• المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج وقفة مراجعة وتقييم

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    تمر هذه الأيام ذكرى مرور عامين على إطلاق “المؤتمر الشعبي لفلسطينيي الخارج” الذي شارك في تأسيسه نحو ستة آلاف فلسطيني، جاؤوا من مختلف بقاع العالم إلى إسطنبول، حيث اجتمعوا في 25/2/2017؛ مؤكدين على الارتباط المقدس لنحو ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني بفلسطين، ومعبرين عن تطلعات الشعب الفلسطيني في الخارج في تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، وفي عودة اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم التي أخرجوا منها.

    سعى القائمون على المؤتمر الشعبي إلى إنشاء هيئة شعبية مدنية مستقلة، غير حزبية، تقوم بتحشيد واستيعاب وتأطير مختلف قوى وشرائح الشعب الفلسطيني، وتطلق طاقاتهم بشكل منظم فعال في كافة جوانب العمل الشعبي، وبما يسهم في إيجاد بيئة صحية ناضجة تشارك في مجالات العمل الوطني، وصناعة القرار الفلسطيني، وتدعم صمود الشعب الفلسطيني في الداخل. وفي الوقت نفسه، فإنه وإن كان للمؤتمر مهمة سياسية فهو ليس حزباً سياسياً، ولا يخضع للمحاصصات والحسابات الحزبية، وليس لرموز وقيادات الفصائل حضور فيه، وإن كان المجال مفتوحاً للأشخاص من مختلف التوجهات أن يشاركوا كأفراد، دون أن يكونوا ممثلين لفصائلهم. والمؤتمر كذلك، وإن كان يسعى لخدمة الشعب الفلسطيني، إلاّ أنه ليس مجرد جمعية خيرية.

    وقد شكلت عملية إطلاق المؤتمر دفعة معنوية كبيرة للقائمين عليه، نظراً للمشاركة الواسعة ولنوعية الحضور المميزة التي شهدها المؤتمر. فألقيت في الافتتاح كلمات لشخصيات كان لها مواقعها في منظمة التحرير أو في السلطة الفلسطينية مثل عبد المحسن القطان، وأنيس فوزي قاسم، وسلمان أبو ستة، ومنير شفيق، وفؤاد بسيسو؛ بالإضافة إلى مشاركة مجموعة كبيرة من الشباب الفلسطيني الواعد.

    المؤتمر ضرورة وطنية:

    أجمع المشاركون على ضرورة إنشاء هذا المؤتمر في ظلّ تراجع وتدهور منظمة التحرير الفلسطينية وتعطّل مؤسساتها في الخارج، وغيابها طوال 25 عاماً عن فلسطينيي الخارج وهمومهم، وعدم تجديدها لِبُنَاها التشريعية والقيادية، وهيمنة فصيل واحد عليها، مع غياب أو تغييب قوى فاعلة وذات حضور شعبي واسع عن العمل والمشاركة في أطرها.

    كما لاحظوا من ناحية ثانية، حالة الضعف والانزواء التي تشهدها الاتحادات والنقابات الفلسطينية في الخارج وفشلها في تمثيل وتفعيل أبناء شعبها في مجال عملهم واختصاصهم.

    ومن ناحية ثالثة، نبهوا إلى خطورة المرحلة وما يحاك ضد قضية فلسطين، ومحاولة طي ملفها، وتضييع حقوق الشعب الفلسطيني والعبث بثوابته، وعلى رأسها حقه في تحرير كامل أرضه ومقدساته، وفي سيادته عليها، وحقه في العودة؛ وبالتالي ضرورة استنهاض وتحشيد كافة قوى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج مدعوماً بأمته العربية والإسلامية، وبأحرار العالم، لمواجهة المشروع الصهيوني، وكل المشاريع التي تستهدف تصفية قضيته.

    ولذلك، كان ثمة إدراك عميق بضرورة وأهمية استعادة فلسطينيي الخارج لدورهم الأساس في المشروع الوطني الفلسطيني، والحفاظ على الثوابت. ولم يكن ذلك جديداً ولا غريباً عن دورهم الرائد منذ نكبة 1948 وكارثة 1967. فإنشاء الفصائل الفلسطينية الرئيسية وقيادتها كانت على أيديهم، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها كانت على أيديهم كذلك، وقيادة المقاومة والعمل العسكري المقاوم، والمشروع الوطني الفلسطيني منذ 1948 وحتى 1993 كانت على أيديهم، وهو ما ينطبق على الاتحادات والنقابات الطلابية والمهنية والشبابية والنسائية. فحيثما كان الاحتلال الصهيوني يجثم على صدر الداخل الفلسطيني، ويمنع القدرة على العمل والمقاومة ويسحقها، كان الخارج يقوم بواجباته ومسؤولياته، فيتولى المبادرة، ويمدّ إخوانه وأهله في الداخل بعناصر الصمود والقوة والثبات.

    أما بعد اتفاقات أوسلو 1993، فإن قيادة المنظمة والسلطة الفلسطينية تتحمل وزر تغييب فلسطينيي الخارج، وتقزيم أدوارهم، وتعريض حقوقهم وثوابتهم للخطر والضياع.

    نجاحات… ولكن:

    خلال العامين الماضيين، وبالرغم من الصعوبات والعوائق وشحّ الإمكانات، نجح المؤتمر الشعبي في تجاوز العقدة التي صاحبت العديد من المبادرات المشابهة السابقة، والتي كانت تتبخر أو تذوي بُعيد قيامها بقليل؛ فتمكن المؤتمر من تشكيل هيئاته القيادية، ومن عقد هيئته العامة، ومن اعتماد نظامه الأساسي، ومن إعداد رؤيته وخطته الاستراتيجية لسنوات عشر قادمة، ومن تشكيل العديد من لجانه التي بدأت عملها على الأرض، ومن تنفيذ العديد من الفعاليات في لبنان وتركيا وقطر والأردن وغيرها. كما عقدت أمانته العامة نحو عشرة اجتماعات على مدى السنتين للمتابعة التنفيذية للبرامج والتصورات، ونمت بشكل عام أجواء إيجابية وصريحة وقاعدة فهم وعمل مشترك بين أعضائه، على اختلاف خلفياتهم السياسية والأيديولوجية.

    وهكذا، أثبت القائمون على المؤتمر جديتهم في العمل، واستعدادهم لتحمل الكثير من الصعاب، والعمل على تذليلها لإنجاح الفكرة ونموها واتساعها؛ وأخذ المؤتمر يثبت نفسه كرقم صعب في أوساط فلسطينيي الخارج.

    وفي المقابل، فيظهر أن ما تمّ إنجازه كان أقل من طموحات الكثيرين ممن شاركوا في إطلاق المؤتمر:

    – فما زالت العضوية في المؤتمر متواضعة، قياساً بأعداد الفلسطينيين في الخارج، وما زال نموها ضئيلاً.

    – وما زالت القدرة على تحقيق دور فاعل في الجاليات محدودة.

    – وما زال المؤتمر غير حاضر بقوة في أوساط الاتحادات والنقابات المهنية.

    – وما زال المؤتمر يُمثل حالة نخبوية، لم يتفاعل معها الجمهور الفلسطيني في الخارج بالشكل المطلوب.

    – وما زال هناك الكثير من الرموز والشخصيات والكفاءات الفلسطينية ممن لم تنضم للمؤتمر، أو تتردد في المشاركة الفاعلة فيه.

    – ولم ينجح المؤتمر حتى الآن في توفير التمويل والإمكانات الذاتية، التي تمكنه من تنفيذ برامجه على الأرض.

    صعوبات ومعوقات:

    وككل المشاريع الكبيرة التي تواجهها العقبات والصعوبات، فإن هناك أسباباً ذاتية وأخرى موضوعية تجعل المنجز دون طموح القائمين على المشروع.

    ومن الأسباب الذاتية أن هذا المشروع شاركت فيه شخصيات بخلفيات سياسية شتى، وجاؤوا من بيئات جغرافية متنوعة، ولديهم درجات متفاوتة من الرؤى والطموح، ودرجات متفاوتة من الاستعداد للعمل، ولديهم وجهات نظر متنوعة حول أولويات المرحلة وطرق الوصول إلى الأهداف. فهناك من يحاول تجميع الجهود باتجاه انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني وإعادة بناء منظمة التحرير، وهناك من يحاول تركيز الجهود باتجاه دعم الداخل الفلسطيني وانتفاضته لدحر الاحتلال؛ وهناك من يرى أولوية تفعيل الجاليات والنقابات والاتحادات المهنية، وتعبئة الشعب الفلسطيني في الخارج للحفاظ على الثوابت وعلى رأسها حقّ العودة؛ وهناك من يحاول المزج بين هذه النقاط. وقد انعكس ذلك على عملية بناء التصورات والخطط والمسارات، التي احتاجت وقتاً غير قصير من النقاش والتداول في أروقة الأمانة العامة والهيئة العامة للمؤتمر.

    ولعل حاجة المؤتمر، من ناحية ثانية، إلى مزيد من الرموز والشخصيات الفاعلة في أوساط الجاليات الفلسطينية تضاف إلى العوامل الذاتية. كما أن ضعف الإمكانات المالية وقلة المتفرغين لهذا العمل، تضاف إلى العوامل المعوِّقة لقدرة المؤتمر على الانطلاق والتوسع السريع.

    أما العوامل الموضوعية فلها تأثير كبير في عملية التعويق. ولعل أولها أن أعضاء المؤتمر منتشرون في الخارج في أرجاء الكرة الأرضية، من أستراليا إلى الأمريكيتين الجنوبية والشمالية. وبالرغم من توفر وسائل التواصل عبر الانترنت، إلا أن الكثير من القضايا التي تحتاج نقاشاً معمقاً خصوصاً في مرحلة التأسيس، تستدعي الحضور والاجتماع، وهو أمر يستهلك المال والجهد، ولا يمكن أن يتم إلا بضع مرات في السنة، وعلى مستوى الأمانة العامة.

    من ناحية ثانية، تقف قيادة منظمة التحرير (التي هي قيادة السلطة وحركة فتح) ضدّ المؤتمر، وتعمل جاهدة على تعطيله وإفشاله؛ بدل أن تجد فيه رافعة للمشروع الوطني، وأداة لتفعيل فلسطينيي الخارج، وللحفاظ على الثوابت. وعوضاً عن ذلك، ترى فيه خروجاً عن شرعيتها، وإحراجاً لها وللمسارات التي اختطتها، ودعماً للقوى السياسية المنافسة لها، وخصوصاً التيارات الداعمة للمقاومة ولـ”الإسلام السياسي” وتحديداً حماس.

     وبالرغم من أن أداء قيادة المنظمة البئيس في الخارج تسبب في فراغ هائل، وفي مخاطر مستقبلية كبرى على فلسطينيي الخارج؛ إلا أن هذه القيادة لا تريد أن تعمل… ولا يبدو أنها تريد لغيرها أن يعمل. ولذلك حاربته في إعلامها، وتواصلت مع العديد من الدول محذرة من المؤتمر وأنشطته، متهمة إياه بأنه يسعى إلى تشكيل بديل عنها؛ مع أن المؤتمر أكد في كل أدبياته أنه ليس بديلاً عن المنظمة، ولا يسعى أن يكون كذلك. وقد تسبب سلوك قيادة المنظمة في تعطيل انعقاد الهيئة العامة في إسطنبول في آذار/ مارس 2018، عندما قام الرئيس عباس بنفسه بالتواصل مع وزير الخارجية التركي لمنع انعقادها، كما تسبب في تعطيل عقده لمؤتمر موسع في بيروت. كما تسبب في التعامل الحذر مع المؤتمر من عدد من الدول التي لا ترغب في إغضاب قيادة المنظمة. ثم إن العديد من الشخصيات الفلسطينية ترددت في المشاركة في عضوية المؤتمر، نتيجة حملات التحريض والتشويه التي قامت بها قيادة المنظمة والسلطة.

