• المشهد الإسرائيلي نيسان/ إبريل 2020: الحكومة الجديدة وانعكاساتها على الفلسطينيين

    الكاتب : صلاح الدين عواودة 

    مقدمة

    رغم أزمة الكورونا وحالة الطوارئ، إلا أن الحدث الأبرز خلال شهر نيسان/ إبريل، كان اتفاق تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، حكومة الطوارئ، بين نتنياهو ومعه معسكر اليمين من جهة، وبين غانتس وحزبه “أزرق أبيض” من جهة ثانية، إضافة إلى حزب العمل بقيادة عمير بيرتس. علما أن حزب “أزرق أبيض” تفكك مؤخرًا بسبب هذا الاتفاق، وبقي غانتس يتزعم حزب “حوسن إسرائيل”، الذي شكله منتصف عام 2018. وقد شكلت قضية ضم المستوطنات، أهم بند من بنود اتفاق تشكيل الحكومة، وهو ما يستدعي دراسة بنود الاتفاق، وانعكاساته على القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع في المنطقة. فمن الواضح أن التيار الذي انتصر، هو تيار نتنياهو، وهو في طريقه إلى انتصار أكبر لو حصلت انتخابات رابعة. لذلك، من الطبيعي أن يفرض هذا التيار برنامجه السياسي عند تشكيل أي حكومة من قبله، حتى لو أغرى الآخرين بكثير من الغنائم السياسية، كما فعل مع غانتس وحزبه، ومع عمير بيرتس وحزبه، فقد حصلوا على حصة الأسد من الغنائم السياسية، لكنهم شاركوا في حكومة كتب برنامجها نتنياهو واليمين المتحالف معه، وأهم ما في هذا البرنامج، هو الموقف من القضية الفلسطينية، وسلوك الاحتلال في الضفة الغربية، ومع قطاع غزة.

    تحاول هذه الورقة، ومن خلال قراءة المشهد الإسرائيلي في شهر نيسان/ إبريل، معرفة انعكاسات هذا الاتفاق على القضية الفلسطينية، إضافة إلى الوقوف على التطورات المتعلقة بأزمة الكورونا، لا سيما تأثيرها على الاقتصاد، وعلى العلاقات مع المحيط والعالم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وآلية خروج الاقتصاد الإسرائيلي من أزمة الكورونا، في ظل الركود والعجز وارتفاع البطالة.

    كما يتناول هذا المشهد قضية ضم الغور والمستوطنات، والموقف الأمريكي منها، وملف التهدئة مع قطاع غزة، وتطورات موضوع صفقة التبادل، وهي الملفات التي تصدرت المشهد الإسرائيلي في شهر نيسان/ إبريل.

    نتنياهو ينجح أخيرًا

    قال الصحفي والمحلل السياسي أمنون أبروموفيتش، في مقال نشره على موقع القناة إن 12 بتاريخ 26/4/2020، إنه ما كان لأحد أن يتفاجأ من الاتفاق بين غانتس ونتنياهو، ونفى أن يكون السبب هو جائحة الكورونا، وذكر أن غانتس وإشكنازي، كانا قد عزما على المشاركة في حكومة نتنياهو بعد الانتخابات الماضية في أيلول/ سبتمبر 2019، وذلك قبل ظهور أزمة الكورونا، وكان أبروموفيتش قد سمى حزب “أزرق أبيض” في حينه، بـ (ليكود ب)، ولكن دون لائحة اتهام. وفي نفس الوقت، يعبر أبروموفيتش عن دهشته من تحول غانتس وإشكنازي، إلى آلة لتحصين نتنياهو. فرغم إبداء حزب “أزرق أبيض” قلقًا على المحكمة العليا، إلا أنهم، ومن خلال الاتفاق مع نتنياهو، حاصروا المحكمة، التي قيدوا قدرتها على رفض الاتفاق، ووضعوها في محل الاتهام بأنها تدفع الدولة إلى انتخابات رابعة إن رفضت الاتفاق. وفي المقابل، فإن قبول الاتفاق، يشكل ضربة للقضاء وسلطة القانون (ابرموفيتش 2020).

    ولكن، سواء تحت ضغط جائحة كورونا، أو ضغط الاستطلاعات التي تتنبأ بتقدم اليمين إذا حصلت انتخابات رابعة، استطاع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في النهاية، جر رئيس حزب “أزرق أبيض” بيني غانتس، مساء الإثنين 20/4/2020، إلى الاتفاق على حكومة طوارئ وطنية لستة أشهر، وحكومة وحدة تضم 36 حقيبة وزارية، لثلاث سنوات قابلة للتمديد سنة أخرى، وخلال الشهور الست الأولى كحكومة طوارئ، لا يتم تشريع أي قانون، ولا حتى اقتراح أي قانون للنقاش، ليس مرتبطًا بشكل مباشر بأزمة الكورونا، ويكون نتنياهو رئيس الحكومة أولا لمدة 18 شهرا. كما نص الاتفاق بينهما، والذي تم بضمان أحزاب الحريديم، وهي شاس ويهدوت هتوارة، على إقامة مجلس وزاري مصغر (كابينيت)، لمواجهة تحديات كورونا، برئاسة مشتركة بين نتنياهو وغانتس، وبمشاركة الوزراء ذوي الصلة بالموضوع. كما نص على أن يسكن غانتس في مقر خاص برئيس الحكومة البديل، إلى جانب مقر رئيس الحكومة الفعلي (سيجال و ليال 2020).

    ووفقًا للاتفاق، ستتوزع المهام والعضوية بالتساوي بين حزبي الليكود و “أزرق أبيض”، في المجلس الوزاري المصغر للشؤون السياسية والأمنية (الكابينيت الأمني)، وفي المجلس الوزاري المصغر للقضايا الاجتماعية والاقتصادية. ويضمن الاتفاق تنفيذ التناوب بموجب بند ينص على أن تصويت الكنيست على حكومة الوحدة الوطنية، يمنح الثقة لنتنياهو ليكون رئيسا للحكومة أولا، وسيتبعه تصويت على غانتس لمنصب “رئيس الحكومة البديل”، حيث سيتولى منصبه، بموجب اتفاق التناوب، في تشرين أول/ أكتوبر2021، دون الحاجة لأخذ ثقة الكنيست مرة أخرى، وذلك لضمان عدم غدر نتنياهو وحلفائه من اليمين. ورغم توفير الاتفاق شبكة أمان واستقرار لحكومة نتنياهو لمدة ستة أشهر على الأقل، حتى دون أن ينضم تحالف أحزاب اليمين (6 مقاعد) له، ورغم أن الحكومة ستحظى بدعم 68 عضو كنيست على الأقل، إلا أنه لم يضمن تولي غانتس منصب رئيس الحكومة، إذا أقصت المحكمة العليا نتنياهو من منصبه، فحينها لن ينفذ اتفاق التناوب، وستكون هناك انتخابات رابعة، وسيتولى غانتس رئاسة الحكومة فقط إذا تم حل الكنيست (عرب 48 2020).

    إنجازات نتنياهو مقابل إنجازات غانتس

    من ناحيته ضَمِن نتنياهو، إلى جانب بقائه في رئاسة الحكومة سنة ونصف أخرى، أغلبية في لجنة تعيين القضاة، وهو ما يسمح لنتنياهو بتعيين من يرغب من القضاة  في المحكمة العليا. كما ضَمِن أن لا يكون هناك أي تشريع دون موافقته، رغم أن رئيس لجنة التشريعات في الكنيست، سيكون من حزب “أزرق أبيض”. كما يضمن الاتفاق لنتنياهو، أن لا يشرع أي قانون ضده في الكنيست خلال الشهور الست الأولى، وهي فترة الطوارئ، كما يستطيع نتنياهو تسجيل موضوع فرض السيادة في الضفة الغربية، الذي سيبدأ نقاشه في تموز/ يوليو المقبل، كإنجاز له. كما سيضمن نتنياهو بقاءه في مقر رئاسة الحكومة، حتى بعد انتهاء فترته، ويبقى كرئيس حكومة بديل، وسيحتفظ بكل امتيازاته. كما يضمن نتنياهو بقاء معسكر اليمين من خلفه، رغم احتمال بقاء حزب “يمينا” خارج الائتلاف. كما شمل الاتفاق بنودًا تسمح بحل الحكومة، دون أن يصل غانتس إلى رئاستها (سيجال و ليال 2020).

    أما غانتس، فسوف يحصل على منصب رئيس حكومة بديل من لحظة أداء الحكومة للقسم، وهو ما لم يحصل عليه أحد سابقًا، إضافة إلى حصوله على نصف الحقائب الوزارية، رغم قلة عدد كتلته النيابية مقارنة بمعسكر اليمين، وكذلك توليه منصب وزير الدفاع. كما حصلت كتلته على الوزارات الهامة، مثل وزارتي الدفاع والخارجية، وذلك فقط خلال فترة رئاسة نتنياهو للحكومة، على أن تحول هذه الوزارات إلى حزب الليكود عند تولي غانتس رئاسة الحكومة، وكذلك وزارة القضاء، ويمكن له الحصول على أغلبية في لجان اختيار القضاة لغير المحكمة العليا. كما سيصبح غانتس رئيسًا للحكومة لمدة 6 شهور تلقائيًا، في حال قرر نتنياهو حل الكنيست، ودون حاجة ليقدم نتنياهو استقالته. كما ضمن غانتس إدخال أعضاء للكنيست من حزبه كبدلاء للوزراء. أما في حال التصويت على حل الكنيست أثناء ولايته، فسيبقى غانتس في رئاسة الحكومة، كرئيس حكومة انتقالية. وفي حال قررت المحكمة العليا منع نتنياهو من الاستمرار في رئاسة الحكومة أثناء نوبته، فسيتم حل الكنيست، وسيتولى غانتس رئاسة الحكومة الانتقالية. لكن في حال قرر نتنياهو الاستقالة، أو مرض، أو عجز عن القيام بوظيفته لسبب قاهر، فإن نائبه يحل مكانه مدة الـ 18 شهرا المقررة له، إلى أن يعود فيستلم رئاسة الحكومة وفقا للاتفاق. كما ينص الاتفاق على أن لا يملأ أي شخص مكان أي من نتنياهو وغانتس من حزبيهما، في حال التغيب القسري لأحدهما، ويذهب الجميع لانتخابات جديدة في حالة حدوث ذلك (سيجال و ليال 2020).

    الفلسطينيون في حكومة الطوارئ

    كما شمل اتفاق حكومة الطوارئ، تفاهمات بين حزبي الليكود و”أزرق أبيض”، على أن يقوم نتنياهو، وبعد الاتفاق مع الأمريكان على فرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية المحتلة، بمناقشة الاتفاق مع رئيس الحكومة البديل غانتس، ثم مناقشته في المجلس الوزاري، وفي الكنيست، وضم جميع المستوطنات، حيث يبدأ النقاش بداية تموز/ يوليو 2020.

    وشمل الاتفاق أيضا، عدم إجراء أي تعديل على “قانون القومية”، الذي يعرف “إسرائيل” على أنها الوطن القومي للشعب اليهودي حول العالم، لكنه لم يتطرق لمسألة ضم الأغوار والبحر الميت، التي طالب بها تحالف أحزاب اليمين. ونقلت صحيفة “يسرائيل هيوم” عن مصادر مطلعة على مفاوضات الائتلاف الحكومي، أنه “بموجب حكومة الطوارئ، سيجري فرض السيادة الإسرائيلية وضم المستوطنات”، مشيرا إلى أن رئاسة نتنياهو لحكومة مستقرة وواسعة، ستخلق الظروف لبدء إجراءات الضّم، لكنه ربط ذلك ببقاء دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية (وتد 2020).

