• المسارات المتوقعة لقضية فلسطين في سنة 2019

     

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    حملت سنة 2018 تصاعداً في أزمة المشروع الوطني الفلسطيني، وتدهوراً في مسار المصالحة، وفشلاً في مسار التسوية، ومزيداً من الضغوط الأمريكية لفرض التصورات الليكودية الصهيونية لحل القضية الفلسطينية. وحملت في الوقت نفسه صموداً للمقاومة، وإبداعاً في مسيرات العودة، وثباتاً للشعب على أرضه في وجه برامج التهويد والاستيطان.

    لا يبدو أن سنة 2019 تحمل اختلافاً كثيراً عن سابقتها.. وفي ما يلي استشراف لعدد من المسارات المتعلقة بقضية فلسطين لهذه السنة:

    أولاً: تفاقم أزمة المشروع الوطني الفلسطيني: عقَّدت التطورات الداخلية الفلسطينية في السنة الماضية من أزمة المشروع الوطني الفلسطيني المثقل أصلاً بأزماته، وهي أزمات مرشحة للتفاقم بشكل أكبر سنة 2019. فبالإضافة إلى الأزمات المزمنة في القيادة وفي المؤسسات التمثيلية الفلسطينية (منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية،) وفي التنازع على الأولويات بين مساري التسوية والمقاومة؛ يظهر أن سلوك محمود عباس وقيادة فتح يميل إلى مزيد من التأزيم في الساحة الفلسطينية، من خلال محاولات فرض الهيمنة وتطويع قطاع غزة وحركة حماس؛ وذلك بعد أن تجاوزت هذه القيادة التوافقات السابقة مع باقي الفصائل الفلسطينية، فأصرت على عقد المجلس الوطني للمنظمة تحت الاحتلال في رام الله، وعلى استمرار العقوبات على القطاع، وقامت بحلِّ المجلس التشريعي بشكل غير دستوري ومتعسف. ويظهر أنه طالما ظلّ عباس على رأس المنظمة والسلطة وفتح، فإن مسار التأزيم سيستمر ويتصاعد. وسيتابع عباس محاولة الاستقواء ببيئة عربية ودولية مخاصمة أو معادية لتيارات "الإسلام السياسي" ولخط المقاومة.

    ثانياً: لا أفق للمصالحة... ولا فرصة لانتخابات جديدة: السلوك التأزيمي لعباس وخصوصاً حلّ المجلس التشريعي، بخلاف اتفاق المصالحة الذي يدعو إلى تفعيله، وضع مزيداً من الزيت على نار الانقسام، وأدى إلى تراجع مسار بناء الثقة، وأوجد أجواء موبوءة، لا تسمح بعقد انتخابات حقيقية نزيهة وشفافة، وضرب الأسس التي يمكن أن تبنى عليها الشراكات الوطنية والتعددية وتداول السلطة تحت مظلة منظمة التحرير.

    أما الانتخابات التي تمت الدعوة لها خلال ستة أشهر، فتكاد تكون فرص إقامتها معدومة؛ فليست قيادة فتح والسلطة جادة في إنفاذها، إذا ما توفر الحد الأدنى لإمكانية فوز حماس بها. كما أن الطرف الإسرائيلي نفسه يملك القدرة على تعطيل هذه الانتخابات في القدس وباقي الضفة الغربية؛ وهو أيضاً غير مستعد لقبول فوز جديد لحماس. ثمّ إن حماس وعدداً من الفصائل ستقاطعها، إذا لم تتوفر الضمانات الكاملة لبيئة صحية وحرة تسبق الانتخابات، مع ضمان نزاهة الانتخابات وشفافيتها، هذا مع المطالبة بتزامنها مع الانتخابات لرئاسة السلطة، وللمجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما لم يدعُ إليه عباس.

    ثالثاً: مزيد من العزلة الداخلية لحركة فتح: يظهر أن إصرار عباس وحركة فتح على متابعة الانفراد بالهيمنة على الساحة الفلسطينية، وتطبيق سياسات مخالفة للتوافقات الفلسطينية، وحتى للرأي العام الفلسطيني، بما في ذلك العقوبات على قطاع غزة، ومتابعة التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي وغيرها؛ سيتسبب بمزيد من العزلة لحركة فتح، خصوصاً بعد أن قاطعت الفصائل والقوى الرئيسية الأخرى في منظمة التحرير الاجتماع الأخير للمجلس المركزي الفلسطيني، بالإضافة إلى عدم مشاركة حماس والجهاد الإسلامي فيه أصلاً. ومع إصرار فتح على السلوك نفسه بعد ذلك بحل "التشريعي"، فإن "العزف المنفرد" سيستمر في سنة 2019، مع اتساع دائرة المُنفَضِّين عنه.

    رابعاً: استمرار العمل المقاوم... مع تصاعد التحديات التي تواجهه: مع استمرار الاحتلال والحصار، وانسداد آفاق التسوية، وفشل السلطة سياسياًواقتصادياً؛ فإن البيئة الخصبة للمقاومة ستظل حاضرة، وستتابع إبداعاتها بأشكال مختلفة... ولا يُستبعد أن تتشكل في رحم 2019 بيئة انتفاضة جديدة. كما أن استمرار محاولات تطويع قطاع غزة ونزع سلاح المقاومة، ينذر بتفجير الوضع في غزة، وبحربٍ جديدة.

    ومع وجود بيئة عربية ودولية معادية (أو على الأقل غير داعمة) للمقاومة، فإن الصعوبات المالية التي تواجهها قوى المقاومة وخصوصاً حماس والجهاد، ستستمر وتتزايد. كما أن محاولات تهميش هذه القوى وإضعافها سياسياً وشعبياً ومحاصرتها إعلامياً ستستمر. غير أن الأزمات التي تعاني منها القوى المنافسة أو المعادية للمقاومة (داخلياً، وإسرائيلياً، وعربياً، ودولياً)، ستُمكن المقاومة من تجاوز عنق الزجاجة في النهاية.

    خامساً: فوز الليكود، وتصاعد الهجمة الصهيونية على القدس، وزيادة وتيرة الاستيطان: إذ إن الاتجاهات اليمينية والدينية المتطرفة في المجتمع الصهيوني ما تزال تمثل الأغلبية وهي في تزايد واتساع. ويتوقع لها أن تفوز في الانتخابات الإسرائيلية القادمة.

    ثم إن وجود دعم أمريكي قوي، في ظلّ إدارة ترامب، لهذه الاتجاهات، مع غياب الدور العربي والإسلامي في دعم القضية الفلسطينية دعماً جاداً، مع دخول عدد من الأنظمة العربية في مسار التطبيع، سيدفع الطرف الإسرائيلي للاندفاع بشكل أكبر نحو مزيد من برامج التهويد خصوصاً في القدس، ومحاولات فرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى.

    سادساً: مبادرات فلسطينية وتزايد الدور الشعبي: إن تفاقم أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وتراجع آفاق المصالحة، وتدهور دور المنظمة والسلطة في حمل هموم الشعب الفلسطيني، ومعاناة برنامج المقاومة؛ سيدفع باتجاه قيام رموز وقوى شعبية فلسطينية بمبادرات، سواء لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني، أم للمحافظة على الثوابت والحقوق الفلسطينية، أم لتفعيل أدوار القوى الشعبية والمستقلة في الشأن الفلسطيني.

    ولعل المبادرة الشعبية التي أطلقت مسيرات العودة في قطاع غزة، وكذلك المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج، وكذلك مبادرة القوى اليسارية الفلسطينية لتوحيد جهودها ضمن "التجمع الديموقراطي الفلسطيني".. كل ذلك يصب في هذا الاتجاه، وهي مبادرات مرشحة للتزايد والاتساع في داخل فلسطين وخارجها في ظلّ عجز وضعف القيادة الفلسطينية. وفي هذا الإطار، فإن دور فلسطينيي الخارج ربما يملك فرصاً وآفاقاً أوسع مع غياب المنظمة والسلطة عملياً عن تمثيلهم وعن قضاياهم وهمومهم.

    سابعاً: بيئة عربية عاجزة وغير مستقرة: لا يبدو أن تغييراً كبيراً مؤثراً على القضية الفلسطينية؛ سيحدث في البيئة العربية خلال الأشهر القادمة. فقد حملت سنة 2019 أزمات السنوات السابقة، حيث انشغلت العديد من الأنظمة العربية بمشاكلها الداخلية. وما تزال الشعوب تدفع فواتير محاولات الثورة والإصلاح والتغيير، كما أن بعض الأنظمة يظن أن حالة استقراره مرهونة بالرضا الأمريكي عبر البوابة الإسرائيلية (التطبيع)، وهو ما ينعكس سلباً على قضية فلسطين.

    ومن جهة أخرى، فإن صمود الشعب الفلسطيني، وصمود المقاومة وإبداعها، وانكشاف الوجه الصهيوني القبيح، واستمرار عدوانه على الأقصى والمقدسات، وعلى الأرض والإنسان؛ ووجود حاضنة شعبية عربية وإسلامية واسعة داعمة للقضية؛ سيبقى عدداً من الأنظمة متردداً في الاندفاع نحو التطبيع. كما أن الأنظمة التي تتعاطف مع المقاومة، ستجد في تصاعد المقاومة، فرصة لتجاوز الضغوط الأمريكية الغربية، ورفع وتيرة دعمها للمقاومة. ثم إن الأنظمة العربية المحبطة من سوء الأداء الأمريكي قد تجد فرصة للالتفات بشكل أفضل إلى مصالحها وفق أجندتها الوطنية وأمنها القومي، مما قد يعزز من دعمها لقضية فلسطين.

    ثامناً: تواصل الدعم الأمريكي لليمين الإسرائيلي، وتضعضع "صفقة القرن": يبدو أن إدارة ترامب ستواصل دعمها لليمين الإسرائيلي ولرؤيته لمسار التسوية، وستسعى لتوفير الغطاء الدولي لشرعنة سيطرة الكيان الإسرائيلي على القدس؛ ولإغلاق ملف اللاجئين الفلسطينيين. غير أنها قد تجد نفسها أكثر انشغالاً بمشاكلها الداخلية بعد فوز الديموقراطيين في مجلس النواب؛ وفي وضع أضعف فيما يتعلق بفرض إرادتها على البيئة الدولية، مع تزايد القوى الدولية المستاءة من سياساتها. كما ستصطدم بأن ما يسمى بـ"صفقة القرن" هو عملياً غير قابل للتنفيذ، مع وجود الرفض الفلسطيني، والبيئة العربية المترددة في دعمها، أو المعارضة لها (وإن كانت غير راغبةٍ في مواجهة "الكاوبوي" الأمريكي بشكل مباشر)، فضلاً عن عدم رغبة الطرف الإسرائيلي نفسه في دفع أي أثمان أو استحقاقات جادة مرتبطة بالتسوية. وبالتالي، فإن أفق التسوية سيظل مسدوداً.

