• أصل المشكلة: الجهات التي تمثل العالم الإسلامي هي تحت الاحتلال

    د.ياسين أقطاي

    لقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أخيرًا تلك الخطة التي تسمى “صفقة القرن” بعد أن كان الحديث عنها يدور منذ وقت طويل، أعلنها وقد أخذ لجانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. إن صفقة القرن في الحقيقة ما هي إلا نتاج لممارسات النفاق والظلم والغدر، ولسياسة الاحتلال والمجازر والعنصرية، التي طالما ساقها النظام العالمي في القرن الماضي. إنها ليست سوى إلحاق بالأراضي التي كانت محتلة أصلًا منذ وقت طويل.

    إن متن تلك الصفقة يكشف في الواقع عن أن العالم الغربي الذي كان يبيعنا العلمانية ويصدّع رؤوسنا بها، بلغته وخطاباته وفلسفته؛ ما هو إلا عالَم متدين ومتطرف وعنصري وفاشي.

    صفقة القرن

    صفقة القرن هي إعلان صريح عن إفلاس كل ما ينادي به الغرب من الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية الدينية والعلمانية والتسامح. إنها صورة تعرض السعي وراء كهانة سخيفة للغاية عمرها 2500 عام من المدنية الغربية، وما يتفرع عنها من جنون، يحاول تصوير المسلم الذي ينطلق من دافع ديني على أنه الشخص الأكثر تعصبًا في العالم.

    إن السبب الوحيد اليوم الذي يجعل من هذه الكهانة تحاول فرض نفسها بنفسها، هو أن الولايات المتحدة هي القوة العظمى في هذا العالم، والتي قد حولت الحلم التبشيري-الصهيوني إلى كابوس يحدّق بالسلم العالمي.

    إن رغبتهم في جعل القدس عاصمة لهم، ليس لأنهم يحبّون القدس ذلك الحب المفرط. حيث لا يمكن أن يعشق القدس، أولئك الذين لا يفهمونها ولا يعرفونها. الولايات المتحدة وإسرائيل واعلام الصليبي بأكلمه بعيدون كلّ البعد عن إدراك كنه القدس.

    إن القدس قبل كل شيء هي ذلك المكان الذي فيه يكون فيد دم الإنسان مقدّسًا ومكرمًا. لا يتم تقديس القدس من خلال سفك دماء الأبرياء، بل يتم هدمها وهدمها، حتى تجدون إنسانيتكم باكلمها تحت الأنقاض. أولئك الذين يريدون أن يجعلوا من القدس عاصمة لهم، لا يمكن لهم على الإطلاق أن يكونوا قريبين من أي معنى من معاني القدس، وهم على وشك سفك دماء الملايين من الناس، وكسر سلام ونظام واستقرار العالم بأسره.

    ليست القدس مكانًا للتغطية على الخطايا، بل مكان إدراك تلك الخطايا والتوبة عنها. إن ترامب وبجانبه نتنياهو وهما يقدمان على هذه الخطوة الوقحة المتعجرفة، يبحثان من خلالها على طريق لغسيل خطاياهم والهروب من اتهامات الفساد التي تلاحقهم.

    كما ذكرنا هذا دائمًا؛ القدس هي مرآة عالمنا. في الواقع وعلى مر التاريخ، تكون القدس انعكاسًا لواقع العالم والإنسانية معًا على مر التاريخ. إن الغطرسة والخيانة والاحتيال والظلم الذي تتم ممارسته في القدس، ما هو إلا انعكاس لما يجري في العالم.

    لقد قال الرئيس أردوغان خلال اجتماعه الذي عقده أخيرًا بعد إعلان ترامب عن صفقة القرن، أن “القدس هي مفتاح السلام العالمي”. لكن ذلك المفتاح له أيضًا تأثير في عرقلة السلام العالمي، حينما يتم استخدامه بطريقة سيئة وضارة، وبالطبع العكس هو الصحيح. نجد انعكاسًا هنا للاضطراب الكائن في النظام العالمي. في الحقيقة، حينما عرّج أردوغان خلال كلمته، نحو الوضع في إدلب وليبيا، قد أوضح بشكل لافت أن ما يجري هو انعكاس للخيانة والاحتلال والاضطهاد الذي يتعرض له القدس.