    ويضم الائتلاف الحكومي رئيس حزب العمل عمير بيرتس، الذي سيكون وزيرا للاقتصاد، وإيتسك شمولي وزيرا للرفاه الاجتماعي، وذلك على حساب الموقف التاريخي لحزب العمل من حل الدولتين، رغم أن رئيس الحزب عمير بيرتس، نفى الادعاءات ضد الاتفاق، وأكد أنه غير ملتزم بقرارات الائتلاف كافة، وأن الحزب لن يصوت لصالح أي قرار ضم من جانب واحد (i24NEWS 2020).

    أما اتفاق حزب العمل بقيادة عمير بيرتس، مع نتنياهو، الذي نشرته صحيفة هآرتس في 25 نيسان/ إبريل، فلم يتطرق لعملية التسوية مع الفلسطينيين، رغم نصه على المحافظة على اتفاقيات السلام، والمصالح الأمنية والسياسية لدولة “إسرائيل”، والعمل على إعادة الجنود المفقودين من غزة، كشرط مسبق لأي اتفاق أو تسهيلات اقتصادية لقطاع غزة. كما شمل الاتفاق تحديد أجندة جديدة تجاه حركة حماس في قطاع غزة، وإعادة الردع الإسرائيلي أمام الفصائل الفلسطينية في القطاع. (ناصر 2020)

    الضم بغطاء الكورونا

    كتب الجنرال أودي ديكل، مدير مركز دراسات الأمن القومي، ومعه الباحثتان ليا موراد جلعاد، وعنات كورتس، ورقة نشرها المركز بتاريخ 26/4/2020، اعتبروا فيها أن فترة الكورونا، وفترة وجود ترامب في الرئاسة الأمريكية، ورغبته بترك بصماته على التاريخ، مع احتمال عدم فوزه بفترة إضافية في البيت الأبيض، وحاجته الملحة لأصوات الصهيونية المسيحية في الانتخابات، تشكل فرصة تاريخية لفرض السيادة الإسرائيلية على كل المستوطنات، وذلك على الأقل من وجهة نظر مجموعة المصالح التي يقودها بنيامين نتنياهو. فنتنياهو يرى وجود فرصة تاريخية لفرض السيادة الإسرائيلية دون عملية تسوية، وهي فرصة لم تكن سابقًا، وقد لا تتكرر مستقبلًا، في ظل انشغال زعماء العالم بأزمة الكورونا. ومن وجهة نظر هؤلاء الباحثين، فإن هذا التوجه خطير على مستقبل دولة “إسرائيل”، حيث سيخلخل الأسس التي تقوم عليها، وهي، على حد زعمهم، اليهودية والديموقراطية والأمن والأخلاقية، الساعية للسلام مع جيرانها. لذلك يدعون الحكومة الجديدة، لدعوة قيادة السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات، التي تشكل خطة ترامب إحدى مرجعياتها. وإذا استمرت السلطة بالرفض، فعلى الحكومة أن تطلب دعم الجمهور لتنفيذ انفصال من طرف واحد عن الفلسطينيين، يشمل أيضا ضمًا متدرجًا للأراضي، ويضمن، على حد تعبيرهم، مصالح “إسرائيل” السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية (ديكل، موران جلعاد و كورتس 2020).

    نص الاتفاق بين نتنياهو وغانتس، على العمل بالتوافق الكامل مع الولايات المتحدة، لا سيما في مسألة رسم الخرائط، والحديث مع المجتمع الدولي، مع الحفاظ على مصالح “إسرائيل” الاستراتيجية، والاستقرار في الإقليم. وكان نتنياهو قد وعد ناخبيه بضم غور الأردن، وفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات، والتي تعني ضم أراضي المستوطنات لـ “إسرائيل”. ومن الملاحظ أن “إسرائيل” تتلاعب بالألفاظ، لتتلاءم مع الوضع القانوني دوليًا ومحليًا. ففي موضوع الجولان، لم يتم استخدام عبارة “فرض السيادة”، لأن الأرض سورية في القانون الدولي، وإنما تم استخدام عبارة “تطبيق القانون الإسرائيلي”. أما في الضفة الغربية، فيتم الحديث عن “سيادة إسرائيلية”، وتجنب كلمة “الضم”، لما لها من دلالات سلبية، لأن من يقوم بالضم، يفعل ذلك على أرضٍ ليست له أصلًا. لذلك يتفق الجميع في “إسرائيل”، على استخدام تعبير “فرض القانون الإسرائيلي”، أو “السيادة الإسرائيلية”، وليس “الضم”. وبهذا المصطلح، تنتقل الأرض من أرض محتلة، إلى أرض تتبع لـ “إسرائيل”، ويتحول سكانها تلقائيا إلى مواطني دولة “إسرائيل”، كغيرهم في أي مكان آخر في الدولة (ديكل، موران جلعاد و كورتس 2020).

    وهنا، يشير باحثو مركز دراسات الأمن القومي، إلى عدة سيناريوهات للضم، أو فرض السيادة:

    1. ضم الأراضي التي تحتلها المستوطنات، والتي تبلغ 4% من مساحة الضفة المحتلة، إضافة إلى الأراضي التي تتبع قانونيًا للمستوطنات، ومجموعها حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية.
    2. ضم الكتل الاستيطانية، والتي تقع أغلبيتها غرب الجدار الفاصل، وتبلغ نسبتها أيضا 10% من الأرض المحتلة عام 1967 في الضفة الغربية، وهذ السيناريو يحظى بإجماع إسرائيلي.
    3. ضم غور الأردن الذي تبلغ مساحته حوالي 17% من مساحة الضفة الغربية.
    4. ضم مناطق (ج) التي تبلغ مساحتها 60% من مساحة الضفة.
    5. ضم الأراضي التي أشارت إليها خطة ترامب، والتي تبلغ نصف منطقة (ج)، أي 30% من الضفة الغربية، وتشمل: الغور 17%، والمستوطنات 3%، والأراضي التابعة لها 10%، مقابل ما سيعطى للدولة الفلسطينية، والأراضي التي ستلحق بقطاع غزة، من النقب الغربي(ديكل، موران جلعاد و كورتس 2020).

    ويضيف هؤلاء الباحثون، أن كل خطوة في هذا الإطار، مهما كانت تسميتها، ضم، أو فرض قانون، أو غيرها، كلها مرتبط بمخاطرة، كمواجهة الكورونا بالضبط، فلا شيء مضمون ولا مؤكد. وبينما يضحون بالاقتصاد من أجل حماية الأرواح في أزمة الكورونا، يغامر السياسيون المشاركون في الائتلاف الحكومي، بأثمان سياسية وأمنية لخطوة مثل الضم، حتى لو تم بالتوافق والتأييد من قبل ترامب. لذلك يرى هؤلاء الباحثون، أن الإغراء يكمن في استغلال فرصة الكورونا، واستغلال آخر أيام ترامب، لضم المستوطنات التي تبلغ نسبتها 4% فقط من الأرض، وذلك كبالون اختبار. فهذه الخطوة قد تمر في ظل الفرصة السانحة كما يقولون، ولكنها لن تحسن الوضع الاستراتيجي لـ “إسرائيل”، حتى لو أمكنها احتواء ردود الفعل السلبية، فلن يعترف أحد بهذه الخطوة غير الولايات المتحدة، بالضبط مثل سابقة الجولان. وعلى صعيد المستوطنين أنفسهم، فلن يأتي عليهم وضع جديد، فهم مواطنو دولة “إسرائيل” أصلًا، بل ربما تزداد التعقيدات البيروقراطية بشأن الأرض، إضافة إلى أن هذه الخطوة، ستعيق أي عودة للمفاوضات، وإذا ما تم التوصل لاتفاق يومًا ما مع الفلسطينيين، فسيكون من الصعب تطبيقه قانونيًا، وسيتطلب مثلًا استفتاءً عامًا، أو أغلبية ثلثي أعضاء الكنيست. وفي نفس الوقت، فإن هذا الضم لن يصادر حق الفلسطينيين بتقرير المصير، ولن يلغي التأييد الدولي لهم. وعليه، سيكون الضم مجرد خطوة سياسية معنوية، ضررها أكبر من نفعها. وإذا كان الهدف هو منع إخلاء مستوطنين، فإن هذا الأمر على المدى المنظور، ليس مطروحًا على جدول أعمال أحد. وهذه الآثار السلبية، ليست حصرًا على هذه المرحلة تحديدًا، وإنما في كل ظرف، وفي أي وقت. لذا، يجب أن لا يتم ربطها بالكورونا، أو استغلالها لتقليل المخاطر (ديكل، موران جلعاد و كورتس 2020).

    أما ضم نصف مناطق (ج) وفقًا لخطة ترامب، فمعناه، وفقًا لباحثي المركز، إغلاق أي نافذة لتسوية مستقبلية مع الفلسطينيين، لأنه لن يتبقى أرض لإقامة دولة فلسطينية، إضافة إلى أن مثل هذه الخطوة، من شأنها أن تضرب الثقة بـ “إسرائيل”، وفكرة حل الدولتين، من قبل الفلسطينيين والعرب والمجتمع الدولي، مما قد يدفع السلطة لإعادة المفاتيح، وهو ما يعني عودة المسؤولية عن الفلسطينيين إلى “إسرائيل”، وهذا مكلف أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا لها، إضافة إلى الضرر الأكبر، على أساس أنها دولة يهودية وديموقراطية. فالضم مع السكان، يعني الذهاب إلى خيار الدولة الواحدة. لذا ينصح الباحثون الحكومة الجديدة، بدعوة قيادة السلطة الفلسطينية للعودة إلى المفاوضات، وإذا استمرت السلطة بالرفض، تلجأ “إسرائيل” لخطوات أحادية، مع تجنيد دولي، وضم تدريجي لا يتناقض مع الانفصال، ومع إمكانية إقامة دولة فلسطينية، ديموغرافيًا وجغرافيًا (ديكل، موران جلعاد و كورتس 2020).

    ويمكن تلخيص تداعيات تشكيل حكومة غانتس نتنياهو على المشهد الفلسطيني كما يلي:

    • المضي في خطة الضم في الضفة الغربية، والتوسع الاستيطاني على حساب مسار التسوية السلمية، والسلطة الفلسطينية، نتيجة لزيادة قوة اليمين الإسرائيلي، الذي يتزعمه نتنياهو، وكسره لمعسكر يمين الوسط بزعامة غانتس. كما أن انضمام غانتس وعمير بيرتس لحكومة اليمين، لن يشكل أي نوع من المعادلة لحدة هذا اليمين، لأن غانتس وبيرتس، حتى لو أرادا، سيكونان ضعيفين في هذا التحالف. علما أن غانتس وافق بالفعل على الضم كبرنامج للائتلاف، وتخلى عن مطالبه بالتفاوض مع الفلسطينيين عند توقيع الاتفاق، والتي كان قد أعلنها سابقًا.
    • على الجبهة الجنوبية، يمكن توقع احتمالات تهدئة أقوى مع قطاع غزة، في ظل حكومة قوية بكامل الصلاحيات والتفويض، وفي ظل التحرر النسبي من مزايدات نفتالي بينيت، وحزبه اليميني المتشدد، الذي كان يعترض على أي تهدئة طويلة، وعلى تسهيلات حقيقية لقطاع غزة. ومن المتوقع أن تساعد هذه الحكومة على تحريك ملف الجنود المفقودين، باتجاه صفقة تبادل مع حركة حماس(العيس 2020).