    أما من الناحية الثالثة، فإن البيئة العربية الرسمية، وحيث يتواجد الثقل الشعبي الفلسطيني، هي بيئة ذات سقف سياسي منخفض وذات بيئة حريات منخفضة؛ وهي في الوقت نفسه بيئات تتعامل إما بخصومة أو بحذر مع التيارات المؤيدة للمقاومة أو تيارات “الإسلام السياسي”؛ وهي بيئات متساوقة مع مسارات التسوية السلمية، ولا ترغب في إغضاب قيادة فتح والمنظمة، كما لا ترغب في إغضاب الأمريكان. وبالتالي؛ فإن سقف عمل المؤتمر الشعبي يظل محدوداً في هذه البيئات، التي يعيش فيها أكثر من 80% من فلسطينيي الخارج. ويكون تفعيل الجاليات وإعادة تنظيم وتنشيط الاتحادات والنقابات، وأوجه النشاط السياسي والإعلامي والتعبوي محكومة بسقف النظام وشروطه. ومع ذلك، فإن هناك مجالات لعمل معقول، وإن بدرجات متفاوتة، في عدد من البلدان العربية كلبنان وقطر والكويت والأردن وفي بلدان إسلامية كتركيا وماليزيا، وفي معظم بلدان العالم الغربي.

    وتُعدُّ إشكالية التمويل وتوفير المال الكافي لإطلاق الأنشطة والفعاليات والوصول إلى الناس عقبة رابعة، تحول دون تنفيذ الكثير من الأفكار والبرامج. وهي من التحديات التي يجب على المؤتمر تجاوزها من خلال الوصول إلى رجال الأعمال الفلسطينيين المؤمنين بالفكرة، ومن خلال توسيع دائرة العضوية والاشتراك، ليتمكن المؤتمر من تغطية تكاليفه من خلال أنشطته.

    خلاصة:

    أما وقد مضى عامان على المؤتمر، وقد استقر بنيانه، ونضجت إلى حدّ كبير تصوراته ومساراته؛ فإن العمل الرتيب لم يعد كافياً، حتى لا يتسرب الإحباط والضعف في نفوس المشاركين. وآن الأوان لانطلاقة قوية ممنهجة، تتعامل بواقعية مع الحقائق على الأرض، ولكن لديها من الإرادة والطموح، والقدرة على المبادرة، وتحمل الأعباء ودفع التكاليف، بما يكفي لتجاوز العقبات، وتحقيق نتائج ملموسة، تكون حافزاً للكفاءات والخبرات والطاقات المذخورة في الشعب الفلسطيني للانضمام للمسيرة ودعمها. كما لا بدّ من طمأنة المتشككين والمترددين قولاً وعملاً، من أن هذا الإطار ذو أجندة وطنية خالصة، ومفتوح للجميع ومنفتح على الجميع، وليس بديلاً عن أحد، ولكنه إطار جامع لإطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الخارج والمحافظة على ثوابته.

    المصدر: هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في موقع ”TRT“ عربي ، 2019/2/15

    موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) – تركيا

  • مقال: السياسة الأمريكية في سوريا.. جدران الدم … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    مقدمة: 

    ناقشنا في مقال سابق السياسة الأمريكية في المنطقة وخصوصاً العراق. أما هذا المقال فيحاول تسليط الضوء على سياستها في سورية. إذ كانت هذه السياسة طوال السنوات الخمس الماضية معنية بإضعاف نظام الأسد، ولكنها لم تكن معنية بشكل جاد بإسقاطه، ولا بتحقيق تطلعات الشعب السوري، ولا حتى بحماية الشعب السوري… لقد كانت معنية بإدارة لعبة الإضعاف والتفكيك، من خلال الدفع باتجاه بيئات ترتفع فيها جدران الدم، لتنشأ سايكس بيكو اجتماعية طائفية عرقية، بغض النظر إن كان سيتبعها تغيير في حدود سياسية.

    وتدخل الادعاءات بأن التدخل الإيراني والروسي في سورية هو نتيجة الضعف الأمريكي وتراجع دور أمريكا في المنطقة، في إطار المبالغات التي تؤدي إلى استنتاجات خاطئة. كل ما هنالك أن هذه التدخلات تصب في نهاية المطاف في “الطاحونة الأمريكية”، ودون أن تكلف الأمريكان أعباء مالية أو عسكرية؛ وتسهم في إطالة أمد الصراع وإنهاك الأطراف المتنازعة في ظلّ عدم وجود رغبة أمريكية جادة في توقف الصراع أو إنهائه؛ بانتظار أن تنضج “الطبخة”، دون أن يكون ثمة مانع في أن تكون أطراف معادية أو منافسة لأمريكا حطباً يُبقي على اشتعال النار تحت هذه “الطبخة”.

      السياسة الأمريكية في سورية:

    وقريباً من الحالة العراقية، تتلخص السياسة الأمريكية في سورية في “ضبط إيقاع” الأحداث بشكل يسمح بــ:

    1. استمرار الصراع لأطول فترة ممكنة، بما يؤدي إلى ضرب النسيج الاجتماعي السوري وارتفاع جدران الدم بين مكوناته الطائفية والعرقية.

    2. استمرار الصراع بشكل مدمر، بما يؤدي إلى تدمير الاقتصاد والبنى التحتية ووسائل الإنتاج.

    3. استمرار الصراع بما يدمر الدولة المركزية والجيش المركزي، دون أن تحل مكانه قوة ثورية مركزية فاعلة، وبما يسمح بنشوء مليشيات وقوى طائفية وعرقية تسيطر على مساحات جغرافية محددة في ظلّ سلطة مركزية ضعيفة.

    4. ضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني في أي ترتيبات مستقبلية متعلقة بالمنطقة.

    ولذلك، فإن الولايات المتحدة لم تكن معنية بالتدخل المباشر، ولكن بـ”إدارة اللعبة”، والإشراف العام على سيرها، بما يضمن ويحفظ المسارات الكلية التي تصبُّ في مصلحتها وتخدم سياساتها، وهو أمر يتوافق مع عقلية الإدارة الديموقراطية لأوباما التي تركز على الوسائل “الناعمة”.

    بيئة التدخل الخارجي:

    منذ إسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003 واغتيال رفيق الحريري في لبنان 2005 والمحافظون الجدد متحمسون للضغط على سورية، للتخلي عن ورقة المقاومة، وللتساوق مع مسار التسوية السلمية. وقد كتب شارلز كراوثامر في مقال نشرته الواشنطن بوست في 1/4/2005 أن هناك محور شرٍّ جديد يتمثل في سورية وإيران وحماس وحزب الله والجهاد الإسلامي وأن “سورية هي الجائزة”؛ حيث إنه من السهل الضغط عليها. وادعى روبرت ساتلوف (المدير التنفيذي لمركز واشنطن لسياسة الشرق الأدنى) أن النظام السوري في وضع هشٍّ جداً، وأن على أمريكا أن تستغل ذلك. كما كتب دينيس روس وغيره كلاماً شبيهاً بذلك. غير أن الكتابات كانت تركز على ما هو مطلوب من سورية تجاه العراق ولبنان ومسار التسوية والمقاومة؛ وتفتقر للتركيز على الإصلاح وتطبيق الديموقراطية… أي أن الحديث كان منذ البداية مرتبطاً بالسعي لإعادة تشكيل المنطقة وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. وفي أيلول/ سبتمبر 2005 نقل نيكولاس بلاندفورد مراسل كريستيان سيانس مونيتور عن خبير دراسات الشرق الأوسط جون لانديس قوله “سوف يمسكون بخناق سورية، ويضغطون عليهم، ويهزوهم بعنف، حتى يروا ما الذي يمكن أن ينزل من جيوبهم”!!

    عبَّر الحراك الشعبي الواسع في سورية في ربيع 2011 عن إرادة حقيقية في التغيير؛ ولعدة أشهر ظلت الانتفاضة الشعبية تأخذ طابعاً مدنياً سلمياً… غير أن النظام السوري فضَّل الحل الأمني العنيف، مما أدى لاستشهاد نحو ستة آلاف سوري مع نهاية 2011… وهو وضع جرَّ إلى “عسكرة الثورة” ، بعد أن أغلقت الأبواب في وجه أي حراك ذي طبيعة مدنية، يمكن أن يؤدي إلى تغيير حقيقي نحو نظام ديموقراطي، يعبر تماماً عن الإرادة الشعبية.

    كانت عملية “عسكرة الثورة” عملاً محفوفاً بالمخاطر؛ غير أن النظام السوري وجد فيها أفضل خياراته المتاحة في مواجهة التغيير، إذ كان هذا الخيار سيتيح له قمع الحراك الشعبي، ومحاصرة البؤر الثورية وعزلها عن بُعدها الجماهيري؛ كما أن لجوء جانب من المعارضة للخيار العسكري سيتيح للنظام اللعب في المنطقة التي يجيدها، حيث لا تملك المعارضة إمكانات عسكرية في مواجهته؛ وهو من جهة ثالثة سيستخدم آلته الإعلامية في وصف المعارضة العسكرية بالتطرف والإرهاب، وبالتالي سيحاول تقديم نفسه في صف واحد مع المعسكر المحارب للإرهاب… بما يتوافق مع المخاوف والرغبات الغربية؛ وبما “يُشرعن” قمعه للحراك الشعبي الثوري في أعين الآخرين.

    غير أن مثل هذا العمل لم يأخذ في حسبانه أنه مثلما أجاز لنفسه استخدام القوة العسكرية، ومثلما أجاز لنفسه الاستعانة بقوى خارجية إقليمية ودولية؛ فإن هذا الحراك الشعبي عندما يكون قوياً وواسعاً لن ينزوي في البيوت، وإنما ستتحول أطراف منه إلى الثورة المسلحة، وهو ما سيضطرها لاستجلاب الدعم الخارجي السياسي والعسكري…

    وهكذا، فقد فتح إصرار النظام على قمع الثورة، وإصرار الثورة على إسقاط النظام… فرصة هائلة للتدخل الخارجي، زادت مع الزمن، مع تحول الصراع إلى حرب استنزاف منهكة للطرفين. وهذا أعطى فرصة ذهبية للأمريكان لمحاولة الدخول كلاعب كبير في الصراع الداخلي السوري… بل كـ”مايسترو” يتحكم بالمسار الكلي للعبة.

    سياسات وإجراءات أمريكية:

    وحتى تنفذ الإدارة الأمريكية سياستها، فقد قامت من ناحية أولى بدعم قوى المعارضة في المطالبة بإسقاط الأسد، وغضت الطرف عن تسليح المعارضة وقيامها بالسيطرة على أجزاء من سورية، ووضع النظام في مرحلة صعبة، لكنها لم تسمح إطلاقاً بتسليح المعارضة بأسلحة نوعية تؤدي لهزيمة النظام أو لإسقاطه، ومنعت الدول الداعمة للمعارضة (كقطر والسعودية وتركيا) من توفير هذا السلاح، حتى لو توفر التمويل اللازم لذلك.

    ومن ناحية ثانية، سكتت أمريكا عن التدخل الإقليمي لدعم النظام السوري (إيران وحزب الله…)، وغضت الطرف عن تدفق السلاح والمقاتلين الداعمين للنظام (خصوصاً وأنه يعطي للصراع طبيعة مذهبية طائفية، في أعين قطاعات شعبية واسعة، ويتوافق مع الرغبات الأمريكية في توريط وإنهاك إيران وقوى “المقاومة والممانعة”، وحرف بوصلتها، واستعداء شعوب المنطقة ضدها، وإظهارها كمُعادٍ وقامع لتطلعات الشعوب)؛ بحيث يتمكن النظام من البقاء، وأخذ زمام المبادرة والتوسع؛ ثم يتبع ذلك سماح أمريكا بتدفق السلاح للمعارضة لاسترداد المواقع التي خسرتها… بحيث تتواصل حالة الشعور لدى كلا الطرفين بإمكانية الانتصار والحسم العسكري للمعركة، وبالتالي تستمر عملية التدمير والقتل والإنهاك المتبادل. وهذا مشهد بات مألوفاً ومتكرراً في الحالة السورية.

