستحق التوضيح لأنها توضّح إلى أي مدى سقطنا. استخدمت في سوريا الأسلحة الكيماوية مرارًا وتكرارًا ضدّ المدنيين في محاولة ناجحة إلى حدّ كبير لإرهابهم وإخضاعهم، دون أي عقاب!! ثم الحصار والتجويع بشكل متكرر كسلاح حرب من قبل السيد الأسد وميليشياته في الحملة الشرسة المسعورة لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.

    مهجرّة معمّرة من النعمان في شمال غرب محافظة إدلب

            القصف الممنهج للمدنيين بأسلحة غير دقيقة مثل البراميل المتفجرة، والتي يعتبر استخدامها جريمة حرب فعلية، فضلا عن الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع، والاختفاء القسري لعشرات الآلاف من المدنيين، واستهداف المستشفيات واستخدام المساعدات الإنسانية ومساعدة الأمم المتحدة كأدوات سياسية لصالحهم… جعلت الحياة لا تطاق.

           من الصعب التنبؤ بالسنوات القليلة القادمة في سوريا لأن النزاع دمر كل الخرافات التي زرعناها عن أنفسنا – مدى تعاطفنا، ومدى جديتنا وتحملنا المسؤولية كمجتمع دولي لحماية المدنيين، وإيماننا الجماعي بالعدالة وفي المصير المشترك.

           لقد دمرت سوريا كل ذلك من خلال سحق أحلام شعب بأكمله ومنعه من حقوقه في العيش بكرامة وسلام ورخاء.

          حتى مع استمرار الجدل حول الرماد، فإن إرث العقد الماضي سيستمر. لقد نحتت سوريا مثال الضمير الجماعي للمجتمع الدولي.

  • الحملة العسكريّة على إدلب.. قراءة في مراحل الطرق الدوليّة

    لم تكن الحملة العسكرية التي بدأها نظام الأسد وحلفائه في 19 كانون الأول /ديسمبر 2019 على ريف محافظة إدلب
    مفاجئة أو غير متوقعة، سواء لناحية التوقيت أو الشكل، إذ تأتي ضمن سلسلة من المراحل بدأها النظام على المحافظة
    منذ مطلع العام 2019 ، كان آخرها الريف الجنوبي. إضافة إلى أن بوادر الحملة العسكرية الحالية قد لاحت قبل عملية
    "نبع السلام" وما تخللها من قرار أمريكي بالانسحاب الجزئي ومن ثم التراجع عنه، والذي غيّر أولويات النظام وموسكو
    ً
    عسكريا باتجاه شرق الفرات، لاستغلال تردد الإدارة الأمريكية وما أتاحه من هوامش لإعادة رسم خرائط النفوذ في
    المنطقة، عبر اتفاق النظام مع "قسد" ب وساطة روسية وآخر روس ي-تركي استطاع النظام من خلاله العودة إلى الحدود،
    لتعود بعد ذلك أ ولوية النظام وحلفائه إلى إدلب، خاصة ريفها الجنوبي الشرقي.

  • الرؤية الجيواستراتيجية الروسية لوصل روسيا بسورية عبر البر

    د. عبادة التامر – المركز السوري سيرز 10.02.2020

    تشير التطورات المتعاقبة وفصول الحرب التي تشن في سورية وإصرار روسيا على مسألة السيطرة على طريقي الM5 وM4 إلى توجه يبدو أقرب لمحاولة فتح طريق بري يربط روسيا بسورية عبر إيران والعراق. وهنا تتجلى عقدة من أهم عقد الملف السوري في استراتيجيات الدول المعنية بالملف.

    إذ تتشارك كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا الإشراف على أجزاءٍ من هذا الطريق البري الذي يربط الموانئ الإيرانية المطلة على بحر قزوين بميناء اللاذقية، وبدمشق.

    لطالما اعتبرت روسيا نفسها قوة برية من المنظور الجيوبوليتيكي، ولطالما كان الهدف الأساسي لاستراتيجية الروسية متمثلاً في الوصول إلى منطقة الحافة (الريم لاند) والإطلال على المياه الدافئة وكسر الطوق الجيواسراتيجي الذي فرضته حولها القوى الأطلسية. ولهذا الهدف وبعد إعادة تعريف روسيا لنفسها باعتبارها قوة عاملية إثر غزوها لجورجيا عام 2008 بدأت تنشط من جديد التوجهات الجيوبوليتكية الروسية الرامية إلى إعادة تعريف نفسها بوصفها القوة المسيطرة في أوراسيا عبر سلسلة من التحركات البطيئة نسبياً، وما لبثت أن تسارعت هذه التحركات بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية عام 2015.

    أولاً: الطريق البحري بين سورية وروسيا

    يبدأ هذا الطريق من ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم والتي كانت موضوع أبرز أزمة بين الشرق والغرب بعد مرحلة الحرب الباردة إذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم المتمتعة بالحكم الذاتي والتابعة لأوكرانيا عام 2014، ما شكل أزمة لاتزال تظهر مفاعليها بشكل متكرر منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

    ومع ذلك فقد وقع كلٌ من حاكم سيفاستوبل الروسي دميتري أوفسيانيكوف ومحافظ طرطوس صفوان أبو سعد عام 2018 اتفاقية لتسيير خط شحن بحري مباشر بين سيفاستوبل وطرطوس، للاتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري ومن يتعامل معه.

  • الساعة تدقّ في إدلب.. على روسيا أن تقرر ما الذي تريده

    د.ياسين أقطاي

    إن استهداف قوات النظام السوري للجنود الأتراك وسقوط 8 شهيدًا من الجنود، يُعتبر من كل الزوايا بمثابة لحظة تصدّع من شأنها إعادة ترتيب جميع الأوراق في القضية السورية. العساكر الأتراك الذين سقطوا شهداء كانوا في مهمة تقوية لنقاط المراقبة التي أقيمت في إدلب كمنطقة خفض تصعيد، والتي نتجت عن اتفاق سوتشي وأستانة بين تركيا-روسيا-إيران والنظام السوري. منذ فترة من الوقت وروسيا إلى جانب قوات النظام السوري، يحاولان انتهاك تلك الاتفاقية في إدلب، وتحويل نقاط المراقبة التركية إلى حالة من الشلل.

    إنّ تركيا تدرك المحاولات الرامية لفرض أمر واقع وتحويل نقاط المراقبة إلى أداة مشلولة، وإنها تعترض على ذلك.

    من الواضح للغاية أنّ هجمات النظام السوري على إدلب، برفقة القوات الروسية وتحت حمايتها ورعايتها، كانت قبل أي شيء محاولات متغطرسة للتجاهل والانتهاك الصريح لجميع الجهود الدبلوماسية التي انطلقت منذ وقت طويل تحت سقف سوتشي وأستانا.

    إن تركيا كما هو الحال في كل الملفات، فإنها كذلك في الملف السوري تتعقب -إلى آخر درجة- سياسةً تقوم على أمل إحياء حل سياسي، سواء مع روسيا أو إيران أو حتى النظام السوري. هناك نظام دموي وإجرامي تسبب بهجرة 12 مليون سوري سواء في داخل وطنهم أو خارجه. والطريقة الوحيدة التي يجيدها هذا النظام في التعامل مع معارضيه، هي القتل والتهجير وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها. وبيد أن هذا النظام من المفترض أن لا يكون له مكان في هذا العالم، فإنه مع الأسف يتلقى الدعم تلو الدعم من روسيا وإيران.

    في الحقيقة، إن تركيا جلست على طاولة المفاوضات في أستانا وسوتشي مع كل من روسيا وإيران اللتين هما المسبب الرئيسي لمأساة القرن الإنسانية التي تعيشها سوريا؛ سعيًا منها في إيقاف نزيف الدم السوري. وهذا السعي قد ولّد توقعات عاجلة لدى البعض الذين رأوا فيه اتفاقًا وتحالفًا دوليًّا جديدين. على الرغم من ذلك، كانت الأولوية بالنسبة لتركيا كما هو الحال دائمًا، الوقوف إلى جانب المنحى الإنساني.

    لم يكن الشعب السوري يريد الكثير من الأسد، بل كان يريد العيش بشكل إنساني فقط. إلا أن الأسد كان يرى ذلك كثيرًا على شعبه، ولم يجد ردًّا مناسبًا على هذا المطلب الإنساني البسيط إلا من خلال الإبادة الجماعية. ولا تزال آثار تلك الإبادة حاضرة: 12 مليون مهجر من وطنه ومنزله، مليون ضحية، ملايين المعتقلين والمصابين.

    لقد كان الموقف التركي واضحًا للغاية منذ البداية ضد ما يحصل، ولقد تم اتهامها بسبب هذا الموقف. تم اتهامها بأنها طرف من أطراف الصراع السوري. إلا أن الطرف الذي تبنّته تركيا هو الجانب الإنساني. إن الذين ينصحون تركيا حتى الآن بالتفاهم مع الأسد، إن لم يكونوا قد استوعبوا درسًا مما يحصل في إدلب، على الرغم من وجود اتفاقات أستانة؛ فإنهم مصابون بعمى الأبصار وقد خُتم على قلوبهم.

    في الحقيقة لقد اتفقت تركيا مع المعارضة السورية لضبط الأوضاع من أجل الاتجاه نحو حل سياسي، وذلك خلال مرحلة تفاهمات أستانة، مع روسيا وإيران اللذين كانا الحامي الرئيسي للنظام السوري. لقد رسخت تلك الاتفاقيات أن المعارضة في ظل مواجهة عشرات المجازر والإبادات من طرف النظام؛ قد باتت تمتلك أحقية لا يمكن التنازع حولها، كما أن معارضي نظام الأسد لا يمكن اعتبارهم إرهابيين. إن الاضطهاد والظلم والعنف الذي يقوم بها النظام قد بات حقيقة واضحة، والوقوف بوجه هذا الظلم يعتبر حقًّا مشروعًا، وبالتالي لا يمكن توجيه التهم لمن يستخدم هذا الحق. بل على العكس، إن المتهم الأول والأخير هو النظام الذي يستخدم كل منشآت الدولة وإمكانياتها، من أجل مواجهة مواطنيه العزل وقمعهم.