    في ليبيا، هناك انقلابي ومجرم حرب ومحتل اسمه حفتر، ومن ورائه قوى قد جمعها تعتمد على أسلحتها الفتاكة، ويحاول معهم الوصول إلى السلطة من خلال سحق الشرعية، والمدنيين. إن الذين يدعمونه وجميع أسبابهم وحججهم وصفاتهم، تتماهي تمامًا مع أسباب وحجج وصفات من يحتلون القدس. حينما يمتلك القوة، فإنه يمكن أن يرى عبر فرض الأمر الواقع، أن احتلاله الخسيس حق مشروع.

    ما يتم هناك في ليبيا من احتلال وجرائم وغصب، يتم دعمه وتمويله من زعماء عرب-مسلمين، تمامًا كما هو الحال في القدس. من يمكنه أن يتوقع صدور صوت عن العالم الإسلامي حول القدس؟ أصلًا إن أساس المشكلة أن تلك الجهات التي تمثل العالم الإسلامي محتلة.

    أليس منطق وشكل تعاون روسيا وإيران والنظام السوري في إدلب يتماهى تمامًا مع ما مرّ من المشاهد؟ هناك في إدلب يوميًّا يتم قتل العشرات من المدنيين والأطفال فضلًا عن قصف المدن والمشافي والأفران، باسم الحرب ضد الإرهاب. كم عدد الإرهابيين الذين يموتون حقًّا يا ترى؟ أو بالأحرى من هم الإرهابيون حقيقة هناك؟ هانك العديد من الأسئلة التي تكفي لتفسير كيف تفقد الإنسانية معناها من وراء التبرير باسم الإرهاب. تستطيع روسيا فعل أي شيء فقط لأنها عضو دائم بمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولأنها تمتلك ما يكفي من القوة. لا يوجد قوة لمنعها على أي حال. حتى القوى التي يمكن لها أن تمنع روسيا عن إجرامها، لا يتمتعون بسيرة ذاتية أفضل من روسيا. جميعهم دون تفاوت تتقاطر من أيديهم دماء الأبرياء.

    أليس هذا أيضًا انعكاسًا مباشرًا للنظام القائم في القدس؟

    ألا نرى خيانة أولئك الذين يحتلون مقام تمثيل الدول المسلمة، قبل أي شيء من سفك دماء المسلمين هناك، وأراضي المسلمين التي تم احتلالها، وشرف المسلمين وناموسهم المهان؟

    لذلك السبب، يعتبر حال القدس تلخيص لأحوالنا. القدس مرآة العالم. يبدأ الخلاص في القدس أو يكتمل فيها.

    لا يمكن تحرير القدس من خلال الإبقاء على القسوة والتضاد الذين يحكمان العالم الإسلامي. من أجل تحرير القدس ينبغي وضع حد لهذا الظلم في عالمنا. لن يتغير شيء في القدس ما لم يتغير النظام القائم في العالم..

  • الإسلام.. وزمن "الكورونا"

    أ.محمد سالم الراشد

    رئيس جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي

    نستقبل التقارير العالمية حول نجاح الصين في حصار فيروس "كورونا" الذي أردى 21.116 ضحية حول العالم، وأصاب 465.274 إنساناً -حتى تاريخ كتابة هذا المقال 26 مارس 2020م- لكن تظل الصين، بسبب سياستها الترويجية الخائفة من فقدان المصداقية والثقة بمنتوجاتها الاستهلاكية، لا تعترف أخلاقياً عن مسؤوليتها عن هذا الوباء العالمي؛ الذي أثر على حياة البشر في هذا العالم؛ بتأخرها عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية عنه.

    ومن جهة أخرى، يتضح قمة الكبر والغرور الإنساني في أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث ظن قادة تلك الدول أن الوباء صينيّ؛ فليكن هذا الجنس الأصفر وقوداً لهذا المرض؛ وأن هذا الفيروس ربما يميز بين الجنس الأبيض والأصفر، وأتت التحذيرات متأخرة بعدما فتك الفيروس بالآلاف من الناس في أوروبا والولايات المتحدة؛ بسبب حمأة الرأسمالية المتوحشة، التي ترى أن امتصاص ملكية الإنسان من خلال العمل والضرائب هي الأولوية على حياة الإنسان؛ لأنها تخدم الطبقة الرأسمالية في مجتمعاتها، إنها تريد جني المال على حساب الحياة البشرية والإنسانية.