    وقد أدت هذه السياسة إلى معاناة هائلة للشعب السوري وللأطراف المتصارعة. فقد بلغ عدد الضحايا، خلال نحو خمس سنوات وشهرين (حتى 25/5/2016) إلى نحو 282 ألف سوري، وأُصيب نحو مليونين بجراح، وتمّ تشريد نحو 11 مليوناً. مع الإشارة إلى أن الخسائر البشرية في القوات العسكرية للنظام والمليشيات الموالية بلغت أكثر من مائة ألف.

    ومن ناحية ثالثة، فبالرغم من تباكي أمريكا على الحالة الإنسانية، فقد رفضت إعلان سورية منطقة حظر لطيران النظام (ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان)، وتركت المجال واسعاً وآمناً لهذا الطيران لقصف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة؛ في الوقت الذي منعت فيه وصول أسلحة نوعية مضادة للطيران لقوى المعارضة. ولم يكن ذلك أمراً صعباً ولا مكلفاً على الأمريكان، الذين وفروا حظراً جوياً على طائرات النظام العراقي في شمال العراق لحماية الأكراد منذ سنة 1991؛ والذين وفروا هذه الحماية أيضاً في أثناء عملية إسقاط النظام الليبي. وبحسب اللجنة السورية لحقوق الإنسان فإن سنة 2015 لوحدها شهدت 619 مجزرة من بينها 413 ارتكبها طيران النظام السوري و79 ارتكبها الطيران الروسي.

    ومن ناحية رابعة، فقد تعمدت الولايات المتحدة إفشال إنشاء المنطقة الآمنة في شمال سورية على الحدود مع تركيا، والتي كانت ستخفف كثيراً من معاناة مئات الآلاف من المهجرين السوريين، وتوفر ملاذاً للمعارضة السورية. بالرغم من أن ذلك لم يكن أمراً مكلفاً للأمريكان، إذ كان أصدقاؤهم الأتراك والسعوديون والقطريون سيتولون تكاليفه المادية والعسكرية. مع ملاحظة أن أمريكا وفرت “عملياً” هذا النوع من الحماية للقوات الكردية السورية (وحدات حماية الشعب) التي تمكنت من مدِّ نفوذها على مناطق واسعة في الشمال السوري، بما يكرس الهيمنة العرقية لأحد مكونات الشعب السوري دون غيره من قوى المعارضة؛ وبما يتوافق مع فكرة الإضعاف والتقسيم ورفع الجدران الطائفية والعرقية التي تتبناها الإدارة الأمريكية.

    ومن ناحية خامسة، فإن الولايات المتحدة التي كانت قد تحمست للتدخل لحماية المدنيين السوريين بعد ظهور تقارير عن استخدام النظام السوري لغاز السارين الذي أدى لقتل 1,400 مدني في الغوطة في صيف 2013، قد تراجعت دون أسباب واضحة عن مهاجمة النظام السوري. وقد اعتبر جيفري غولدبيرغ في المقال الذي نشر في مجلة ذا أتلانتيك في نيسان/ أبريل 2016 أن يوم 30/8/2013 هو اليوم الذي طوى فيه أوباما حكم أمريكا للعالم، عندما قرر عدم ضرب سورية؛ مكرساً ما عُرف بـ”عقيدة أوباما” بأن التدخل الأمريكي يكون فقط لحماية الأمن القومي الأمريكي، وأن ما لا يُحلُّ بالتفاوض لا يُحلُّ بالقوة، وأنه لا ينبغي تعريض الجنود الأمريكيين للخطر، وفق مبدأ “مسؤولية الحماية” للحؤول دون كوارث إنسانية.

    هذا المقال الذي جرى تسويقه على نطاق واسع، باعتباره مُعَبِّراً عن استراتيجية الإدارة الأمريكية وتراجع دورها العالمي، يحمل الكثير من التضليل فيما يتعلق بالشأن السوري. إذ إن استخدام الصواريخ المنطلقة من حاملات الطائرات الأمريكية أو الطائرات العسكرية الأمريكية المتقدمة لم تكن تحمل مخاطر تذكر على أمن الجنود الأمريكيين. وفي المقابل فإن الطيران الأمريكي له الدور الرئيسي في مهاجمة معاقل داعش، وفي دعم القوات الكردية في سورية. كما أن الأمريكان لديهم نحو  4,600 جندي أمريكي في العراق، يشاركون بغطاء جوي أمريكي في مهاجمة مناطق نفوذ داعش هناك. بمعنى أن الأمر لم يكن متعلقاً بتغير في الاستراتيجية الأمريكية، بقدر ما أنه لم تكن هناك رغبة أمريكية في التدخل في سورية، ما دام سياق الأحداث يصبُّ في المسارات التي ترغبها.

    ولذلك فقد اكتفت أمريكا في موضوع الأسلحة الكيماوية بحلٍّ يخدم استراتيجية إضعاف سورية، كما يخدم الكيان الإسرائيلي، ويتلخص في موافقة النظام السوري على التخلص من أسلحته الكيماوية. ولكنه حلٌّ يترك للنظام السوري حرية الاستمرار في حربه ضدّ المعارضة براً وبحراً وجواً؛ ولا يأبه إن كان المدنيون السوريون سيقتلون بأي وسائل أخرى. وبالتالي، فإن النظام السوري قتل بالأسلحة العادية عشرات أضعاف ما قتله بالكيماوي. ووفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد بلغ عدد الضحايا المدنيين على أيدي النظام خلال السنوات الخمس الأولى للصراع نحو 184 ألفاً، بينما قتل من المدنيين على يد فصائل المعارضة نحو ثلاثة آلاف وعلى يد داعش ألفان ومئتان.

    من ناحية سادسة، فإن التدخل الروسي لصالح النظام السوري لم يكن ليتم لولا عدم الممانعة الأمريكية لذلك. وهو تدخل لم يُفرض فرضاً على الأمريكان. إذ لا مانع لدى الأمريكان من انزلاق الروس في المستنقع السوري، ولا مانع لديهم من أن يعيد الروس الكفة لصالح النظام، ويقوموا بضرب المعارضة طالما أن هذه المعارضة لم تنضبط مع المعايير الأمريكية، سواء في هويتها الإسلامية والوطنية أم في سقف تطلعاتها في التغيير.

    وقد أنقذ التدخل الروسي النظام السوري من حالة تراجع متسارعة شهدها في ربيع وصيف 2015… وبالتالي أدى إلى العودة إلى حالة النزيف المتبادل بين الجانبين، التي يرغب الأمريكان باستمرارها. كما أن التدخل الروسي أضعف من النفوذ الإيراني على النظام السوري وعلى مجريات الأحداث، وإن بدا وكأنه تخفيف للعبء الإيراني في سورية. بالإضافة إلى أن هذا التدخل خدم الأمريكان ضمناً، لأنه أسهم في توسيع حالة الغضب والعداء ضدّ الروس لدى معظم شعوب المنطقة. ثم إن التفاهم الأمريكي مع الروس بشأن مستقبل سورية وفق ترتيبات استراتيجية وبراجماتية بين الطرفين، بحيث يحصل الروس على نصيب مقبول من الأمريكان من الكعكة، يظل أسهل بالنسبة للأمريكان من التفاهم المباشر مع الإيرانيين أو النظام السوري. وقد ظهر من التدخل الروسي أن معظم هجماته استهدفت قوى معارضة غير داعش، بخلاف السبب المعلن للتدخل الروسي، كما أنه دمر مستشفيات ومدارس ومخابز ومرافق حياة مدنية، وقتلت طائراته في سبعة أشهر (حتى 30/4/2016) حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان 5,800 بينهم 2,005 مدنيين من ضمنهم 800 طفل.

    وقد عكست زيارة رئيس وزراء العدو الإسرائيلي نتنياهو لموسكو في 7/6/2016 مؤشراً واضحاً على أن التدخل الروسي لن يمس بحجر الأساس للسياسة الأمريكية في المنطقة وهو “إسرائيل وأمنها”. وكانت الهدية التي سلمها الروس لنتنياهو، وهي دبابة إسرائيلية من نوع باتون 48 غنمها السوريون سنة 1982 في معركة السلطان يعقوب من الإسرائيليين؛ ذات دلالة بالغة. إذ تؤكد على التأثير الروسي على صانع القرار السوري، كما تؤكد على الطمأنة الروسية للإسرائيليين بشأن الدور الروسي في سورية. وهذا ما جعل نتنياهو يقول قبيل الزيارة “إن تعزيز العلاقات مع روسيا هو عامل الأمن القوي الحاسم، الذي أنقذ الدولة اليهودية من مواجهة على الحدود الشمالية للبلاد…”. وقد أظهرت الأحداث أن الروس ينسقون بشكل كامل مع الإسرائيليين بشأن طلعاتهم الجوية في المناطق المحاذية للاحتلال الإسرائيلي.

    من ناحية سابعة، فإن الأمريكان تساوقوا مع الفكرة التي يروجها النظام السوري وحلفاؤه من أنه يحارب “الإرهاب” و”التكفيريين”…، وبدا وكأن المشكلة في سورية في جوهرها “محاربةً لـلإرهاب” وليس “ثورةً” للشعب السوري. واختار الأمريكان أن تنصبَّ جهودهم العسكرية المعلنة على حرب داعش والنصرة، واشترطوا لتسليح وتدريب فصائل المعارضة أن تقاتل داعش وليس النظام السوري. غير أن ثمة معطيات تحتاج إلى استيضاح، أبرزها أن المتضرر الأكبر من تمدد “داعش” لم يكن النظام السوري وإنما قوى المعارضة، التي تمدد داعش في معظم الأحيان على حسابها، وأنهكها في معارك استنزاف دموية واسعة. كما أن النظام السوري كان المستفيد الأكبر من رسم صورة المعارضة في شكل داعشي تكفيري متطرف، ليبرر بقاءه وليبرر ممارساته، ليس في قمع داعش فقط وإنما بشكل أساسي في قمع الثورة السورية بكافة فصائلها المعتدلة الإسلامية والوطنية. ولعل إفراج النظام السوري عن مئات المتطرفين الإسلاميين في بداية الثورة السورية، يعطي مؤشراً على رغبة النظام في وجود أمثال هؤلاء في أوساط المعارضة لتشويهها أو لحرف بوصلتها.

    ولعل تقييم “داعش” ودوره يحتاج إلى دراسة خاصة. أما كيف تمكن داعش من السيطرة على مساحات واسعة من الأرض السورية وبسرعة مذهلة، وتحت سمع وبصر أمريكا والنظام السوري وحلفائه. ولماذا تعلن أمريكا بكل ما تملك من جبروت عسكري (والتي احتلت العراق في ثلاثة أسابيع) أنها بحاجة لسنوات لمحاربة هذا التنظيم؟ فيستحق وقفة خاصة. فقد تحدث جيمس تيري James Terry  قائد الحملة العسكرية الأمريكية على داعش في كانون الأول/ ديسمبر 2014 عن الحاجة لثلاث سنوات على الأقل ليتمكن التحالف من بلوغ نقطة التحول ضدّ داعش. أما وزير الخارجية جون كيري فتحدث في حزيران/ يونيو 2015 عن الحاجة من ثلاث إلى خمس سنوات لهزيمة داعش. أما ليون بانيتا وزير الدفاع السابق في حكومة أوباما فقد ذكر في تصريح، لا يخلو من مبالغة متعمدة، لجريدة يو أس إيه تودي في 6/10/2014 أنه يتوقع أن تستمر الحرب على داعش ثلاثين عاماً وفق الطريقة التي تعتمدها إدارة أوباما.