    * * *

    وهكذا، فلعل قضية فلسطين تواجه سنة صعبة في 2019، لكنها سنة مخاض، تصبُّ في بيئة انتقالية، تدفع باتجاه انهيار مسار التسوية وتجربة "أوسلو"، وتُعزّز من فرص صعود خط المقاومة بالرغم من الصعوبات التي يواجهها.

    المصدر: موقع "عربي21"، 20/1/2019

  • تقييم مسار القضية الفلسطينية خلال سنة 2018

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    عكست سنة 2018 حالة تصاعد الاستهداف الإسرائيلي الأميركي للملف الفلسطيني، في بيئة سياسية فلسطينية مأزومة ومنقسمة، و بيئة عربية وإسلامية ضعيفة ومفككة ومنشغلة بأزماتها الداخلية، ومحاولة بعضها استرضاء أمريكا، ولو على حساب فلسطين، أو على حساب شعوبها.

    نختار في هذا المقال أن نقف على عشر محطات في تقييمنا للمسار الفلسطيني خلال سنة 2018.

    أولاً: استمرار أزمة المشروع الوطني الفلسطيني. ما زال الوضع السياسي الفلسطيني يعاني من أزمة سياسية خانقة تتسبب في تعطيل قدرته على العمل الفعال، وفي إهدار الكثير من طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته، وفي إضعاف قدرته على تحشيد البيئات العربية والإسلامية والدولية، والاستفادة منها في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني.

    هذه الأزمة تتجلى في القيادة الفلسطينية نفسها، التي لم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى تضحيات الشعب الفلسطيني وتطلعاته. وتتجلى من ناحية ثانية في المؤسسات التمثيلية والتشريعية الفلسطينية؛ حيث استمر تراجع منظمة التحرير الفلسطينية وتدهورها وفشلها في استيعاب مكونات الشعب الفلسطيني وقواه، وغياب مؤسساتها ودوائرها عن العمل والتأثير في الداخل والخارج، وانزواؤها لصالح تغوُّل السلطة الفلسطينية عليها. كما استمر الأداء الوطني الهزيل للسلطة الفلسطينية التي تكرَّس دورها في خدمة أغراض الاحتلال الإسرائيلي وأهدافه، أكثر من خدمة الشعب الفلسطيني. وزاد الأمر سوءاً تعطّل المسار الديمقراطي الانتخابي في المنظمة والسلطة، مع استمرار هيمنة فصيل فلسطيني واحد عليهما. ومن ناحية ثالثة ما زالت حالة تعارض الأولويات والمسارات بين تياري المقاومة والتسوية تلقي بظلالها، في تضارب الأداء، واتهام كل طرف للآخر بتعويقه وتعطيله عما يراه برنامجاً وطنياً. وقد انعكست هذه الأزمة على باقي البنى المؤسسية وعلى الأعمال النقابية والمهنية، وعلى النزاعات الميدانية على الأرض، مما زاد من أزمة الثقة بين الأطراف المتنازعة، كما أضعف من فرص التنسيق على الأرض، ومن القدرة على مواجهة المخاطر والتحديات.

    ثانياً: تراجع مسار المصالحة الفلسطينية. استمرت حالة التعطُّل في مسار المصالحة معظم سنة 2018، مع إصرار قيادة فتح (قيادة السلطة والمنظمة) على استمرار العقوبات على قطاع غزة، وعلى “التمكين” الكامل لحكومتها في القطاع على ما هو “فوق الأرض وتحت الأرض”، ومن “الباب إلى المحراب”؛ وهو ما رأت فيه حماس وباقي فصائل المقاومة تعارضاً مع اتفاق المصالحة لسنة 2011، ومع اتفاق القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول2017. كما استمرت الأجواء المشحونة بالاتهامات المتبادلة. غير أن قيام قيادات السلطة بالاستقواء بالمحكمة الدستورية لإصدار حكم بحل المجلس التشريعي قد أنهى سنة 2018، بحالة تدهور كبيرة بالنسبة لمسار المصالحة؛ خصوصاً أن المحكمة الدستورية نفسها هي موضع تساؤل من حيث شرعيتها، بالإضافة إلى أن البت في حلّ التشريعي ليس من صلاحيتها، فضلاً عن وجود نصوص دستورية حاسمة في النظام الأساسي الفلسطيني تقضي باستمرار المجلس إلى حين انتخاب مجلس جديد.

    ثالثاً: مزيد من العزلة السياسية لحركة فتح ومسار التسوية. فالطريقة التي يدير بها محمود عباس وقيادةُ فتح منظمةَ التحرير والسلطة الفلسطينية والإطار القيادي المؤقت وملف المصالحة…، أدت عملياً إلى أن فتح مع نهاية 2018 وجدت نفسها شبه وحيدة في المسار الذي تصرّ عليه.

    فقد قاطعت الجبهة الشعبية المجالس المركزية الثلاثة التي عُقدت سنة 2018، كما قاطعت المجلس الوطني الذي عُقِدَ أواخر أبريل/نيسان 2018 في رام الله، بخلاف التوافقات الفلسطينية التي تمت في بيروت أوائل2017. وقاطعت الجبهة الديمقراطية آخر اجتماعين للمجلس المركزي، كما قاطعت المبادرة الوطنية آخر اجتماع لهذا المجلس. وثمة شبه إجماع فلسطيني على رفض العقوبات التي تصرّ عليها قيادة فتح على قطاع غزة، كما أن ثمة شبه إجماع فلسطيني على رفض حلّ المجلس التشريعي الفلسطيني… وبذلك وجدت فتح نفسها مع نهاية تلك السنة أكثر انعزالاً عن باقي البيئة السياسية الفلسطينية؛ في الوقت الذي كانت فيه هذه الفصائل أكثر اقتراباً في الإطار السياسي من حماس ومواقفها.

    رابعاً: تصاعد استهداف القدس وتصاعد الاستيطان. مع قرار الإدارة الأميركية بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، ومع نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تصاعدت حملة الاستهداف الصهيوني اليهودي للقدس طوال سنة 2018؛ فشهد المسجد الأقصى خلالها اقتحامات لـ29,900 مستوطن، بزيادة 17% من السنة السابقة. كما استمرت حملات مصادرة الأراضي والتهويد والبناء الاستيطاني في الضفة الغربية، وخصوصاً في القدس، فنشرت الحكومة الإسرائيلية عطاءات لبناء 5,618 وحدة استيطانية، كما أقرَّت مخططات لبناء 3,808 وحدات استيطانية أخرى؛ في الوقت الذي تجاوز فيه عدد المستوطنين اليهود 800 ألف مستوطن؛ يتمتعون بنفوذ سياسي كبير في الحكومة الإسرائيلية.

    خامساً: استمرار العمل المقاوم. على الرغم من الصعوبات البالغة التي يعاني منها خط المقاومة، خصوصاً في مناطق الاحتكاك المباشر في الضفة الغربية، بسبب التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وبين الاحتلال الإسرائيلي الذي أدى إلى كشف الكثير من خلايا المقاومة، وإلى منع الكثير من العمليات قبل وقوعها؛ إلا أن عمليات المقاومة بأشكالها المختلفة استمرت. فبالإضافة إلى آلاف من حالات الاحتكاك المباشر بالحجارة وقنابل المولوتوف وغيرها؛ فقد تمّ تسجيل ما لا يقل عن 400 عملية متنوعة من هجوم بالسلاح، وعمليات طعن، وعمليات دعس… وغيرها، هذا بالإضافة إلى اشتباكات المقاومة في قطاع غزة مع الاحتلال، وخصوصاً ما يُعرف بعملية “حدّ السيف” الناتجة عن محاولة مجموعة أمنية إسرائيلية اختراق قطاع غزة. وخلال سنة 2018 قُتِلَ 16 إسرائيلياً وجُرح نحو 200 آخرين. بينما استشهد 312 فلسطينياً وجرح نحو 31,500 آخرين. وقامت سلطات الاحتلال باعتقال 6,489 فلسطينياً؛ بينما بلغ عدد الأسرى في سجون الاحتلال نحو 6 آلاف أسير.

    سادساً: مسيرات العودة. تعدُّ هذه المسيرات التي انطلقت في 30 مارس/آذار 2018 إحدى العلامات الفارقة لهذه السنة. فقد تجلت في هذه المسيرات الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتكاتفت قوى الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على إنجاحها؛ ووجهت غضب أهل القطاع من معاناتهم نتيجة الحصار إلى العدو الصهيوني. وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمتها على مدى 40 أسبوعاً، حيث استشهد 253 شهيداً وجرح 25,477 جريحاً؛ فقد أربكت كافة الرهانات الأميركية الإسرائيلية على إنفاذ صفقة القرن وتطبيقها على قطاع غزة، وأكدت تمسك الشعب الفلسطيني بحق العودة إلى الأرض المحتلة سنة 1948، ودعمت خيار الشعب بحقه في المقاومة وتمسكه بسلاحها. وهو ما أرغم الطرف الإسرائيلي على تخفيف الحصار عن القطاع، وفي إدخال البضائع، وأسهم بشكل كبير في فتح المعابر وتسهيل حركة الأفراد.

    سابعاً: انتهت سنة 2018 بوضع اقتصادي فلسطيني بئيس (في الضفة والقطاع) مقارنة بالجانب الإسرائيلي. فبلغ ما يسمى “الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي” لهذه السنة نحو 367 مليار دولار مقابل نحو 13 ملياراً و 780 مليون دولار للسلطة الفلسطينية، أي أكثر من ناتج السلطة بـ27 ضعفاً (2,730%). بينما بلغ دخل الفرد الإسرائيلي للسنة نفسها نحو 41,300 دولار مقابل 3,030 دولاراً للفرد الفلسطيني في مناطق السلطة، أي أكثر من دخل الفرد الفلسطيني بنحو 14 ضعفاً (1,363%). وهو ما يعكس بشاعة الاحتلال الصهيوني واستغلاله للموارد والثروات الفلسطينية، وتعطيله لأي عملية تنموية فلسطينية؛ كما يعكس عجز السلطة الفلسطينية وسوء إدارتها للملف الاقتصادي الفلسطيني. هذا دون أن نتحدث عن اتساع دوائر الفقر والبطالة الفلسطينية، والمعاناة من الحصار، وتحكم الاحتلال في صادرات السلطة ووارداتها… وغير ذلك.