    في الأصل، حينما نتحدث عن هجرة جماعية بهذا الحجم، فإن هؤلاء المهاجرين قد ضربوا بأحقية ومشروعية هذا النظام. هناك 8 ملايين سوري على الأقل خارج بلدهم، يشهدون على أنهم لم يكونوا في دولة، بل في بنية يحكمها سفاح مجرم إرهابي.

    لقد اعتادت روسيا والنظام شنّ الهجمات في إدلب تحت ذريعة وجود نشاطات إرهابية، إلا أن ما يبدو الآن هو استهداف المدارس والمشافي والأفران حيث تتعرض ولا تزال للقصف الجوي، إلى جانب قتل المدنيين. هناك الآن مليون إنسان على الأقل اضطروا لأن يتوجهوا نحو الحدود التركية هربًا من حملات القصف العنيف. ولو استمر الوضع بهذا الشكل، فإن مصير إدلب كما هو بقية المناطق السورية الأخرى، ستضحي تحت سيطرة النظام بعد تحويلها لمدينة أشباح، إلا أنّ تدفق الناس من هناك، يعني حملًا على عاتق المسؤولية بالنسبة لتركيا.

    إن ارتكاب إبادة جماعية ضد المدنيين تحت ذريعة مكافحة الإرهاب يعتبر جريمة ضد الإنسانية، وانتهاك اتفاقيات مع تركيا جريمة أخرى أيضًا.

    في ضوء ذلك يتضح إذن، أن المسألة بالنسبة لروسيا لا تعني وجود أناس، بل تراهم كآلات تتنفس. ومن أجل السيطرة على منطقة ما، لا يوجد أهمية لما يحصل إثر ذلك من قتل وتهجير ومآسي إنسانية. ويمكن من ذلك أن نتصور لأي درجة من الخطورة قد وصلت الإنسانية عبر القتل بدم بارد من هذا النوع. لا يوجد لديها متسع من الوقت ولا تريد أن تتعب نفسها، بل همها هو السيطرة على هذه المنطقة وتلك. ومن أجل القضاء على معارض واحد بين آلاف من المدنيين، فإنها مستعدة أن تضحي بآلاف المدنيين من أجل ذلك. حتى ولو أن السيطرة على سوريا تكلف قتل مئات ومئات الآلاف، فلا مشكلة بالنسبة لها بل هي على أهبة الاستعداد.

    إنها لا تقوم بدفع أي فاتورة مقابل ممارساتها غير الإنسانية تجاه المعارضة التي هي حسب معايير روسيا مجرد إرهابيين، بل إن الفاتورة يدفعها المدنيون وتركيا فحسب.

    إن مشهد مليون إنسان مدني قرب الحدود التركية، فيهم الأطفال والنساء، لا يوحي بأية حال إلى أنها حرب ضد الإرهاب، بل مجرد إبادة جماعية وحشية.

    لا يمكن لتركيا أن تبقى متفرجة على ذلك. ولن تبقى. لقد بدأت مرحلة العمل.

  • الملف الأسود لجرائم الدب الروسي ضد العالم الإسلامي.... محمود المنير

    كتب : محمود المنير

    تاريخياً صراع الدب الروسي مع العالم الإسلامي وشعوبه ممتد وطويل عبر القرون ، ولا يرجع ذلك للأسباب العقدية والأيديولوجية فحسب، وإنما لأسباب تاريخية، وجيواستراتيجي. فله سجل أسود حافل بشتى صور العداء والتدافع والصراع مع أمة الإسلام من خلال احتلال أراضي المسلمين وقتلهم وتهجيرهم والتنكيل بهم، ونهب ثرواتهم ، والتحالف مع عدوهم، منذ عصر القياصرة مروراً بحقبة الاتحاد السوفيتي والإبادة الجماعية للمسلمين وتهجير الملايين إلى سيبيريا، ثم احتلال أفغانستان والخروج منها مدحورين على أيدي المجاهدين الأفغان ، ثم عهد يلتسين والذي شهد أبشع حروب التطهير العرقي والإبادة الجماعية للمسلمين في الشيشان وداغستان ،ثم عهد بوتين وميدفيدف ودعمهما لجزار أوزبكستان، وتنكيلهما بالمسلمين في موسكو وغيرها من المدن الروسية.

    ولقد وعت لنا ذاكرة التاريخ ما واجهه العالم الإسلامي من ويلات الهجمات والغارات المتكررة من الاستعمار الصليبي الحاقد على مر التاريخ،  لكن قد يغيب عن ذاكرة الكثير من المسلمين في العالم الإسلامي أفاعيل روسيا في حق أمّة الإسلام، حيث يجهل الكثيرون أنّها أبادت ملايين المسلمين عبر تاريخها الدّموي، واستغلّت ثرواتهم قرونا طويلة، ولا تزال تستغل خيرات وموارد النفط والغاز في تركستان الكبرى وبلاد القفقاس، وتمنع تصرف المسلمين في مواردهم الطبيعية في آسيا الوسطى دون تدخل موسكو، وإذا عدنا إلى تاريخ القضية الفلسطينية نجد أن أوّل من أعطى وعدا بمنح اليهود أرض فلسطين هم الروس غداة انتصار الثورة البلشفيّة1917م، ثمّ تنازلوا للإنجليز عن التمكين لليهود في فلسطين ، أضف إلى ذلك أنّ قرابة اثنين مليون روسي يعيشون في الكيان الصهيوني المحتل و يسخِرون خبرتهم العلمية والعسكرية في خدمة إسرائيل ،وها هي روسيا في عهد بوتين تعاود الكرة مجدداً بالهجوم على دول العالم الإسلامي بتدخلها عسكريا في سوريا لصالح مصالحها الجيواستراتيجية في المنطقة متحالفة مع إيران ونظام المجرم بشار الأسد.

    وفي هذا الملف نسلط الضوء على أبرز وأهم المحطات في سجل العداء والممارسات القمعية والدموية التي سلطتها روسيا على العالم الإسلامي، ليتعرف القارئ على هذا العدوّ التاريخي المستمر في عداوته للمسلمين. والذي يعربد الآن في سوريا على مرأى ومسمع من النظام الدولي الذي يرعى الفوضى في العالم الإسلامي.فإلى التفاصيل :

    روسيا و سايكس بيكو

    في الوقت الذي كانت الدول الاستعمارية تحتل بلدان العالم العربي أواخر القرن التاسع عشر والعشرين، كانت روسيا القيصرية ثم الشيوعية بعدها تستولي على بلدان وسط أسيا والقوقاز المسلمة ومنطقة البحر الأسود والقرم، وفي الوقت الذي اتفقت فيه انجلترا وفرنسا على تقسيم قلب العالم الإسلامي في العراق والشام وبلاد جنوب الأناضول عشية الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية سنة 1915، 1916م، كانت روسيا حليفة وشريكة وشاهدة على اتفاقية "سايكس بيكو"، التي عدلت عقب قيام الثورة البلشفية سنة 1917م، بعد اعتراض البلاشفة عليها ؛ إذ كانت روسيا القيصرية ستحصل بمقتضاها على إسطنبول والمضائق المائية في مرمرة والدرنديل والمنطقة الأرمنية في أسيا الصغرى والكردية في شمال العراق وأفغانستان بعد هزيمة العثمانيين، فضلاً عن حماية ورعاية المصالح الأرثوذكسية في كل من العراق والشام وفلسطين.

    محنة مسلمي القرم في سيبريا !!

    في أثناء الحرب العالمية الثانية ظهر بوضوح عداء السياسة الروسية تجاه رعاياها المسلمين، فلقد خافت روسيا من تتار القرم المسلمين ، وإمكانية موالاتهم للألمان فحشدت أكثر من مليون تتري في يوم واحد، ورحّلتهم إلى سيبريا وجمهوريات وسط أسيا المسلمة، وارتكبت الجيوش الروسية حينها مذابح بحق تتار مسلمي القرم أودت بحياة 350 ألفاً منهم ودفعت مليوناً و200 ألف إلى الفرار لتركيا بعدما رفع جيش روسيا شعار «من غير انتظار ولا عودة.. يجب محو التتار من هذه الأرض»،ولم تسمح بعودتهم إلا منذ ستينيات القرن العشرين ثم بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من نفس القرن.

    الضحايا بالأرقام

    ولا يفوتنا أن نذكر طرفاً من الحقد الأسود الروسي بحق مسلمي القرم :

    -         ففي العام 1771م، ارتكبت الجيوش الروسية أبشع المذابح بحق مسلمي القرم، بعد سقوط شبه جزيرة القرم بيدهم واحتلال عاصمتها، ما أدى إلى مقتل أكثر من 350 ألف تتاري، وانتشرت الجثث في كل مكان ولم تجد من يدفنها، فانتشرت الأمراض والأوبئة ما أدى إلى وفاة عدد من أفراد الجيش الروسي ذاته إضافة للسكان المحليين، فاضطر مليون و200 ألف تتاري مسلم إلى الفرار إلى تركيا، فيما هجَّرت روسيا القيصرية بقيتهم إلى داخل الأراضي الخاضعة لها، حيث قام الجيش بنفي 500 ألف تتاري مسلم بعيدا عن بلادهم وأحلّ الروس مكانهم، ومع ازدياد عمليات التهجير الإجباري بحق مسلمي القرم أصبحوا أقلية في بلادهم.

    -         وفي العام 1783، قامت القوات الروسية بعدة حملات تهجير بحق مسلمي إقليم شبه جزيرة القرم إلى سيبيريا التي توصف بأنها أكبر صحراء جليدية في العالم، وإلى دول آسيا الوسطى كتركيا وبلغاريا ورومانيا ومارست ضدهم شتى أنواع العنف وهدَّمت مساجدهم ومدارسهم وبيوتهم وأحرقوا مصاحفهم وجميع وثائقهم التي كانت تعد إرثاً تاريخيا وحضاريا هاماً لتتار القرم.