    هذا يعني أن أمريكا تريد الإبقاء على “فزاعة” داعش لأطول فترة ممكنة، للوصول للوضع الذي تريد، لأن حالة التطرف التي يمثلها داعش تعطي وَصفة مثالية للتموضع الطائفي والعرقي وارتفاع جدران الدم والكراهية، التي تصب طريقة عمل داعش مباشرة في طاحونتها. فـ”الإرهاب السني”؟! (حسبما يريدون تقديمه، وليس الثورة الشعبية السورية) سيقابله تموضعات علوية وشيعية ودرزية ومسيحية، كما سيتيح المجال للتموضع العرقي الكردي. أما وجود ثورة سورية شعبية تملك رؤية حضارية ونهضوية، فإنها لن تكون بديلاً مقبولاً للنظام السوري، لأنها ستفسد على الأمريكان رغبتهم في إضعاف المنطقة وإنهاكها. ولذلك فإن محاربة داعش ستبقى شعاراً يملأ الأجواء ويشغل السياسة والإعلام، بانتظار إنهاك وإضعاف المكون الشعبي الأوسع للحراك والتغيير في المنطقة (والذي تتحرك داعش في أحشائه) وهو “المكوِّن السني”.

    من ناحية ثامنة، فإن هناك رغبة أمريكية في استمرار الضغط على نظام الأسد بغرض إنهاكه وتطويعه، بما يخدم تخليه عن برامج وشعارات المقاومة، ويدخله في منظومة التسوية السلمية وفي محور “الاعتدال” والتطبيع مع الكيان الصهيوني. وفي الوقت نفسه، فإن أمريكا و”إسرائيل” تقدران عالياً هدوء الجبهة مع سورية طوال السنوات الأربعين الماضية، وعدم رغبة النظام السوري في الدخول في صراع مباشر مع الكيان الإسرائيلي. ولذلك، فثمة إجماع أمريكي إسرائيلي بعدم الرغبة في إسقاط النظام أو تغييره (خصوصاً مع استناده إلى أقلية طائفية)، حتى ولو بقوى علمانية ديموقراطية ليبرالية، إلا إذا كان ذلك يضمن مزيداً من النفوذ الإسرائيلي الأمريكي. ولأن الخط العام لقوى المعارضة السورية لا يقل تشدداً تجاه “إسرائيل” عن موقف نظام الأسد… فإن بقاء النظام (ولو من دون شخص الأسد) يظل خياراً مفضلاً.

    من ناحية تاسعة، فإن الولايات المتحدة ترى في وجود نظام سياسي في سورية يستند في جوهره إلى أقلية طائفية، أو إلى نظام شمولي، فرصةً أفضل لتعريضه للضغط وابتزاز المكاسب منه، لعدم استناده على قاعدة شعبية واسعة أو على أسس حكم راسخة، يحتمي بها عند تعرضه للضغط الخارجي. ولذلك فلن تبدو متحمسة لوجود نظام ديموقراطي حقيقي يعبر عن الإرادة الشعبية، لأن الإرادة الحقيقية للشعوب ستُمثل خطراً على مصالحها في المنطقة، وستسعى أمريكا لتعطيل هذا المسار أو إضعاف دوره، بحجة حماية الأقليات وضمان أدوارها في السياسة وصناعة القرار… .

    سياسة أمريكية غير معلنة:

    إنّ جزءاً كبيراً من السياسة الأمريكية في سورية لا يظهر بشكل معلن. وقد تسبب ذلك في إظهار الولايات المتحدة وكأنها طرف ضعيف فاقد للاتجاه. ولعل الإدارة الأمريكية فضّلت هذه الصورة السيئة، في سبيل ألا تُصرِّح بسياستها الرسمية الفعلية. ولذلك فقد ظهر كلٌّ من وزير الدفاع آشتون كارتر Ashton Carter ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دنفورد  Joseph Dunford في حالة بئيسة ومرتبكة ومزرية في جلسة الاستماع التي عقدتها لجنة الدفاع في الكونجرس الأمريكي في 27/10/2015… ولم يجدا إجابات منطقية لأسئلة السيناتور ليندسي جراهام Lindsey Graham.

    فقد كانت لديهما إجابات محددة حول دعم مقاتلين سوريين لضرب داعش، لكنهما كانا مرتبكين تماماً عندما تعلق الأمر بدعم المعارضة لإسقاط النظام أو تغييره… ولذلك علق جراهام في نهاية كلمته قائلاً:

    إذا كنت مكان الأسد، فهذا يوم جيد بالنسبة لي، لأن أمريكا قالت دون تصريح أنها لن تقاتل لتغييري؛ وهذا يوم جيد لحلفاء الأسد، لأنه ليس عليه تهديد عسكري حقيقي. ما فعلتما أنكما بالتوافق مع الرئيس [أوباما] أخبرتم الشعب السوري الذي مات بمئات الآلاف “نحن قلقون أكثر بشأن استقرارنا السياسي من الذي قد يأتي”. كل ما يمكنني قوله أن هذا يوم تعيس لأمريكا، وأن المنطقة ستدفع ثمن هذا الجحيم؛ لأن العرب لن يقبلوا بذلك، والشعب في سورية لن يقبل بذلك. هذه استراتيجية حمقاء على أفضل تقدير.

    مساران للحلول:

    القراءة المتأنية للسلوك السياسي والعملي الأمريكي، وخلاصة الدراسات الصادرة عن مراكز الدراسات والكتَّاب والمؤثرين في صناعة القرار تصبُّ في اتجاهين:

    الأول: بقاء الدولة السورية بحدودها الرسمية، مع نشوء نظام سياسي ضعيف، لا يستطيع التعامل مع المشاكل والصراعات الداخلية، حيث ترتفع جدران الدم الطائفية والعرقية، وحيث تسيطر القوى المحلية على مناطقها؛ ويكون في الوقت نفسه لديه من القوة ما يكفي للحفاظ على أمن واستقرار الحدود الخارجية، خصوصاً مع الكيان الإسرائيلي.

    هذا النظام سيكون أشبه بالحالة اللبنانية والعراقية، وسيكون دوره أقرب إلى “طفاية حرائق” محلية، دون أن يمتلك مقومات النهوض والاستقرار والتنمية والقوة، بينما ستستعين القوى الطائفية والعرقية المحلية بقوى إقليمية ودولية، للحفاظ على مكاسبها ولمنع “تغوُّل” النظام عليها.

    الثاني: تقسيم سورية إلى دويلات: علوية وسنية ودرزية وكردية تنشأ على أنقاض الدولة السورية؛ وهو تقسيم لا يكتفي بجدران الدم الاجتماعية، وإنما يسعى لإعطائها شرعيات وحدوداً سياسية.
    ولعل الاتجاه الغالب حتى هذه اللحظة هو الاتجاه الأول، خصوصاً مع وجود مخاوف حقيقية من أن نشوء دويلات ضعيفة سيُسهّل على ما يُسمى القوى “المتطرفة” النفاذ عبر الحدود وإشعال العمل المقاوم ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما أن الكيانات الضعيفة ستدفع بشكل أقوى أصحاب المشاريع النهضوية والوحدوية لتقديم مشاريعهم بشكل أكثر جدية وحيوية. ثم إن هذه التقسيمات ستثير مخاوف دول إقليمية كبيرة لديها أقلياتها المتحفزة كما في إيران وتركيا.

    ومع ذلك، يبقى خيار التقسيم خياراً مفضلاً لدى أمثال المستشرق الشهير برنارد لويس وتلاميذه المنبثِّين بين “المحافظين الجدد” واليمين الديني المتطرف… والذين يرون أن هذا التقسيم يجعل من الكيان الصهيوني بهويته اليهودية كياناً طبيعياً وسط كيانات قائمة على هويات طائفية وعرقية. وهو ما يتوافق مع ما دعا إليه الخبير السياسي الأمريكي ذو الأصل الهندي باراج خانا Parag Khanna في 13/1/2011 عندما نشر مقالاً في أحد أهم المجلات الأمريكية والعالمية وهي الفورين بوليسي Foreign Policy دعا فيه “أن تُنفذ كل الانقسامات القادمة بالترافق مع تطبيق مزيج من سياسة المشرط والفأس، أي بالمرونة والقسوة معاً، وفوق كل ذلك، يجب أن يدرك العالم أنّ هذه الانقسامات لا مفر منها”.  وكذلك عما كتبه خانا بالاشتراك مع فرانك جاكوبس ونشر في النيويورك تايمز في 22/9/2012، حيث توقعا، بالنسبة لسورية، إما نموذجاً كالنموذج اللبناني حيث يتم تفريغ السطة المركزية من محتواها، أو العودة للشكل الذي فرضه الاستعمار الفرنسي بإيجاد دويلات منفصلة واحدة علوية وثانية درزية، ودُويلتي مدن في كلٍّ من دمشق وحلب (بأغلبيتين سُنِّيتين)؛ غير أنهما لم يشيرا إلى مصير المناطق ذات الكثافة الكردية في شمال شرق سورية، وإن كانا قد دعما إنشاء دولة كردية في شمال العراق. كما دعوا إلى إعادة تشكيل خرائط  إيران وأفغانستان وباكستان من خلال إنشاء باشتونستان وبلوشستان وأذربيجان الكبرى.

    وبشكل عام، تبدو الحلول التي يتجه إليها الأمريكان للأزمة السورية متوافقة مع مسارات الإضعاف والتقسيم الداخلي. وهي حلول تتوافق إلى حدٍّ ما مع الاقتراح الروسي بالحلّ الفيدرالي في سورية. وبحسب جوناثان ستيفنسون في مقاله المنشور في نيويورك تايمز في 19/3/2016 (ونشرت الحياة ترجمته في 23/3/2016) فقد ألمح وزير الخارجية الأمريكي كيري أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ أن التقسيم قد يكون هو الخطة ب Plan B إذا أخفقت المفاوضات السياسية. وتحدث ستيفنسون عن رواج فكرة “مركز قرار رخو، وصلاحيات واسعة للمناطق” لدى المعنيين بصناعة القرار. كما ألمح جون يرينان John Brennan، مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، إلى احتمال سيطرة بعض من وصفها بالجماعات الأيديولوجية على مناطق مستقلة من سورية، في كلمة ألقاها الجمعة 29/7/2016 في منتدى أسبين الأمني السنوي.

    وتصب طروحات مركز راند للدراسات (الذي يعد أحد أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة) في الاتجاه نفسه، فقد نشر دراسة في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وحدثها في حزيران/ يونيو 2016، بعنوان خطة سلام لسورية A Peace Plan for Syria تجعل الأولوية لوقف إطلاق النار، وتقسيم سورية إلى أربع مناطق، بحيث تكون هناك منطقة تحت نفوذ النظام الحالي، وثانية تحت نفوذ المعارضة، وثالثة تحت نفوذ الأكراد. أما الرابعة فيتم التعامل معها دولياً باعتبارها تحت نفوذ داعش. وتركز الفكرة على ضمانات دولية ودورٍ خارجي، وإطلاق نقاش “طويل” لتحديد سورية المستقبل. مع التأكيد على فكرة الحكم اللا مركزي ضمن الدولة الديموقراطية الواحدة. وتحاول هذه الدراسة “عملياً” إعطاء الأولوية لوقف القتال، وتوجيه الجهود نحو محاربة داعش أو الـ”التطرف”… وتجعل إسقاط النظام… أو إنشاء نظام ديموقراطي حقيقي أمراً مؤجلاً على المدى الطويل.