    ثامناً: مزيد من التطرف اليميني والديني الإسرائيلي. وفي هذه السنة تزايد اتجاه المجتمع الصهيوني نحو اليمين ونحو التيارات الدينية، بينما ازداد ما يسمى “اليسار” الصهيوني تحلُّلاً وتفككاً، بل إنه أخذ شكلاً “يمينياً” في مقولاته وأطروحاته. ولا يتوقع لهذا اليسار الذي تجمع سابقاً في المعسكر الصهيوني أن يحصل إلا على نحو عشرة مقاعد في الانتخابات القادمة، بعد أن كان يملك 24 مقعداً. كما يتوقع أن يحافظ الليكود بقيادة نتنياهو على موقعه القيادي المتصدر. وما زالت فرص اليمين لتشكيل أغلبية في الكنيست وتشكيل الحكومة قوية، مما يفتح المجال لنتنياهو أن يشكل حكومته الخامسة، ليصبح أكثر رؤساء الوزراء حكماً في تاريخ الكيان الإسرائيلي.

    تاسعاً: ما زالت البيئة العربية تعاني من حالة من اللا استقرار، ومن الضعف والانقسام، والتخلف السياسي والاقتصادي والعلمي، وتعاني من مشاكل الأنظمة مع شعوبها، ومن استنزاف ثرواتها…؛ وهو ما ينعكس سلباً على الشأن الفلسطيني. وقد برز ذلك بشكل أوضح سنة 2018، من خلال تجارب عدد من البلدان العربية مع “صفقة القرن” الأميركية، ومن انفتاحها بشكل مكشوف على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ الذي يسعى للاستفراد بالملف الفلسطيني، وإلى توجيه بوصلة الصراع (بدل أن تكون ضدها) إلى صراعات طائفية وعرقية تزيد المنطقة العربية تشتتاً وضعفاً وتشرذماً. غير أن عدداً من البلدان العربية ما زال داعماً للملف الفلسطيني، بل تزايد إدراك عدم إمكانية تجاوز خط المقاومة.

    عاشراً: ما زال الطرف الأميركي يهيمن على المنظومة الدولية فيما يتعلق بالشأن الفلسطيني، وبالرغم من سوء إدارة ترمب، والأزمات التي تسببت فيها مع العديد من القوى الدولية؛ إلا أنها اندفعت بشكل غير مسبوق لمحاولة تنفيذ الرؤية الصهيونية لإنهاء الصراع وإغلاق الملف الفلسطيني، حيث لا يعدو ما يعرف بصفقة القرن، ما هو معروف من أفكار الليكود واليمين الإسرائيلي. غير أن خطورة الأمر تكمن في محاولة التنفيذ العملي على الأرض لهذه الأفكار، دونما انتظار لموافقة أحد. وفي هذا السياق جاء نقل السفارة الأميركية للقدس، وجاءت محاولات شطب الأونروا، ومحاولات إدانة حماس في الأمم المتحدة، والضغط على البلدان العربية للتطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

    وأخيراً، إذا كانت حصيلة سنة 2018 تعبر عن حالة الضعف القيادي والمؤسسي الفلسطيني، فإنها تعبر أيضاً عن صلابة الإرادة الشعبية الفلسطينية في الصمود والمقاومة؛ على الرغم من أنها تعمل في بيئة عربية ضعيفة مفككة وفي بيئة دولية غير مواتية. ثم إن الظروف المحلية والإقليمية والدولية بقدر ما تحمل من مخاطر، بقدر ما تحمل من فرص. وهو ما يُملي على أصحاب الحق الفلسطيني التعامل معها بفاعلية وكفاءة، في أجواء مفصلية من تاريخ قضية فلسطين وتاريخ الأمة.

  • قراءة في الرؤية اللبنانية للتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين

    بقلم:د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    تُعدّ الوثيقة التي صدرت عن لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، وهي لجنة حكومية تتبع رئاسة الوزراء في لبنان، من أهم الوثائق التي تحاول أن تقدّم مقاربة يمكن أن تجتمع عليها القوى والأحزاب السياسية اللبنانية أو معظمها. هذه الوثيقة التي صدرت بعنوان "رؤية لبنانية موحّدة لقضايا اللجوء الفلسطيني في لبنان" في يناير/كانون الثاني 2017؛ وكانت حصيلة أكثر من 50 اجتماعاً لمجموعة العمل التي شكّلتها لجنة الحوار، واستمرت لقاءاتها على مدى سنتين تقريباً.

    أهمّ ما في هذه الوثيقة أنها جاءت شاملة، وعالجت بشكل موضوعي معظم قضايا اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وأن معظم القوى السياسية في لبنان وافقت ووقّعت عليها بما في ذلك تيار المستقبل، والتقدمي الاشتراكي، وحزب الله، وحركة أمل، والإصلاح والتغيير، والقوات اللبنانية. وحتى حزب الكتائب وافق على معظم بنودها، ولكنه لم يوقّعْ عليها. أي أنها عملياً تُمثّل غالبية ساحقة، ومن كل الطوائف (سنة، شيعة، مسيحيين، دروز...)؛ بحيث يسهل تحويل توصياتها إلى قوانين وقرارات. ولكن وبعد مرور سنتين على إطلاقها، فإنه لم يُتخذ أي إجراء عملي لرفع العديد من جوانب المعاناة التي اعترفت بها الوثيقة، وقدَّمت مقاربات معقولة لعلاجها.

    الجدير بالذكر، أنه سبقت هذه الوثيقةَ وثيقةٌ أخرى مهمة صدرت عن منتدى الحوار اللبناني الفلسطيني، الذي يتبع مؤسسة المساحة المشتركة، وشارك فيها ممثلو العديد من الأحزاب اللبنانية الرئيسية، وعدد من الخبراء المتخصصين اللبنانيين والفلسطينيين، واستمرت أعمالها لسنتين، وتمّ إقرارها في 29/10/2013، وهي تقدّم معالجات ومقاربات جيدة لمعاملة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

    ***

    إن تفاقم أزمة اللاجئين الفلسطينيين واستمرار معاناتهم لسنوات طويلة، مع حرمانهم من حقوق إنسانية ومدنية واجتماعية واقتصادية مشمولة في منظومات ومعاهدات حقوق الإنسان العالمية، مع بطء الإجراءات العلاجية وتعطّلها، حتى تلك المتوافق عليها، هي ظاهرة اتسمت بها حالة اللجوء الفلسطيني في لبنان.

    يُحرَم الفلسطينيون في لبنان من حقّ العمل في الكثير من الوظائف والمهن والتخصصات، و تكاد تغلق في وجوههم معظم أبواب الرّزق، بما في ذلك معظم التخصصات الجامعية، وهي معاناة تعود جذورها إلى سنة 1963. وتمّ اتخاذ إجراءات على مرّ الزمن زادت من تعقيدها ومفاقمتها، خصوصاً سنة 1982 وما بعدها. ثمّ حاولت بعض القوى اللبنانية معالجة الموضوع، غير أن الإجراءات بقيت قليلة ويسهل تعطيلها.

    ففي سنة 2005، قام الوزير طراد حمادة بتخفيف بعض شروط العمل على الفلسطينيين، وفي 2010 قرّر مجلس النواب اللبناني السماح للفلسطيني بالعمل، وأعفاه من رسوم إجازة العمل، مع إمكانية أخذ حقوقه المالية عند انتهاء خدمته، لكنه في الوقت نفسه، وبالرغم من استيفائه الرسوم المالية الكاملة للضمان الاجتماعي (23% للأجنبي بما في ذلك الفلسطيني، و7% للبناني)، فإنه استثناه من حقوق العلاج الصحي والأمومة والتعويضات العائلية، كما ظلّ الباب مسدوداً أمامه في المهن التي لها نقابات في لبنان، وهي كثيرة (طب، هندسة، محاماة، محاسبة... وغيرها) التي تشترط عضوية الشخص في النقابة ليمارس مهنته، والتي تشترط بدورها أن تكون جنسيته لبنانية، ومضى على اكتسابها عشر سنوات، وهو ما دعا الفلسطينيين عملياً إلى الزهد في تقديم الطلبات لإجازات العمل وللضمان الاجتماعي، وظلّ معظمهم يعمل بطريقة غير قانونية، إن وجد فرصة للعمل.

    المشكلة تفاقمت سنة 2001 عندما أقرّ مجلس النواب اللبناني قانوناً حُرِم بموجبه الفلسطينيون في لبنان من حق التملّك؛ بل ولم يعودوا قادرين على توريث أملاكهم التي سبق لهم استملاكها لورثتهم. وهي مشكلة لما تزل قائمة حتى الآن.

    ***

    هذه المعاناة أدت إلى نزيف كبير في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؛ فهاجر الكثيرون وخصوصاً من خريجي الجامعات وأصحاب الكفاءات بحثاً عن الرزق، وتقلّصت أعداد الفلسطينيين في لبنان؛ إذ إن أعداد اللاجئين المسجلين لدى الأونروا في لبنان يصل إلى 550 ألفاً؛ غير أن العدد الحقيقي لا يكاد يصل إلى نصف ذلك (نحو 250 ألفاً). مع الإشارة إلى أن الإحصاء اللبناني الذي شملهم سنة 2017 قدَّر أعدادهم بنحو 175 ألفاً.

    وتضاعفت المعاناة مع الإجراءات المشدّدة التي اتّخذتها السلطات تجاه مخيمات اللاجئين بحجة المحافظة على الأمن ومنع البناء غير المرخص، فقيَّدت الدخول والخروج من المخيّمات، ومنعت دخول مواد البناء لها إلا في حدود ضيقة جدّاً. في الوقت الذي تعاني فيه المخيمات من الاكتظاظ الهائل، وتردي الخدمات، وبؤس البنى التحتية، كما أن حالة البطالة التي تسبّبت بها الإجراءات أدّت إلى تفشي مظاهر الفقر بشكل واسع، وأدّت إلى قيام أطراف مختلفة بمحاولة تجنيد اللاجئين بما يُخلّ بالأمن والاستقرار في البلد.

    من جهة أخرى، فإن التعامل على الأرض مع اللاجئين ظلّ يحمل جوهراً أمنياً، أو طائفياً. ثم إن عدم تقنين العمل بالشّكل المناسب، أدّى إلى خسارة الدولة اللبنانية لكثير من مصادر الدخل، بسبب عدم إدماج اللاجئين في منظومة العمل الرسمي بما يكفل حقوقهم الطبيعية، ويستحصل منهم الضرائب والرسوم المناسبة.