    ملف الجنود المفقودين

    في أعقاب تصريح يحيى السنوار في الثاني من نيسان/ إبريل، بأن حماس جاهزة لتنازلات في ملف الجنود المفقودين، بدأت مسألة الجنود تتفاعل. وصرح نتنياهو بأن حكومته جاهزة للعمل على إعادة جثث القتلى المفقودين، وقال إن منسق الحكومة لهذا الغرض يرون بلوم، وطاقمه، بالتعاون مع مجلس الأمن القومي، والمؤسسة الأمنية، جاهزون بشكل بنّاء للمهمة. ونقلت صحيفة معاريف العبرية عن صحيفة إيلاف السعودية، الصادرة في لندن، استعداد حماس للتنازل. ونقلت الصحيفة أيضا عن مصادر في حماس، أن السنوار مستعد لتقديم معلومات، مقابل تحرير كبار السن والمرضى والنساء والأطفال من الأسرى. كما كان السنوار قد قال في مقابلة مع قناة الأقصى، إنهم جاهزون لتقديم ثمن جزئي، دون أن يعطي تفاصيل. ونقلت الصحيفة عن مصادر من غزة، صرحت لصحيفة العربي الجديد الصادرة بلندن، أن الإسرائيليين طلبوا من المصريين، بحث جدية تصريح السنوار، وأن الإسرائيليين يتشاورون مع المصريين بشأن قناة تفاوُض، وتقديم مبادرات تتعلق بإدخال غذاء ودواء لغزة، إضافة إلى إفراج عن أسرى، ولكن بعيدًا عن مطالب حماس، حسب قول الصحيفة. كما أكدت المصادر، أن مصر تبذل جهودًا لمنع التصعيد، ومنع وقوع جولة قتال جديدة في ظل أزمة الكورونا (برسكي 2020).

    وكانت صحيفة معاريف نشرت قبل ذلك بأسبوع، أن مصادر أمنية وسياسية، تحدثت عن آثار جائحة الكورونا على قطاع غزة، والتي من شأنها خلق فرصة لتحريك ملف الأسرى والمفقودين. ويؤكد ذلك تصريح وزير الجيش نفتالي بينيت، بأن لـ “إسرائيل”، كما لغزة، حاجات إنسانية، وربطه بين المساعدات لغزة، وبين التقدم في المفاوضات بشأن الأسرى والمفقودين. وقالت الصحيفة إنه بموازاة هذا التصريح، كانت هناك نقاشات حول المسألة داخل المؤسسة الأمنية (رم 2020).

    في 23 نيسان/ إبريل، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت على موقعها، أن أنباءً تحدثت عن مبادرة مصرية لتشجيع حماس على التفاوض، تمثلت بالإفراج عن أربعة أطباء فلسطينيين كانوا معتقلين لديها. ونقلت عن صحيفة الأخبار اللبنانية، أن احتمالات إجراء صفقة، هي احتمالات تتزايد، وأن مصر هي من تقوم بالوساطة، وأنها أفرجت عن الأطباء الأربع المعتقلين لديها منذ سنة ونصف، في هذا الإطار. وأضافت الصحيفة أن المخابرات المصرية، تقوم بدور مركزي في السنوات الأخيرة؛ للحفاظ على التهدئة بين قطاع غزة و “إسرائيل”، وأن مصر وحماس سعداء باتفاق الوحدة بين نتنياهو وغانتس؛ لأنه سيمكن الحكومة الإسرائيلية الجديدة، من اتخاذ خطوات مهمة، مثل صفقة تبادل. ونقلت الصحيفة عن مصادر دولية، أن حماس تريد تحرير أحد الأسرى الجنود الأحياء لديها، مقابل الأسرى الفلسطينيين كبار السن والمرضى والنساء، وأن أزمة الكورونا شكلت سُلّمًا لحماس، لتنزل عن الشجرة بشأن الشرط الذي تمسكت به لسنوات، والذي منع التقدم بأي مفاوضات، وهو شرط الإفراج المسبق عن معتقلي صفقة وفاء الأحرار، ممن أعاد الاحتلال اعتقالهم. وأكدت الصحيفة أن إعلان حماس عن استعدادها، هو مؤشر على الجدية، وأن “إسرائيل” تدرس الأمر بجدية من أجل تحقيق صفقة، وأنها أوصلت لحماس رسالة مشابهة (ليفي 2020).

    وفي 24 نيسان/ إبريل، تحدثت صحيفة معاريف، عن أن العقبة التي تقف أمام المفاوضات الآن، هي أن حماس تريد صفقة جزئية، بينما تريد “إسرائيل” صفقة شاملة. ورغم تأكيد مصادر إسرائيلية حدوث تقدم في المفوضات، إلا أن الفجوات ما زالت كبيرة (ليف رم 2020).

    وفي 30 نيسان/ إبريل، نشرت صحيفة “إسرائيل هيوم” على لسان قيادي في حماس، أن هناك مفاوضات جدية على صفقة تبادل أسرى، وأن مصر تقوم بالوساطة، وأن الخلاف يكمن حول إتمام الصفقة على دفعة واحدة أو دفعتين. فحماس كما يزعم، تريد إطلاق سراح دفعة من الأسرى الفلسطينيين، مقابل أحد الجنود الإسرائيليين الأحياء، ومقابل معلومات عن بقية الجنود، بينما تريد “إسرائيل” صفقة واحدة للجميع، تشمل تسليم الجميع أحياءً وأمواتًا، وتعرض تقديم مساعدات لغزة لمواجهة الكورونا، ومشاريع اقتصادية بتمويل من قطر والأمم المتحدة، مقابل دفع المفاوضات إلى الأمام. ولكن حسب قول الصحيفة، فإن القيادي أخبرهم أن المكتب السياسي لحماس، ومسؤول ملف الأسرى فيها موسى دودين، يرفضون المفاوضات طالما ترفض “إسرائيل” إطلاق سراح القائمة التي طلبتها حماس (سيريوتي 2020).

    على “إسرائيل” أن تكون جاهزة لرئاسة بايدن

    تحدثت ورقة صدرت عن مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ونُشرت في مجلة “مبات عال” بتاريخ 22 نيسان/ إبريل، عن احتمال فوز المرشح الرئاسي الأمريكي الديموقراطي جو بايدن، الذي، ورغم حبه لـ “إسرائيل”، ودعمه لها، واعتباره لنفسه صهيونيًا، وحبه لنتنياهو الذي تربطه به علاقات شخصية منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن علاقته بـ “إسرائيل” قد تشهد توترًا حول مسألتين: الأولى هي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لذلك دعت الورقة إلى مبادرة إسرائيلية استباقية، بفتح قنوات سرية مع المقربين منه، لبناء الثقة وتنسيق المواقف. والثانية هي الاتفاق النووي الإيراني. فالمرشح بايدن يدعو للضغط على “إسرائيل” باتجاه حل الدولتين، ومن الطبيعي أن خطوات الضم التي تعتزم “إسرائيل” تنفيذها في ظل خطة ترامب، لن تكون محل ترحيب لديه، مع العلم أن الناطق باسم حملته الانتخابية، تحدث عن أن بايدن لن يعيد نقل السفارة الأمريكية من القدس، لكنه سيعيد فتح القنصلية في شرقي القدس، لتقوم بنشاطها تجاه الفلسطينيين، وسيُبقي على موقفه من اعتبار القدس الغربية عاصمة لـ “إسرائيل”، والقدس الشرقية عاصمة لفلسطين. وبالنسبة للاتفاق مع إيران، فقد أعلن بايدين نيته العودة للاتفاق، إن قبلت إيران بذلك. لذا، ترى الورقة أنه يتحتم على “إسرائيل” أن تنشط بشكل سري، لبناء علاقات ثقة مع فريق بايدين، وتحديد خطوط عريضة متفق عليها بين البلدين في القضايا الهامة، إضافة إلى ضرورة تجنب “إسرائيل” الظهور كمؤيد لخصم بايدن في المعركة الانتخابية الأمريكية (هايستاين و شابيت 2020).

    الاقتصاد الإسرائيلي في مواجهة الكورونا

    نشر موقع كلكاليست في 28 نيسان/ إبريل، تقريرًا تحت عنوان “إسرائيل في طريق عقد إضافي ضائع، ولكن ما زال هناك ما يمكن عمله”. جاء في التقرير أن “إسرائيل” دخلت أزمة اقتصادية بعد حرب عام 1973 استمرت عشر سنوات، وأن كبار خبراء الاقتصاد في “إسرائيل”، يحذرون من أثر مثيل للكورونا، ويطرحون مجموعة من الحلول، مثل إصلاحات عميقة لا تتم عادةً، وسيطرة على الركود، والامتناع عن عمليات إنقاذ غير ضرورية. فتداعيات أزمة الكورونا، مستمرة في جر “إسرائيل” نحو المجهول. ولكن عددًا من خبراء الاقتصاد الكلي “الماكرو” في “إسرائيل”، يحذرون من أن “إسرائيل” ذاهبة إلى أزمة كتلك التي أعقبت حرب عام 1973، والتي ستقود إلى ركود ثقيل ومستمر. فرغم اختلاف المقدمات، إلا أن الخطر مشابه، رغم أنهم يقترحون مخرجًا يمنع ذلك، مثل: إصلاحات هيكلية عميقة، والامتناع عن أخطاء اقتصادية، والتوقف عن الشعبوية التي شهدتها السنة الأخيرة (بيلوت 2020).

    ووفقًا لهؤلاء الخبراء، على حكومة نتنياهو وغانتس، أن تجري تغييرات عميقة في الجهاز الضريبي، والأجور والحوافز، مع المحافظة الحازمة على العجز الهيكلي، المتعلق بالتغيرات الهيكلية التي طرأت على الاقتصاد في فترة محددة، وأثرت على المدخولات من الضرائب، وعليها أن تغير الخط الذي سارت عليه الحكومة السابقة، التي وزع فيها نتنياهو ووزير المالية موشيه كحلون، الأموال دون الحفاظ على إطار الميزانية، وأقروا قرارات مدمرة، مثل توزيع الأموال ورفع مخصصات خلال هذه المرحلة. ويقول هؤلاء الخبراء، إن الإصلاحات التي ستجري قريبًا، سيكون لها تأثيرات حاسمة على مستقبل “إسرائيل” الاقتصادي، لخمس أو عشر سنوات قادمة.

    يقول هؤلاء الخبراء: إذا استمر الإغلاق، فستتحول المشاكل قصيرة الأمد إلى طويلة الأمد، لأن قلة الدخل تعني قلة الاستهلاك، وكثير من سلع التسلية لن تجد لها زبائن، كالسياحة والسينما والمسرح والألعاب الرياضية، وبالتدريج سيتحول المُجازون الآن إلى بطالة دائمة. يقول البروفسور آبي بن بسات، مدير عام وزارة الاقتصاد سابقًا، إنه يتوجب على الحكومة، تقديم محفزات اقتصادية تؤدي لارتفاع مصروفات الحكومة، وهذه مشكلة كبيرة، حيث إن العجز كبير جدا بسبب الكورونا، مما تسبب بتقلص المدخولات الضرائبية. وفي ظروف كهذه، يصعب تقديم محفزات مع زيادة العجز، لذا يتطلب الوضع إصلاحات تسهل تنفيذ هذه السياسة، أي محفزات للأعمال، وهي إصلاحات مطلوبة حتى قبل الكورونا، لكنها أصبحت حيوية الآن لإنقاذ الاقتصاد (بيلوت 2020).

    ويؤيد هذا الموقف يورم جباي، مدير واردات الدولة في وزارة المالية، والمحاضر لأكثر من 20 سنة في التاريخ الاقتصادي لـ “إسرائيل”، حيث يرى أنه يجب التعايش مع الكورونا، ولكن يجب فتح السوق لـ 90% من النشاطات التجارية، مع الحفاظ على وسائل الوقاية. وحتى المقاهي والمطاعم يجب أن تعمل، حتى لو كان الثمن زيادة في الإصابات، ولو أدى إلى منحنى غير مسيطَر عليه أحيانًا. فهو، أي جباي، يدعو لتقليص العجز عبر إلغاء الإعفاءات الضريبية، وتقليص الرواتب في القطاع العام، وإذا لم تفعل “إسرائيل” ذلك، فسيحدث لها كما حدث لإيطاليا واليونان، حيث مرت إيطايا بأزمة عام 2008، أدخلتها في عشر سنوات من الضياع لنفس الأسباب، حيث تضخم العجز، وزادت البطالة (بيلوت 2020).