    -         وفي العام 1928، أعدم ستالين 3500 تتاري من أئمة المساجد والمثقفين، وجميع أعضاء الحكومة المحلية بمن فيهم رئيس الجمهورية آنذاك «ولي إبراهيموف»، وذلك عندما أراد ستالين بحسب بعض المصادر إنشاء كيان يهودي في القرم، وثار عليه التتار، فقام بحملة تطهير وإبادة كبيرة بحقهم ردت إلى الأذهان مذابح المغول.

    -         وفي 1929، نفى ستالين أكثر من 40 ألف تتاري من فلاحي القرم إلى مناطق في سيبيريا، بعدما أرغمهم على ترك مزارعهم، وفي 1931 تُوفِي نحو 60 ألف تتاري نتيجة المجاعة التي أصابت القرم. وذلك وفق ما ذكره مصطفى عاشور في مقاله كارثة القرم الإسلامية في العدد الـ 84 من مجلة التبيان الصادر في 2011.

    روسيا ودعم الصهيونية

    المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط تشكلت بفعل العوامل الجيواستراتيجية التي أثرت في السياسة الروسية في عهود القياصرة وكانت تطلعات الإمبراطورية الروسية نحو الجنوب دائماً في السياسة الخارجية القيصرية منذ عهد بطرس الأكبر (1682 – 1725)، وكاترين (1762 -1796)، وحتى عهد نيقولا الثاني (1894-  1917). ففي القرن التاسع عشر اندلعت حرب القرم ( 1854 – 1856)، وكان أحد أسبابها النزاع الروسي الفرنسي حول السيطرة على الأماكن المقدسة في فلسطين، إذ اعتبر القيصر الروسي نفسه حامياً للكنائس المسيحية الأرثوذكسية، في حين ادعى الإمبراطور نابليون الثالث الفرنسي أنه صاحب السيطرة على الأماكن المقدسة ذاتها لصالح الكنائس المسيحية اللاتينية. لكن بريطانيا وفرنسا تمكنتا في مطلع القرن العشرين من احتواء التهديد الروسي باتجاه الجنوب إلى الشرق الأوسط على نحو فعال.

    وبالنظر إلى موقف الاتحاد السوفييتي من القضية الفلسطينية نجد أنه عام 1947ساند اليهود في تطلعهم لإنشاء دولة يهودية في فلسطين. ودعم السوفيت خطة التقسيم التي دعت إليها الأمم المتحدة والتي ترمي لإقامة دولة يهودية في فلسطين ، ولما أدرك الاتحاد السوفييتي أن انسحاب البريطانيين وشيك من فلسطين ، بدا له أن التقسيم أفضل خيار لتجنب خطة وصاية برعاية الأمم المتحدة كانت ستديرها دون شك القوات العسكرية الغربية. و لم يكتف الاتحاد السوفييتي بأن يكون ثالث دولة تعترف (بإسرائيل) اعترافاً قانونياً، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فشجب بشدة دخول القوات العربية إلى فلسطين الذي تلا إعلان إنشاء (الدولة اليهودية). وبادر الاتحاد السوفييتي إلى إرسال الأسلحة (لإسرائيل) أثناء الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى، مما كان له أهمية كبرى، وربما حاسمة، في استمرار بقاء الدولة الصهيونية الجديدة (حرب 1948). وقام الاتحاد السوفييتي في شهر كانون الأول 1953 بدور فعال في مساعدة (إسرائيل) على الوقوف في وجه المقاطعة الاقتصادية العربية، عندما أبرم مع (إسرائيل) اتفاقية تجارية لمبادلة النفط السوفييتي بالحمضيات الإسرائيلية. لكن موسكو ألغت هذه الاتفاقية إثر العدوان الثلاثي على مصر 1956م. وظلت السياسية الروسية تجاه القضية الفلسطينية هكذا تتراوح وتتجاذب حسب مصالحها الجيوسياسية وتنافسها مع غريمها التقليدي الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة إلا أن ميزان الترجيح في الأفعال كان دائما يميل لكفة إسرائيل .

    الغزو السوفياتي لأفغانستان

    الأطماع الروسية في أفغانستان قديمة، فقد احتلت روسيا في الفترة من 1743 - 1833 منحدرات آسيا الوسطى المطلة على الصين ومنغوليا والمناطق المجاورة للبحر الأسود وتركيا وإيران وبحر قزوين. وفي الفترة من 1880 - 1900 احتلت مناطق طشقند وسمرقند والصحراء المجاورة لهما. ومن 1800 - 1900 احتلت بخارى. ثم تأتي محاولات احتلالها لأفغانستان عام 1979 ضمن هذا السياق إضافة إلى أوضاع الحرب البادرة التي تفرض مد النفوذ السوفياتي إلى مناطق النفط في الخليج العربي وشمالي أفريقيا والاقتراب أكثر من أوروبا بعد انحسارها في بولندا.

    وكان من أبرز أهداف الاتحاد السوفياتي من غزو أفغانستان:

    1. استغلال الموارد الطبيعية في أفغانستان.
    2. الوصول للمياه الدافئة ومنابع النفط قبل الأميركيين.
    3. احتواء الصين والإطاحة بها من جانب الغرب.
    4. وأد أي حركات للتحرير يمكن أن تنشأ في آسيا الوسطى التابعة للاتحاد السوفياتي آنذاك.
    5. دعم حكومة شيوعية أفغانية ضد تيار الإسلام السني في البلاد.

    وفي عام 1988 – 1989حقق المجاهدون الأفغان انتصارات حاسمة على القوات السوفياتية أجبرتهم على الانسحاب في 15 فبراير/ شباط عام 1989، ويقدر عدد الجنود السوفيات الذين قتلوا خلال تلك الحرب ما بين 40 – 50 ألفا إضافة إلى عدد كبير من الجرحى. وتفكك الاتحاد السوفياتي بسبب ضعف الحالة الاقتصادية ،و تزايد الإنفاق اليومي على هذه الحرب الذي بلغ 40 مليون دولار.

    جرائم روسيا في الشيشان

    عداء روسيا ضد الشيشان له تاريخ طويل يعود لعهد روسيا القيصرية وفيما يلي أبرز محطات في تاريخ الصراع الروسي – الشيشاني:

    - أعلن القوقازيون الجهاد ضد روسيا عام 1785م بقيادة الشيخ منصور أوشورم الذي تجاوب معه شعوب داغستان، والقبارطاي، والنوغاي، بالإضافة إلى الشيشان. الذي استطاع أن يلحق بالروس هزائم متكررة. حتى ارتقى شهيداً، في 13 أبريل 1794م، بعد تسع سنوات من الجهاد المتواصل. وباستشهاده انتهت المقاومة الإسلامية في شمالي القوقاز، لكن لتعود ثانية، وبشكل أقوى في الربع الأول من القرن التاسع عشر.

    - في عام 1864م قام الروس بقتل 4000 شيشاني في منطقة "سالي" وانتفض الشيشانيون في الفترة ما بين (1865- 1890م)، وامتدت الانتفاضة مع الثورة البلشفية (1917م) كذلك، وقادها الحاج "أذن" ولمدة ثماني سنوات حتى أعلن (إمارة شمال القوقاز).

    - في عام 1925م تم سحق الانتفاضة وأعلنت الحرب على الشيشانيين واعتقلت السلطات السوفيتية أنصار الشيخ واستمرت المحنة حتى بداية الحرب العالمية الثانية، ولجأ الأتباع مرة أخرى إلى الجبال ليعيدوا تنظيم أنفسهم من جديد.

    - في (23 فبراير 1944م) قامت قوات ستالين بإبعاد قرابة مليون مسلم إلى وسط آسيا.حيث إقليم سيبريا التي تصل درجة الحرارة فيها إلى 50 تحت الصفر، بعد أن حُشروا في عربات قطارات البضائع دون طعام ولا ماء، وتحت تهديد السلاح، فمات 50% منهم. وعندما أذن لباقي الأحياء بالعودة عام 1956م في عهد خرتشوف، لم يرجع سوى 30% فقط ليجدوا الروس قد احتلوا كل شيء، وأغلقوا 800 مسجد، وأكثر من 400 مدرسة لتعليم الدين واللغة العربية.

    - في التاسع من يونيو عام 1991م عقد المجلس الوطني الشيشاني جلسة أقر فيها قرار الاستقلال ودعا إلي الانفصال، لكن في 29 نوفمبر 1994م بدأت الحرب الشيشانية الأولى وذلك عقب عملية عسكرية فاشلة في (26 نوفمبر 1994م) إثر كمين نصبه الشيشانيون لرتل من الدبابات الروسية وتم أسر 60 جنديًا روسيًا، أعلن بعدها مجلس الأمن القومي الروسي قراره بإرسال قوات إلى الشيشان وأطلق يلتسين يومها إنذاره الشهير والذي طالب فيه الشيشانيين بالاستسلام في ظرف يومين امتد إلى سنتين!!

    - تشير التقارير إلى أن عدد القتلى المدنيين من ضحايا حرب الشيشان الأولى بين 50000 - 100000, وأكثر من 200000 مصاب. أكثر من 500000 شخص هاجروا بسبب الحرب حيث أصبحت القرى والمدن على الحدود في دمار هائل.

    - في 12 مايو 1997م انتهى الأمر بتوقيع اتفاقية معاهدة السلام مع روسيا ، لتمنح الاستقلال الفعلي للشيشان، ونتيجة لما ألحقه الروس بالشيشان من دمار هائل؛ انحسرت الحياة الاقتصادية في الشيشان، وانهارت البنية التحتية والصناعية بفعل حرب الإبادة التي تعرضوا لها.

    - في مارس 2002م وبعد شهر من تولي بوتين رئاسة الوزارة الروسية، بدأ الحرب على الشيشان، واتصفت منذ بدايتها بالإبادة والدموية ؛ حيث زاد عدد القوات من (24 ألف جندي) إلى (100 ألف جندي)، واستمر القصف الجوي عدة أسابيع حتى سوى كل شيء في شمال جروزني بالأرض، ثم استولى عليها. وانخرطت القوات الروسية في السرقة والابتزاز ، وإعادة جثث القتلى الشيشانيين في مقابل رسوم، حتى أنه كان يجب على المرأة أن تدفع حوالي (10 دولارات) لتفادي اغتصاب بناتها، كما يؤخذ الرجال من سن 15 حتى 65 إلى معسكرات الاعتقال أو يختفون. ووصل الخطاب الرسمي الروسي إلى فهم مغلوط، مؤداه أن الإرهاب والشيشان باتا أمرًا واحدًا؛ الأمر الذي انعكس على المجتمع الروسي، فصار يبغض الشيشان والعرق القوقازي كله.