    في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ما زال غرور ترمب مستمراً؛ إذ إنه على مضض يوافق على إيقاف العمل لمدة أسبوعين، لكنه مُصِرّ على أن تفتح الشركات والأعمال الحكومية مجدداً بعدها، ولا يضره ذلك، لأن الأساس هو الناتج الاقتصادي.

    في الولايات المتحدة من أجل إنقاذ "وول ستريت" على حساب الإنسان تم ضخ تريليون ونصف تريليون دولار.

    ولإنقاذ قطاعات الشركات الكبرى في النظام الرأسمالي فهو يسعى لتحقيق الأرباح، لقد كشف الفيروس عن عوار الرأسمالية والنظام العالمي السياسي، ففي الولايات المتحدة لا تستطيع الدولة تقديم الرعاية الصحية لكامل الشعب الأمريكي.

    إذاً؛ أين رفاهية الرأسمالية؟! فغالبية الشعب الأمريكي إذا حاول طلب العلاج فإنهم سيصبحون مدينين؛ لأن كل شيء إما بالتأمين الصحي، وهذا يغطي فئة محدودة في الولايات المتحدة، أو الاقتراض من البنك، وهذا يركب فوائد كبيرة على المقترض، هذه هي حقيقة الرأسمالية المتوحشة، يهمها المنفعة المادية على حساب القيمة الحياتية للإنسان؛ الأرباح أهم من الناس.

    فالرعاية الصحية الخاصة والرسمية لا تستطيع التعامل مع الأزمة بكل بساطة.

    • 30 مليون أمريكي لا يملكون تأميناً صحياً.
    • 15 مليوناً منهم لديهم تأمينات خاصة.
    • 60 مليوناً آخرون عليهم دفعات مسبقة عالية لدرجة أنهم سيصبحون مدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا أن يطلبوا العلاج.
    • 45 % لا يمتلكون أو يدخرون دولاراً واحداً.
    • 24 % لديهم أقل من 1000 دولار.

    إن زيارة واحدة إلى غرفة الطوارئ أو العناية المركزة لفيروس "كورونا" تكلف الفرد الواحد 10 آلاف دولار، وهذا يهدد بمحو الملايين من مدخرات الأمريكيين، كما أن هناك 34 مليوناً من الناس في الولايات المتحدة لا يملكون يوماً واحداً إجازات صحية مدفوعة الأجر.

    علماً بأن 45% من العاملين في فنادق الولايات المتحدة وخدمات المطاعم فقط يحصلون على تعويض إجازات مرضية، وهم أمام خيارين؛ فقدان العمل، أو الفيروس.

    وكذلك فإن المدارس العامة في الولايات المتحدة، زعيم النظام العالمي، ظلت تعمل لأن الطلاب يعتمدون عليها لأجل الطعام المجاني؛ حيث إن 22 مليون طفل في الولايات المتحدة يعتمدون عليها.

    وسيتم طرد 700 ألف من إيصالات الطعام المجانية في الأول من أبريل؛ وهذا سيشكل جزءاً من المجاعة، علماً بأن الملايين من الأطفال في الولايات المتحدة مشردون ويعيشون في مآوٍ مكتظة، وسيكونون على اتصال مع أشخاص حاملين للفيروس، كل ذلك لا يعادل قيمة "وول ستريت".

    يقول جوزف إستيفال، الاقتصادي الحائز على جائزة "نوبل": "إن ديمقراطيتنا واقتصادنا في خطر كبير إذا استجبنا إلى مطالب الشركات ذات الأصوات الأعلى والأقوى، بدلاً من التفكير فيمن في الحقيقة يحتاجون الدعم".

    الحقيقة أن النظام العالمي اليوم نظام أثبت فشله وفساده ومرضه وهو قادم على كارثة اقتصادية، ومن الطبيعي ستصبح جائحة اجتماعية متطرفة ربما تتحول إلى حرب شاملة لا يعلم مداها إلا الله؛ بسبب طبيعة وغايات تركيبة النظام الذي يقود البشرية إلى الصراعات والهاوية.

    1- فعلى المستوى الصحي، فالفيروس ما زال يتفشى ويكسب الحرب ويثبت عجز أكبر العقول على حل معضلته.

    2- وعلى المستوى السياسي، فإن هذا النظام أثبت أنانيته وفشله في قيادة ثقافية للعالم لمواجهة حرب الفيروس الصغير، وانحاز إلى الأنانية والمصلحة القومية.