    البروفسور مومي دهان، من كبار خبراء الاقتصاد الكلي في “إسرائيل”، يرى أن هناك تشابهًا مع فترة حرب عام 1973، يتعلق بالضغط على متخذي القرار، وقدرتهم على تحمل هذا الضغط، حيث أخطأت القيادة آنذاك، وتجاهلت الفجوة المتزايدة بين المدخولات والمصروفات، وتضخم البطالة، الذي لولا المساعدات الأمريكية عام 1985، لأدى إلى إفلاس اقتصادي. واليوم، هناك من يظن أنه قادر على تخفيف الضرر، من خلال توزيعه، وهذا ما سيمنع انتعاشًا سريعًا. ومثال ذلك، رفع مخصصات الأطفال، وهو ما فعله نتنياهو مؤخرًا، أو تقديم مساعدات سخية للقطاع الخاص. ويحذر دهان من تمويل العجز عبر طباعة أوراق نقدية، وهي خطوة أدت إلى انهيار في السبعينيات. كما يحذر دهان، وبن بسات أيضا، من تقديم مساعدة للقطاع الخاص، إلا في حالات نادرة، كشراء أسهم في هذا القطاع، فهما يحذران من تقديم مساعدة لمشاريع لم يعد لبقائها أصلًا أي مبرر، مع العلم أنه لا يمكن تحديد هذه المشاريع، لذا فالمطلوب عدم تقديم أي شيء لأي مشروع (بيلوت 2020).

    أما البروفسور عومر مؤاب، مستشار وزير المالية السابق يوفال شتاينتس، فهو متفائل، لكنه يحذر من أخطاء ترتكبها الحكومة، مثل زيادة العجز الذي يمنع الانتعاش بسرعة بعد انتهاء الأزمة، لذلك فهو يحذر من تعويضات القطاع الخاص، التي ستزيد العجز، ويدعو في المقابل، إلى إعادة فتح القطاع الخاص، وعودته للعمل بأسرع ما يمكن. ويؤكد التحذيرات البروفسور ريكاردو هاوسمان، مدير مركز التطوير الاقتصادي الدولي في جامعة هارفارد، والذي يستذكر آثار حرب عام 1973، حيث ذهب كل الرجال من القطاع الخاص إلى الجبهة، فانهار الانتاج، ثم تضاعفت نفقات الحكومة على التسليح فجأة، لتعويض النقص في المستودعات. واليوم، ما زال الوضع قبل الذروة، لكن الخطر من الركود ما زال قائمًا، والبطالة تجاوزت 25%، ومن المتوقع حدوث أعلى ركود في تاريخ الدولة، مع تراجع الناتج المحلي الخام بـ 5 – 6.3%، وعجز بين 10% و 13%، ومع زيادة الديْن إلى 70% للناتج المحلي، مقابل 61% الموجود اليوم. ويضيف دهان أن التهديد الأمني في السبعينيات، الذي زاد النفقات العسكرية، موجود اليوم أيضا، وحينها عانى العالم من أزمة طاقة. ولكن منذ منتصف الثمانينيات وحتى اليوم، لا يعاني العالم، بل لديه فائض لـ 50 سنة قادمة. ويؤكد غباي أن هناك فروقًا كبيرة عن عقد السبعينيات، فاليوم لا توجد مواجهة مع عدد كبير من الدول العربية، ولا يوجد عجز حكومي في الإنتاج بـ 15%، ولا عجز في ميزان المدفوعات، ولا تضخم كبير، ولا مستوى عالٍ من الدين العام. فمن كل هذه النواحي، الوضع اليوم أفضل بكثير. ويضيف ارياب، أن لدى “إسرائيل” اليوم، احتياطي عملات أجنبية يبلغ 126 مليار دولار، وهي تشكل 32% من الناتج المحلي الخام، وهو ما لم يكن في عقد السبعينيات، الذي شهد فجوة هائلة بين مصروفات الدولة ومدخولاتها، بسبب الإنفاق العسكري المتصاعد، ورفض الحكومة تقليص نفقاتها المدنية، ولجوئها لطباعة عملة ساهمت بزيادة التضخم كثيرًا (بيلوت 2020).

    توصيات مركز دراسات الأمن القومي

    نظم مركز دراسات الأمن القومي، ورشتي عمل تحت عنوان “محاكاة كابينيت الكورونا”، الأولى في 23 نيسان/ إبريل، والثانية في 27 منه، حاول فيهما التعرف على استراتيجيات مواجهة الكورونا، التي من شأنها إعادة الاقتصاد والمجتمع إلى الوضع الروتيني السابق. تناولت ورشتا العمل كيفية مواجهة المخاطر بشكل منظم وتشاركي، بين الصحة والاقتصاد والمجتمع، وآلية اتخاذ القرار. وتحدثت عن سيناريوهات بداية شهر أيار/ مايو، وفي مركزها ارتفاع عدد الإصابات الصعبة، وعدد الوفيات، نتيجة التسهيلات التي أعلنت عنها الحكومة، وضعف التزام الجمهور، وارتفاع نسبة البطالة، ووصول عدد فاقدي العمل المسجلين إلى 900 ألف، مع عودة 200 ألف إلى أعمالهم، و200 ألف مستقلون ليسوا عاملين، وانخفاض الانتاج بـ 70 مليار شيكل، مع زيادة عدد المحتاجين للمساعدة النفسية، إضافة إلى إطلاق صواريخ الجهاد الإسلامي، التي سبقت ورشة المحاكاة (بارون و ييدلين 2020).

    شارك في المحاكاة مجموعة من الخبراء بأدوار وزراء وقادة أجهزة مختلفة، ولعب دور رئيس الحكومة، اللواء المتقاعد عاموس ييدلين، الذي لخص توصيات (قرارات) كابينيت المحاكاة، فأوصى بإدارة عقلانية للأزمة، مثل عودة تدريجية للعمل، وبشكل مدروس وانتقائي، بحيث يميز بين المناطق حسب حجم انتشار المرض، وبين الناس حسب درجة الخطورة، ككبار السن مثلًا. وهذا يتطلب حجمًا كبيرًا للفحوصات، وشفافية مع الجمهور، ومتحدثين جيدين لمخاطبته. وكما قال ييدلين، لا حاجة لإخفاء معلومات عن الجمهور، فالكورونا لن تسمع، ولن تعرف، ولن تتخذ تدابير بناءً على المعلومات المنشورة. ومن أهم التحديات التي ناقشها كابينيت المحاكاة، إلى جانب الاقتصاد والصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية، التهديدات الأمنية، مثل الصواريخ من غزة، وغيرها، حيث يمكن لأعداء “إسرائيل”، على حد وصفهم، استغلال أزمة الكورونا، لبناء قوتهم التقليدية، وغير التقليدية، وتطويرها (بارون و ييدلين 2020).

    الخاتمة

    فاز اليمين بزعامة بنيامين نتنياهو، في الانتخابات التي جرت مطلع آذار/ مارس 2020، لكنه لم يحسم المعركة الانتخابية لصالحه، كما كانت تتوقع عناوين الصحف في حينه، إلا أنه في شهر نيسان/ إبريل، حسم المعركة باستسلام الخصم، وتفكك تحالفه، وانضمامه لحكومته وفق برنامجها السياسي، مقابل مغريات من المناصب والكراسي. وكان الموضوع الفلسطيني هو الأهم في برنامج الحكومة الجديدة، حيث اتفق المتعاقدون على خطوات في هذا الاتجاه، بالتوافق مع الإدارة الأمريكية، ومن ثم يتم عرضها على الحكومة، وربما على الكنيست، الأمر الذي استدعى النخب والخبراء، من أمثال مركز دراسات الأمن القومي، لمناقشة الخيارات المتاحة أمام الحكومة، وتداعيات كل خيار، مع ضرورة التنسيق التام مع الأمريكان، والتفاوض مع السلطة الفلسطينية.

    كما شكل الاتفاق على تشكيل الحكومة، نقطة تحول بشأن العلاقة مع غزة، لا سيما التهدئة الطويلة، وملف التبادل. فقد كان غياب حكومة منتخبة وكاملة الصلاحيات، عائقا أمام تطور الموقف مع غزة، إيجابًا أو سلبًا، وساهم بشكل كبير في استمرار حالة اللا هدوء واللا حرب، وجولات التصعيد المتقطعة، والجمود الكامل في ملف التبادل. أما بعد تشكيل حكومة قوية، تستند إلى أغلبية برلمانية مريحة، فيمكن الحديث عن قرارات حاسمة ومصيرية، يمكن اتخاذها، لا سيما بشأن عملية التبادل.

    وفي ظل الكورونا، يتطلب الأمر الاستعداد لسيناريوهات ذهاب ترامب ومجيء بايدن للحكم، إضافة إلى مناقشة الوضع الاقتصادي الآن وبعد الأزمة، حيث حذر الخبراء من ركود وعجز عميقيْن، ودعوا إلى خروج عاقل من الأزمة، بإعادة نشاط الاقتصاد تدريجيا، مع الأخذ بكثير من الأسباب، لتقليص الأضرار بسبب العمل في ظل الكورونا.