    النيوزويك تكشف جرائم الروس

    في عددها الصادر باللغة العربية وعلى ست صفحات كاملة كشفت مجلة النيوزويك الأمريكية الفظائع التي ارتكبها الجيش الروسي في الشيشان ، فتحت عنوان " تحت أحذية العسكر " جاء التقرير المرعب.. حيث تضمن التقرير صوراً مرعبة عن حجم الأهوال البشعة التي جري ارتكابها ضد المدنيين من النساء والأطفال والعجائز. وقد وثق فظائع الجيش الروسي ـ ـ وعمليات التطهير غالباً ما تكون مصحوبة بمختلف أنواع الابتزاز والنهب والضرب والاغتصابمنظمة ميموريال الروسية لحقوق الإنسان .

    ويكشف التقرير عن أرقام مؤلمة بشأن حرب الشيشان حيث تراوحت تقديرات قتلى الحرب الأولى من الشيشانيين ما بين 80 إلى 100 ألف من عام 1994إلى 1996، ومنذ الحرب الثانية قتل مابين 20 إلى 40 ألفا معظمهم في قذف قنابل وهجمات مدفعية بلا تمييز ، وأدت عمليات التمشيط التي يقوم بها الجيش الروسي إلى اختفاء وإعدام بلا محاكمة لـ2000 .

    وينقل التقرير الخطير عن شاهدة عيان دأبت على توثيق ما يحدث بالصور قولها: "إن نسف الأشخاص سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً هو آخر أسلوب أدخله الجيش الفيدرالي إلى المعركة واستخدم هذا الأسلوب بطريقة فعالة في 3 يوليو الماضي في قرية "مسكيار يورت" حيث ربط 21رجلاً وامرأة وطفلاً معاً ونسفوا وألقي بجثتهم في حفرة. ووصف التقرير محاولة سكان قرية شيشانية الدفاع عن أزواجهم فكبلت أيدي 68 منهم وربطوا في شاحنة واغتصبوا هم أيضاً .

    تدخل روسيا العسكري في سوريا

    مما لا شك فيه الآن أن روسيا دخلت في الصراع السوري عسكريا لصالح نظام الأسد ، والحقيقة أنه منذ اندلاع الثورة السورية كانت روسيا داعما أساسيا لنظام الأسد سواء من الناحية العسكرية أو المادية أو السياسية وذلك بتوفير الغطاء في مجلس الأمن لجرائم نظام بشار الأسد ، وهناك عدة اعتبارات ومصالح روسية جعلتها تتدخل عسكريا في الصراع السوري :

    1-   تهدف روسيا أن تتخذ من سوريا موطئ قدم لها في الشرق الأوسط وبذلك تضمن إطلالة بحرية على البحر المتوسط وحدود برية مشتركة مع كل من تركيا وإسرائيل ولبنان والعراق والأردن.

    2-   دعم نظام الأسد يتوافق مع تطلعات بوتين لأن تصبح روسيا قوة عظمى مجدداً في المنطقة في مواجهة أمريكا وسقوط نظام الأسد يعني فقدان روسيا للقاعدة العسكرية الوحيدة خارج روسيا منذ فترة ما بعد الاتحاد السوفييتي.

    3-   يتطلع بوتين لكسب مزيد من الشعبية وبالتالي ضمان فترة رئاسية ثالثة على غرار الشعبية التي اكتسبها إثر تدخله في أوكرانيا حيث بلغت نسبة شعبيته  80% وهي نسبة لم يصل إليها رئيس قبله، وهو يأمل تكرار هذا المكسب من خلال حربه في سوريا بدعوى محاربة مخاطر تنظيم الدولة الإسلامية(داعش) .

    ويمكننا هنا الاستشهاد بما قاله المحلل الروسي ديمتري أدامسكي في مقال له عبر مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية (foreign affairs) ” أهداف موسكو التقليدية واضحة: بناء منطقة عازلة ضد الجهاديين على حدودها الجنوبية ، تصدير الأسلحة والطاقة النووية ، تقوية نفوذها وترسيخ مشروعها في الشرق الأوسط حيث المياه الدافئة ،التنافس مع الغرب – خصوصا في الآونة الأخيرة – لتوسيع نفوذها بين الطوائف المسيحية الإقليمية”.

    وفي مقالة لستيفان إم والت - أستاذ الشؤون الدولية، كلية كينيدي في جامعة هارفارد- في "فورين بوليسي"، يقول: (أهداف بوتين في سورية تتميز أيضا بالبساطة والواقعية، وتتماشى مع الموارد الروسية المحدودة، فهو يسعى لإبقاء نظام الأسد ككيان سياسي يوفر له ممرًا سهلًا لبسط النفوذ الروسي، ويضمن لروسيا حصة في أي تسوية سياسية ضمن البلاد في المستقبل، بمعنى أن بوتين لا يحاول السيطرة على سورية، ولا لإعادة العلويين إلى دفة السيطرة الكاملة على البلاد بأكملها، كما أنه لا يسعى لهزيمة الدولة الإسلامية، أو للقضاء على النفوذ الإيراني، وبالتأكيد، لا يلاحق بوتين حلم بناء الديمقراطية الواهي ضمن سورية ومن هذا المنطلق، فإن الانتشار المحدود للقوة الجوية الروسية وحفنة من "المتطوعين"، قد تكون إجراءات كافية لتحقيق الهدف الروسي بالحفاظ على الأسد ومنع هزيمته، خاصة إذا انتهجت الولايات المتحدة وغيرها من الدول نهجا أكثر واقعية ضمن الصراع السوري في نهاية المطاف).

    في ختام هذا الملف الموجز ، يتضح لنا مدى وحجم العداء العقدي والأيدلوجي والتاريخي ، والدوافع الجيو إستراتيجية التي تكمن وراء العداء المستمر لروسيا ضد العالم الإسلامي ، والممتد منذ روسيا القيصرية حتى الآن ، وبهذا نكون قد رسمنا صورة واضحة المعالم لطبيعة هذا الصراع ودوافعه وأبرز محطاته التاريخية لفهم مجريات الأحداث التي نشهد أحدث فصولها الدامية الآن في سوريا. .

    --------------------------------------

    المصادر :

    -         الغزو السوفياتي لأفغانستان ، الجزيرة نت 2001.http://goo.gl/F2Wjnc

    -         شيرين الشرافي ، تتار القرم.. أمة مسلمة مهددة بالانقراض (1 من 4)، صحيفة الشرق السعودية.2012.

    -         مصطفى عاشور ، كارثة القرم الإسلامية ، مجلة التبيان ، العدد الـ 84 الصادر في 2011.

    -         صلاح الدين دباغ: الاتحاد السوفييتي وقضية فلسطين، بيروت 1968.

    -         جورج لسومنسكي: التقدم السوفييتي في الشرق الأوسط، واشنطن 1969.

    -         ستيفن بيجStephen Page : الاتحاد السوفييتي والعرب – الأبعاد الأيديولوجية، نيويورك 1973.

    -          ياسوف رويYusov Roi : حدود القوى، السياسة السوفييتية في الشرق الأوسط، لندن 1979.

    -         ناصر زيدان: دور روسيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين، الدار العربية للعلوم (ناشرون) – بيروت، 2013م.

    -         كمال حبيب ، النيوزويك تكشف جرائم الروس في الشيشان ، إسلام ويب ،2002.

    -         محمود سمير المنير ، الشيشان بركان الأحزان ، دار الكلمة المنصورة ، 2000 .

    -         د. راغب السرجاني ، تاريخ الصراع الشيشاني الروسي ، موقع قصة الإسلام،2007.

    -         محمود المنير ، سوريا بين الهيمنة الأمريكية والتدخل الروسي .. الصراع على حافة الأرض! ساسة بوست2015.

  • بوتين وأكذوبة الديمقراطية

    محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    نهاية التحالف الغربي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي

    لقد أدى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي إلى نهاية نظام التحالف المضاد للشيوعية الذي شكله هاري ترومان عند نهاية الحرب العالمية الثانية.

    وبعد عام من وقوع تلك الأحداث، كان بيل كلينتون يتبادل النكات مع رئيس روسيا آنذاك، بوريس يلتسين، وأصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية نافذة وحيدة في العالم، ولكن عوضاً عن استخدام تلك القوة لصياغة إطار دولي جديد لحماية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتصديرها إلى العالم، كما فعل ترومان من أجل ضبط ومراقبة ستالين، تصرف العالم الحر وكأنه انتصر إلى الأبد.
    لقد أخطأت روسيا وعدد من الدول المستقلة حديثاً والمتلهفة لتحقيق مستقبل واعد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الحكم البوليسي الشيوعي القمعي، بحيث أخفقت روسيا وهذه الدول في التعامل مع ماضيها الأسود، وفي هذا الإطار؛ لم تشكل لجان للكشف عن حقائق، ولا لجان لمحاسبة من ارتكبوا جرائم قمع وترهيب على مدار عشرات السنين، ولَم تؤد انتخابات لاستئصال “السيلوفيكي” (شبكة نافذة من المسؤولين الأمنيين والعسكريين)، فقد واصل بيروقراطيون سوفييت العمل كسماسرة للسلطة، دون محاسبة أو شفافية.

    وقد تم الجمع في روسيا بين الديمقراطية والثروة، ولَم يهتم يلتسين ببناء مؤسسات قوية قادرة على تحدي السلطة، ما أدى إلى انتشار الفساد في إدارته. ولكن تلك السياسة خلفت آثاراً أشد حدة عندما حل مكانه رجل أكثر سطوة وشدة.