    3- وعلى المستوى الأخلاقي، فلا حدود للتفلت الأخلاقي العولمي؛ إذ إن كل شذوذ مباح وكل خبيث جائز أكله وشربه.

    4- وعلى المستوى الاقتصادي، فالرأسمالية المتوحشة وبحثها عن المنفعة والربح أغلى من حياة الإنسان.

    5- وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فإن التراحم والتكافل والاعتناء بالضعفاء والفقراء وكبار السن مفقود.

    لقد كشف فيروس "كورونا" زيف البناء الحضاري الغربي والنظام العالمي السياسي وضعف النظام الصحي في العالم المتمدن وتراجع الأخلاقيات الاجتماعية والمدنية.

    ولكن هل هذا سيدفع المسلمين إلى إعادة النظر في عمق الأخلاق الحضارية في دينهم "الإسلام العظيم"؟ وهل سيستطيع المسلمون أن يتقدموا بنموذجهم الحضاري في فرصة قد أزفت، وأن العالم اليوم يفكر بالحل الشامل لاحتمالات سقوط النظام العولمي وثقافة الحضارة الاستهلاكية المتوحشة؟

    فعلى المستوى الصحي:

    يستطيع المسلمون أن يقدموا للعالم أساسيات الطهارة التي يدرسها صغار أبناء المسلمين في مدارسهم ويتعلمونها في بيوتهم.

    الطهارة البدنية والحسية التي أسست لنظافة البدن وصحة النفس ورقي التهذيب.

    نحتاج اليوم إلى الفقيه والمفكر والطبيب من المسلمين الذين يجتمعون ليطلقوا مبادرة "الصحة الحضارية في الإسلام".

    التي تقوم أساساً على "رفع الحدث وإزالة الخبث"، لقد قدم الإسلام تعاليم ثابتة في الاهتمام بالبدن والعورة ونظافة الملبس والمكان.

    إن تلك التعليمات وضعت أساساً صحياً لمواجهة أي مرض وفيروس أياً كان نوعه ومصدره، لقد قدم الإسلام نموذجاً في الطيبات التي يجب أن تتناولها البشرية، والخبائث والمحرمات التي يجب أن تتركها في النظام الغذائي للإنسان المسلم، وآداباً صحية للمأكل والمشرب واللباس والزينة.

    وعلى المستوى الاقتصادي:

    فإن الإسلام وضع شرائع البيع والشراء، فأحل البيع وحرم الربا، ووضع قواعد العمل والكسب الحلال، وقدم نموذجاً في الاقتصاد المتوازن الذي يثبت الملكية ويطلق حرية السوق وضبطها بالأخلاق بعيداً عن الغرر والكسب الباطل "الحرام" والغش والاحتكار، لكنه أيضاً يضع المسؤولية الاجتماعية على عاتق المستثمر بأن يؤدي زكاة ماله للأصناف الثمانية في المجتمع.

    وعلى المستوى الاجتماعي:

    فالإسلام حث على التكافل والتعاون والحب والإخاء والتعارف بين البشرية، وإنّ رقابة الله أو تقواه مع البشر هي المعيار لكرامة الإنسان، فلا يترك ذا حاجة وإلّا على المجتمع أن يتعاون في استيفائها له.

    وألا تعلو طبقة على طبقة أخرى في المجتمع الإنساني الذي ينشئه الإسلام مهما كانت ألوانهم أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.

    إن لغة المساواة والحب والكرامة التي تشكلها المبادئ الحضارية للإسلام جاهزة لمعالجة الاهتزاز الاجتماعي العولمي.

    أما على مستوى الصحة النفسية:

    • فإن العقيدة الإسلامية التي أساسها أن القدر مكتوب خيره وشره، وأن المسلمين يتقبلون قضاء الله وفق مشيئته، وأن الموت لا يؤخر أو يقدم لإنسان من غير أن يحل أجله المكتوب، لهي عقيدة تغذي روح الإنسان بالطمأنينة والراحة والسعادة.
    • وإذا عرفنا أن الإنسان إذا أمسى آمناً في سربه معافى في بدنه يملك قوت يومه فقد حيزت له الدنيا، فلا صراع على المال ولا المادة ولا صراع أو خوف أو هلع من جوع، فتصبح الروح الإنسانية آمنة مطمئنة، فأي صحة نفسية عالية تلك التي يؤسسها الإسلام في حياة الناس.