    المراجع

    1. i24NEWS. لجنة حزب العمل توافق على انضمام الحزب لحكومة الوحدة برئاسة نتنياهو. 26 4, 2020. https://www.i24news.tv/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/middle-east/1587917867-%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%A9-%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84-%D8%AA%D8%B5%D9%88%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%86%D8%B6%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AD%.
    2. ادريان بيلوت. إسرائيل في طريقها إلى إضافي ضائع، لكن ما زال هناك ما يمكن عمله (يسرئيل بدرخ لعسور أبود نوساف،ابال عداين يش ما لعسوت). 28 4, 2020. https://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3812550,00.html.
    3. آري هايستاين، و الداد شابيت. على إسرائيل أن تكون جاهزة لرئاسة بايدن (يسرئيل حييفت لهيعرخ لافشروت شبايدي اكهين كنسي). 22 4, 2020. https://www.inss.org.il/he/publication/joe-biden-israel-relationship/.
    4. الجزيرة. تقديرات.. كورونا يكبد إسرائيل خسائر بـ13 مليار دولار. 17 3, 2020. https://www.aljazeera.net/news/ebusiness/2020/3/17/%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%B1-%D8%AE%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%85%D8%AA%D9%88%D9%82%D8%B9%D8%A9-%D8%A8%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D9%83.
    5. اليئور ليفي. أنباء:بادرة مصرية لتشجيع صفقة تبادل مع حماس (ديفوح: محفاه متسريت لكيدوم عسكات شبوييم عم حماس ). 23 4, 2020. https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5719528,00.html.
    6. امنون ابرموفيتش. هكذا فخخ نتنياهو غانتس واشكنازي (كاخ ميلكيد نتنياهو ات غانتس واشكنازي. 26 4, 2020. https://www.mako.co.il/news-columns/2020_q2/Article-09ecb3d94b5b171026.htm.
    7. انارايبا برسكي. נתניהו: “ערוכים לפעול במטרה להשיב את החללים והנעדרים“. 7 4, 2020. https://www.maariv.co.il/news/politics/Article-758852.
    8. اودي ديكل، ليا موران جلعاد، و عنات كورتس. ضم برعاية الكورونا (سيفوح سوت هكورونا). 26 4, 2020. https://www.inss.org.il/he/publication/the-coronavirus-and-the-annexation/.
    9. ايتان بارون، و عاموس ييدلين. محاكاة “كبينيت الكورونا”2#-مفاهيم أساسية (سيمولاتسيت “كبينيت هكورونا”2#-توبنوت عكريوت). 27 4, 2020. https://www.inss.org.il/he/publication/corona-cabinet-2/.
    10. ايسر العيس. عريقات: ائتلاف “نتنياهو-غانتس” يهدد أمن وسلام الشرق الأوسط. 21 4, 2020. https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9/%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D8%A6%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81-%D9%86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%87%D9%88-%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B3-%D9%8A%D.
    11. تال ليف رم. مسؤولون بإسرائيل:تقدم بالمفاوضات على صفقة أسرى ومفقودين (بخيريم بيسرئيل: هتكدموت بمجعيم لعسكات شبوييم ونعدريم ). 24 4, 2020. https://www.maariv.co.il/news/military/Article-761739.
    12. —. مصادر تزعم :”الكورونا خلقت فرصة للتقدم في جزئية الأسرى والمفقودين ” (جورميم طوعنيم:”هكورونا يتسرا هزدمنوت لهتكدم بسوغيات هشبوييم فهنعدريم “). 3 4, 2020. https://www.maariv.co.il/news/military/Article-758027.
    13. دانييل سيريوتي. قيادي في حماس يؤكد :”مفاوضات جدية لصفقة تبادل أسرى ” (بخير بحماس مأشر:”مغعيم مشمعوتييم لعسكات حيلوفي شبوييم”). 30 4, 2020. https://www.israelhayom.co.il/article/756365?utm_source=General&utm_medium=share&utm_campaign=IHNewApp.
    14. عرب 48. نتنياهو وغانتس يوقّعان على اتفاق تشكيل الحكومة. 20 4, 2020. https://www.arab48.com/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1/%D8%A7%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D8%B9%D8%A7%D8%AC%D9%84%D8%A9/2020/04/20/%D8%A3%D9%86%D8%A8%D8%A7%D8%A1-%D8%B9%D9%86-%D8%AA%D9%88%D9%82%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%AA%D8%.
    15. عميت سيجال، و دفنا ليال. حكومة إسرائيل ال 35: الاتفاق الكامل بين نتنياهو وغانتس (ممشلات يسرئيل ه 35:ههسكيم هملي بين نتنياهو لغانتس). 20 4, 2020. https://www.mako.co.il/news-politics/2020_q2/Article-71b065d6e889171026.htm.
    16. كلكاليست. 2020. https://www.calcalist.co.il/markets/articles/0,7340,L-3806531,00.html.
    17. محمد محسن وتد. بالتناوب بين نتنياهو وغانتس.. كورونا يعجل بتشكيل حكومة وحدة بإسرائيل. 20 4, 2020. https://www.aljazeera.net/news/politics/2020/4/20/%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-%D9%88%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%86%D8%AA%D9%86%D9%8A%D8%A7%D9%87%D9%88-%D8%BA%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%B3-%D8%AA%D9%86%D8%A7%D9%88%D8%A8-%.
    18. ناصر ناصر. تقدير موقف..حكومة نتنياهو غانتس ماذا تعني؟ 28 3, 2020. https://www.palinfo.com/articles/2020/3/28/%d8%aa%d9%82%d8%af%d9%8a%d8%b1-%d9%85%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d8%a9-%d9%86%d8%aa%d9%86%d9%8a%d8%a7%d9%87%d9%88-%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%b3-%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d8%aa%d8%b9%d9%86%d9%8a%d.
    19. —. غزة في حكومة الضم. 28 4, 2020. http://hadarat.net/public/post/1479#.XqlCWeE-PGs.whatsapp.
  • مقال: الإخوان المسلمون الفلسطينيون ونشأة فتح (2)

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    أشرنا في المقال السابق إلى علاقة الإخوان المسلمين الفلسطينيين ببدايات فتح في الكويت وقطاع غزة. ونتابع في هذا المقال الإشارة إلى هذه العلاقة في بعض البلدان الأخرى:

    مصر:

    كما ذكرنا سابقاً، فإن بؤرة النقاش التي أدت لفكرة فتح، تركزت على ما يبدو وسط طلاب الإخوان في الجامعات المصرية، خصوصاً سنة 1956. ظهرت الدعوة لفتح في القاهرة سنة 1958 تقريباً، وقد حاول ياسر عرفات إقناع زميله عدنان النحوي، مسؤول الإخوان الفلسطينييين، بالانضمام لفتح، وضم من معه من الإخوان إليها، لكنه لم ينجح، غير أن فتح أخذت تنتشر في الوسط الإخواني بشكل فردي هادئ.

    واختار رواد فتح الأوائل في القاهرة، على الأغلب، الاستمرار في عضوية الإخوان، في بدايات مشوارهم مع فتح، ومالوا إلى متابعة تجنيد من يمكن تجنيده من الإخوان، ثم انسحبوا لاحقاً بشكل هادئ. وكان من أبرز النماذج رياض الزعنون الذي كان مسؤولاً بارزاً في العمل الطلابي الإخواني في القطاع، وفي مراحل دراسته الأولى في القاهرة. وكان هناك عبد الله صيام، الذي كان من أبرز الناشطين العمل العسكري الإخواني الخاص إلى جانب خليل الوزير. وقد حاول صيام في أثناء إقامته في القاهرة أن يُجنّد أعضاء أسرته الإخوانية في فتح، وكان من بين أفراد الأسرة محمد صيام وعبد الرحمن بارود.

    الضفة الغربية وشرق الأردن:

    في الأردن، بما في ذلك الضفة الغربية (التي كان قد تم توحيدها مع شرق الأردن منذ سنة 1950)، مثَّل الإخوان حاضنة مهمة وأساسية لبدايات حركة فتح. وبحسب هاشم عزام، الذي كان من الإخوان الذين انتموا لفتح في أواخر الخمسينيات، فإن قادة الثورة (فتح) في الأردن "كلهم كانوا إخوان مسلمين في البداية".

    ويظهر أن مخيم عقبة جبر قرب أريحا (حيث كان يقيم فيه نحو 70 ألف لاجئ) كان أحد أبرز محاضن بدايات فتح في الضفة الغربية. فقد كان من أوائل القادمين إليه (ممن أصبحوا من مؤسسي فتح) حمد العايدي (أبو سامي) الذي كان مساعداً لخليل الوزير في العمل العسكري الخاص للإخوان في القطاع، إذ هرب من القطاع سنة 1954. فقد تولى مسؤولية قسم الطلاب في شعبة الإخوان في المخيم؛ كما تولى أمانة سر الشعبة نفسها. واستقر في المخيم سنة 1957 عبد الفتاح حمود بعد تخرجه مهندساً للبترول من جامعة القاهرة، وكان نائباً لرئيس رابطة الطلبة الفلسطينيين (ياسر عرفات، ثم صلاح خلف)، وكان من نشطاء الإخوان البارزين. وقد استلم حمود رئاسة قسم الطلاب في عقبة جبر خلفاً للعايدي، وحقق قفزة نوعية في تنظيم الطلبة الإخوان، وفي الشعبة ككل. وبحسب هاشم عزام، فقد كانت بداية العمل مع فتح في سنة 1959، بناء على ترتيبات قام بها عبد الفتاح حمود.

    وانتقل للإقامة في مخيم عقبة جبر محمد يوسف النجار، الذي كان من قادة النظام الخاص للإخوان في منطقة رفح، وكان من أطول القيادات المؤسسة لفتح إقامة في المخيم. وقد غادر للعمل في قطر سنة 1960.

    وفي القدس كان من الإخوان القياديين الذين انضموا لفتح رمضان البنا، الذي كان سكرتيراً لكامل الشريف في المؤتمر الإسلامي في القدس. ومن القدس أيضاً زكريا قنيبي وموسى غوشة (شقيق إبراهيم غوشة).

    وفي شرق الأردن في عمَّان، كان من رواد فتح من ذوي الخلفية الإخوانية محمد غنيم (أبو ماهر)، وعبد الله جبر، ومحمد أبو سردانة (وكان في التنظيم الخاص في قطاع غزة مساعداً لخيري الأغا).

    وفي الأردن أيضاً، حافظ خليل الوزير على علاقته القوية بكامل الشريف، الذي كان قائداً لأبي جهاد ضمن التنظيم الخاص من مكان إقامته في العريش. وحسب الشريف نفسه، فمنذ تأسيس فتح كان أبو جهاد وعرفات كثيراً ما يرجعون إليه مستشيرين فيما يتعلق بالحركة. وعندما انعقد المؤتمر التأسيسي لفتح سنة 1962 أصرَّت قيادة فتح على حضور الشريف للمؤتمر، وقام خليل الوزير ورمضان البنا بأخذه إلى الكويت من لاجوس (عاصمة نيجيريا) حيث كان سفيراً للأردن هناك.

    وهناك شخصيتان قياديتان فتحاويتان (من أبناء الضفة الغربية) أشار يزيد صايغ إلى خلفية إخوانية لهما، دون أن تسعفنا المعلومات المتوفرة لدينا بتأكيد ذلك، هما ماجد أبو شرار وأحمد قريع.

    قطر:

    تمثل قطر حالة فريدة في البيئة الإخوانية التي تمكنت عناصر فتح فيها من التموضع القيادي في التنظيم، و"اقتناص" وتجنيد أفراد الإخوان فيها. فمن ناحية كان رفيق النتشة الذي وصل لقطر سنة 1958 مسؤولاً عن الإخوان القادمين من الأردن (شرق الأردن والضفة الغربية)؛ بينما كان محمد يوسف النجار الذي وصل لقطر سنة 1960 مسؤولاً عن الإخوان الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة. وسهَّل مهمتهما أن الإخوان المصريين (وكانوا أصحاب نفوذ خصوصاً في دائرة التعليم (المعارف)، التي أصبحت وزارة التربية لاحقاً) كانوا ينظرون بإيجابية لفتح وعناصرها القيادية، بل ويعتبرونها حركة "إخوانية".

    وقد قوّى من وضع فتح في الوسط الإخواني في قطر قدوم أحمد رجب عبد المجيد الأسمر، وسعيد تيم، وكمال عدوان وعبد الفتاح حمود، وفتحي البلعاوي.

    لبنان:

    كانت جماعة عباد الرحمن تمثل الوجه المعلن للإخوان المسلمين في خمسينيات القرن العشرين، وكان توفيق راشد حوري، نائب الأمين العام لجمعية عباد الرحمن منذ الخمسينيات، واستمر في منصبه فترة طويلة. وكان لقادة فتح المؤسسين (خصوصاً خليل الزير وياسر عرفات) علاقة قوية بحوري؛ وهو الذي وفر لهم الغطاء لإصدار مجلة "فلسطيننا"، التي كانت أداة رئيسية لنشر فكر فتح، وهو الذي صاغ البيان الأول لانطلاقة حركة فتح. وهناك أيضاً العضو في جماعة عباد الرحمن هاني فاخوري الذي كان له دور أساس في ترتيبات جمع التبرعات وتحويل الدعم المالي لصالح حركة فتح.

    وفي الوسط الفلسطيني في لبنان، كان محمد عبد الهادي (أبو الهيثم) من أبرز الشخصيات التي لعبت دوراً قيادياً حركياً منذ الخمسينيات، فقد كان مسؤولاً في جماعة عباد الرحمن في مخيم عين الحلوة. وذكر عبد الهادي لكاتب هذه السطور بأن ياسر عرفات كان يحضر إلى صيدا، وينام في بيوت الإخوان، ومن بينهم أحمد الأطرش. وكان أحمد الأطرش من أوائل شباب الإخوان الذين التزموا مع حركة فتح، واستشهد في التدريب خلال إحدى الدورات العسكرية. وقد عُيّن محمد عبد الهادي مسؤولاً إعلامياً في أول مكتب حركي لفتح تشكل في المنطقة؛ حيث عمل في مجال التعبئة.