    بوتن يتسلم مقاليد السلطة في موسكو

    عندما تسلم فلاديمير بوتين السلطة في عام 2000، لم تقف عراقيل كثيرة أمام رغبته الجامحة في إعادة تنظيم روسيا على صورة كي جي بي. كما وجد بوتن أمامه شعباً روسياً يشعر بخيبة أمل من وعود بالديمقراطية، وبخوف من حالات عنف وفساد حوله.

    وكان من شأن خطاب بوتن الشعبوي بشأن الأمن والكبرياء الوطني أن يتلاشى بسرعة لولا الارتفاع الكبير في أسعار النفط في بداية الألفية الجديدة. وهكذا قايض الشعب الروسي على حرياته في مقابل تحقيق الاستقرار له.

    العالم الغربي يتساهل مع بوتن

    لقد تساهل العالم الغربي مع بوتين، بل أشاد به “كزعيم قوي”، لدرجة أن روسيا دخلت في عام 1997 نادي الدول الثماني الغنية، ومضى بوتين في إقناع شعبه بمزاياه وبنفاق العالم الغربي الذي يتعامل مع روسيا كبلد غني، ويتغاضى عما عداه.

    مولد بوتن ونشأته

    ولد فلاديمير فلاديميروفتش بوتين في لينين غراد (تعرف الآن باسم بطرسبرغ) في روسيا في 7 تشرين الأول عام 1952.

    نشأ فلاديمير بوتين في شقة مجتمعية تسكن فيها ثلاث عائلات في سانت بطرسبرغ (التي كانت تعرف آنذاك بليننغراد)، ويتذكر بوتن اصطياده للجرذان على درج الشقة.

    عمل جد بوتن طاهيًا في منزل لينين الريفي وبعد ذلك أعد الطعام مرات عدة لستالين، كما حصل بوتن على الحزام الأسود في رياضة الجودو عندما كان في الثامنة عشر من عمره، وهو لايزال يمارس رياضات الدفاع عن النفس حيث يصفها بأنها فلسفة حياة.

    مسيرة بوتن في الاستخبارات السوفييتية والمناصب الإدارية

    بعد أن تخرج من جامعة ولاية ليننغراد تخصص في القانون عام 1975 بدأ بوتن مسيرته في الاستخبارات السوفييتية ضابط استخبارات، وقد ظل يشغل هذا المنصب في ألمانيا الشرقية حتى عام 1990 ثم تقاعد برتبة مقدم. وقضى فترة الثمانينات وهو يساعد الشرطة السرية السوفييتية على تجنيد أشخاص يتجسسون على الغرب.

    وعند عودته لروسيا شغل بوتن منصبًا إداريًا في جامعة ليننغراد، ثم بعد انهيار الشيوعية عام 1991 أصبح مستشارًا للسياسي الليبرالي أناتولي سوبتشاك، وعندما انتخب سوبتشاك رئيسا لبلدية ليننغراد في وقت لاحق من العام ذاته أصبح بوتن مسؤول العلاقات الخارجية لديه، ومع حلول عام 1994 أصبح بوتن أول نائب رئيس عمدة لسوبتشاك.

    عيّن بوتين رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهو أحد أذرع الاستخبارات السوفييتية سابقًا، ورئيسًا لمجلس أمن يلسن، وفي آب/ أغسطس عام 1999 أقال يلسن رئيس الوزراء آنذاك سيرغي ستاباسين وجميع وزرائه ورشح بوتن لخلافته.

    يلتسن يختار بوتن لخلافته في الحكم ليصبح رئيساً لروسيا لثلاث دورات

    في كانون الأول من عام 1999 استقال بوريس يلسن من منصبه في رئاسة روسيا وعين بوتن ليحل محله حتى يحين موعد الانتخابات الرسمية، وكان الثمن إصدار بوتين مرسوماً رئاسياً يمنع محاسبة يلتسين على فساده المالي خلال فترة حكمه، وأعاد بوتين هيكلة الحكومة وشن حملة تحقيقات في جرائم متعلقة بالمعاملات التجارية لمواطنين روس في مناصب رفيعة، كما واصل حملة الجيش الروسي العسكرية على الشيشان.

     وفي آذار/ مارس عام 2000 انتخب بوتن للدورة الأولى بأصوات بلغت نسبتها 53% من إجمالي الأصوات.

    ثم في عام 2004 أعيد انتخاب بوتن لمنصب الرئاسة، وفي نيسان/ إبريل من العام التالي أجرى زيارة تاريخية لدولة الكيان الصهيوني؛ لإجراء محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، فكانت تلك أول زيارة للكيان الصهيوني يقوم بها رئيس للكرملين.

    بوتن يتضامن مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب

    في أيلول/ سبتمبر عام 2001 أعلن بوتن ردًا على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، عن تضامن روسيا مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب، إلا أنه عندما تحولت “الحرب الأمريكية على الإرهاب” للتركيز على تنحية الرئيس العراقي صدام حسين، انضم بوتن إلى المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك في معارضتهم للمخطط الأمريكي.

    في تبادل مسرحي للسلطات ميدفيدف رئيساً لروسيا وبوتن رئيساً للوزراء

    بعد ذلك لم يتمكن بوتين من الترشح للرئاسة عام 2008 لأنه كان مقيدا بطول الفترة الرئاسية حسب الدستور الروسي، إلا أنه في ذلك العام تم تمديد الفترة الرئاسية في الدستور من أربع سنوات إلى ست سنوات، وراح مع تلميذه ديمتري ميدفيدف يتناوبان الانتخابات الرئاسية في مسرحية هزلية  ممجوجة أضحكت العالم عليه وعلى الديمقراطية المزيفة التي يحكم بها روسيا، وفي آذار عام 2008 عين بوتن رئيس وزراء على الفور، وهو ما أتاح الفرصة لبوتن للحفاظ على موقع رئيسي مؤثر على مدى السنوات الأربعة التالية.

    بوتن رئيساً لروسيا مجدداً

    في 4 آذار عام 2012 أعيد انتخاب فلاديمير بوتن لفترة رئاسية ثالثة، فبعد مظاهرات واسعة عمت البلاد وأخبار عن عمليات تزوير تخللت الانتخابات تم تنصيبه في السابع من أيار/مايو عام 2012، وبعد استلامه المنصب بفترة وجيزة عين مدفيدف رئيسًا للوزراء، كما عاد مرة أخرى ليصدر من موقعه قرارات جديدة مثيرة للجدل تتعلق بالشؤون الداخلية لروسيا وسياستها الخارجية.

    بوتن ينقذ بشار بعد ضربه للسوريين بالمواد الكيميائية

    في أيلول عام 2013 تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والنظام السوري جراء امتلاكه أسلحة كيماوية واستخدامها في ضرب السوريين، حيث لوحت الولايات المتحدة بتدخل عسكري في حال عدم تخلي النظام عن تلك الأسلحة، وقد تم تفادي حدوث أزمة مباشرة من خلال عقد اتفاق بين الحكومتين الروسية والأمريكية يتم على إثرها تدمير تلك الأسلحة.

    وفي أيلول عام 2013 نشرت النيويورك تايمز مقالة كتبها بوتن تحت عنوان “نداء من روسيا لتوخي الحذر”، وفيها تحدث بوتين إلى صانعي القرار الأمريكيين حول قرار التحرك ضد سورية مؤكدًا على أن مثل هذا التحرك من جانب واحد قد يتسبب في تصعيد أعمال العنف في الشرق الأوسط.

    كما أكد بوتين على أن زعم الولايات المتحدة بأن بشار الأسد استخدم أسلحة كيماوية قد يكون في غير موضعه، في ضوء تفسيره الأمر باحتمالية حيازة الثوار السوريين للأسلحة الكيماوية واستخدامها غير المشروع، واختتم المقالة معبرًا عن ترحيبه بمواصلة الحوار المفتوح بين الدول ذات الصلة من أجل تجنب أي صراعات أخرى في المنطقة.

    بوتن يحتل شبه جزيرة القرم

    بعد نشوء حالة من عدم الاستقرار السياسي في أوكرانيا نتجت عن انتخاب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أرسل بوتين قواته إلى القرم، وهي شبه جزيرة على الساحل الشمالي الشرقي للبلاد على البحر الأسود، وقد كانت جزءًا من روسيا حتى تنازل عنها نيكيتا كروشيف، رئيس الوزراء السابق للاتحاد السوفييتي، لصالح أوكرانيا عام 1954.

    وأشار سفير أوكرانيا في الأمم المتحدة يوري سيرغييف إلى أن ما يقرب من 16,000 جندي روسي احتلوا المنطقة، وقد لفتت تحركات روسيا أنظار العديد من دول أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة، التي رفضت بدورها الاعتراف بشرعية الاستفتاء الذي صوتت فيه أغلبية سكان القرم لصالح الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا.

    في المقابل دافع بوتن عن تحركاته مدعيًا أن قواته التي دخلت القرم كانت مجرد قوات دعم للجيش الروسي داخل البلاد (ويعني بذلك الأسطول الروسي في البحر الأسود الذي له مقرات في القرم)، كما نفى جميع الاتهامات الموجهة له من قبل الدول الأخرى خاصة الولايات المتحدة بأن روسيا كانت تنوي إقحام أوكرانيا في حرب.

    كما زعم أنه على الرغم من أن مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أعطاه الإذن باستخدام القوة في أوكرانيا إلا أنه لم يجد من داع لذلك، ونفى أيضا أي توقعات عن اعتزامه الهجوم على المناطق الأوكرانية قائلًا: “هذا الإجراء سيكون في التأكيد الحل الأخير”، ليعلن في اليوم التالي عن ترشيح بوتن لجائزة نوبل للسلام عام 2014.

    كلاب بوتن المدللة

    لدى بوتن كلاب أليفة يحبها كثيرًا ويصطحبها إلى المحادثات السياسية، حيث يشير البعض إلى أنه يسعى بذلك إلى إخافة قادة العالم، ولعل من أشهر الحوادث على ذلك اصطحابه لكلب اللابرادور الخاص به في اجتماع عقده مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؛ مع علمه بخوفها من الكلاب.
    يتحدث بوتن الألمانية بطلاقة إلا أنه لا يجيد الإنجليزية جيدًا.