    خاتمة:

    أياً تكن قوة الولايات المتحدة وعظمتها، فإنها ليست القدر، وهي لا تستطيع فرض إرادتها على الشعوب التي تسعى للاستقلال، وبناء نموذجها الحضاري بعيداً عن الهيمنة الغربية.

    ولذلك، فإن المطلوب سورياً وعراقياً وعربياً وإسلامياً، التأكيد على حرية الشعوب وحقها في إقامة الأنظمة السياسية التي تعبر عن إرادتها، والتعاون على تأسيس مشروع نهضوي حضاري يسع الجميع، ويواجه الانقسامات الطائفية والعرقية، والتكاتف في إغلاق المنطقة في وجه النفوذ والتدخل الخارجي وخصوصاً الإسرائيلي والأمريكي.

    هذا المقال هو نسخة معدلة وموسعة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 13/8/2016

  • مقال: تأجيل الانتخابات المحلية الفلسطينية.. أين المشكلة؟ … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. 

    لا يبدو أن البيئة السياسية الداخلية الفلسطينية مهيأة حتى الآن لفكرة التداول السلمي على السلطة، وللقبول بنتائج صناديق الاقتراع مهما كان الفائز، ولإيجاد ظروف وشروط عادلة وشفافة لتنفيذ عملية انتخابية تعكس الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني.

    أحد المسؤولين في السلطة الفلسطينية في رام الله نُقل على لسانه في أغسطس/آب الماضي أن حركة فتح لن تذهب للانتخابات في حال أن المؤشرات تؤكد أنها ستخسر، وقال “نحن لا نريد أن ننتحر”!! فإذا كانت مجرد الخسارة انتحارا، وأن فتح لن تذهب للانتخابات إلا إذا ضمنت الفوز، فمعنى هذا أن فتح التي تتحكم بقيادة المنظمة والسلطة تنوي الإبقاء على هيمنتها على القيادة والقرار الفلسطيني إلى ما لا نهاية!

    وإذا كان الرئيس محمود عباس -وعدد من القيادات الفتحاوية- يفاخر بإجراء الانتخابات التشريعية التي أدت إلى فوز حماس سنة 2006، وباحترام هذه النتائج؛ فإن هناك ما يتعمد إغفاله، وبالذات أنه وقيادة فتح لم يتوقعوا إطلاقا فوز حماس، وأن استطلاعات الرأي وتوقعات أجهزة مخابرات السلطة والمخابرات الإسرائيلية والعربية والأميركية والدولية كلها كانت مطمئنة إلى فوز فتح.

    أما حكاية احترام نتائج الانتخابات فلا يكفي فيها مجرد تشكيل إسماعيل هنية للحكومة، وإنما يجب تَذَكُّر مجموعة الإجراءات التي قام أبو مازن نفسه باتخاذها لإسقاط الحكومة وإفشالها، وتذكُّر الفلتان الأمني الذي تولته الأجهزة الأمنية بتوجيهات من قيادات فتحاوية رافضة للالتزام بتوجيهات الحكومة، وقيام أبي مازن بتعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني طوال تسع سنوات ماضية ومنعه من ممارسة دوره الرقابي لمجرد أن حماس تملك أغلبية أعضائه. هذا، مع تشكيل كافة الحكومات طوال هذه السنوات وقيامها بعملها دون الرجوع إطلاقا للمجلس، بالإضافة إلى إصدار عباس للعشرات من المراسيم والقوانين دونما إقرار أو مراجعة من المجلس.

    كان يفترض باتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تمّ توقيعه في أوائل مايو/أيار2011 أن يعالج إعادة بناء البيت الداخلي الفلسطيني، وأن يقوم بإجراءات بناء الثقة باتجاه انتخابات نزيهة شفافة.. لكن خمس سنوات مضت لم تكن كافية لمن بيده السلطة للقيام بذلك. ثم جاء قرار محكمة العدل العليا، الذي لا يمكن استبعاد خلفياته السياسية، بتوقيف الانتخابات المحلية ليزيد حالة الإحباط الفلسطيني.

    ***

    عقدت آخر انتخابات بلدية بمشاركة الفصائل الفلسطينية سنة 2005، وظهر فيها التنافس التقليدي القوي بين فتح وحماس؛ وسارت على أربع مراحل طوال تلك السنة، وشملت 256 مدينة وقرية فلسطينية.

    وأظهرت نتائجها العامة تفوقا لحركة فتح في القرى والبلدات الصغيرة وفي مجموع المقاعد، بينما أظهرت تفوقا لحركة حماس في المدن والبلدات الكبيرة وفي عدد الأصوات. وحققت فتح ما مجموعه 1164 مقعدا (بسبب كثرة البلدات الصغيرة) مقابل 862 مقعدا لحماس. وكان مجموع ما حصلت عليه فتح وحماس يساوي حوالي ثلاثة أرباع مقاعد المجالس المحلية (البلديات). وقد فوجئت فتح بفوز حماس بأغلبية ساحقة وبنسبة 74% في نابلس، أكبر مدن الضفة الغربية. ولذلك قررت قيادة السلطة (فتح) عدم إجراء الانتخابات البلدية في مدينتي الخليل وغزة حيث كانت التوقعات ترجح بقوة فوز حماس.

    ***

    وفي 11/7/2012 قررت حكومة فياض في رام الله إجراء انتخابات بلدية دون ترتيب وتوافق مع حكومة هنية في غزة، مما أدى لمقاطعة حماس للانتخابات وعدم تنفيذها في قطاع غزة. وقد تمت هذه الانتخابات في 20/10/2012 وشملت 93 هيئة محلية وشهدت -في ضوء مقاطعة قوى المقاومة- حالة تنافس وانقسام فتحاوي حاد، أدى إلى مشاركة عناصر وشخصيات فتحاوية مفصولة بقوائم مستقلة في عدد من المناطق ضدّ قوائم فتح الرسمية؛ حيث ظهرت أبرز الخسارات في مدينة نابلس، عندما فازت قائمة غسان الشكعة (المستقيل من فتح) على القائمة الرسمية لفتح التي يرأسها أمين مقبول أمين سر المجلس الثوري لحركة فتح. كما لعب محمد دحلان (بعد فصله من فتح) ومؤيدوه دورا أثَّر على النتائج في عدد من المناطق.

    ***

    أعطى قرار الحكومة الفلسطينية في 21/6/2016 بإجراء الانتخابات للهيئات المحلية بارقة أمل بإمكانية تحريك المياه الراكدة باتجاه ترتيب البيت الفلسطيني. وقد قوبل ذلك بترحيب من حماس ومن الفصائل الفلسطينية المختلفة التي قررت كلها المشاركة (ما عدا حركة الجهاد الإسلامي).

    ومع تأكُّد مشاركة حماس، ومع بدء تشكّل الخريطة الانتخابية ومع رفض قوى اليسار الفلسطيني الدخول مع فتح في قوائم موحدة.. ومع ظهور نزاعات وحالات تنافس داخلي بين أعضاء حركة فتح، ودخول دحلان ومؤيديه على خط تشكيل القوائم الفتحاوية وبناء التحالفات، بدأت تظهر أصوات من داخل قيادة فتح، ومن دول عربية فاعلة في الشأن الفلسطيني، تدعو لتأجيل الانتخابات خصوصا وأن حماس قررت المشاركة على نطاق واسع وغير مباشر في الضفة الغربية، من خلال دعم قوائم مستقلة، لقطع الطريق على مطاردات الإسرائيليين وأجهزة أمن السلطة لها، وبما يعطيها فرصا أفضل للفوز. كما أن الاستطلاعات أخذت ترجح فوز القوائم التي تؤيدها حماس في المدن الرئيسية، وبأعداد كبيرة من الأصوات تؤكد حضورها القوي في المشهد السياسي الفلسطيني.

    تزايد الضغط على عباس بعدم إجراء الانتخابات المحلية منذ أوائل أغسطس/آب حيث طالب عدد من أعضاء اللجنة المركزية لفتح بذلك؛ كما أن الدول العربية التي لها ارتباط خاص بالشأن الفلسطيني لم تكن مرتاحة لإجراء الانتخابات، وحدثت تسريبات تؤكد أن الأردن ومصر تضغطان باتجاه إلغاء أو تأجيل الانتخابات ومعهم في ذلك دول خليجية، حيث يرون أن فتح تعاني من التشتت وعدم الجاهزية.

    كما أن هذه الأنظمة تخشى من أن يؤدي فوز حماس إلى إعادة إحياء تيار “الإسلام السياسي”، وتحديدا “الإخوان المسلمين”، وإعطاء دفعة معنوية لأنصاره، وهو ما سينعكس سلبا على هذه البلدان. كما أن البلدان العربية المنشغلة بمرحلة ما بعد عباس، وخصوصا الإمارات ومصر التي تسعى إلى إيجاد دور رئيسي لمحمد دحلان في إعادة ترتيب البيت الفلسطيني، ترى أن فوز حماس سيعقّد مخططاتها وإجراءاتها.

    الإسرائيليون من جهتهم، وجدوا أنفسهم منشغلين بكيفية مواجهة استحقاقات فوز حماس خصوصا في الضفة الغربية، بعد أن كانوا يفكرون بمرحلة ما بعد عباس؛ حيث تشير تقديراتهم إلى فوز حماس في مدن الضفة الغربية المهمة، ولذلك لم يكونوا مرتاحين لعقد الانتخابات؛ ودخلوا على الخط من خلال اعتقال بعض الفاعلين المحسوبين على حماس، ومحاولة إجبار آخرين على الانسحاب بطرق التهديد المختلفة.

    الرئيس عباس الذي بدا مُصرا على إجراء الانتخابات، وقلقا في الوقت نفسه من التدخل العربي بشأن فرض دحلان على فتح وعلى القيادة الفلسطينية؛ كان لا يزال في أغسطس/آب 2016، يشعر أنه يملك أوراق اللعبة؛ وأنه يمكن أن يؤجل أو يلغي الانتخابات متى ما رأى أن أسهم حماس صاعدة، وأن انتكاسة انتخابية جديدة بانتظار فتح. وعباس الذي لم يكن راغبا في إغضاب المنظومة العربية الداعمة لمسار التسوية والمعادية لتيارات “الإسلام السياسي”؛ كان يسعى في الوقت نفسه لإعطاء رسالة لهذه الأنظمة بأن قرار فتح شأن داخلي، وبالذات فيما يتعلق بفرض خصوم أو منافسين له.

    من ناحية أخرى، لم يخل الأمر من اتهامات متبادلة بين رام الله وغزة بمحاولة التأثير على مجرى الانتخابات باستخدام الأجهزة الأمنية، واستغلال التأثير على الهيئات القضائية.

    ***

    ثمة شبه إجماع في الساحة الفلسطينية أن قرار محكمة العدل العليا في 8/9/2016، بوقف مؤقت لقرار مجلس الوزراء بإجراء الانتخابات المحلية، كان قرارا مسيسا وإن أخذ غلافا قانونيا. فقد تصاعدت الضغوط الداخلية والخارجية على عباس، مع تزايد المؤشرات على تحقيق القوائم التي تؤيدها حماس نتائج عالية، ومع استمرار الخلافات الداخلية في فتح، وعدم نجاحها في تشكيل قوائم موحدة مع قوى اليسار الفلسطيني.

    ويظهر من الإجراءات المتعلقة بالدعوى المرفوعة للمحكمة أن حركة فتح نفسها هي من يقف وراءها، فالقوائم الانتخابية الثلاث المعترضة هي قوائم فتحاوية. وما كان لها أن ترفع دعاواها دون ضوء أخضر من القيادة الفتحاوية، وخصوصا عباس. كما أن المنطق الذي استخدمته محكمة العدل العليا كان منطقا غريبا عندما استندت في قرارها إلى حرمان القدس وضواحيها من الانتخابات، وإلى الشك في النظام القضائي في قطاع غزة وفي قانونية قراراته.