    سوريا:

    وبحسب دراسة يزيد صايغ، فإن هاني الحسن ومحمود عباس كانا من بين كثيرين من الشبان الفلسطينيين الذين انضموا للإخوان المسلمين في سوريا في أوائل الخمسينيات. غير أن معظم مصادر الإخوان تنفي أو لا تشير إلى انضمام محمود عباس للإخوان، عدا مصدر واحد هو عبد الله أبو عزة، ولعل هذا الانتماء كان لفترة ضئيلة في أثناء إقامته في سوريا.

    السعودية:

    كان خليل الوزير من أوائل من ذهب للسعودية، ورتب لعدد من رفاقه العمل فيها منذ منتصف الخمسينيات؛ غير أن أبا جهاد لم يمكث فيها إلا قليلاً.

    ومن أوائل من استقروا في السعودية ممن كان لهم دور تأسيسي في فتح، ومن ذوي الخلفية الإخوانية، سليمان أبو كرش (أبو خالد)، وسعيد المزين ( أبو هشام) المعروف بـ"فتى الثورة" وهو من أبرز شعراء الثورة الفلسطينية. وهناك أيضاً عبد الفتاح حمود وكمال عدوان اللذان عملا في المنطقة الشرقية قبل أن ينتقلا إلى قطر.

    تقييم:

    نلاحظ مما سبق أن جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، كانت الحاضنة الأولى لنشأة حركة فتح، وخصوصا بين أفرادها من أبناء قطاع غزة. ولكن المبادرة لإنشاء هذه الحركة لم تكن بقرار من قيادة الإخوان الفلسطينيين في قطاع غزة، وإنما من عدد من القيادات التي كانت تتمتع بدينامية عالية، وتملك قدرا كبيرا من النشاط والتأثير في الأفراد. حيث كان أعضاء الإخوان ينظرون إلى هذه القيادات باحترام ويفترضون (في جو العمل السري) أن ما يصدر عن هذه القيادات هو توجه الإخوان، خصوصا أولئك الذين يصعب عليهم الاتصال المباشر بالقيادة، كأفراد الإخوان في الكويت وقطر والسعودية.

    إن رواد فتح اختطوا مسارها بعد أن لم تتجاوب قيادة الإخوان في قطاع غزة مع المشروع الذي قدموه لها في صيف 1957، بإنشاء ما عرف لاحقا بحركة فتح، ووجدوا أن عليهم أن يأخذوا زمام المبادرة بأنفسهم دون مزيد من الانتظار، حتى تُغيِّر هذه القيادة قناعاتها، أو حتى تتحسَّن الظروف التي قد تؤدي إلى ذلك. ولم يكن خلاف الإخوان الفلسطينيين مع فتح على فكرة المقاومة والجهاد، ولا على العمل في إطار وطني، وإنما على التوقيت، وإمكانات النجاح، والقدرة على التحكم في مسارات الحركة. وكانت قيادة الإخوان ترى أن ظروف الملاحقة الأمنية الشرسة للإخوان، وصعوبة العمل العلني أو شبه العلني المنظم، لا توفر حدا أدنى لنجاح العمل، خصوصا إذا ما أراد الإخوان أن يسير ضمن معاييرهم، أو إن كُشفت علاقته بالإخوان.

    غير أن خروج عناصر فتح بشكل عام كان هادئا وليس حادا. أما الصدامات التي وقعت في قطر، فكانت أساسا نتيجة رغبة القيادات الفتحاوية في البقاء في مواقع النفوذ في التنظيم الفلسطيني، وليس بسبب الرغبة بالخروج.

    وقد تعرَّض تنظيم الإخوان الفلسطينيين لهزة كبيرة، بخروج عدد لا يستهان به من عناصره القيادية التي شكلت حركة فتح، وهي عناصر نوعية تميزت بالكفاءة والحيوية وروح المبادرة؛ ومعظمها كانت قيادات وكوادر أساسية في العمل العسكري الخاص، الذي شكَّله الإخوان في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين. (وقد ذكرنا في الحلقتين السابقتين أسماء الكثير من المؤسسين في الكويت وقطاع غزة والضفة الغربية والأردن والسعودية وقطر ومصر وسوريا ولبنان)، وإن عدم قيام قيادة الإخوان الفلسطينيين من أبناء القطاع بترتيب بنيتها التنظيمية الداخلية، وضبط العلاقة بأفرادها الذين انتقلوا للإقامة في الخارج، إلاَّ في مطلع الستينيات؛ قد أعطى حركة فتح مساحة واسعة للعمل في الوسط الإخواني؛ حيث أسهمت "البيئة الرخوة" و"المنطقة الرمادية" في تسهيل قيام العديد من رموز الإخوان الذين أصبحوا قيادات في فتح بتجنيد الكثير من أفضل الكفاءات والطاقات الإخوانية، قبل أن يلملم تنظيم الإخوان المسلمين في قطاع غزة نفسه، ويوسع دائرة فروعه للأقطار العربية (عدا الأردن) ويأمر أعضاءه بالتمايز عن فتح.

    وقد استفاد مؤسسو فتح من خبرتهم التنظيمية والأمنية والعسكرية في الإخوان، وتحديدا في العمل الخاص؛ حيث شكل ذلك رصيدا مهما، أمكن الاستفادة منه في بناء التنظيم الجديد، وقاعدة انطلاق لحركة فتح. كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا مع متطوعي الإخوان في حرب القناة ضد الإنجليز (1951-1954) وتحديدا ياسر عرفات، كما استفادوا من خبرة زملائهم ممن شاركوا في حرب 1948 وتحديدا يوسف عميرة وكامل الشريف.

    إن القراءة المتأنية لسلوك عناصر الإخوان التي شاركت في فتح في السنوات الثلاث الأولى من نشأتها على الأقل (1960-1957)، تشير إلى أن الكثير من هذه العناصر استمر في عضويته في الإخوان، واستفاد من موقعه القيادي والتنظيمي في تجنيد عناصر الإخوان النوعية، لدرجة أشعرت قيادة الإخوان الفلسطينيين بنوع من "التهديد الوجودي" لتنظيمهم على حد تعبير عبد الله أبو عزة، أحد أبرز قيادات الإخوان. ومن ثمّ، فإن ترعرع فتح وانتشارها في الحاضنة الإخوانية، كان سببا رئيسيا لدفع قيادة الإخوان في غزة لإعادة بناء التنظيم الفلسطيني، وتوحيده تحت قيادة واحدة، واتخاذ قرار التمايز والمفاصلة مع فتح. وفي الوقت نفسه، لم يكن ثمة إجماع في الوسط القيادي الإخواني الفلسطيني على المفاصلة مع فتح؛ حيث ظلت بعض الأصوات تنادي بضرورة أو المشاركة الكلية أو الجزئية على الأقل، كما في آراء سليمان حمد ومحمد الخضري. وهو ما أثمر لاحقا في معسكرات الشيوخ.

    من جهة أخرى، فقد استفادت قيادات فتح ذات الخلفية الإخوانية من شبكات العلاقات وإمكانات الدعم المادي والمعنوي، التي وفرتها جماعات الإخوان في مختلف الدول سياسيا وماليا وإعلاميا وعسكريا؛ مما مهّد لفتح وسائل انتشار ودعم لوجيستي مبكرة. إذ إن العديد من قيادات تنظيمات الإخوان ظلت تتعامل بشكل إيجابي مع فتح، ولم تلتزم بالضرورة بموقف الإخوان الفلسطينيين منها، حتى بعد قرار المفاصلة، كما رأينا في نماذج من الإخوان المصريين والكويتيين والأردنيين والسوريين.

    وعلى أي حال، فلا ينبغي للإخوان أن يبالغوا في نسبة حركة فتح إليهم، كما لا ينبغي لحركة فتح أن تتنكر لجذورها وبداياتها الأولى، فإذا كان الإخوان هم المحضن الذي خرجت منه الفكرة وبداياتها الأولى، فإن فتح لم تنشأ بقرار من قيادة الإخوان ولا وفق خططهم، كما أن مشروعها لم يحمل أيديولوجية الإخوان، ولا الضوابط التي تضمن سيره كمشروع يخدم أهدافهم. وعندما طالبت قيادة الإخوان في غزة بالإشراف المباشر على فتح، رفضت قيادة فتح ذلك. وهذا، وإن كان يدل على وجود صلة قوية بين الإخوان وفتح، إلا أنه يدل على أن قيادة فتح كانت تملك من الجرأة والثقة ما جعلها ترفض التوجيه، كما يدل أن فتح كانت قد اختطت منذ أمدٍ خطا مستقلا في التعبئة والتنظيم والعمل.

    وربما تعود حالة الالتباس لدى العديد من الباحثين حول نشأة فتح، إلى أن بعض القيادات الفتحاوية التي اتجهت اتجاهات علمانية أو قومية أو وطنية مختلفة، حاولت أن تنفي لاحقا خلفياتها الإخوانية (كما فعل صلاح خلف/ أبو إياد)، أو أن تقلل المدى الزمني لعضويتها، خصوصا أن التجربة الإخوانية تحولت إلى فترة عابرة في حياتها، كما لم يكن ثمة مصلحة في ذكر هذه الخلفية، في ضوء حالة العداء والنظرة السلبية للإخوان التي طبعت سلوك العديد من الأنظمة العربية، وخصوصا النظام المصري. ثم إن حالة التنافس التي نشأت وتصاعدت لاحقا مع جماعة الإخوان الفلسطينيين وحماس، دفعت باتجاه محاولة التخفيف من الخلفية الإخوانية لهؤلاء. وفوق ذلك، فإن الإخوان أنفسهم لم يكتبوا إلا قليلا حول الخلفيات التاريخية لنشأة فتح، في الوقت الذي لم يصل مؤرخو الحركة الوطنية الفلسطينية إلى العديد من شهود المرحلة من الإسلاميين الذين ظلوا على التزامهم "الإخواني"، بينما سجلوا الشهادات التاريخية لمناضلي فتح.

    وثمة ملاحظة أخيرة ومهمة، هي أن بعضا من القيادات الفتحاوية راعت حساسية ياسر عرفات ورمزيته، بعدم التركيز على تجربة العمل المقاوم التي سبقته؛ وهو ما أشار إليه محرر مجلة الدراسات الفلسطينية في استنتاجه لماذا قام خليل الوزير (أبو جهاد) بإتلاف معظم نسخ كراس "حركة فتح: البدايات" وإيقاف توزيعه؛ من أنه يُرجِّح أن ذلك يعود للرغبة في عدم إغضاب ياسر عرفات وصلاح خلف، لأن فترة العمل العسكري في النصف الأول من الخمسينيات لا تشير لدور لهما في ذلك، وتمّت قبل لقائه الأول بعرفات. من ناحية ثانية، فإن أبا جهاد في كراسه الذي أعد سنة 1986 بدا أكثر حذرا في الإشارة إلى الإخوان من مقابلته التي أجراها مع سلوى العمد في 9 كانون الأول/ ديسمبر 1980. (انظر: خليل الوزير، "حركة فتح: البدايات،" مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 104، خريف 2015).

    وعلى سبيل المثال، في مراعاة الحساسيات، فإن فتحي البلعاوي لم يتطرق في أوراقه لانتخابات الدورة الثالثة لرابطة طلبة فلسطين في مصر؛ ربما (كما أشار معين الطاهر الذي حرر الأوراق) لأنه في تلك السنة ترأس عبد الفتاح حمود قائمة الإخوان في مواجهة قائمة منافسة شكلها ياسر عرفات حيث فازت قائمة الإخوان بكافة المقاعد، لأن البلعاوي عندما تحدث عنها كان لا يرغب في إحراج ياسر عرفات؛ الذي أصبح لاحقا زعيما للشعب الفلسطيني، بينما أصبح البلعاوي نفسه عضوا (وإن كان مؤسسا) في حركة فتح التي يترأسها عرفات. (انظر: معين الطاهر، "بين تأسيس رابطة طلاب فلسطين ومقاومة الإسكان والتوطين: أوراق فتحي البلعاوي،" مجلة أسطور، العدد 5، كانون الثاني/ يناير 2017).