    ***

    عالجت وثيقة لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، معظم الاختلالات والإشكاليات المشار إليها. ووضعت لذلك أربعة معايير: الالتزام بالدستور ووثيقة الوفاق الوطني، والحرص على المصالح الوطنية العليا للبنان، والالتزام بمنظومة حقوق الإنسان، والتأكيد على قيم السيادة والاستقلال والعيش المشترك، كما قدّمت تعريفاً مناسباً للاجئ الفلسطيني، وتعريفاً مناسباً للتوطين. وهما تعريفان كانا من التعريفات الإشكالية في الوسط اللبناني. فجاء تعريف اللاجئين شاملاً لكل اللاجئين بمن فيهم المسجلين كافة لدى الأونروا من فلسطينيي 1948، والمسجلون لدى وزارة الداخلية والبلديات، وفاقدو الأوراق الثبوتية. كما ربطت فكرة التوطين بفرض حلول سياسية خارجية لتجنيس الفلسطينيين جماعيّاً أو جزئيّاً.

    وأكدت الوثيقة على رفض التوطين، الذي يرفضه الفلسطينيون أيضاً، وعلى توفير الحقوق الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، وتمتعهم بحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تحسين أوضاع المخيمات، وعلى "أنسنة" الإجراءات الأمنية؛ بحيث لا يتمّ التّعامل مع المخيّمات من منظور أمني فقط، وإنما يتعداه إلى المنظور السياسي والحقوقي والخدماتي. واتّفق الموقعون على الوثيقة على حقّ الفلسطيني في العمل، وفي الضمان الاجتماعي، بما يغطّي تكاليف علاجه وغيرها من خدمات الضمان. واتفقوا على ضرورة عمل مقاربة مناسبة للحق في التملّك، بدون أن يقدّموا تصوّراً كاملاً واضحاً لتفصيلات هذه المقاربة.

    وتعاملت الوثيقة بشكل إيجابي مع حقّ اللاجئين في ممارسة حرياتهم السياسية بشكل سلمي، ودعت إلى تسهيل إنشائهم جمعيات في الوسَط الفلسطيني؛ بحيث تعمل على تعزيز الحقوق الفلسطينية. كما دعمت وجود لجان شعبية في المخيّمات، تأخذ طابعها التمثيلي الرسمي، وتقدّم خدماتها للاجئين.

    وكان يتم الإشارة في أكثر من موضع إلى أن هذه الحقوق يتم تثبيتها بما لا يتعارض مع مصلحة لبنان العليا، ومواثيق حقوق الإنسان، ومصالح اللاجئين، والقدرات اللبنانية الواقعية.

    ***

    من الواضح أن الأطراف اللبنانية تستشعر مخاطر التوطين، وضرورة التنسيق مع الفلسطينيين لمواجهته، كما تستشعر الخلل في القوانين والإجراءات المتّخذة بحقّهم، وما أدّت إليه من إشكاليات انعكست سلباً على البيئة اللبنانية نفسها سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي جاءت هذه الوثيقة لتقدّم معالجات مناسبة للكثير من القضايا.

    من ناحية أخرى، فإن الحالة اللبنانية المثّقلة بهمومها ومشاكلها وتوازناتها الداخلية والتدخلات الخارجية، جعلت قضية اللاجئين في وضع متأخر في سُلّم الأولويات، وفي قوائم الانتظار الطويل للوصول إلى مجلس النواب. فإذا كان الاتفاق على رئيس الجمهورية أخذ أكثر من سنتين، وإذا كان رئيس الوزراء المكلَّف لم يستطع تشكيل حكومته، حتى بعد نحو تسعة أشهر من الانتخابات، وإذا كانت معالجة مشاكل "جمع القمامة" قد أخذت أشهر عديدة من المفاوضات والمساومات، وهو ما ينطبق على مشاكل توليد الكهرباء، وغيرها. فإن الناظر لحالة اللاجئين عليه أن يحسب في حسابه أنه يتعامل مع منظومة تتسم بالبطء؛ وبمراعاة الحساسيّات والحسابات السياسية والمادية للطوائف والأحزاب، بالإضافة إلى المؤثرات الإقليمية والدولية.

    وفي مثل هذه المنظومة، يسهل على أي طرف تعطيل الإجراءات بذرائع مختلفة، في بلد يقوم أساساً على فكرة التوافق، وعلى بناء التحالفات الداخلية التي تضطر فيها بعض الأحزاب، للاستجابة للطلبات أو لمخاوف شركائها وحلفائها السياسيين، ولو بخلاف قناعاتهم الذاتية. ولذلك تشير التجربة العملية إلى أن العديد من الأحزاب تتحدث بشكل منفرد عن دعمها للاجئين ورفع المعاناة عنهم، لكنها لا تقوم بأية إجراءات فاعلة تحت قبة البرلمان.

    الوثيقة أشارت، ضمن معايير التزامها بحقوق الفلسطينيين، إلى أن ذلك يتمّ بناءً على القدرات الواقعية للبلد. وهي جملة صحيحة، غير أن قياس القدرات الواقعية قضية إشكالية؛ إذ قد تلجأ بعض الأطراف إلى التشدد في تفسيرها بطريقة تفرغ الوثيقة من مضمونها. كما أن الوزراء يمارسون صلاحيات واسعة في وزاراتهم؛ بحيث يستطيعون تعطيل أيِّ من الإجراءات أو خفض سقفها، وفق مواقف أحزابهم، ووفق تفسيراتهم لأي من النصوص "المطّاطة"، أو بالاستفادة من الثغرات في النصوص.

    ***

    من المهم التأكيد على أن قضية حقوق اللاجئين الفلسطينيين لم تعد قضية يمكن تأجيلها أو وضعها على الرَّف، وأنها حالة باتت من مصلحة الطرفين اللبناني والفلسطيني علاجها؛ وأن حالة المعاناة والاستنزاف الذي يشهده مجتمع اللاجئين تنعكس سلباً على البيئة اللبنانية نفسها.

    وفي الوقت نفسه، فإن على الفلسطينيين في لبنان وكل من يدعم حقوقهم، ألا يتوقّفوا عن المبادرة وعن المتابعة والعمل الدؤوب، لدفع قضية اللاجئين إلى مقدّمة الأجندات في الساحة اللبنانية، ويجدر بهم من ناحية ثانية أن يسعوا إلى بناء الثقة مع الأطراف اللبنانية، التي لديها مخاوفها من خلال تقديم الحقائق والمعلومات، التي تزيل هذه المخاوف، وتتجاوز الإرث التاريخي السلبي.

    ومن ناحية ثالثة، فيمكن تقديم قضية اللاجئين في ضوء البحث عن المشترك وبما يحقق مصالح جميع الأطراف، ولا بأس من التدرج، و من ناحية رابعة، في تحقيق ما هو مجمع عليه ويسهل إنفاذه، ثم الانتقال إلى الذي يليه والذي يليه. كما أن "قوننة" الإجراءات وعمل التشريعات بصورة واضحة لا تحتمل اللبس، هو من ناحية خامسة، أمرٌ مهمٌّ في منع استخدام البعض للغموض أو الثغرات لتعطيل التنفيذ أو تعويقه أو سلاسته.

    المصدر: موقع ”TRT“ عربي ، 2019/1/29

  • مركز الزيتونة يصدر مجلد ”مصر بين عهدين مرسي والسيسي: دراسة مقارنة“ ويوفره للتحميل المجاني

    أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات مجلداً، من إعداد باسم جلال القاسم وربيع محمد الدنّان، وإشراف وتحرير د. محسن محمد صالح، يحمل عنوان ”مصر بين عهدين مرسي والسيسي: دراسة مقارنة“، ويتناول المجلد الأوضاع السياسية والقانونية والأمنية والاقتصادية والإعلامية التي شهدت مصر خلال عهدي مرسي والسيسي.

     

    لتحميل الجلد كاملاً، اضغط على الرابط التالي:
    مصر بين عهدين: مرسي والسيسي: دراسة مقارنة  (434 صفحة، حجم الملف 6.3 MB)

    معلومات النشر:

     

    – العنوان: مصر بين عهدين مرسي والسيسي: دراسة مقارنة
    – إعداد: باسم جلال القاسم وربيع محمد الدنّان
    – إشراف وتحرير: د. محسن محمد صالح
    – عدد الصفحات: 432
    – اللغة: العربية
    – الطبعة: الأولى 2016
    – السعر: 20$
    – الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات – بيروت
    – ISBN: 978-9953-572-50-5

      Book_Cover_Egypt_Two_Eras_Morsi_alSisi

    ويحتوي هذا المجلد على سبعة فصول، يتناول الفصل الأول تطورات الأحداث في مصر في الفترة 2011-2015، ويتناول الفصل الثاني التغيرات السياسية والانتخابات، أما الفصل الثالث فيتحدث عن العلاقة بين السلطة والأحزاب والقوى السياسية، فيما يناقش الفصل الرابع الأداء الاقتصادي، أما الفصل الخامس فيتناول الأداء الأمني والقضائي، في حين يتحدث الفصل السادس عن الأداء الإعلامي، أما الفصل السابع فيتناول ملف السياسة الخارجية.

    وأظهرت الدراسة في فصلها الأول، الذي يحمل عنوان ”تطورات الأحداث في مصر بعد ثورة 25 يناير 2011 حتى نهاية 2015“، أنه وبالرغم من المكاسب والنجاحات التي واكبت ثورة 255 يناير، فإن مسار الأحداث المصرية بعد عزل مرسي شهد أزمة حقيقية تعيشها البلاد، وبقي البلد خاضعاً للمؤسسة العسكرية، حيث رسّم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي سيطرته على مقاليد الحكم من خلال انتخابه رئيساً، في انتخابات ذكّرت العالم بالمشهد المصري قبل ثورة 25 يناير.

    كما تشير تطورات الأحداث إلى أن المشهد المصري بدا وكأنه قد عاد إلى ما كان عليه قبل تنحي مبارك؛ حيث عادت عملية كبت حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، والحريات العامة.

    وتسلط الدراسة في فصلها الثاني، الذي يحمل عنوان ”التغيرات الدستورية والانتخابات“، الضوء على تطور العمليتين الدستورية والانتخابية في مصر بعد ثورة 255 يناير. فقد تمّ تعديل الدستور والاستفتاء عليه في ثلاث مناسبات، وتمّ إجراء انتخابات تشريعية في مناسبتين، كما تمّ انتخاب رئيسين للبلاد خلال سنتين، تمّ بينهما تعيين رئيساً مؤقتاً.

    وتشير الدراسة إلى أن الشعب المصري خاض، حتى تاريخ الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي في تموز/ يوليو 2013، خمس عمليات ديموقراطية انتخابية، أظهرت جميع الاستحقاقات الانتخابية، التي تمّ معظمها في عهد المجلس العسكري، قوة التيار الإسلامي ومؤيديه، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون.