    وبغض النظر عما إذا كان قانون الانتخابات يعطي أي صفة أو اختصاص للمحكمة العليا في النظر في الاعتراضات الانتخابية؛ فقد أقحمت هذه المحكمة نفسها في جوهر الخلاف السياسي الفلسطيني، عندما أشارت إلى مقاطعة (قطاع غزة) لا تتمتع بالاعتراف القضائي والقانوني. لأن المحكمة نفسها تتواجد في مناطق تديرها قيادة سياسية تُعطل المؤسسة التشريعية الفلسطينية، ولم تحظَ حكوماتها كلها بأي شرعية أو ثقة من المجلس المنتخب. وكان الأولى بالمحكمة أن تبني على التوافقات الأساسية في اتفاق المصالحة، باتجاه إعادة بناء البيت الفلسطيني.

    من ناحية ثانية فقد كان استخدام حجة حرمان الأحياء الخاضعة لبلدية الاحتلال في القدس وضواحيها من الانتخاب مثيرا للاستغراب، خصوصا أنه جاء من قِبل جهات (فتحاوية) وافقت أو سكتت على هذا الاستثناء قبل ذلك في انتخابات 2005 و2012. وهي جهات تعلم أن استخدام هذه الحجة يعني عدم إجراء الانتخابات بشكل مفتوح، طالما أن الاحتلال الإسرائيلي يمنع إجراءها في منطقة القدس.

    المؤشر الثالث جاء من قيادة السلطة نفسها عندما دفعت النائب العام الذي يمثلها للطلب من محكمة العدل العليا تأجيل البت في القضية إلى 2016/10/3، مع علم السلطة أن ذلك سيؤدي عمليا إلى تعطيل الانتخابات.

    وبالتالي، فقد دلَّت المؤشرات أن عباس وقيادة فتح ليسا راغبين في إجراء الانتخابات المحلية. وهو ما أثار استياء حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى.

    ***

    على أي حال، ليس هناك الكثير مما تبكي عليه حماس والفصائل الفلسطينية، بسبب تأجيل الانتخابات المحلية. فالاحتلال الإسرائيلي الجاثم في الضفة الغربية بما يقوم به من قتل وأسر وتدمير وتعطيل وإفشال، ومنظومة السلطة الفلسطينية بما تعانيه من ضعف وترهل وفقدان اتجاه.. كلها تجعل من إمكانية نجاح عمل المجالس المحلية أمرا بالغ الصعوبة.

    ومن جهة أخرى، فالانتخابات المحلية لا تعطي مؤشرا سياسيا دقيقا على شعبية الفصائل الفلسطينية وأحجامها في الساحة. إذ تدخل الحسابات العائلية والعشائرية والخدماتية بشكل قوي في العملية الانتخابية خصوصا في القرى والأرياف، حيث كان يُفترض أن يتم انتخاب 272 مجلسا قرويا من أصل 414 مجلسا بلديا. ومع ذلك، فإن حساسية الوضع الفلسطيني، ومحاولة الجهات المختلفة أخذ مؤشرات سياسية وشعبية لهذه العملية الانتخابية أعطى لها طعما خاصا.. وأوزانا أكبر من حقيقة حجمها.

    وأخيرا، فإن تجربة الإعلان عن الانتخابات المحلية، ثم الإعلان عن تعطيلها، يؤكد مدى صعوبة المضي في عملية ترتيب البيت الفلسطيني، وفي برنامج المصالحة الوطنية، ويشير إلى تأثير الاحتلال والبيئة العربية والدولية على منظومة العمل الفلسطيني.

    المصدر: الجزيرة.نت، الدوحة، 29/9/2016

  • مقال: حماس والأسئلة الحرجة … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات. 

    تجد حركة حماس نفسها الآن، وبعد ثلاثين عاما على إنشائها على مفترق طرق، وأمام عدد من ”الأسئلة الحرجة“، التي لم يعد بعضها يحتمل التأجيل، والتي كلما تأخرت إجابتها كلما أثر ذلك سلبا على قدرتها على بناء مساراتها المستقبلية. أما أبرز هذه الأسئلة أو المسائل فهي:

    أولا: ماذا لو فشلت المصالحة الفلسطينية؟

    بالرغم من أن حماس عدَّت المضي في المصالحة ”قرارا إستراتيجيا“، وبالرغم من أنها عمليا سكتت عن عدم تفعيل المجلس التشريعي الذي تقوده، وعن عدم شراكتها في مؤسسات السلطة وأجهزتها في الضفة العربية، وسكتت عن تولي حكومة محسوبة على فتح إدارة السلطة، كما سلمت قطاع غزة ومعابره لهذه الحكومة، ورضيت أن يُدار العمل المقاوم ضمن إستراتيجية مشتركة مع فتح وباقي الفصائل.. بالرغم من ذلك كله فإن قيادة فتح تقوم بـ”إدارة ملف المصالحة“، وهي غير معنية بإنفاذها على الأرض. وتقوم إستراتيجية قيادة فتح حتى الآن على تطويع وتهميش حماس في النظام السياسي الفلسطيني، وليس على الشراكة الكاملة التي تُعبِّر عن الأوزان الحقيقية للقوى الفلسطينية الفاعلة.

    قيادة فتح التي تعمل تحت سقف أوسلو واستحقاقات التسوية السلمية، لا تستطيع حتى لو أرادت، إنفاذ المصالحة على قاعدة الشراكة الكاملة، لأن ثلاثة من ملفات المصالحة الخمسة يتحكم بها الطرف الإسرائيلي (الحكومة، والانتخابات التشريعية، وأجهزة السلطة في الضفة الغربية)، وهو لن يسمح لحماس بالعمل في أطر السلطة إلا تحت سقف أوسلو الذي ترفضه الحركة.

    ووثيقة المصالحة نفسها تم بناؤها على أسس إجرائية، تفتقر للقواعد اللازمة لنجاحها؛ فلا اتفاق حتى على الثوابت (مثلا: التنازل عن معظم فلسطين التاريخية المحتلة سنة 1948)، ولا على البرنامج الوطني الفلسطيني، ولا على أولويات المرحلة، ولا على طرق إدارة الصراع ومسارات التحرير.
    وباختصار، فلا أفق حقيقيا لنجاح المصالحة، وعلى حماس أن تبحث عن إجابة لسؤال: ماذا بعد المصالحة؟

    ثانيا: ماذا بعد السلطة الفلسطينية؟

    لا أفق للسلطة الفلسطينية، فمشروع التسوية السلمية في طريقه إلى الانهيار، وحلّ الدولتين سقط من الناحية العملية، ويكاد يستحيل أن تتطور السلطة إلى دولة فلسطينية كاملة السيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة.. وستبقى السلطة الفلسطينية كيانا وظيفيا يخدم الاحتلال أكثر مما يخدم تطلعات الشعب الفلسطيني. ومن المستبعد أن تسمح ”إسرائيل“ وأميركا (وحتى فتح والأنظمة العربية) بإجراء انتخابات تشريعية يغلب على الظن أن تفوز فيها حماس. ومن المستبعد جدا أن تتمكن حماس من الجمع بين السلطة والمقاومة حتى لو فازت في الانتخابات، خصوصا إدارة الحكومة في الضفة الغربية.
    إن حركة فتح التي تقود عمليا السلطة الفلسطينية، وتوفر الغطاء اللازم لاستمرارها، تموضعت تحت سقف اتفاقيات أوسلو، وهي ستبقى أسيرة الاستحقاقات التي نشأت السلطة على أساسها، إلا إذا قررت ”قلب الطاولة“.. ولا يبدو ذلك قريبا.

    أما حماس فهي لا تستطيع أن تتموضع تحت سقف أوسلو، وعليها ألا تتوقع أن تتمكن من فرض ”شروط اللعبة“ على الطرف الإسرائيلي، بإعادة تعريف السلطة كسلطة مقاومة في المناطق التي تخضع للاحتلال في الضفة الغربية، أو أن تفك الحصار عن غزة من جانب الطرف الإسرائيلي في قطاع غزة.

    وبالتأكيد، لم تعد إدارة قطاع غزة مقابل الأثمان الباهظة التي تدفعها حماس وقوى المقاومة في الضفة الغربية وحتى في الخارج، أمرا مغريا لإدارة المشروع الوطني في بيئة من الحصار والانقسام.. وأيما محاولة للتكيّف الحمساوي المقاوم، تحت سقف أوسلو، ستؤدي إلى تآكلها كحركة مقاومة، إن لم يفقدها هويتها ومبرر وجودها.

    وباختصار، فإن قرارات المشاركة والدخول في المنظومة التي اتخذت في سنتي 2005 – 2006 لم يعد بالإمكان استنساخها، وعلى حماس أن تبحث عن آفاق جديدة.

    ثالثا: مستقبل التعامل مع قيادة منظمة التحرير

    باختصار، ”ومن آخرها“ فإن حماس ضيف ثقيل وغير مرغوب به في منظمة التحرير! ليس فقط لأنها ستتمدد في الأطر التشريعية والتنفيذية والقيادية للمنظمة على حساب حركة فتح، التي تعودت على الهيمنة والسيطرة على المنظمة طوال خمسين عاما. ولكن لأن دخول حماس (بتوجهها الإسلامي والمقاوم) بالنسبة لقطاعات واسعة في فتح والمنظمة، سيتسبب بمشاكل وتراجعات كبيرة للمنظمة في الإطار العربي والدولي، وقد تسحب دول كثيرة (وخاصة غربية) اعترافها بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، وقد تغلق سفارات المنظمة لديها، مما يؤدي لاضمحلال الوجود الدبلوماسي الدولي للمنظمة؛ ما دامت هذه البيئات الغربية والدولية معادية أو مخاصمة للتيارات الإسلامية ولتيارات المقاومة.

    من ناحية ثانية، لن تقبل حماس أن تدخل المنظمة إلا ضمن شراكة حقيقية فعالة، وضمن برنامج وطني فلسطيني يرفض اتفاقيات أوسلو ومرجعيتها. كما أن حماس لن تقبل أن تكون في أطر المنظمة على هامش فتح، أو كـ ”شاهد زور“ و”محلل“ لمسار التسوية، لأن ذلك سيفقد حماس مبرر دخولها للمنظمة.

    إن أي دخول جاد لحماس في منظمة التحرير، مرهون أساسا بقرار مركزي حاسم لحركة فتح بإلغاء اتفاقيات أوسلو والعودة للميثاق الوطني، والاستعداد الحقيقي لتحمل أعباء ومتطلبات وأثمان الشراكة والتداول القيادي.. وهو ما ليست فتح في وارده في هذه المرحلة.

    من ناحية ثالثة، فبعد نحو 13 عاما من اتفاق القاهرة بين الفصائل لإعادة بناء منظمة التحرير وتفعيلها، لم تقم قيادة المنظمة بخطوة حقيقية واحدة في هذا الإطار.

    وهذا يعني أن قيادة المنظمة أغلقت الباب و”بلعت المفتاح“..

    والسؤال: إلى متى ستبقى حماس ”تطرق الباب“؟

    رابعا: ماذا بعد المقاومة في غزة؟

    العمل العسكري المقاوم في قطاع غزة وصل ذروته ضمن الإمكانات المتاحة، والإنجازات الرائعة للمقاومة فوق الأرض وتحتها لا ينكرها إلا جاحد، وتضحيات المقاومة وبطولاتها أصبحت مدرسة عالمية ونموذجا يُفتخر به.