    وأخيرا، فليس ثمة "إنجاز" تاريخي كبير من الفكرة التي يريد المقال توصيلها، وإنما هي محاولة بسيطة لوضع بعض النقاط في سياقها التاريخي الصحيح. وعلى كل حال، فليس ثمة كثير فخر الآن لدى فتح بخلفيتها الإخوانية، وليس ثمة كثير فخر لدى الإخوان بخلفية فتح؛ خصوصا أن تأثير الخلفية اقتصر على البدايات الأولى، إذ لم يطل الزمان بفتح إلى أن تحولت إلى حركة علمانية براغماتية بهوية وطنية، ومسارات نضالية واجتهادات سياسية خاصة.

    ولعل أبرز درسين من هذه التجربة؛ أن العمل لفلسطين قد يحتمل تخفيف قوة الموجة، لكنه لا يحتمل الانكفاء والانعزال؛ وإن حدث فهو للاستثناء وللضرورة التي تقدر بقدرها. وإن عدم قدرة جماعة الإخوان على استيعاب وتوجيه طاقة مجموعة من أفضل كفاءاتها (لأسباب ذاتية وموضوعية)، قد أدى إلى خسارتها، وإلى ملء هذه الكفاءات للساحة الفلسطينية بطريقة أثَّرت لاحقا على المسار الوطني الفلسطيني. والدرس الثاني هو لأولئك الذين لا ينتبهون إلى ضبط مساراتهم وحسم خطوطهم الحمراء (العقائدية والأيديولوجية)، ويستجيبون للتكتيكات والاعتبارات البراغماتية المصلحية، ويتخففون من التزاماتهم (الدينية والسلوكية والفكرية)، قد يجدون أنفسهم في نهاية المطاف، وقد ابتعدوا عن أهدافهم، وتغيرت معاييرهم، وتضاءلت قيمهم. وربما وجد بعضهم نفسه في أحضان خصومه!!

  • مقال: المقاومة الفلسطينية من 1948 إلى انطلاقة فتح: خليل الوزير والنظام الخاص للإخوان (2)

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    أشرنا فيالمقال السابق إلى أن كامل الشريف استمر في العمل المقاوم بعد حرب 1948، عبر قطاع غزة وسيناء. ويظهر لنا، من خلال مجموعة من المصادر والمقابلات مع مشاركين في تلك الحداث، أن الشريف ورفاقه كانوا يتابعون خطين للعمل العسكري "الإخواني" المقاوم: الأول مرتبط بإنشاء وتطوير عمل "النظام الخاص" في القطاع من خلال شباب الإخوان المسلمين، ليأخذ شكلاً صلباً مستقراً، وإن كان يحتاج وقتاً حتى تظهر ثماره، والثاني متابعة العمل العسكري من خلال شبكة المجاهدين والعلاقات التي كَوَّنها الشريف في حرب 1948، والتي تعتمد أساساً على عناصر من الإخوان الأكبر سناً، وعناصر من غير الإخوان، المستعدين للعمل تحت إشرافهم أو بالتعاون معهم. وهذه العناصر كانت في غالبها من البدو الجاهزين للقتال، والخبراء بمناطق جنوب فلسطين ذات الطبيعة الصحراوية. ونركز في هذا المقال على "النظام الخاص"الذي أنشأه الإخوان في القطاع.

    "النظام الخاص" في القطاع:

    يذكر أعضاء هذا التنظيم العسكري الخاص الذين قابلهم الباحث (محمد الخضري، وفوزي جبر، وخيري الأغا، ومحمد صيام) أن هذا العمل كان عملاً سرياً منظماً جداً. ولضمان نجاح العمل، لم يكن هذا النشاط موضوعاً تحت إشراف القيادة الرسمية "التقليدية" للإخوان في غزة. ولكن كانت له صلة وصل بكامل الشريف في العريش، الذي كانت تتم متابعته تنظيمياً من عضو مكتب الإرشاد الشيخ محمد فرغلي.

    وكان من بين "الإخوان" الذين نشطوا تحت إمرة الشريف في قطاع غزة خليل الوزير (أبو جهاد)، حيث أسهمت سمعة الإخوان الطيبة في حرب 1948 في انضمامه للإخوان سنة 1951. ويذكر الوزير (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد، ونشرتها جريدة السفير، 25/4/1988) أنهم في سنة 1949 عندما كانوا يَسألون الناس، كان أغلبهم يقولون لهم إنهم قاتلوا في صفوف الإخوان المسلمين. وهذا مما قوى علاقة الإخوان بالشباب في قطاع غزة. ويضيف: "لقد استهوتنا تجربة "الإخوان" كمجموعة شباب، خاصة وأنه لم تكن في القطاع قوى سياسية سوى "الإخوان المسلمين" والشيوعيين. الشيوعيون كانوا قلة، وكانت لهم نظرة خاصة للأمور، لا تلتقي ومشاعر الناس... أما الكثرة المنفتحة فكانت تنسق مع شباب الإخوان".

    وفي مقابلة مع كاتب هذه السطور، أكد كامل الشريف وجود هذا العمل المسلح المنظم، وأنه كان له نقباؤه في كافة مناطق القطاع. وأن الأشخاص المعنيين بهذا العمل في القطاع، مثل محمد أبو سيدو وخليل الوزير (أبو جهاد) كانوا يزورونه بشكل منتظم، لاستلام الأوامر ولمتابعة العمل. وقد أشار عدد من أعضاء هذا الجهاز الذين قابلهم الكاتب، أن الأوامر كانت تأتي بالفعل من كامل الشريف، وكذلك من أخيه محمود الشريف، بالإضافة إلى عباس السيسي (من الإخوان المصريين) الذي كان يقيم أيضاً في العريش.

    وكان أبو سيدو صلة وصلٍ رئيسية بين الشريف وبين القيادات في القطاع، فقد كان يعمل سباكاً في الجيش المصري في العريش، وكان معتاداً على العودة إلى غزة في عطلة نهاية الأسبوع. وقد وفر له ذلك غطاء مناسباً لتوصيل المعلومات والتعليمات، ابتداء من رفح مروراً، بخان يونس، ووصولاً إلى مكان إقامته في غزة.

    من ناحية تنظيمية، تمّ تقسيم قطاع غزة إلى ثلاث مناطق:

    1- غزة: ويتولى قيادتها خليل الوزير (أبو جهاد)، وكان من بين مساعديه فوزي جبر، ومحمد الخضري، ومعاذ عابد، وعبده أبو مريحيل، وحمد العايدي.

    2- الوسطى (خان يونس): ويتولى قيادتها خيري الأغا.

    3- الجنوب (رفح): ويتولى قيادتها محمد يوسف النجار؛ وكان يساعده موسى نصار، وتولى إبراهيم عاشور في وقت لاحق القيادة مكان النجار.

    ومن بين أعداد كبيرة من الطلاب الإخوان، كان يتم انتقاء دقيق للأفراد بناء على مواصفات محددة، خصوصاً أولئك الملتزمين، النشطين، الكتومين، الذين لا يواجهون مشاكل اجتماعية. وكان عباس السيسي وأبو سيدو يتنقلان بين شُعب الإخوان لتجنيد الأعضاء، ولعب أبو جهاد دوراً نشطاً في تجنيد عدة مجموعات من الإخوان.

    وكان رياض الزعنون عضواً نشطاً في "الجهاز الخاص"، وكان مسؤولاً عن قسم الطلاب في المدارس المتوسطة والثانوية؛ وكان طالباً في مدرسة فلسطين الثانوية، وكان من الأعضاء الناشطين ابراهيم عاشور،ومحمد الإفرنجي، وعبد الله صيام.

    أُسرة الحق:

    وكانت هناك مجموعة يُنظر إليها كمجموعة غير منضبطة، وكان في عضويتها سليم الزعنون وصلاح خلف (أبو إياد) وسعيد المزين (أبو هشام). وكانت تطلق على نفسها اسم "أُسرة الحق" أو "كتيبة الحق". غير أن خليل الوزير تمكن من استيعابها في التنظيم العسكري الخاص..وقد استخدم القسم العسكري اسم "شباب الثأر الأحرار" لإصدار بيانات وتصريحات في الفترة 1953-1956. وقد أشار الباحث زياد أبو عمرو إلى هاتين المجموعتين في دراسته حول الإخوان المسلمين في قطاع غزة، غير أنه قدمهما على أنهما مجموعتان تخططان لأعمال عسكرية؛ ولم يُشر إلى أنهما كانتا ضمن التنظيم الإخواني العسكري في القطاع. وقد ذكر أبو عمرو أسماء أخرى ضمن هاتين المجموعتين، مثل أسعد الصفطاوي، وعمر أبو الخير، وإسماعيل سويرجو، ومحمد النونو، وحسن عبد الماجد.

    عمليات مقاومة:

    كانت عملية التدريب متناسبة مع الإمكانات المحدودة للتنظيم، ومع البيئة السريّة للعمل. غير أنها استفادت من إمكانات الإخوان المصريين، ومن الضباط الإخوان في الجيش المصري، والمتعاطفين مع الإخوان والمقاومة. كما استفادت من غطاء المخيمات الكشفية في التدريب الخشن وشبه العسكري، لتوفير حدٍّ أدنى مرتبط باللياقة البدنية والانضباط والاستعداد الرجولي للتضحية.

    ويذكر أبو عزة أن الاهتمام بالتدريب العسكري كان أمراً طبيعياً في الوسط الإخواني الفلسطيني في قطاع غزة، باعتبار أن حركة الإخوان هي حركة جهادية.

    ويشير أبو جهاد (في المقابلة التي أجرتها معه سلوى العمد) إلى قيامه وإخوانه بعمليات زراعة ألغام، في المناطق المقابلة لمنطقة المنطار في غزة، وعلى طريق غزة- بئر السبع، وفي مكان متقدم من الطريق إلى المجدل، ومن المجدل إلى الفالوجة، كما كان يتم نسف أنابيب المياه في المستعمرات. وبحسب الوزير، فإن العمليات تعددت وتوسعت تدريجياً حتى وصلت إلى منطقة يازور قرب يافا.

    أما العملية الأبرز التي تحدث عنها أبو جهاد فهي عملية تفجير خزان زوهر، وهو سدّ مياه قرب منطقة الفالوجة، وهو جزء من مشروع المياه القُطري الإسرائيلي. وبحسب أبي جهاد، فقد قامت إحدى المجموعات بزرع عدد من "التنكات" المليئة بمادة "تي.إن.تي" (TNT) في 25 شباط/ فبراير 1955، فانفجر الخزان بشكل هائل، وتدفقت المياه وغطت مساحات واسعة من الأرض إلى أن وصلت إلى منطقة "بيت لاهيا"، لتصبُّ بعد ذلك في البحر المتوسط. وهي حسب رأي الوزير العمليةُ التي استدعت العدوان الانتقامي الإسرائيلي الكبير في 28 شباط/ فبراير 1955؛ والتي شكلت نقطة تحول في السياسة المصرية. فتحت ضغط المظاهرات الواسعة في القطاع المطالبة بتسليح أهله وتجنيدهم للقتال، والمطالبة بإسقاط مشروع التوطين في سيناء، قام عبد الناصر بتكليف مصطفى حافظ بتنفيذ حرب عصابات ضدّ الكيان الإسرائيلي، كما تمّ إلغاء مشروع التوطين في سيناء.