    وبالمقابل، فقد جاء في الدراسة أن الانتخابات التي أجريت بعد الانقلاب العسكري شهدت شبهات تزوير، وعدم مصداقية الأرقام والنتائج، كما شهدت اتّهامات عدّة بانتشار الرشوة الانتخابيّة خلال إجرائها، حيث انتشرت ظاهرة شراء الأصوات، و”المال السياسي“.

    وفي أجواء استبعاد وملاحقة الإسلاميين، وخصوصاً الإخوان، حسم السيسي نتيجة السباق الرئاسي بأغلبية ساحقة مع حمدين صباحي، وحصل على 96.9% من الأصوات مقابل 3.1% لصباحي. وكان لافتاً للنظر النسبة العالية لمقاطعة الانتخابات، حيث تحدثت تقارير صحفية عن ضعف كبير على الإقبال.

    وتؤكد الدراسة في فصلها الثالث، الذي يحمل عنوان ”الأحزاب والقوى السياسية“، أن الحياة السياسية والدستورية لم تكن ممهدة بشكل جدي وميسَّر أمام  الرئيس محمد مرسي عند تسلمه مقاليد الحكم؛ حيث واجه مرسي معارضين ومناهضين لحكمه، عارضوه انطلاقاً من دوافع سياسية، أو أيديولوجية، أو صراع نفوذ ومصالح، ولم تتح له فرصة معقولة ديموقراطياً لتنفيذ البرنامج الانتخابي الذي فاز على أساسه، وكان بعض هذه القوى المعارضة ظاهراً، وكان البعض الآخر مستتراً أو يحاول الاستتار كالمؤسسة العسكرية.

    وتضيف الدراسة أن المصالح والاعتبارات الحزبية الضيقة لعبت دوراً كبيراً في تنظيم العلاقة وسبل التعاون بين أحزاب المعارضة ومرسي؛ كما أن التباينات الكبيرة التي ميزت أغلب البرامج والرؤى التي كانت تحملها الأحزاب في مصر في تلك الفترة، أسهمت في إضعاف أي إمكانية لإيجاد أرضية خصبة للتوافق؛ ما أدى إلى وقوع الصدام في نهاية المطاف.

    وتتابع الدراسة أن البيئة الداخلية لم تكن مساعدة لتحقيق سياسات مرسي، على العكس من حكم السيسي. وأن الانقلاب مهد لاستنساخ معارضة شبيهة بمعارضة الرئيس المخلوع حسني مبارك، عبر إقرار تعديلات على قانون مجلس النواب الجديد الذي أصدره الرئيس المؤقت عدلي منصور قبل تسليمه السلطة للسيسي، وتمّ تعديله في قانون أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي في 29/7/2015. وتضيف الدراسة أن قانون الانتخابات التشريعية الذي وُضع في عهد السيسي، أدى إلى إضعاف الأحزاب، وتدهور الحياة السياسية، وعودة الأوضاع إلى ما هو أسوأ من أيام مبارك.

    وتؤكد الدراسة في فصلها الرابع، الذي جاء بعنوان ”الأداء الاقتصادي“، أن المشكلات الاقتصادية الكبيرة التي واجهها مرسي عند بداية عهده، كان  بعضها نتيجة السياسات الاقتصادية التي كانت سائدة خلال الفترة التي حكم فيها الرئيس مبارك، والبعض الآخر جاء بسبب الظروف السياسية والاقتصادية التي استجدت بعد ثورة 25 يناير، أو بسبب سلوك القوى والأطراف المحلية والإقليمية والدولية. على الرغم من ذلك، فقد أشارت المعطيات إلى أن الأوضاع الاقتصادية في عهد مرسي كانت أفضل منها في زمن السيسي.

    وتبين الدراسة أن معظم الأزمات مثل نقص الوقود وانقطاع الكهرباء وارتفاع الأسعار كان مدبراً ومسنوداً من جهات داخلية وخارجية، كما أن معظم هذه المشاكل استمر خلال عهد السيسي، مما يفقده جدية مبررات الانقلاب على مرسي.

    وتتابع الدراسة إجراء مقارنتها بين مشروعي مرسي والسيسي الاقتصاديين، والوقوف على حقيقة الوضع الاقتصادي خلال العهدين، ومدى تأثير الانقلاب على وضع الدولة الاقتصادي ومكانتها. وقد سلطت الدراسة الضوء على ملف زراعة القمح، فقالت إن هذا الملف احتل أهمية كبرى في مشروع مرسي الاقتصادي؛ ما أدت إلى قفز إنتاجية القمح في السنة المالية 2012/2013، من 7مليون طن إلى 9.5 مليون طن بزيادة 30٪ عن السنة المالية 2011/2012.

    وتضيف الدراسة أنه بعد الانقلاب على مرسي، تراجع اهتمام الحكومات المصرية بزراعة القمح، حيث انكمشت مساحات القمح من 3.5 مليون فدان في عام 2012/2013، إلى 2.5 مليون فدان في كانون الأول/ ديسمبر 2016.

    وتشير الدراسة إلى أن سياسات الحكومات بعد الانقلاب، والتي أدت إلى زيادة الديون المحلية والخارجية بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى مستويات عالية جداً، أدت إلى انخفاض قيمة العملة المصرية بصورة خطيرة، فبعد أن كان سعر الدولار مقابل الجنيه 7.7 جنيهات في 30/6/2013، (في السوق السوداء) و7.05 جنيهات في السوق الرسمي، بلغ سعره في 26/4/2016 نحو 8.8 في السوق الرسمي، ونحو 10.7 في السوق السوداء.

    وتشير الدراسة إلى أن الدَّين العام بشقيه المحلي والخارجي ازداد بشكل خطير بعد الانقلاب على مرسي؛ حيث إن الدين المحلي في عهد مرسي وصل إلى نحو 238.06 مليار دولار، كما وصل إلى نحو 43.23 مليار دولار، بينما بلغ الدين المحلي في عهد السيسي نحو 301.5 مليار دولار في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2015، أما الدين الخارجي فبلغ نحو 47.8 مليار دولار في الفترة نفسها. وتشير الدراسة إلى أن معدل البطالة تراوح بين 12.7 و13.4% خلال عهدي مرسي والسيسي.

    وتناقش الدراسة في فصلها الخامس، ”الأداء الأمني والقضائي“، حيث تؤكد أن جهاز الأمن والسلك القضائي عملا على إضعاف وتقويض سلطة  الرئيس مرسي وأسهما في الانقلاب عليه، في المقابل قاما بدعم السلطة التي انقلبت على مرسي.

    وكمؤشر على حرية التظاهر التي كانت سائدة خلال عهد مرسي، تقول الدراسة إن الاحتجاجات التي تعرض لها مرسي بلغت 5,821 مظاهرة ومصادمة واشتباكات، بمعدل 485 مظاهرة كل شهر، و7,709 وقفات احتجاجية وفئوية، بمعدل 557 وقفة احتجاجية كل شهر، و24 دعوة لمليونية، بمعدل مليونيتين كل شهر. مع أن أعداد المشاركين فيما يسمى المليونيات، لم يكن يتجاوز بضعة آلاف في أحيان عديدة.

    في المقابل كرست السلطات المصرية بعد الانقلاب، جلّ اهتمامها من أجل الحدّ من تنامي المظاهرات المعارضة للانقلاب ومنع تنظيمها، فأصدرت الحكومة قانون التظاهر الذي شدد العقوبات على كل من يتظاهر دون موافقة وزارة الداخلية، وتصدت بشكل عنيف لمظاهرات ”جبهة صمود الثورة“، وحملة ”لا للمحاكمات العسكرية“.

    وتشير الدراسة إلى أن النظام العسكري بعد الانقلاب باشر بارتكاب المجازر المتتالية من أجل وقف الحراك الثوري، كما اعتقل أكثر من40 ألف من معارضي الانقلاب، وقد مارست الأذرع الأمنية عمليات تصفية جسدية مباشرة للمعارضين.

    وفي ما يخص الملف القضائي، تقول الدراسة إن السيسي تصرف منذ الانقلاب كحاكم عسكري لمصر، وتدخل في عمل النائب العام والقضاء، فضلًا عن الشرطة، بالإضافة للقوانين التي تستهدف المعارضة.

    وتشير الدراسة إلى أن القضاة المصريين المحسوبين على نظام مبارك لعبوا دوراً محورياً في الانقلاب على مرسي، ومارسوا حرية التعبير عن آرائهم ومواقفهم السياسية المناوئة للنظام الجديد.

    وتظهر الدراسة في فصلها السادس، الذي جاء بعنوان ”الأداء الإعلامي“، أن الإعلام المصري دخل حالة استقطاب بعد ثورة 25 يناير، ولم تقم السلطة  الانتقالية، ممثلة في المجلس العسكري، بأيّ خطوات لإعادة تنظيم الإعلام هيكلياً وتشريعياً، كما أن حالة الاستقطاب هذه استمرت خلال حكم مرسي.

    ولعبت وسائل الإعلام المصرية المرتبطة ببقايا نظام مبارك أو برجال الأعمال وأجهزة الأمن والعسكر المعادية للثورة، دوراً مهماً في الانقلاب على الرئيس مرسي، خصوصاً فيما يتعلق بإشعال نقمة المصريين عليه، وعلى الإخوان المسلمين. فقد انتشرت شائعات لم تهدف فقط إلى إسقاط الإخوان وتهيئة الساحة للسيسي لتصدّر المشهد، بل لاستخدامها بعد ذلك عند اللزوم في تثبيت حكم السيسي ومحاولة احتواء أيّ إخفاقات يواجهها.

    وتلفت الدراسة النظر إلى أن المشهد الإعلامي في مصر دخل مرحلة جديدة بالغة الدلالة والخطورة بعد عزل الرئيس مرسي، فقد تحول الإعلام بشكل واضح إلى أداة صريحة في الصراع السياسي بين السلطة الانتقالية الجديدة وبين الإخوان المسلمين وأنصار الثورة والتغيير في مصر.

    وتشير الدراسة في فصلها السابع، الذي جاء بعنوان ”السياسة الخارجية“، إلى أن مؤسسة الرئاسة المصرية انفردت بتحديد السياسية الخارجية  المصرية، وتوجهاتها العامة، بما يتناسب مع مصلحة نظام الحكم؛ حيث احتكرت الرئاسة العديد من الملفات التي تراها حيوية.

    وتضيف الدراسة أن القضية الفلسطينية شكلت رافداً شعبياً للنظام المصري. كما مرّت العلاقات المصرية الفلسطينية بعدة متغيرات بحسب الظروف السياسة والعسكرية، وكان للتغيرات السياسية الداخلية التي شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير أثر كبير في تحديد هذه العلاقة.