    بوتين يعين ميخائيل رئيسا للحكومة الجديدة

    في خطوات سريعة، كلها تمت في يوم واحد، أعلن بوتين عن نيته في إدخال تعديلات دستورية، وعقب الإعلان مباشرة؛ قدم رئيس الوزرء ديميتري مدفيديف استقالة حكومته بهدف إفساح المجال لتعزيز سلطة البرلمان عن طريق التعديلات الدستورية الرئاسية المقترحة، وعقب مرور سويعات، عين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤولا غير معروف للرأي العام لرئاسة الحكومة الجديدة.

    واختار بوتين مباشرة ميخائيل ميشوستين، الذي ترأس إدارة الضرائب الاتحادية منذ عام 2010، ويعتبر صاحب اختصاص، لتشكيل حكومة جديدة.

    وأثارت هذه التغييرات تكهنات حول كيفية تأثير هذه التعديلات على النظام السياسي الروسي، وإن كانت ستتيح لبوتين البقاء في السلطة إلى ما بعد نهاية ولايته الرئاسية الرابعة في 2024.

    ورأى البعض أن بوتين ربما يستعد لتولي منصب جديد أو الحفاظ على دور قوي له من خلف الكواليس كعادته، وهذه المرة الأولى التي يقترح فيها بوتين في خطاب له عن تغييرات فعلية في دستور البلاد الذي أقر عام 1993. 

    وتنص التغييرات التي اقترحها بوتين الأربعاء على نقل مزيد من السلطات إلى البرلمان بما في ذلك السلطة لاختيار رئيس الوزراء وأعضاء بارزين آخرين في الحكومة، بدلا من أن يقوم الرئيس بذلك كما كان يفعل هو، حتى يفوّت فرصة التفرد في الحكم لمن سيأتي من بعده، ليظل هو الرجل القوي الذي يحكم روسيا (للأبد)  من وراء الستار، كحال صاحبه نمرود الشام.

  • روسيا وتركيا والصراع على إدلب

    توران قشلاقجي

    تركيا منذ الحرب العالمية الأولى، للمرة الأولى تواجه صعوبات كبيرة مثل هذه. الغرب هو الغرب نفسه في موقفه، وروسيا هي روسيا نفسها التي لا تهتم بالاتفاقيات. الغرب وروسيا وإيران والعديد من الدول الأخرى الموجودة في سوريا. قبل أن ندخل في تحليل المشكلة في إدلب، دعونا نلقي نظرة سريعة على العلاقات التركية الروسية.
    حتى الأمس القريب، كانت روسيا وتركيا تقعان في فضاءين استراتيجيين مختلفين، أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا، واحدة تتزعم حلف وارسو الاشتراكي، والأخرى جزء فاعل في حلف الناتو الغربي. ومع أن العلاقات بين الجانبين بدأت تتحسن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، غير أنها لم تصل إلى المستوى الإيجابي، إلا من بوابة الملف السوري، بحكم الضرورات الملحة التي فرضت نفسها على العاصمتين. ومع ذلك، فعلى الرغم من الاتفاقات والتفاهمات الروسية ـ التركية في سوريا (مسار أستانة، درع الفرات، غصن الزيتون، سوتشي، شرق الفرات)، يعتبر الملف السوري جزءا من سياق أعم للمجال التداولي الاستراتيجي بين الدولتين، يحكمه الموقف من الغرب.
    على مدار القرون الثلاثة الماضية، تعاونت الدولتان معا لمواجهة الهجمات الغربية، وظهر هذا التعاون بشكل جلي في مواجهة التوسع الفرنسي بقيادة نابليون نهاية القرن الثامن عشر، وظهر ثانيا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مع توقيع اتفاقية أونكيار ـ إسكيليسكي، التي التزمت روسيا بمقتضاها تقديم الدعم العسكري لتركيا بعد عصيان محمد علي باشا في مصر. لكن في ذاك العصر نفسه، وقعت صراعات بين روسيا وتركيا، ففي عام 1768 عبر أسطول روسي مضيق جبل طارق للمرة الأولى نحو المتوسط، وخاض معركة بحرية كبرى ضد الأسطول العثماني، بسبب الصراع على شبه جزيرة القرم. وبعد ذلك بأربعة أعوام، قصف الأسطول الروسي المدن السورية الساحلية، في مشهد يشبه ما يحدث اليوم. باختصار، يمكن القول إن الخلافات الروسية ـ التركية في منطقة أوراسيا والقوقاز، كانت سببا في صراعهما، في حين كان التهديد الغربي سببا في تعاونهما.
    ما يحدث في إدلب الآن يلخص طبيعة العلاقات بين الدولتين طوال القرون الثلاثة الماضية. تشترك الدولتان بوجود حالة من فائض القوة لديهما في وقت تدخل علاقتهما مع الولايات المتحدة بمرحلة فتور، وقد برز فائض القوة الروسي والتركي بشكل جلي في سوريا: الأولى أصبحت اللاعب العسكري الدولي الرئيسي، فيما أصبحت الثانية اللاعب الإقليمي الرئيسي.
    شكلت الأزمة السورية نوعا من المفارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين: اختلاف استراتيجي حيال الموقف من الثورة، ومن النظام، ومن مستقبل سوريا السياسي، غير أن هذه الخلافات الحادّة، وبفعل تعقد المشهد السوري بسبب كثرة الفاعلين الإقليميين، دفعت الطرفين إلى الاقتراب من بعضهما بعضا، وتقديم تنازلات متبادلة فرضتها مجريات الأمور. يمكن النظر إلى التعاون والصراع الروسي ـ التركي في إدلب من خلال بعدين اثنين:
    الأول، تكتيكي مرتبط بمفاعيل الترتيبات العسكرية في الجغرافية السورية، وفي هذا المستوى ثمة تفاهمات بين الدولتين، وثمة خلافات حول السيطرة على بعض المناطق في محافظة إدلب.

    الثاني، استراتيجي أبعد وأشمل من الجغرافية السورية، ويمكن تلمس أبعاده في أوكرانيا مع زيارة أردوغان إليها مؤخرا، والتوجه التركي إلى البحر المتوسط والوصول إلى الشاطئ الليبي، وقبلها التلاقي التركي ـ الأمريكي في شرق الفرات، وهذا المستوى هو الأهم، كونه من يحدد مسار العلاقات بين الجانبين.
    مشكلة روسيا، أنها لم تنظر إلى تركيا من خلال موقعها الاستراتيجي في المنطقة، بقدر ما نظرت إليها من البوابة السورية فقط، ومن هنا اعتقد الروس أن السماح للأتراك بالبقاء في إدلب والحصول على أراض في ريف حلب الشمالي الغربي، كفيل بإبعادهم عن الولايات المتحدة وأوروبا. لكن صناع القرار في الكرملين، لم يدركوا أن موقع تركيا في قلب العالم يضعها على تماس مع قارات ثلاث، ما يجعل خياراتها واسعة جدا، بحيث يصعب اختزالها في الشرق وحده أو الغرب وحده. عند هذه النقطة الرفيعة نشهد ارتفاع التوتر بين الجانبين، لكن من المهم التأكيد على أن العلاقة بينهما لن تصل إلى نقطة الصفر السياسي والعسكري، فتركيا تتحمل خسارة بعض الأراضي في إدلب من إجل الإبقاء على علاقتها مع روسيا، والأخيرة أيضا تتحمل بقاء بعض المناطق تحت سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا، لأجل السبب نفسه. وعليه، لن تنخدع أنقرة بالوعود والتصريحات الأمريكية، ومهما حاول جيمس جيفري دغدغة مشاعر الأتراك بالتحدث باللغة التركية، ووصفه الجنود الأتراك بالشهداء، فلن ينجح في دفع تركيا للوقوع في الفخ الأمريكي، وهو توتير العلاقة مع روسيا. هذه اللعبة يعيها صناع القرار في أنقرة جيدا، لكنها كانت مفيدة لتركيا، لأنها تخيف الروس الذين سارعوا عبر سفارتهم في أنقرة إلى القول إن التصريحات الأمريكية حيال تركيا كاذبة.
    الاستراتيجية التي يرسمها الرئيس أردوغان واضحة: تركيا قادرة ومستعدة لتحمل ثمن دورها التاريخي في سوريا، وعلى الروس أن يفهموا ذلك. التصعيد التركي بدا واضحا على الأرض، من خلال ارتفاع أعداد الجنود الأتراك في سوريا من ألف جندي إلى عشرة آلاف جندي، مع نحو ألفي مركبة عسكرية. وترافق التصعيد العسكري مع خطوط حمر وضعها أردوغان في وجه النظام السوري ومن ورائه الروس: ضبط حركة طيران مقاتلات النظام السوري في المحافظة، وأي اعتداء على الجيش التركي من قبل النظام السوري، سيرد عليه مباشرة في عموم الجغرافية السورية، بما يتجاوز منطقة اتفاق سوتشي في إدلب. ويمكن رؤية مدى جدية الموقف التركي من خلال عبارتين ذكرهما الرئيس أردوغان لأول مرة، «أي كفاح لا نقوم به اليوم داخل سوريا سنضطر للقيام به لاحقا في تركيا»، والثانية «إذا تركنا المبادرة للنظام السوري والأنظمة الداعمة له فلن ترتاح تركيا». يبدو أن الروس قد فهموا جدية الموقف التركي، فبعد المحادثة الهاتفية بين بوتين وأردوغان، أعلن الكرملين أن المطلوب هو تنفيذ اتفاق سوتشي، بمعنى أن روسيا لن تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الاتفاق، وقد تم التعبير عن هذا الموقف أيضا بإعلان وزارة الدفاع الروسية مساء الأربعاء الماضي، أن السيطرة على الطريق السريع دمشق ـ حلب M5 سمح بإنشاء المنطقة الآمنة المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية. نتيجة لذلك قال رئيس مكتب الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون: «الحرية والتحرير، نضال الشعب السوري هو جزء لا يتجزأ، البقاء على قيد الحياة، والأمن القومي لتركيا، لا يمكننا السماح للأراضي السورية بأن يسيطر عليها مجرمون وإرهابيون. من واجبنا محاربة هذه العناصر، سواء في حدودنا أو في منطقتنا.»