    لم نجد في دراسة بني موريس الشاملة، حول الاشتباكات الحدودية ومحاولات اختراق الحدود بين البلدان العربية و"إسرائيل" في الفترة 1949-1956، ما يشير إلى عملية خزان زوهر التي تحدث عنها الوزير؛ كما لم نجد في الوثائق البريطانية ما يشير لذلك في تلك الفترة. ولم يجد الباحث يزيد صايغ أيضاً ما يؤكدها، حسبما أشار في كتابه "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة"، وإن كان ذلك لا ينفي أن العملية قد وقعت. وثمة إشارات في الوثائق البريطانية إلى عملية وقعت في ليل 23 شباط/ فبراير 1955 في ريشونلازيون جنوب تل أبيب، وإلى عملية أخرى أدت لقتل إسرائيلي في منطقة القبيبة بعد ذلك بيومين (25 شباط/ فبراير 1955) على بعد 15 كيلومتراً جنوب شرق تل أبيب (35 كيلو متراً شمال قطاع غزة).

    نفذ عبد الله صيام عمليات من شمال غزة، بينما نفذ حمد العايدي عمليات من الوسط، ونفذ إبراهيم عاشور عمليات من الجنوب. وكان محمد صيام من بين أولئك الأعضاء المسؤولين عن تزويد عبد الله صيام بالسلاح والذخيرة، وكان من بين هجماتهم الهجوم على محطة القطارات في المجدل. وقد ركز عبد الله صيام على منطقة المجدل، حيث نفّذ عمليتين أو ثلاثة. وقد قبضت السلطات المصرية على عبد الله صيام عندما كان يحاول اجتياز الحدود لتنفيذ إحدى العمليات، كما اعتقل خليل الوزير على خلفية اتهامه بإعداد لُغم، غير أنه تمّ "لفلفة" القضية من خلال بعض "الواسطات" والاتصالات، وأفرج عنه بكفالة مالية بعد أسبوع من اعتقاله.

    وأشار موريس، بناء على تقارير المخابرات الإسرائيلية، إلى أن مجموعة من "الإخوان المسلمين" كانت نشيطة على طول خطوط قطاع غزة في النصف الثاني من سنة 1954؛ وأنها كانت تقوم بشكل متكرر بتدمير خطوط المياه المؤدية إلى مستعمرات النقب. وقد لاحظت مخابرات الجيش الإسرائيلي أنه في النصف الثاني من 1954 وبداية 1955 خفَّت حوادث اختراق الحدود بعد الإجراءات التي اتخذتها السلطات المصرية، لمنع التسلل، وبعد توجيهها ضربة قاسية لجماعة الإخوان المسلمين.

    خلاصة:

    وعلى أي حال، فإن هذا "النظام الخاص" وإن كان بذل جهداً مقدراً في تجنيد الأفراد وتدريبهم، إلا أن أداءه كان متواضعاً على مستوى تنفيذ العمليات. إذ إن فترته الذهبية (1952-1954) لم تكن كافية لإطلاق عمل مسلح مقاوم فعال. وأياً تكن النتيجة، فإن هذا العمل عكس حرص وتوق شباب الإخوان للمقاومة المسلحة. ونحن عندما نقرأ هذه التجربة، في ضوء أحداث وظروف تلك المرحلة، فلعلنا نجد أنفسنا أمام عمل جاد منظم، وأداء عسكري أخذ قصب السبق والمبادرة مقارنة بكافة الاتجاهات السياسية والحزبية الفلسطينية. هذه التجربة لم تتمكن من النمو، خصوصاً لأسباب متعلقة بالصراع بين نظام عبد الناصر والإخوان، لكنها على الأقل وفّرت "الحاضنة" الأساسية لولادة حركة فتح لاحقاً.

    يتبع..

  • مقال: الوضع الفلسطيني الداخلي عام 2020: المسارات المتوقعة؟ …

    بقلم:أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    على طريقة المثل الشعبي "فالج لا تعالج" أو القول المأثور عن سعد زغلول "مفيش فايدة يا صفية"؛ تبدو مسارات الوضع الداخلي الفلسطيني المتوقعة خلال سنة 2020 باعثة على الإحباط؛ إلا إذا دخلت عوامل جديدة خارج السياقات المعتادة.

    ابتداء، فإن الأزمة المزمنة للمشروع الوطني الفلسطيني ستستمر في هذه السنة على ما يبدو؛ لأن العناصر المسببة لها ما زالت حاضرة وحاكمة للأسف. فما زالت منظمة التحرير الفلسطينية تعاني من حالة العجز والتردي وانعدام الفعالية، ومن تعطل المؤسسات، ومن الفشل في استيعاب قوى كبيرة وفاعلة في الساحة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي.

    وما زال يتم تجاهل فلسطينيي الخارج الذين يمثلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني. ومنذ أكثر من خمسين عاماً، ما زال هناك فصيل واحد (فتح) يهيمن على صناعة القرار الفلسطيني، وعلى منظمة التحرير وعلى السلطة الفلسطينية، وُيصِرُّ على عقلية التحكم والتفرد. وفي الوقت نفسه، لا تظهر في الأفق بوادر جدية للتوافق على برنامج وطني فلسطيني يتجاوز الانقسام، ويعالج الصراع بين تياري المقاومة والتسوية؛ ويُحدّد أولويات العمل الوطني.

    من ناحية ثانية، فبالرغم من الأجواء الإيجابية التي سادت أواخر سنة 2019 في الحديث عن إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، وبالرغم من موافقة حماس والفصائل الفلسطينية على اشتراطات الرئيس عباس، بما في ذلك اعتماد النسبية الكاملة، وفك التزامن بين انتخابات رئاسة السلطة وانتخابات المجلس التشريعي؛ إلا أن الأجواء العامة لا تشجع على توقع انعقاد انتخابات حرة نزيهة خلال سنة 2020.

    وهذا لا يعود فقط إلى التعقيدات التي يضعها الاحتلال، خصوصاً مشاركة الفلسطينيين في شرقي القدس. وإنما لأن قيادة السلطة (قيادة فتح) ليست جادة في عقد انتخابات يمكن أن تفوز بها حماس، أو الخط الداعم للمقاومة. وقيادة حركة فتح التي عملت طوال السنوات الماضية لمحاصرة حماس وعزلها، وإخراجها من "الشرعية" الفلسطينية، وعطّلت كل مسارات المصالحة التي يمكن أن تؤدي إلى شراكة حقيقية في صنع القرار الفلسطيني (حكومة السلطة الفلسطينية، والمجلس التشريعي، ومنظمة التحرير...) ليس من المتوقع أن تكلّل جهودها، بفتح المجال لعودة حماس للسلطة، وفرض نفسها على الأجندة الوطنية، ولتنازعها "الشرعية" من جديد.

    وببساطة فإن استطلاعات الرأي، تعطي تفوقاً لخط حماس والمقاومة في الانتخابات القادمة، مما يعني عملياً تأجيلها بشكل مفتوح، وبأعذار مختلفة. يضاف إلى ذلك، أن حركة فتح نفسها تعاني صعوبات حقيقية في تشكيل قوائمها؛ كما تعاني سيطرةَ تيار دحلان على جانب لا يستهان به من شعبية فتح، خصوصاً في قطاع غزة.

    ثم إن الجانب الإسرائيلي والبيئات العربية والدولية، في الأوضاع الراهنة، لا تقبل بعقد انتخابات يمكن أن تجدّد الفوز و"الشرعية الرسمية" لحركة حماس ولـ"الإسلام السياسي" أو لخط المقاومة.

    أما الجانب الثالث في المسارات المحتملة، فهو أنه في الوقت الذي سيستمر فيه تدهور السلطة الفلسطينية خلال سنة 2020، وانهيار مشروعها في التحول إلى دولة فلسطينية حقيقية، وانكفائها إلى بنية مشوهة تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم الشعب الفلسطيني؛ فإن العقلية التي تديرها ستستمر بالطريقة ذاتها دون مراجعات حقيقية أو قرارات حاسمة.

    والشكاوى من التغول الإسرائيلي الاستيطاني، ومن اقتطاع أموال الضرائب، ومن الاعتداء على المقدسات؛ ستكون شكاوى العاجزين. أما التهديدات بوقف العمل باتفاقات أوسلو وسحب الاعتراف بـ"إسرائيل" فستكون أقرب للاستهلاك الإعلامي منها للإجراءات الجادة.

    بل لعل قيادة فتح ستكون مشغولة أكثر بـ"التمكين" لنفسها في الساحة الفلسطينية من خلال استخدام أدوات السلطة سواء في الإنفاق "الزبائني" على مؤيديها، ودعمهم سياسيّاً وأمنيّاً وإعلاميّاً، أم في الضغط على خصومها ومحاولة تهميشهم أو تطويعهم.

    وهذا الاتجاه الفتحاوي المنفرد جرى تكريسه في السنتين الماضيتين من خلال العقوبات على قطاع غزة، وعقد للمجلس الوطني، والمجالس المركزية بخلاف التوافق الفلسطيني، وحل للمجلس التشريعي، وتشكيل حكومة فتحاوية. وهو ما تسبب بعزلة فتح، ونفور الفصائل الفلسطينية داخل وخارج المنظمة من سياساتها؛ وهو اتجاه لا يظهر أن فتح جادة في العودة عنه خلال سنة 2020، أو فلنقل خلال حياة محمود عباس.

    وبناء على ذلك، ومن جهة رابعة فمن المتوقع أن يستمر مسار التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال الإسرائيلي، بالرغم من قرارات المجلس المركزي الفلسطيني بوقفه، وبالرغم من إعلان الرئيس عباس وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الكيان الإسرائيلي في يوليو/ تموز 2019.

    ولعل قيادة فتح تدرك أن بقاء السلطة ومبرر وجودها "إسرائيلياً" مرهون أساساً بالتنسيق الأمني. وهو ما دفع عباس للتصريح أكثر من مرة بأن هذا التنسيق "مقدس". ومما يؤكد استمرار هذا المسار أن الجانب الأمريكي الذي أوقف كافة أشكال دعم السلطة الفلسطينية استثنى الأجهزة الأمنية وأقر لها 61 مليون دولار. كما أشارت تقارير إسرائيلية في مايو/ أيار 2019 بأن أجهزة أمن السلطة أحبطت 40% من عمليات المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

    من ناحية خامسة، فإن موضوع خلافة عباس، مع تزايد أعراض المرض والإعياء عليه (85 عاماً)، سيشغل جانباً من الهمِّ الفتحاوي، وهو انشغال سيشمل أيضاً الساحة الفلسطينية، والجهات العربية والدولية المعنية بالشأن الفلسطيني.

    إذ ثمة قلق من صعوبة لملمة "البيت الفتحاوي" بعد وفاة عباس، لعدم توفر شخصية كاريزمية تجتمع عليها فتح، سوى مروان البرغوثي الأسير في السجون الإسرائيلية. وبالإضافة إلى دحلان الذي يرغب في العودة قائداً للبيت الفتحاوي، فإن ثمة متطلعين يحاولون الاعتماد على القاعدة الفتحاوية، كما أن ثمة متطلعين آخرين يسعون للاستفادة من عوامل خارجية لتعزيز مواقعهم.

    وكما أن اختيار قائد جديد لفتح قد يعزز فرص فك عدد من "العُقد" الفلسطينية المرتبطة بمسار المصالحة والانتخابات وإصلاح منظمة التحرير، والموقف من مسار التسوية؛ فإنه قد يتسبب أيضاً في مزيد من التعقيدات، وفي مزيد من التراجع لفتح ومكانتها؛ خصوصاً إذا صعدت للواجهة شخصية تفتقد الكاريزما، وتستقوي بالسلطة وتنسيقها الأمني، وبالبيئة العربية والدولية لتثبيت مكانتها.

    المصدر: موقع ”TRT“ تي آر تي (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون التركية) - تركيا، 21/1/2020