    وجاء في الدراسة أن العلاقات الإسرائيلية المصرية مرت بمرحلة تحوّل تاريخي ‬عقب نجاح ثورة ‬25 ‬يناير، فقد استمرت حساسية الموقف الإسرائيلي وغموضه حتى تنحي مبارك… كما أولت المؤسسات الإسرائيلية اهتماماً كبيراً بتأثيرات الثورة على ”إسرائيل“. وزادت عناصر القلق الإسرائيلي بصعود الإسلاميين المعروفين بعدائهم لـ”إسرائيل“ ورفضهم لاتفاقيات كامب ديفيد، إلى سدّة الحكم. لكن هذا الحال اختلف بعد الانقلاب العسكري، حيث لم تُخفِ النُّخب السياسية والعسكرية والمثقفة في ”إسرائيل“ ارتياحها من الذي حدث في مصر.

    ويَسرّ المركز توفير التحميل المجاني للمجلد على الإنترنت على الرابط التالي:

     

    لتحميل الجلد كاملاً، اضغط على الرابط التالي:
    مصر بين عهدين: مرسي والسيسي: دراسة مقارنة  (434 صفحة، حجم الملف 6.3 MB)

    كما تجدر الإشارة إلى أن هذا المجلد صدر على ستة كتب/ أجزاء خلال سنة 2016، ومتوفرة للتحميل المجاني على الروابط التالية:

    مصر بين عهدين: مرسي والسيسي
         
    دراسة مقارنة العنوان
     للتحميل
         
    مصر بين عهدين مرسي والسيسي: دراسة مقارنة (المجلد كاملاً) اضغط هنا (434 صفحة، حجم الملف 6.3 MB)
         
    1 التغيرات الدستورية والانتخابات اضغط هنا (82 صفحة، حجم الملف 1 MB)
         
    2 الأحزاب والقوى السياسية اضغط هنا (76 صفحة، حجم الملف 906 KB)
         
    3 الأداء الاقتصادي اضغط هنا (74 صفحة، حجم الملف 1.4 MB)
         
    4 الأداء الأمني والقضائي اضغط هنا (76 صفحة، حجم الملف 1.6 MB)
         
    5 الأداء الإعلامي اضغط هنا (42 صفحة، حجم الملف 681 KB)
         
    6 السياسة الخارجية اضغط هنا (92 صفحة، حجم الملف 1.1 MB)
         

    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2017/3/16

  • مقال: اللعب مع ”الذئاب“ على مائدة الشرق الأوسط … د.محسن صالح

    بقلم: د.محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    عندما بدأت الدولة العثمانية بإعطاء ”الامتيازات الأجنبية“ في عهد السلطان سليمان القانوني منذ سنة 1535، لم تكن تدرك أن ذلك سيكون مدخلاً لشر مستقبلي مستطير؛ فالدولة كانت أقوى دول العالم، عندما وقعت أولى هذه الاتفاقات مع فرنسا، وكانت تعطي هذه الامتيازات من باب التسامح والرحمة وتشجيع العلاقات التجارية.

    غير أن هذه الامتيازات كانت تتضمن حق رعايا الدول الغربية (الأجنبية) بالإقامة والتنقل والتجارة، مع الإعفاء غالباً من الرسوم المالية والجمركية والعقارية، والحصانة القضائية، فلا يحاكم الأجنبي في المحاكم الوطنية (المحلية) بل أمام قنصلية بلاده، ووفقاً لقانون بلاده في معظم القضايا. ومع مرور الزمن، أخذت الدول الغربية برعاية مصالح المسيحيين الذين يتبعون مذاهبها، فالفرنسيون يرعون الكاثوليك بما في ذلك موارنة لبنان، والروس يرعون مصالح الأرثوذكس، ويرعى البريطانيون مصالح البروتستانت، وفي مرحلة لاحقة أخذ البريطانيون يرعون مصالح اليهود في فلسطين.

    ومع تدهور الدولة العثمانية وضعفها، كانت ”الامتيازات“ مدخلاً أجنبياً للعبث في أحشائها وإثارة الفتن والنعرات الطائفية، والتضخيم غير العادل للأرباح التجارية للأجانب، والاعتداء على الحقوق، والتهرُّب من القضاء. وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى تفسُّخ وسقوط الدولة العثمانية.

    وعلى سبيل المثال، فقد شكلت الاضطرابات التي شهدها جبل لبنان، خصوصاً بين الموارنة والدروز سنة 1860 فرصة للتدخل الغربي وخصوصاً الفرنسي، تحت ذريعة حماية المسيحيين، ففرضت الدول الغربية نظاماً على الدولة العثمانية، نشأت بموجبه ولاية جبل لبنان، شرط أن يكون الوالي مسيحياً، تقترحه الدولة العثمانية، ولكنه لا يستلم مهامه قبل أن توافق عليه ستّ دول أوروبية هي فرنسا وبريطانيا وروسيا والنمسا وإيطاليا وبروسيا (ألمانيا)!!

    ***

    العلاقات الخارجية ضرورة لا بد منها بين الدول، غير أن هذه العلاقات يجب أن تكون على قاعدة التكافؤ والمساواة واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وعادة ما تضع الدول ضمن مقاييس ”المناعة الوطنية“ مسألة الاستقلال والبعد عن الهيمنة الخارجية ضمن أبرز معاييرها. غير أن ضعف أي دولة قد يجعلها عرضة للتدخل الخارجي الذي سينفذ من نقاط الضعف لتحقيق مصالحه وأجنداته الخاصة. وقد يكون هذا الضعف متمثلاً في صراع سياسي، أو تدهور اقتصادي، أو اضطرابات أمنية، أو قلاقل اجتماعية وعرقية ودينية، أو استقواء من أطراف محلية بقوى خارجية في صراعاتها الداخلية.

    يضع دارسو التحليل السياسي وتقدير الموقف معيار ”اللاعبون“ ضمن أبرز المعايير عند القيام بأي تحليل أو تقدير. ويتم تحديد اللاعبين الكبار والصغار والمحليين والخارجيين وإعطاء كلّ لاعبٍ ثقلاً نوعياً محدداً، لمعرفة دوره وحدود تأثيره. وكثيراً ما تقع الأخطاء والاختلافات نتيجة سوء تقدير أحجام اللاعبين وطرق واحتمالات تدخلهم. وكثيراً أيضاً ما تحدث مبالغات في تقدير الدور الخارجي، مع تكريس ”نظرية المؤامرة“، كما يتم أحياناً إهماله وعدم الالتفات إليه، وفي أحيان أخرى يتم تضخيم أو إضعاف دور دولة خارجية على حساب دول أخرى،… وفي كل الأحوال، فإن أي سوء تقدير قد يؤدي إلى نتائج كارثية.

    ***

    لم يستطع محمد علي باشا الذي تمكن من الحكم والياً للعثمانيين على مصر منذ 1805، أن يحقق طموحاته في التوسع على حساب الدولة العثمانية أو الحلول مكانها، حيث كان للدور الخارجي تأثير حاسم في قصقصة أجنحته والهبوط بمستوى طموحاته. فبعد أن قام (مستعيناً بالدعم الفرنسي) بالسيطرة على بلاد الشام، وتقدم في الأناضول حيث هزم العثمانيين في موقعة قونية 1832؛ اضطر العثمانيون للاستعانة بعدوهم التقليدي روسيا لحماية الأستانة (إسطنبول). وتدخلت القوى الكبرى لعمل معاهدة كوتاهية 1833 بما يضمن سيطرة محمد علي باشا على بلاد الشام، وانسحابه من الأناضول. وعندما اندلع الصراع مرة أخرى، وتمكن محمد علي من هزيمة العثمانيين وتدمير جيشهم سنة 1839 تدخلت قوى دولية أربع هي بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا لتفرض على محمد علي الانسحاب من الشام والاكتفاء بحكم مصر حكماً وراثياً، تحت السلطة الاسمية للدولة العثمانية.

    كان سبب تدخل بريطانيا وحلفاؤها يكمن في أن بقاء دولة عثمانيةٍ ضعيفةٍ (بانتظار نضج ”الكعكة“، وتوفر بيئة أنسب للحصول على حصص أكبر عند اقتسامها) أفضل من صعود محمد علي قوي، يخلف الدولة العثمانية، وقد يقطع الطريق على طموحاتها.

    كان على محمد علي عندما قرر التحالف مع ”الذئب“ الفرنسي أن يعلم أن ثمة ”ذئاب“ أخرى متربصة، وأن خصومه قد يضطرون للاستعانة بها. ولم تنفع محمد علي ميوله الغربية وجهوده التحديثية، ليعلم في النهاية أن ثمة سقف لطموحاته.

    وهكذا أصبح من الواضح أن شأن المنطقة العربية لم يعد شأناً محلياً، وأن رسم أي خرائط جديدة لقوى النفوذ والحدود بين الدول، تدخل فيه العوامل الخارجية بدرجات متفاوتة وفق درجات المصالح والأولويات والقوة للاعبين الكبار.

    ***

    ولعل العثمانيين استفادوا لفترة من التنافس والصراع الاستعماري بين القوى الكبرى، غير أن بروز ما يعرف بـ ”توازن القوة الاستعماري“ Colonial Balance of Power، جعل القوى الكبرى تسعى لتجنب الاصطدام المباشر، وتنسق فيما بينها عملية تقاسم المستعمرات ومناطق النفوذ، على حساب الدول الأضعف منها. وقد دفعت الدولة العثمانية ثمن ذلك غالياً إثر انتصار الروس عليها سنة 1878 وإثر انعقاد مؤتمر برلين في السنة نفسها؛ وفيه توافقت القوى الكبرى المعنية على توزيع أجزاء من الدولة العثمانية فيما بينها رغم أنف العثمانيين؛ فمقابل السكوت (الموافقة الضمنية) على انفصال رومانيا وبلغاريا عن الدولة العثمانية، تم السكوت عن سيطرة النمسا على البوسنة والهرسك، في مقابل السكوت عن استعمار بريطانيا لقبرص، واستعمار فرنسا لتونس.

    وبعد ذلك بسنوات اضطرت فرنسا للسكوت عن الاستعمار البريطاني لمصر (1882)، مقابل السكوت البريطاني عن الاستعمار الفرنسي للمغرب لاحقاً. أما ألمانيا التي كانت طامعة في استعمار المغرب فتم إقناعها بالسكوت، مقابل استعمار مساحات شاسعة في شرق إفريقيا في تنزانيا ورواندا وبوروندي!! كما تم إرضاء الإيطاليين بالسكوت عن استعمارهم لليبيا وجنوب الصومال.

    وبالتالي أخذت الذئاب تتوزع ”الفرائس“ دون أدنى شفقة أو رحمة، وكانت الضحية هي البلدان الضعيفة، وخصوصاً مناطق الدولة العثمانية التي آذنت بالرحيل.