  • سورية..... مواجهة من نوعٍ آخر

    المركز السوري سيرز - د. سامر عبد الهادي علي

    13 حزيران 2020

     منذ تدخل روسيا العسكري في سورية نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 حتى اليوم كانت سورية ساحة اللعب الرئيسية للقيصر الروسي "فلاديمير بوتين"، سياسياً من خلال الإمساك بخيوط القرار السياسي للنظام السوري، والتفاوض بدلاً عنه في المحافل الإقليمية والدولية المختلفة، واتخاذ القرارات الداخلية والخارجية، وكذلك عسكرياً من خلال قيادة عمليات ميليشيات النظام ومرتزقته في المعارك ضد الشعب السوري وقواه الثورية. واستطاعت روسيا فرض إرادتها السياسية والعسكرية في الملف السوري إلى حدٍّ بعيد رغم مواجهتها لمعارضة تركيّة منعتها من الوصول لأهدافها بالسيطرة على ما تبقى من ريفي حماة وإدلب، وإصرار أمريكي على البقاء في شرق وشمال شرق سورية، حيث الموارد النفطية الرئيسية في البلاد، وخزان الزراعات الاستراتيجية فيها.

    ولم يدع قيصر روسيا محفلاً إلا وأظهر فيه عنجهيته السياسية والعسكرية، وتفوقه في سورية على بقية اللاعبين في هذه الساحة الدموية. إلا أنّ روسيا "الغبيّة تاريخياً" في دعم الطغاة والمستبدين لم تتعلم من دروس الماضي حيث سقط كل الطغاة الذين دعمتهم على شاكلة النظام السوري، وخسرت بسقوطهم سنوات من الدعم بأشكاله المختلفة، ولم تجنِ سوى الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي أدّت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 انهياراً مدوّياً.

      واليوم.... وصلت روسيا في سورية إلى نهاية الطريق ذاته الذي سلكته سابقاً، فبالرغم من الدعم اللامحدود الذي قدّمته للنظام السوري لإعادة بسط سيطرته العسكرية على البلاد، وإعادة تعويمه سياسياً في الداخل والخارج إلا أنها فشلت في ذلك تماماً، فهي لم تستطع إعادة بسط سيطرة النظام على أهم مناطق سورية الاقتصادية والاستراتيجية من جهة، كما لم تستطع إعادة جزءاً من سمعته السياسية على المستوى الخارجي، وبقي منبوذاً عربياً وإقليمياً ودولياً.

     كانت روسيا تعتقد أنّ النظام السوري سيكون أكثر قوةً وشرعيةً فيما إذا تمكّن من السيطرة وإعادة التحكم بالبلاد أو بأجزاء واسعة منها، هذا الاعتقاد فشل هو الآخر بعد أن أصبحت المناطق الخاضعة له الأكثر فقراً ومعاناةً، لتزداد الأوضاع سوءاً مع الانهيار المتسارع للعملة السورية، رافقها غلاء غير مسبوق في المعيشة، ما جعل الحاضنة الشعبية له تعيش حالة غير مسبوقة من التذمر والغليان نتيجة فشل حكومة النظام في إيجاد حلول مرضية توقف التدهور الحاصل على الأصعدة كافة.

     بالرغم من كل ذلك..... إلا أنّ ما لم تتوقعه روسيا وقيصرها بوتين أن تكون الضربة الأقسى لأطماعه ومشروعه التوسعي في سورية من خلال قانون أمريكي "قانون قيصر" الذي يفرض عقوبات غير مسبوقة على النظام السوري برجالاته ومؤسساته وجميع داعميه "أفراد ومؤسسات ودول" في مقدمتها روسيا وإيران.

       نعم..... قانون قيصر الذي عملت عليه نخبة من السوريين في الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع مؤسسات أمريكية ذات صلة بعد أن قام "قيصر" السوري بتسليم الولايات المتحدة عشرات آلاف الصور لسوريين معتقلين قتلهم النظام بأبشع الطرق والوسائل التي لم يعرف التاريخ الحديث والمعاصر مثيلاً لها.

     هذا القانون هو التحرك السياسي والحقوقي والإنساني الأهم منذ عام 2011 حتى اليوم، بما يخص الملف السوري والصراع مع النظام وداعميه، وقد بدأت آثاره بالظهور سريعاً مع اقتراب موعد دخول حزمة العقوبات الأولى حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الجاري، فبدأ الصراع داخل الدائرة الضيقة للنظام من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الأموال المنهوبة مع استشعار رجالات النظام لخطر قيصر من جهة، وإرضاءً لحلفاء جمعهم الهدف وفرّقتهم المصالح "روسيا وإيران".

     الخلاف الأهم ما ظهر للعلن مؤخراً بين أقوى شخصية اقتصادية ومالية في النظام "رامي مخلوف" مع رأس النظام "بشار الأسد وزوجته". هذا الخلاف انعكس على الحاضنة المؤيدة للنظام، حيث بدأ التصدع والخلاف بينها، بين مؤيد للأسد وآخر لمخلوف، وهو ما لم يحصل طوال تسعة أعوام من الثورة.

     نعم..... نحن اليوم أمام مواجهة من نوعٍ آخر بين قيصر روسيا الذي استشعر الخطر الحقيقي، وقيصر سورية الذي شكّل ضربة غير متوقعة لروسيا والنظام وجميع داعميه. مواجهة بدأتها روسيا بمقاربة جديدة في تعاملها مع الملف السوري، بحيث تسعى لتلافي السقوط غير المحسوب للنظام، وبالتالي سقوط جميع أحلامها ومطامعها ومصالحها في سورية وخارجها، وهي اليوم أمام خيارين، الأول: استمرار دعمها غير المجدي للنظام السوري المتهالك، ما يعني خسارة محتّمة لها ما بعد قيصر القانون. والثاني: أن تقود روسيا بنفسها وضمن تفاهمات إقليمية مع تركيا، ودولية مع الولايات المتحدة الأمريكية، عملية إنهاء حكم الأسد الهزيل، وقيادة مرحلة انتقالية يجري فيها تجميع حكومة ائتلافية ما، أو مجلس عسكري- مدني يوقف في النهاية تطبيق قانون قيصر وتبعاته على مصالحها في سورية، وهو الاحتمال الأقرب للواقع. لذلك يأتي تعيين سفير روسيا في سورية "ألكسندر يفيموف" ممثلاً رئاسياً لبوتين في سورية في 25 أيار/ مايو الماضي أولى الخطوات الروسية في هذا الطريق، ما يعني أنّ سورية "الأسد" أصبحت تحت الانتداب الروسي المباشر، والمفاوض على حاضر ومستقبل سورية.

     وبين قيصر روسيا وقيصر سورية "الأمريكي" تبقى سورية الدولة والوطن، ويبقى الشعب السوري بأطيافه كافة الخاسر الأول والأخير في جميع المواجهات السابقة، وهذه المواجهة اليوم.

  • قراءة في كتاب ما الذي تفعله روسيا في الشرق الأوسط؟

    في هذا الكتاب، يحاول المحلل البارز في الشؤون الروسية ديمتري ترينين الخوض في غموض سياسي حول دور روسيا في منطقة الشرق الأوسط لتقديم تحليل واضح ودقيق لتدخل روسيا فيه وتداعياته الإقليمية والعالمية. ويرى المؤلف أن روسيا لا تستطيع ولن تحل محل الولايات المتحدة كقوة خارجية بارزة في المنطقة، بيد أن أعمالها تسرع من التغييرات التي ستعيد تشكيل النظام الدولي بشكل جوهري خلال العقدين المقبلين.

    ويطرح المؤلف العديد من الأسئلة، التي يحاول الإجابة عنها في الكتاب، ومن أبرز هذه التساؤلات :

    • ما الذي تفعله موسكو في الشرق الأوسط؟
    • ما مصالحها والحوافز التي تقف خلف تلك المصالح؟
    • كيف يؤثر تدخل روسيا في أجزاء مختلفة من الشرق الأوسط على الأوضاع فيه؟ هل هناك استراتيجية روسية للمنطقة، وإذا كانت موجودة، فما هي؟
    • كيف يؤثر النشاط الأخير لروسيا في الشرق الأوسط على باقي العالم، بدءاً من أوروبا؟
    • ما هو التوازن بين روسيا منافس الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وروسيا كشريك في القتال ضد «داعش» والإرهاب عموماً؟
  • هل اخترق الروس والصينيون التفوق العسكري الصاروخي الأمريكي؟

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    يبدو أن الروس والصينيين قد تمكنوا مؤخراً من تحقيق اختراقات نوعية في مجال الصناعات الصاروخية، وخصوصاً تلك التي تتجاوز سرعة الصوت (Hypersonic)، تجعلهم يملكون قدرات مدمرة، ليس فقط للأساطيل والقواعد الأمريكية في العالم، وإنما في الولايات المتحدة نفسها. وما يجعل الأمريكان أشد قلقاً هو أنهم لا يتوقعون تطوير أسلحة دفاعية مضادة تُدمّر أو تُحيّد الصواريخ الروسية والصينية؛ إلا بعد نحو ست سنوات (منتصف عشرينيات هذا القرن).

    قبل نحو أسبوعين، لفت نظرنا الأستاذ الكبير منير شفيق إلى ذلك في لقاء عام، وهو ما حفّز كاتب هذه السطور للبحث في حقيقة هذا الأمر وتفصيلاته.

    قفزة نوعية روسية:

    طور الروس مؤخراً صاروخ أفانجارد (Avangard)، وهو يستطيع حمل رؤوس نووية، والتحليق بسرعة تصل إلى 27 ضعف سرعة الصوت (أكثر من تسعة كيلومترات في الثانية، أو 551 كيلومتراً في الدقيقة)؛ بحيث يكاد يكون من المستحيل اعتراضه، ويزيد مداه عن 11 آلاف كيلومتر؛ كما يستطيع تغيير مساره وارتفاعه في أثناء طيرانه، بطريقة غير منتظمة (زكزاكZigzag) بما يكاد يستحيل كشف موقعه (حسبما يوضح موقع جلوبال سيكيورتي في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2018). ويتوقع أن يكون أفانجارد في الخدمة في سنة 2020.