    أما وأن الحصار على غزة قد بلغ مداه، وأن تحمل الأعباء المعيشية لمليوني فلسطيني لم يعد متاحا. ومع انتفاء حالة الاحتكاك المباشر مع العدو بسبب انسحابه من القطاع، ومع توقف الاشتباك المسلح عبر حدود القطاع، ومع تزايد احتمالات استهداف العمل المقاوم إذا ما أصرَّت سلطة رام الله على تطبيق معاييرها والتزاماتها في القطاع.. فإن مشروع العمل المقاوم ومشروع التحرير لا يمكن أن يبقى رهينة هذا الحال.
    كيف يمكن للضفة الغربية أن تستعيد عافيتها ودورها المقاوم؟ وما دور أبناء فلسطين المحتلة 1948 في مشروع المقاومة؟ وإلى أي مدى، وفي أي ظروف، وتحت أي شروط يستطيع العمل المقاوم من الخارج أن يستعيد تألّقه السابق عندما كان هو مركز العمل المقاوم؟

    خامسا: التموضع الإقليمي

    إذا كانت معظم القوى الإقليمية واللاعبون الدوليون الكبار في المنطقة يعادون تيارات ”الإسلام السياسي“، كما يعادون قوى المقاومة أو على الأقل يَضيقون بها.. فإن حماس قد اجتمع عليها العداء ”المزدوج“ لهذه القوى.

    وبالرغم من أن حماس ”بلعت السكين“ في الكثير من الظروف، وفي العديد من البلدان الإقليمية، تجنبا للتدخل في الشؤون الداخلية، وحرصا على أن تكون قضية فلسطين عنصر وحدة، وسعيا لتوجيه العداء ضد المشروع الصهيوني.. فإن محاصرتها وخنقها ومحاولات ”تكسير مجاديفها“ وإضعافها لم تتوقف.

    وفوق ذلك، فقد دفعت حماس أثمانا مضاعفة نتيجة وقوفها الطبيعي كحركة مقاومة وكحركة شعبية مع حق شعوب المنطقة في الحرية، والتعبير عن نفسها من خلال نظام سياسي يعكس إرادتها الحقيقية، بعيدا عن التدخل الخارجي والاستبداد السياسي.

    فإذا كانت البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين هي ”رئة“ الداخل الفلسطيني؛ وإذا كانت هذه البيئة تحتضن أغلبية الشعب الفلسطيني في الخارج؛ وإذا كانت هذه البيئة نفسها بيئة تعاني من حالة ”السيولة“ و”التشكُّل وإعادة التشكُّل“؛ وهي بيئة بقدر ما تحمل من مخاطر وتحديات بقدر ما قد تحمل من فرص وآفاق.. فكيف ستتموضع حماس وقوى المقاومة في ”حقل ألغام“ كهذا بأقل قدر من الخسائر.. وأكبر قدر من الاستفادة من الفرص.

    سادسا: مسألة الهوية الإسلامية والهوية الوطنية

    لا تجد لدى معظم كوادر وقواعد حماس مشكلة في الجمع بين الهويتين الإسلامية والوطنية، لأن الإسلام يحض على حب الوطن والدفاع عنه وتحريره من العدو والارتقاء به. ولأن الأغلبية الساحقة للشعب الفلسطيني هي أغلبية مسلمة.

    عندما انطلقت حماس كان من الواضح أنها تقدم نفسها كحركة إسلامية شاملة، وأن العمل الوطني هو من مكوناتها ومن مهامها المنبثقة عن فهمها الإسلامي. غير أن السنوات الماضية شهدت لدى ”البعض“ تضخيما للهوية الوطنية على حساب الهوية الإسلامية.. أدى أحيانا إلى انتقال ”لا شعوري“ لمحور العمل، وتمركزه في ”الهوية الوطنية“، وإلى تحوُّل الهوية ”الإسلامية“ لدى ”البعض“ إلى ”أداة“ من أدوات العمل الوطني، وليس العكس. وبالطبع فقد كانت المبررات جاهزة في ضرورة التركيز على ”مجال الاختصاص“، والنأي بالنفس عن صراعات المنطقة، والبحث عن قواعد مشتركة مع القوى الوطنية والعربية المختلفة، وعدم استثارة عدائها للتيارات الإسلامية، خصوصا مع تصاعد الظواهر ”التطرف الإسلامي“، وتصاعد العداء الإقليمي والدولي لتيارات ”الإسلام السياسي“.

    وفي الوقت نفسه، فإن هذا ”البعض“ مارس سياسة براغماتية نَحَتْ نحو التعامل مع البعد الإسلامي كبعد ”وظيفي خدماتي“ مرتبط بقدرة الآخرين على دفع أثمان أعماله وتحمل أعباء برنامجه، نائيا بنفسه عن قواعد ”الشراكة“، أو الاستحقاقات الناتجة عن وحدة الدين والهوية والمسؤولية؛ بما يحفظ حدا مقبولا من ”المصداقية“. وفي هذه الأحوال، يصبح هذا ”البعض“ غير مقبول لدى القوى والتيارات الإسلامية باعتباره ”انتهازيا!“.

    ما يكتشفه المرء عند الدخول في نقاشات مع ”البعض“ مدى ”التسطيح“ في تناول مسائل عقائدية وأيديولوجية حساسة، وطغيان الجانب البراغماتي على البعد ”الرسالي“.. مع قلة وضحالة المنتج الفكري.
    كيف يمكن التعامل مع هذه الثنائية الحساسة بشكل مبدع، وكيف يمكن تنزيلها على الواقع في ضوء رؤية إسلامية حضارية شاملة لمشروع التحرير تستوعب الواقع وتعقيداته، وتتعامل مع البعد الوطني كمكون إيجابي وأصيل، منسجم وغير منفصل عن هذه الرؤية.

    سابعا: بين ثورية المشروع وبيروقراطية البُنى والأداء

    وهي إشكالية تحدث في المنظمات الثورية التي تتسع شعبيتها ومديات أعمالها وتصبح عنصرا فاعلا في العمل السياسي سواء من خلال المشاركة في الحكم ومؤسساته، أم من خلال شبكات العلاقات والمؤسسات والبنى الخدماتية التي تقيمها.

    وإذا ما ترافق ذلك مع حالات استقرار معيشي، أو هدوء ثوري، مع اتساع الإيرادات المالية، وعمليات التفريغ الوظيفي للكوادر؛ وتعوّد الكثيرين على رتابة العمل، مع ميل أكبر لعدم تغيير نمط الحياة؛ مع صعوبة عمل الأدوات الرقابية والمحاسبية في بيئات معقدة تستلزم الكثير من السرية والحذر.. فإن مثل هذه البيئات تحتمل نشوء ”طبقة مصالح“، مرتبطة باستقرار الأوضاع ولو على حساب الثورة والتغيير، كما تحتمل وجود حالات من الترهل والبطالة المقنَّعة والإسراف.. التي قد تصبح أحد معوقات وأحد أدوات استنزاف المشروع، خصوصا إذا ما واجهت ظروفا خطيرة مستجدة.

    ولأن حماس تتقلب بين بيئات ثورية وبيئات مؤسساتية، فكيف تُحقّق الـ ”المعادلة الصعبة“ في المحافظة على الروح الجهادية الرسالية، وفي القدرة العالية على التكيّف السريع والمرن مع مختلف الأحداث والتحديات، وفي الاستفادة القصوى من الموارد البشرية والمالية؛ مع تكريس ثقافة الشفافية والمحاسبة؟

    ثامنا: كيف يكون التنوع الجغرافي والشتات قيمة مضافة وليس عبئا؟

    دفع الفلسطينيون ثمنا هائلا نتيجة تشتتهم الجغرافي الداخلي بين فلسطين الـ 48 والضفة والقطاع، وتشتتهم في الخارج في عشرات الدول في الكرة الأرضية. غير أن ذلك قد يمثل قيمة نوعية كبيرة في إدارة المشروع، بطريقة تستفيد من المزايا النوعية لأي مكان، مع صعوبة القضاء على المشروع بسبب انتشاره الواسع. وإذا كان ثمة حاجة لتمثيل التنوع بشكل عادل ومعقول في المؤسسات التشريعية الشورية؛ فإن نقل عقلية المحاصصة الجغرافية (مع غض النظر عن الأهلية والخبرة والكفاءة) إلى الأطر القيادية الإدارية والتنفيذية قد يوجد أجواء عمل مضطربة، وحساسيات وحسابات ضيّقة تُضعف القدرة على الإنجاز والمحاسبة، وتتسبَّب بإيجاد بيئات للشقاق والانشقاق.

    وإذا كانت المحاصصة القيادية قد ظهرت بشكل محدود لبعض الأسباب الموضوعية، فكيف يمكن التعامل معها كحالة استثنائية، وكحالة ضرورة تُقدَّر بقدرها وتزول بزوال أسبابها؟ مع السعي للحفاظ على أقصى درجات الفاعلية القيادية والمؤسساتية، التي عندما تراعي الجغرافيا، فلا ينبغي أن تقع أسيرة لحساسياتها، على حساب المشروع.

    المصدر : الجزيرة.نت، الدوحة، 29/12/2017

  • مقال: وثيقة كامبل بنرمان.. حقيقية أم مزيفة؟! … د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    هذه الوثيقة التي رجع إليها العشرات من الكتاب والباحثين منذ أواسط القرن العشرين، والتي يعدونها أساساً لفهم خلفيات إنشاء مشروع يهودي صهيوني في فلسطين لدى القوى الإمبريالية الغربية؛ أصبحت أقرب إلى ”الأحجية“ لأننا لم نجد لها حتى الآن مصدراً علمياً موّثقاً، يمكن الاعتماد عليه وفق مناهج البحث العلمي.

    وفي الأشهر الماضية تابعتُ -على أكثر من صعيد- الجدل حول هذه الوثيقة، كما انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع في مواقع التواصل الاجتماعي ينبه إلى هذه الوثيقة وخطورتها.

    والوثيقة ”المدّعاة“ تنص -كما جاء في الجزء الأول من ”ملف وثائق فلسطين“ الصادر عن الهيئة العامة للاستعلامات في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر سنة 1969 (إبان حكم جمال عبد الناصر)، صفحة 121- على عقد ”مؤتمر لندن الاستعماري“ سراً بلندن في الفترة 1905-1907 بدعوة من حزب المحافظين البريطاني.

    وأنه قد اشتركت فيه مجموعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والجغرافيا والزراعة والبترول والاقتصاد. وأن هذا المؤتمر رفع توصياته سنة 1907 إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بنرمان (Campbell Bannerman Henry)، حيث أكد المؤتمرون على:

    ”إن إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم، ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط، بحيث يشكل -في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس- قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها؛ هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة“.

    وهذا يعني وفق الوثيقة أن ”خبراء الغرب“ وجدوا في إنشاء كيان غريب (هو الكيان اليهودي الصهيوني لاحقاً) في غربي البحر المتوسط (وخصوصاً فلسطين) وسيلة لإيجاد قلعة متقدمة ترعى المصالح الغربية، وتضمن ضعف المنطقة وتمنع وحدتها، وهو ما حدث ويحدث فعلاً بغض النظر عن صحة الوثيقة أو زيفها.

    ***

    وكاتب هذه السطور -مثل غيره من الباحثين- وجدوا هذه الوثيقة في مصادر ومراجع عربية محترمة؛ ولكتَّاب معروفين بحرصهم على الدقة، بالإضافة إلى ملف وثائق فلسطين الذي صدر عن المؤسسة الرسمية المصرية التي يُفترض فيها علمياً مصداقية عالية. وبالتالي فقد كان كاتب هذه السطور ممن استخدم هذه الوثيقة في كتاباته ومحاضراته قبل أن يتنبه إلى إشكاليتها.