    ***

    أدى انكسار معايير توازن القوة Balance of Power بين القوى الكبرى (بالإضافة إلى عوامل أخرى) إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914–1918؛ فسعت هذه الدول إلى بناء تحالفات تضمن لها الانتصار في النهاية. وفي مثل هذه البيئة قرر الشريف حسين بن علي ”الرقص مع الذئاب“ فأطلق ثورته ضد الدولة العثمانية بناء على وعودٍ (مراسلات الحسين – مكماهون 1915–1916) فَهِمَ منها دعم البريطانيين لقيام دولة عربية بقيادته في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق. غير أن البريطانيين كانوا يتفاوضون في الوقت نفسه مع الفرنسيين فعقدوا اتفاقية سايكس–بيكو في أيار/ مايو 1916، ليتوزعوا السيطرة فيما بينهما على بلاد الشام والعراق وجنوب تركيا في حال انتصارهم على العثمانيين، كما عقد البريطانيون اتفاقاً ثالثاً مع الحركة الصهيونية أصدروا بموجبه وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين.

    كان الشريف حسين يظن أن الحكومة البريطانية تحفظ عهودها، ولم يكن يدرك أن استدعاء القوى الكبرى أو التحالف معها في صراعات المنطقة، في بيئة غير متكافئة، يفتح لها أبواب التدخل وفرص رسم خرائط. ولذلك فإن بريطانيا التزمت بعهودها مع الفرنسيين والصهاينة، بينما قلبت للشريف حسين وللعرب ظهر المِجَنّ. ولم يأبه البريطانيون أن يكونوا قد التزموا في الحرب العالمية الأولى بثلاث التزامات متناقضة تجاه فلسطين، أحدها يُفهم منه استقلالها ضمن الدولة العربية، وثانيها يجعلها منطقة دولية ضمن اتفاق سايكس–بيكو، وثالثها يجعلها وطناً قومياً لليهود!!

    ***

    الحسابات الخاطئة لصدام حسين عندما احتل الكويت في صيف 1990، أدت إلى استدعاء القيادة الكويتية للقوى الكبرى والدول العربية لإجبارها على الانسحاب من الكويت، مما أدى إلى ما يعرف بحرب الخليج، مما انعكس دماراً على الكويت، وحصاراً خانقاً على العراق، وانتفاضات واضطرابات في العراق تم قمعها بقسوة، وتأسيساً للحكم الذاتي الكردي في شمال العراق بمظلة حماية جوية أمريكية؛ وفوق ذلك كله مزيداً من التشرذم العربي والإسلامي، ومزيداً من النفوذ والقواعد الأمريكية في المنطقة.

    ويتجلى جزء كبير من الأزمة اللبنانية في استعانة أطراف الصراع والتنافس بقوى خارجية عربية وإقليمية ودولية والاستقواء بها في تحقيق المكاسب والنفوذ، وبالتالي تحول لبنان إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين القوى الإقليمية والدولية، كان الخاسر الأكبر فيه لبنان نفسه بإنسانه وأرضه ومؤسساته وبناه التحتية، حتى وإن حققت بعض الزعامات الطائفية والعائلية مكاسب مؤقتة. بينما وجد اللبنانيون أنفسهم مرتهنين بدرجات متفاوتة (على مر السنوات السبعين الماضية) بالإرادات الخارجية الدولية الفرنسية والأمريكية والإقليمية المصرية والسورية والسعودية والإيرانية…إلخ؛ بالإضافة إلى محاولات الطرف الإسرائيلي فرض أجندته.

    ***

    ومن جهة أخرى، كان الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003، الذي رحبت به، ودعت له، أطراف عراقية عديدة علناً أو ضمناً ذو نتائج كارثية. ولم تنجح الأطراف العراقية في بناء نموذج وطني متماسك بعد إسقاط نظام صدام حسين، ودخلت في صراعات داخلية ضربت النسيج الاجتماعي والبنى السياسية والاقتصادية. وبينما استفاد النظام الجديد في بغداد من الدعم الأمريكي والإيراني في ترسيخ نفوذٍ ذو لون طائفي معيَّن؛ فقد استفاد الأكراد في شمال العراق من القوى الغربية في ترسيخ حكمهم الذاتي؛ بينما سعت باقي الأطراف (العربية السنية) للاستعانة بقوى عربية خليجية وغيرها؛ أو اتجهت إلى أشكال مقاومة مسلحة ضد الأمريكان، أو ضد ما ترى أنه أجندة طائفية تستهدفها.

    أما في الحالة السورية، ففي اللحظة التي قرر فيها النظام استخدام الحل الأمني العسكري ضد الحراك الشعبي الواسع؛ وفي اللحظة التي قرر فيها الاستعانة بقوى خارجية صديقة (إيران وروسيا…) في قمع الانتفاضة، فإن القوى الشعبية التي أُغلقت أبواب التغيير السلمي في وجهها، وجدت نفسها بين خيار الخضوع من جديد للنظام وشروطه، وبين الاستعانة بقوى خارجية لتواجه بطريقة مكافئة التحدي الأمني والعسكري الجديد الذي فرضه النظام. وقد كان ذلك مدخلاً لتدخل قوى إقليمية أخرى كتركيا والسعودية وقطر وقوى دولية أخرى كأمريكا وفرنسا وبريطانيا… .

    ومرة أخرى، كان ثمن التدخل الخارجي باهظاً دفعه السوريون من كافة أطيافهم (شعباً وسلطة ومعارضة) دماء وأشلاء ودماراً اقتصادياً وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي وانهياراً للمؤسسات والخدمات… ليجد السوريون أنفسهم في النهاية مرتهنون، حتى لمجرد اتفاق هدنة في أحياء حلب، لاتفاقات بين الروس والأمريكان… الذين يسعون لفرض أجندتهم الخارجية وفق مصالحهم وليس وفق مصالح وأولويات الشعب السوري؛ وليكون الكاسب الأكبر في اللحظة الراهنة هو الكيان الإسرائيلي؛ بانتظار أن يتمكن السوريون من العودة لإمساك زمام المبادرة التي لا يمكن أن تقف على رجليها دون التخلص من التدخل الخارجي أو على الأقل إضعاف دوره إلى الحد الأدنى.

    ***

    وهكذا، فإن القاعدة الأساسية التي يجب أن يفهمها أهل المنطقة:

    • أن القوى الكبرى ليست ”جمعيات خيرية“،
    • وأنها تسعى لخدمة مصالحها بعيداً عن المعايير الأخلاقية التي يتوقعها أو يرغبها أهل المنطقة،
    • وأن المفهوم السائد في العلاقات الدولية هو: لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة… ولكن مصالح دائمة،
    • وأن الضعفاء لا بواكي لهم في النظام الدولي،
    • وأن الذي يستدعي أياً من القوى الكبرى لدعمه… عليه أن يتوقع دفع أثمان باهظة من سيادته واقتصاده ودماء شعبه وحتى من حضارته وهويته الوطنية والثقافية…
    • وأن أثمان التفاهم الداخلي مهما ارتفعت تظل أفضل من استدعاء القوى الخارجية… التي ستفرض أجندتها ومصالحها على الجميع.

    ولعلنا نستكمل في مقال قادم معايير التعامل اللازم من أبناء المنطقة ودولها مع بيئات التدخل الخارجي.

    المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 27/10/2016

  • مقال: وثيقة كامبل بنرمان.. حقيقية أم مزيفة؟! … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    هذه الوثيقة التي رجع إليها العشرات من الكتاب والباحثين منذ أواسط القرن العشرين، والتي يعدونها أساساً لفهم خلفيات إنشاء مشروع يهودي صهيوني في فلسطين لدى القوى الإمبريالية الغربية؛ أصبحت أقرب إلى ”الأحجية“ لأننا لم نجد لها حتى الآن مصدراً علمياً موّثقاً، يمكن الاعتماد عليه وفق مناهج البحث العلمي.

    وفي الأشهر الماضية تابعتُ -على أكثر من صعيد- الجدل حول هذه الوثيقة، كما انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي ينبه إلى هذه الوثيقة وخطورتها.

    والوثيقة ”المدّعاة“ تنص -كما جاء في الجزء الأول من ”ملف وثائق فلسطين“ الصادر عن الهيئة العامة للاستعلامات في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر سنة 1969 (إبان حكم جمال عبد الناصر)، صفحة 121- على عقد ”مؤتمر لندن الاستعماري“ سراً بلندن في الفترة 1905-1907 بدعوة من حزب المحافظين البريطاني.

    وأنه قد اشتركت فيه مجموعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد. وأن هذا المؤتمر رفع توصياته سنة 1907 إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بنرمان (Campbell Bannerman Henry)، حيث أكد المؤتمرون على:

    ”إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل -في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس- قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة“.

    وهذا يعني وفق الوثيقة أن ”خبراء الغرب“ وجدوا في إنشاء كيان غريب (هو الكيان اليهودي الصهيوني لاحقاً) في غربي البحر المتوسط (وخصوصاً فلسطين) وسيلة لإيجاد قلعة متقدمة ترعى المصالح الغربية، وتضمن ضعف المنطقة وتمنع وحدتها، وهو ما حدث ويحدث فعلاً بغض النظر عن صحة الوثيقة أو زيفها.

    ***

    وكاتب هذه السطور -مثل غيره من الباحثين- وجدوا هذه الوثيقة في مصادر ومراجع عربية محترمة؛ ولكتَّاب معروفين بحرصهم على الدقة، بالإضافة إلى ملف وثائق فلسطين الذي صدر عن المؤسسة الرسمية المصرية التي يُفترض فيها علمياً مصداقية عالية. وبالتالي فقد كان كاتب هذه السطور ممن استخدم هذه الوثيقة في كتاباته ومحاضراته قبل أن يتنبه إلى إشكاليتها.

    قبل نحو 14 عاماً؛ التقيت الأستاذ منير شفيق الذي حثني على السعي للتوثيق العلمي للوثيقة من مصادرها البريطانية الأصلية، خصوصاً بعد أن علم بتخصصي في هذه الوثائق حيث اعتمدت في معظم رسالتي للدكتوراه على الوثائق البريطانية غير المنشورة، والمحفوظة في دار الوثائق البريطانية (ما يُعرف الآن بالأرشيف الوطني The National Archives، وكان يعرف سابقاً بمكتب السجل العام Public Record Office PRO)، وكنت أعود إليها بين الفينة والأخرى لبعض المتابعات والدراسات الأكاديمية.

    كما لفت نظري لاحقاً إلى هذه الوثيقة الدكتور أنيس صايغ الذي يُعدُّ أحد أبرز أعمدة البحث العلمي في التاريخ الفلسطيني الحديث، ورأس لعشرة أعوام مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية1966-1976. وأخبرني عن قصته في البحث عنها وتشككه في حقيقتها.