    وقد طور الروس صاروخ تسيركون (Tsirkon) الذي يُطلَق من السُفن، وتصل سرعته من ستة إلى ثمانية أضعاف سرعة الصوت (122-163 كم في الدقيقة) ويمكنه ضرب أهداف برية وبحرية، وتمت تجربته بنجاح في كانون الأول/ ديسمبر 2018. ويمكن أن يدخل في الخدمة سنة 2022. وطوروا أيضاً صاروخ كنزال (الخنجر-Kinzhal)، الذي جربوه بنجاح في تموز/ يوليو 2018، ويصل مداه إلى نحو 1,930 كيلومتراً (وذلك وفق تقرير نشرته خدمة أبحاث الكونجرس في 17 أيلول/ سبتمبر 2019).

    قفزة صاروخية صينية:

    أما الصينيون، فقد حققوا قفزة هائلة، بعد أن طوروا صاروخ دونج فينج 41 (ريح الشرق -Dongfeng 41). وهو صاروخ عابر للقارات يستطيع حمل ما يصل إلى عشرة رؤوس نووية. ويستطيع حمل "شراك خادعة" (decoys) أو أجهزة يمكنها تضليل الصواريخ الدفاعية المعترضة، ليتم استهدافها بدلاً من الصاروخ نفسه. ويستطيع هذا الصاروخ التحليق بسرعة تصل إلى 25 ضعف سرعة الصوت (510 كيلومتراً في الدقيقة) ويصل مداه من 12 ألفا -15 ألف كيلومتر، ويستطيع قطع المحيط الهادئ (المسافة بين الصين وأمريكا) في نحو ثلاثين دقيقة. وإلى جانب هذا الصاروخ، طور الصينيون صاروخ دونج فينج 17 (Dongfeng)، الذي يمكنه التحليق على ارتفاع منخفض، بخمسة أضعاف سرعة الصوت؛ وبطريقة يصعب جداً على أجهزة الإنذار الأمريكية كشفه أو اعتراضه. وهناك أيضاً صاروخ دونج فينج 26، وهو صاروخ باليستي بمدى متوسط يصل إلى ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف كيلومتر.

    تحد استراتيجي:

    الصواريخ التي كشف الروس والصينيون عنها تشكل مكافئاً استراتيجياً رادعاً، وتعوض بشكل أو بآخر جانباً من التفوق العسكري الأمريكي في مجالات أخرى. غير أن أهم ما فيها أنها تجعل القواعد وحاملات الطائرات الأمريكية والولايات المتحدة نفسها عُرضة لتلقى ضربات تقليدية أو نووية مدمرة، دون توفر أنظمة دفاعية أمريكية مضادة لخمس أو ست سنوات قادمة. وهو ما يعني أن تجسير الهوة أو الفجوة التكنولوجية العسكرية في المجال الصاروخي بين هذه القوى، سيجعل أمريكا مترددة، وتعيد حساباتها مرات عديدة قبل أن تقرر المضي بما يضر المصالح الاستراتيجية أو الخطوط الحمراء للروس والصينيين. وهو ما يعني أيضاً أن العالم يتجه مرة أخرى نحو تعدد القطبية.

    ويعترف الأمريكان بأن هذه الصواريخ التي تزيد سرعتها عن خمسة أضعاف سرعة الصوت، تعمل في مجال جوي لا تستطيع التكنولوجيا الأمريكية المستخدمة حالياً مراقبتها، وأن لها قدرة عالية على المناورة، بحيث لا يمكن توقع مسار طيرانها ولا الأهداف التي ستضربها. فقط الأشعة تحت الحمراء (Infrared) تصلح لتقنيات كشف هكذا صواريخ، وأمريكا غير جاهزة لذلك. ويعترف وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الأبحاث والهندسة مايكل جريفين (M. Griffin) وهو على رأس هرم اختصاصيي وزارة الدفاع في المجال التكنولوجي، بعدم توفر الإمكانات الكافية لصناعة الأسلحة التي تتجاوز سرعة الصوت، وضمن تكاليف معقولة أو متحملة؛ وأما الصينيون فلديهم هذه الأسلحة بالآلاف (بحسب موقع ديفنس نيوز في 7 آب/ أغسطس 2019). ويقول جريفين بأن الولايات المتحدة لن تستطيع نشر مضادات دفاعية لمواجهة الصواريخ الأسرع من الصوت، قبل منتصف عشرينيات هذا القرن (حسب تقرير فوربس في 30 تموز/ يوليو 2019).

    كما نبّه الخبير سام روجيفين (S. Roggeveen)، مدير برنامج الأمن الدولي في معهد لوي (Lowy) في سيدني بأستراليا؛ إلى أن الصين تتقدم الآن على أي دولة غربية في بعض مجالات التكنولوجيا العسكرية.

    ومما يزيد الصعوبة على الأمريكان قدرةُ الصينيين والروس (خصوصاً الصينيين) على إنتاج هذه الأسلحة بكميات كبيرة، وبتكاليف أقل، وبتكنولوجيا متقدمة جداً، بينما يحتاج الأمريكان في المدى القريب على الأقل وقتاً أطول، وتكاليف مضاعفة، للتعامل المكافئ مع هكذا تنافس، بمعنى أن الصينيين والروس ركزوا على تعويض الفارق الهائل في النفقات العسكرية مع الأمريكان، من خلال إنتاج أسلحة نوعية غير مكلفة، تلغي التفوق الأمريكي، وتردم الفجوة معه. ولعل ذلك هو ما أشار إليه الخبير العسكري الروسي المتقاعد أندريه مارتيانوف (Andrei Martyanov) والمقيم حالياً في أمريكا، في كتابه "الثورة الحقيقية في الشؤون العسكرية" (The (Real) Revolution in Military Affairs)، وفيه نقد للأساليب العسكرية الأمريكية المكلفة والأقل فاعلية في الإنتاج العسكري.

    الأمريكان ما زالوا في الميدان:

    من جهة أخرى، فالأمريكان ليسوا بعيدين عن تكنولوجيا الصواريخ التي تتجاوز سرعة الصوت، وهم موجودون في "سوق التنافس"، وإن كانوا على ما يبدو لا يظهرون كل ما لديهم من إمكانات صاروخية في هذا المجال. فصاروخ دونج فينج 41 في جيله الرابع، هو أساساً بنفس مستوى الجيل السابع من الصواريخ النووية الأمريكية الروسية. وقد طوّر سلاح الطيران الأمريكي صاروخ "AGM-183A" الذي تستطيع منظومته إطلاق صاروخ تصل سرعته إلى عشرين ضعف سرعة الصوت، كما يمكن إطلاقه من طائرات عسكرية مثل بي2 وبي52. غير أنه على ما يبدو، فليس من المتوقع أن يدخل الخدمة قبل منتصف عشرينيات هذا القرن. وهناك أيضاً صاروخ "راكب الأمواج" (X-51 A Waverider) الذي تصل سرعته إلى خمسة أضعاف سرعة الصوت.

    وهو ما يعني أنه بالرغم من الخطر الذي تشكله الصواريخ الروسية والصينية على القواعد والأراضي الأمريكية، فإن الصينيين والروس أنفسهم ليسوا بمأمن من الصواريخ الأمريكية من الفئة نفسها؛ ولا يملكون أنظمة دفاعية لحماية أنفسهم منها، أي أن حالهم في المجال الدفاعي كحال الأمريكان.

    الملاحظة الثانية، أن الأمريكان ما زالوا متفوقين في مجالات عسكرية أخرى، كالأسلحة النووية، وسلاح الطيران، والغواصات النووية، وحاملات الطائرات، كما يملكون قاعدة حلفاء أوسع من خلال الناتو والدول الصديقة؛ ولديهم انتشار عالمي أوسع.

    والأمريكان من ناحية ثالثة؛ أقدر على الاستثمار والإنفاق المالي والدخول في سباقات التسلح من منافسيهم، بوجود ميزانية عسكرية تزيد عن 750 مليار دولار سنوياً، مقابل ميزانية صينية عسكرية بحدود 224 مليار دولار، وميزانية روسية بحدود 44 مليار دولار.

    وهي مزايا تنافسية يمكن للأمريكان التركيز عليها إذا ما شعروا بالخطر.

    خلاصة:

    وعلى ذلك، فلعل الصواريخ الصينية والروسية تشكل اختراقاً حقيقياً، وتحدياً كبيراً للأمريكان، وتفرض في المستقبل الوسيط معادلات وحسابات جديدة، وتفتح المجال نحو عالم متعدد القطبية، ليس لهذا السبب فقط، وإنما أيضاً بسبب السياسات الأمريكية، خصوصاً في عهد ترامب، والتي تتميز بالتسرع والارتباك واستعداء الآخرين، فضلاً عن إضرارها بأمريكا نفسها في بنيتها وتكوينها الداخلي، نتيجة ميول القيادة السياسية اليمينية والشعبوية.

    وأخيراً، فعلى شعوبنا العربية والإسلامية ألا تفرح كثيراً وهي تقرأ هكذا أخبار. فلئن كان تراجع الهيمنة الأمريكية وإنهاء نظام أحادية القطبية يصُبُّ في إضعاف التَّغوُّل الصهيوني الأمريكي في المنطقة؛ فإن من المهم الإشارة إلى أن القوى الكبرى كروسيا والصين وغيرها تسعى هي الأخرى لضمان مصالحها بالدرجة الأولى، وغير ملتزمة تجاهنا إلا ضمن حساباتها وأولوياتها. وما هو أهم أن تركز أمتنا ورجالها ومفكروها ومبدعوها على إطلاق مشروع نهضوي حقيقي، يفرض نفسه بين الأمم، لا أن نبقى في عداد الضحايا أو المتفرجين أو المستهلكين أو التابعين.

    المصدر: موقع "عربي 21"، 27/10/2019