    قبل نحو 14 عاماً؛ التقيت الأستاذ منير شفيق الذي حثني على السعي للتوثيق العلمي للوثيقة من مصادرها البريطانية الأصلية، خصوصاً بعد أن علم بتخصصي في هذه الوثائق حيث اعتمدت في معظم رسالتي للدكتوراه على الوثائق البريطانية غير المنشورة، والمحفوظة في دار الوثائق البريطانية (ما يُعرف الآن بالأرشيف الوطني The National Archives، وكان يعرف سابقاً بمكتب السجل العام Public Record Office PRO)، وكنت أعود إليها بين الفينة والأخرى لبعض المتابعات والدراسات الأكاديمية.

    كما لفت نظري لاحقاً إلى هذه الوثيقة الدكتور أنيس صايغ الذي يُعدُّ أحد أبرز أعمدة البحث العلمي في التاريخ الفلسطيني الحديث، ورأس لعشرة أعوام مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية1966-1976. وأخبرني عن قصته في البحث عنها وتشككه في حقيقتها.

    وعلى أي حال، فقد أثار الأمرُ فضولَ كاتب هذه السطور، وفي سفرة لبريطانيا تفرغ للبحث عن هذه الوثيقة، غير أنه لم يجد لها أثراً أو مصدراً؟!!

    وما أثار الشك حقاً هو أن ملف وثائق فلسطين -وكذلك غيره من المصادر- لا يذكر توثيقاً علمياً للوثيقة، فلا يوجد اسم للملف في الوثائق البريطانية، ولا الترقيم الخاص به، ولا تاريخه الدقيق، وما إن كان محفوظاً في مجموعات الخارجية البريطانية F.O، أو وزارة المستعمرات C.O، أو وزارة الحرب W.O، أو رئاسة الوزراء Prem وغيرها.

    وقصة د. أنيس صايغ مع هذه الوثيقة قصة ”شيّقة ومريرة“، وقد لخّصها في مذكراته ”أنيس صايغ عن أنيس صايغ“ في الصفحات 279-281. وفيها يذكر أنه عندما تولى رئاسة مركز الأبحاث حرص على الوصول إليها لأهميتها، لكنه لم يعثر على مصدر واحد موثق لها في عشرات المراجع والكتب التي أشارت إليها؛ والعديد منها لكتّاب موثوقين أمثال برهان الدجاني ومنذر عنبتاوي وخيري حماد وشفيق ارشيدات؛ حيث ظهر أن كل كاتب كان يحيل إلى الآخر في دوامة أو حلقة مُفرغة دونما نتيجة.

    ولذلك فقد قرر د. أنيس التفرغ للبحث عنها -في بريطانيا- شهراً كاملاً قضاه في دار الوثائق البريطانية، ومكتبة المتحف البريطاني، وجامعة كامبردج حيث درس كامبل بنرمان وأودع في مكتباتها كل أوراقه الخاصة. كما انكبّ د. أنيس على فهارس جريدة التايمز في الفترة 1904-1907 فوجد فيها آلاف الإشارات إلى المؤتمر الاستعماري الإمبريالي، ولكنه لم يجد شيئاً عن الوثيقة نفسها.

    وبعد عودته ”الفاشلة“ إلى بيروت أتيح له أن يعرف أن أول عربي أشار إلى وثيقة كامبل في كتاب منشور هو أنطون كنعان، فذهب إلى مصر حيث يقيم أنطون والتقى به بعد بحث وجهد، وفوجئ به يخبره أنه عندما سافر من فلسطين إلى لندن لدراسة القانون في أواسط الأربعينيات، التقى في الطائرة رجلاً هندياً كان يجلس إلى جانبه، وقال له إنه يتذكر أنه قرأ عن مؤتمر استعماري عُقد في لندن حضره مندوبون عن عدة دول استعمارية للتباحث في تقسيم البلاد العربية ومنع وحدتها وإقامة دولة يهودية؛ ولكن الهندي لم يزود كنعان بأي مادة علمية موثقة حول الوثيقة.

    وهكذا يعود د. أنيس محبطاً فلا الهندي ولا كنعان اطلعا على الوثيقة الأصلية، ولا يملكان توثيقاً علمياً لها!!! وبالتالي قرر د. أنيس منع استخدامها أو الاقتباس منها في الدراسات الصادرة عن مركز الأبحاث الفلسطيني. أما كاتب هذه السطور، فقد امتنع هو أيضاً عن استخدامها أو الاستدلال بها منذ أن لم يجد دليلاً عليها.

    ***

    وبعد هذا الاستعراض، يمكن أن نثبت بعض الملاحظات والنقاط:

    1- إن انعقاد مؤتمرات استعمارية إمبريالية في تلك الفترة كان أمراً صحيحاً وحقيقياً، وتوجد في الوثائق البريطانية مئات الملفات والوثائق والشواهد حولها. غير أن نص الوثيقة المسماة وثيقة كامبل بنرمان غير موجود بين هذه الوثائق.

    2- إن عدم حصولنا على وثيقة كامبل لا يثبت بالضرورة أنها غير موجودة بالصيغة نفسها أو بأي صيغٍ مشابهة. ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع الادعاء بوجود شيء لم يثبت وجوده بشكل قاطع.

    3- إن عدم وجود الوثيقة بين أيدينا يُفقدنا القدرة -من الناحية العلمية الموضوعية ووفق مناهج البحث العلمي- على استخدامها وثيقةً مرجعيةً، خصوصاً لما تتميز به من حساسية وخطورة. كما أن النتائج التي توصل إليها د. أنيس -بعد بحثه المضني- تشكك بشكل جدّي في حقيقتها.

    4- وفق متابعات كاتب هذه السطور في الأرشيف البريطاني طوال سنوات، وبناء على استفساراته من موظفي الأرشيف المعنيين بمساعدة الباحثين؛ اتضح أنه يتم تقسيم الوثائق البريطانية إلى أقسام:

    • قسم يتم نشره، حيث يُنشر معظمه بعد ثلاثين سنة، ويؤجل بعضه إلى خمسين أو خمسة وسبعين أو حتى مئة سنة.
    • وقسم يُحفظ دون قرار بنشره.
    • وقسم يتم إتلافه.

    وهذا يعني أن ثمة عملية غربلة متأنية مسبقة تتم للوثائق، تراعَى فيها المصالح العليا للدولة وأسرارها الخطيرة، وانعكاسات نشر الوثائق على الدول والمؤسسات والأفراد، وعلى الحلفاء والأعداء. وهذا قد يسمح باستنتاج أن ثمة وثائق يتم إخفاؤها أو إتلافها إذا كانت -حسبما يرى المعنيون- تضر بمصالح الدولة أو تتسبب في إدانتها.

    5- إن الاستعمار البريطاني والقوى الاستعمارية هي بشكل عام من الذكاء والخبرة والحذر بحيث لا تضع وثائق كهذه -إن وجدت- بين أيدي الباحثين، بسبب ما تتضمنه من أدلة إدانة قاطعة. وفي بعض الأحيان يكون هذا النوع من التوجهات والتوجيهات والقرارات شفوياً أو غير مكتوب في نصوص موثقة، أو غير قابل للنشر والتداول، كما تفعل دول عديدة في وقتنا المعاصر.

    6- لعل مسار الأحداث على الأرض يدعم مضمون وثيقة كامبل، لكنه لا يكفي لإثبات صحتها من ناحية علمية. فقد تمّ إصدار ”وعد بلفور“ سنة 1917، وأصرَّت بريطانيا على أن تتولى بنفسها رعاية ونمو وتطور المشروع الصهيوني في فلسطين وإنشاء دولة يهودية، وقمعت إرادة الشعب الفلسطيني وسحقت ثوراته طوال ثلاثين عاماً (1917-1948) إلى أن اكتملت البنى التحتية ”للدولة اليهودية“ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً.

    وتشكَّل في سنة 1948 كيانٌ صهيوني (إسرائيل) في قلب الأمة العربية والإسلامية، وهو كيان -من الناحية العملية على الأقل- يرتبط شرط بقائه وازدهاره بضعف وانقسام وتخلّف ما حوله، لأن المشاريع النهضوية الوحدوية الحقيقية التي تعبِّر عن إرادة شعوب المنطقة والأمة، هي بطبيعتها معادية وتُشكّل خطراً وجودياً على الكيان الصهيوني، الذي اغتصب قلب المنطقة العربية والإسلامية (فلسطين) وشرَّد أهلها.

    7- إن ثمة وثائق وكتابات تشير إلى مضامين وسياقات قريبة أو داعمة لمعطيات وثيقة كامبل بنرمان المدَّعاة؛ فعندما التقى مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل برئيس الوزراء البريطاني جوزيف تشمبرلن سنة 1902، قال له هرتزل: إن قاعدتنا يجب أن تكون في فلسطين التي يمكن أن تكون ”دولة حاجزة“ بحيث تؤمن المصالح البريطانية.

    فقد كانت الحركة الصهيونية تدرك أن مشروعها لن يكتب له النجاح إلا برعاية دولة كبرى وحمايتها، وكان عليها أن تعرضه في ضوء المصالح التي يمكن أن تجنيها القوى الكبرى.

    وفي أثناء الحرب العالمية الأولى ظهرت كتابات لشخصيات بريطانية غير يهودية مثل تشارلز سكوت C. Scott (رئيس تحرير جريدة مانشستر غاردين) وهربرت سايدبوتام H. Sidebotham الذي كانت لمقالاته شهرة واسعة، ودعا إلى إيجاد دولة حاجزة في فلسطين مدَّعياً أن العنصر الوحيد المناسب لإقامتها هو اليهود.

    وبشكل عام؛ فإن العامل الإستراتيجي كان سبباً رئيسياً في ذهن من اتخذوا قرار إصدار ”وعد بلفور“ (كنقطة اتصال ومواصلات، وكمنطقة حاجزة، وكقاعدة متقدمة…)، ونجد مثل هذه الإشارات الاستراتيجية في تصريحات لويد جورج رئيس الوزراء، واللورد كيرزون (الذي خلف بلفور في منصبه)… وغيرهم.

    كما أن هربرت صمويل -اليهودي الصهيوني والوزير في الحكومة البريطانية التي كان يرأسها أسكويث H. Asquith- قدَّم مذكرة سرية للحكومة البريطانية في يناير/كانون الثاني 1915، طالب فيها باحتلال فلسطين وفتح باب الهجرة والاستيطان لليهود ليصبحوا أغلبية السكان، مشيراً إلى المزايا الإستراتيجية للسيطرة على فلسطين.

    8- وأخيراً، فإن ”وثيقة كامبل بنرمان“ لا يصلح الاستشهاد بها علمياً ولا إعلامياً إلى أن توجد أدلة قاطعة عليها، وما يترتب على استخدامها من أضرار تمس المصداقية والموضوعية، وتفتح المجال للخصوم والأعداء للطعن والاستهزاء والإساءة، والإضرار بجوانب القوة الأخرى التي يملكها الباحثون المؤيدون للقضية الفلسطينية؛ هي أضرار أكبر من النفع التعبوي والإعلامي الذي قد يسعى إليه البعض بحسن نية.

    خصوصاً أن هناك قدراً كبيراً من الوثائق والممارسات الاستعمارية الفعلية على الأرض تكشف مدى الدعم الاستعماري المقدم للمشروع الصهيوني، ومحاولة قطع الطريق على المشاريع النهضوية والوحدوية في المنطقة.

    وبذلك، تنضم وثيقة كامبل إلى ”بروتوكولات حكماء صهيون“ وما يُعرف بـ”وعد نابليون 1798“ والتي لم تثبت أيضاً…، وما زالت تُستخدم في الأدبيات العربية والإسلامية دونما أدلة قاطعة على وجودها. وتبقى معايير المصداقية والموضوعية والتثبّت والتّبيُّن وموازين الجرح والتعديل -التي اشتهر بها المسلمون- أفضل ”رأس مال“ في التعامل مع معلومات أو تقارير كهذه.

    المصدر: الجزيرة نت، الدوحة، 12/9/2017