    وعلى أي حال، فقد أثار الأمرُ فضولَ كاتب هذه السطور، وفي سفرة لبريطانيا تفرغ للبحث عن هذه الوثيقة، غير أنه لم يجد لها أثراً أو مصدراً؟!!

    وما أثار الشك حقاً هو أن ملف وثائق فلسطين -وكذلك غيره من المصادر- لا يذكر توثيقاً علمياً للوثيقة، فلا يوجد اسم للملف في الوثائق البريطانية، ولا الترقيم الخاص به، ولا تاريخه الدقيق، وما إن كان محفوظاً في مجموعات الخارجية البريطانية F.O، أو وزارة المستعمرات C.O، أو وزارة الحرب W.O، أو رئاسة الوزراء Prem وغيرها.

    وقصة د. أنيس صايغ مع هذه الوثيقة قصة ”شيّقة ومريرة“، وقد لخّصها في مذكراته ”أنيس صايغ عن أنيس صايغ“ في الصفحات 279-281. وفيها يذكر أنه عندما تولى رئاسة مركز الأبحاث حرص على الوصول إليها لأهميتها، لكنه لم يعثر على مصدر واحد موثق لها في عشرات المراجع والكتب التي أشارت إليها؛ والعديد منها لكتّاب موثوقين أمثال برهان الدجاني ومنذر عنبتاوي وخيري حماد وشفيق ارشيدات؛ حيث ظهر أن كل كاتب كان يحيل إلى الآخر في دوامة أو حلقة مُفرغة دونما نتيجة.

    ولذلك فقد قرر د. أنيس التفرغ للبحث عنها -في بريطانيا- شهراً كاملاً قضاه في دار الوثائق البريطانية، ومكتبة المتحف البريطاني، وجامعة كامبردج حيث درس كامبل بنرمان وأودع في مكتباتها كل أوراقه الخاصة. كما انكبّ د. أنيس على فهارس جريدة التايمز في الفترة 1904-1907 فوجد فيها آلاف الإشارات إلى المؤتمر الاستعماري الإمبريالي، ولكنه لم يجد شيئاً عن الوثيقة نفسها.

    وبعد عودته ”الفاشلة“ إلى بيروت أتيح له أن يعرف أن أول عربي أشار إلى وثيقة كامبل في كتاب منشور هو أنطون كنعان، فذهب إلى مصر حيث يقيم أنطون والتقى به بعد بحث وجهد، وفوجئ به يخبره أنه عندما سافر من فلسطين إلى لندن لدراسة القانون في أواسط الأربعينيات، التقى في الطائرة رجلاً هندياً كان يجلس إلى جانبه، وقال له إنه يتذكر أنه قرأ عن مؤتمر استعماري عُقد في لندن حضره مندوبون عن عدة دول استعمارية للتباحث في تقسيم البلاد العربية ومنع وحدتها وإقامة دولة يهودية؛ ولكن الهندي لم يزود كنعان بأي مادة علمية موثقة حول الوثيقة.

    وهكذا يعود د. أنيس محبطاً فلا الهندي ولا كنعان اطلعا على الوثيقة الأصلية، ولا يملكان توثيقاً علمياً لها!!! وبالتالي قرر د. أنيس منع استخدامها أو الاقتباس منها في الدراسات الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني. أما كاتب هذه السطور، فقد امتنع هو أيضاً عن استخدامها أو الاستدلال بها منذ أن لم يجد دليلاً عليها.

    ***

    وبعد هذا الاستعراض، يمكن أن نثبت بعض الملاحظات والنقاط:

    1- إن انعقاد مؤتمرات استعمارية إمبريالية في تلك الفترة كان أمراً صحيحاً وحقيقياً، وتوجد في الوثائق البريطانية مئات الملفات والوثائق والشواهد حولها. غير أن نص الوثيقة المسماة وثيقة كامبل بنرمان غير موجود بين هذه الوثائق.

    2- إن عدم حصولنا على وثيقة كامبل لا يثبت بالضرورة أنها غير موجودة بالصيغة نفسها أو بأي صيغٍ مشابهة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع الادعاء بوجود شيء لم يثبت وجوده بشكل قاطع.

    3- إن عدم وجود الوثيقة بين أيدينا يُفقدنا القدرة -من الناحية العلمية الموضوعية ووفق مناهج البحث العلمي- على استخدامها وثيقةً مرجعيةً، خصوصاً لما تتميز به من حساسية وخطورة. كما أن النتائج التي توصل إليها د. أنيس -بعد بحثه المضني- تشكك بشكل جدّي في حقيقتها.

    4- وفق متابعات كاتب هذه السطور في الأرشيف البريطاني طوال سنوات، وبناء على استفساراته من موظفي الأرشيف المعنيين بمساعدة الباحثين؛ اتضح أنه يتم تقسيم الوثائق البريطانية إلى أقسام:

    • قسم يتم نشره، حيث يُنشر معظمه بعد ثلاثين سنة، ويؤجل بعضه إلى خمسين أو خمسة وسبعين أو حتى مئة سنة.
    • وقسم يُحفظ دون قرار بنشره.
    • وقسم يتم إتلافه.

    وهذا يعني أن ثمة عملية غربلة متأنية مسبقة تتم للوثائق، تراعَى فيها المصالح العليا للدولة وأسرارها الخطيرة، وانعكاسات نشر الوثائق على الدول والمؤسسات والأفراد، وعلى الحلفاء والأعداء. وهذا قد يسمح باستنتاج أن ثمة وثائق يتم إخفاؤها أو إتلافها إذا كانت -حسبما يرى المعنيون- تضر بمصالح الدولة أو تتسبب في إدانتها.

    5- إن الاستعمار البريطاني والقوى الاستعمارية هي بشكل عام من الذكاء والخبرة والحذر بحيث لا تضع وثائق كهذه -إن وجدت- بين أيدي الباحثين، بسبب ما تتضمنه من أدلة إدانة قاطعة. وفي بعض الأحيان يكون هذا النوع من التوجهات والتوجيهات والقرارات شفوياً أو غير مكتوب في نصوص موثقة، أو غير قابل للنشر والتداول، كما تفعل دول عديدة في وقتنا المعاصر.

    6- لعل مسار الأحداث على الأرض يدعم مضمون وثيقة كامبل، لكنه لا يكفي لإثبات صحتها من ناحية علمية. فقد تمّ إصدار ”وعد بلفور“ سنة 1917، وأصرَّت بريطانيا على أن تتولى بنفسها رعاية ونمو وتطور المشروع الصهيوني في فلسطين وإنشاء دولة يهودية، وقمعت إرادة الشعب الفلسطيني وسحقت ثوراته طوال ثلاثين عاماً (1917-1948) إلى أن اكتملت البنى التحتية ”للدولة اليهودية“ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.

    وتشكَّل في سنة 1948 كيانٌ صهيوني (إسرائيل) في قلب الأمة العربية والإسلامية، وهو كيان -من الناحية العملية على الأقل- يرتبط شرط بقائه وازدهاره بضعف وانقسام وتخلّف ما حوله، لأن المشاريع النهضوية الوحدوية الحقيقية التي تعبِّر عن إرادة شعوب المنطقة والأمة، هي بطبيعتها معادية وتُشكّل خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني، الذي اغتصب قلب المنطقة العربية والإسلامية (فلسطين) وشرَّد أهلها.

    7- إن ثمة وثائق وكتابات تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان المدَّعاة؛ فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن سنة 1902، قال له هرتزل: إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون ”دولة حاجزة“ بحيث تؤمن المصالح البريطانية.

    فقد كانت الحركة الصهيونية تدرك أن مشروعها لن يكتب له النجاح إلا برعاية دولة كبرى وحمايتها، وكان عليها أن تعرضه في ضوء المصالح التي يمكن أن تجنيها القوى الكبرى.

    وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ظهرت كتابات لشخصيات بريطانية غير يهودية مثل تشارلز سكوت C. Scott (رئيس تحرير جريدة مانشستر غاردين) وهربرت سايدبوتام H. Sidebotham الذي كانت لمقالاته شهرة واسعة، ودعا إلى إيجاد دولة حاجزة في فلسطين مدَّعياً أن العنصر الوحيد المناسب لإقامتها هو اليهود.

    وبشكل عام؛ فإن العامل الإستراتيجي كان سبباً رئيسياً في ذهن من اتخذوا قرار إصدار ”وعد بلفور“ (كنقطة اتصال ومواصلات، وكمنطقة حاجزة، وكقاعدة متقدمة…)، ونجد مثل هذه الإشارات الاستراتيجية في تصريحات لويد جورج رئيس الوزراء، واللورد كيرزون (الذي خلف بلفور في منصبه)… وغيرهم.

    كما أن هربرت صمويل -اليهودي الصهيوني والوزير في الحكومة البريطانية التي كان يرأسها أسكويث H. Asquith- قدَّم مذكرة سرية للحكومة البريطانية في يناير/كانون الثاني 1915، طالب فيها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان لليهود ليصبحوا أغلبية السكان، مشيراً إلى المزايا الإستراتيجية للسيطرة على فلسطين.

    8- وأخيراً، فإن ”وثيقة كامبل بنرمان“ لا يصلح الاستشهاد بها علمياً ولا إعلامياً إلى أن توجد أدلة قاطعة عليها، وما يترتب على استخدامها من أضرار تمس المصداقية والموضوعية، وتفتح المجال للخصوم والأعداء للطعن والاستهزاء والإساءة، والإضرار بجوانب القوة الأخرى التي يملكها الباحثون المؤيدون للقضية الفلسطينية؛ هي أضرار أكبر من النفع التعبوي والإعلامي الذي قد يسعى إليه البعض بحسن نية.

    خصوصاً أن هناك قدراً كبيراً من الوثائق والممارسات الاستعمارية الفعلية على الأرض تكشف مدى الدعم الاستعماري المقدم للمشروع الصهيوني، ومحاولة قطع الطريق على المشاريع النهضوية والوحدوية في المنطقة.

    وبذلك، تنضم وثيقة كامبل إلى ”بروتوكولات حكماء صهيون“ وما يُعرف بـ”وعد نابليون 1798“ والتي لم تثبت أيضاً…، وما زالت تُستخدم في الأدبيات العربية والإسلامية دونما أدلة قاطعة على وجودها. وتبقى معايير المصداقية والموضوعية والتثبّت والتّبيُّن وموازين الجرح والتعديل -التي اشتهر بها المسلمون- أفضل ”رأس مال“ في التعامل مع معلومات أو تقارير كهذه.

    المصدر: الجزيرة نت، الدوحة، 12/9/2017