    إذاً؛ من سيتجرأ لهذه المهمة "مهمة تبليغ العالم أن الإسلام لديه حل شامل لنظام الحياة الحضاري في العالم".

    وأن قادم الأيام سيثبت أن النظام الحضاري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب سيتهاوى، وسينشأ نظام عالمي جديد، إنها فرصة للمسلمين ليُهدوا العالم أغلى كنز للبشرية وهو "الإسلام العظيم".

    إن لدينا مئات من المنظمات الإسلامية والعربية والأوروبية المتخصصة في الفكر الحضاري الإسلامي والأبحاث الشرعية سواءً كانت تلك المنظمات رسمية أم أهلية.

    إننا ندعو المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة واتحاد الجامعات الشرعية والمؤسسات الإسلامية للقيام بواجب الوقت.

    إن البشرية قد مرت بثلاث موجات حضارية؛ الموجة الزراعية، تلتها الموجة الصناعية، ثم أخيراً موجة "البتات"، فهل يستطيع المسلمون أن يقدموا للبشرية الموجة الرابعة؟ وهي موجة "عالم القيم"؛ حيث إن كل قيمة من قيم الإسلام العظيم لها وزن ماديّ ومعنويّ يعادل كل مكاسب الرأسمالية وتقنية "البتات" وحضارتها، وتستطيع البشرية أن تحول تلك القيم إلى "سلعة حضارية" قابلة للتداول بما يحقق الرفاهية والسعادة للبشرية.

  • تقدير موقف: صفقة ترامب تؤسس لعواصف قادمة في المنطقة …

    بقلم: أ.د.وليد عبد الحي. (تقدير موقف خاص بمركز الزيتونة).

    قبل عام تماماً (شباط/ فبراير 2019)، نشر مركز الزيتونة دراستي عن الآفاق المستقبلية لـ"صفقة القرن"، وبمقارنة ما ورد في كل من وثيقة ترامب الحالية والتي تقع في 181 صفحة تحت عنوانPeace To Prosperity: A Vision to Improve the Lives of the Palestinian and Israeli People (January 2020)، وما ورد في المؤتمر الصحفي الذي عقده ترامب يوم الثلاثاء 28/2/2020، لم أجد فروقاً جوهرية عن تلك الدراسة إلا في التفاصيل.

    تقع الوثيقة الجديدة في 22 قسماً، يتبعها أربعة ملاحق، من بينها خريطتان توضحان جغرافية "إسرائيل" والدولة الفلسطينية المفترضة وتوزيع المستوطنات.

    ونظراً للتفاصيل الكثيرة لجوانب موضوعات الوثيقة، أرى أن الأنسب تحديد معالمها الأكثر استراتيجية على النحو التالي:

    أولاً: الدولة الفلسطينية المقترحة: وتتسم بما يلي:

    1. دولة منزوعة السلاح تماماً في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، وتلتزم بمنع أي تنظيم مسلح من التواجد فيها، مع اشتراط أن يحكم غزة قوى غير حماس والجهاد الإسلامي والتنظيمات الأخرى المسلحة.

    2. تكون عاصمة الدولة في الضواحي المجاورة للقدس الشرقية، مع الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ستقيم سفارة لها في هذه الضواحي، بينما تكون القدس كلها بتوصيفها الإسرائيلي مدينة موحدة وعاصمة لـ"إسرائيل".

    3. يتم استقطاع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وضمها لـ"إسرائيل".

    4. لا عودة لحدود 1967، وإبقاء حدود الدولة الفلسطينية غير مرسمة لمدة أربع سنوات، يتم خلالها تحقيق تواصل جغرافي بين أراضي الدولة الفلسطينية وتجميد الاستيطان شريطة الالتزام بما يلي:

    أ. ان لا تشكل هذه الدولة الفلسطينية بأي شكل من الاشكال خطراً على الأمن الإسرائيلي مع ترك تحديد مفهوم خطر أمني للطرف الإسرائيلي.

    ب. التخلي عن السلاح؛ وهو ما تنطوي عليه عبارة ترامب "الرفض الصريح للإرهاب من قبل الدولة الفلسطينية".

    ج. مقاومة إيران ومحاصرة نشاطاتها.

    د. أن تكون قوانين السلطة الفلسطينية موجهة لتقييد النشاط "الإرهابي" مع حق "إسرائيل" في تدمير أي منشآت فلسطينية تراها خطراً عليها.

    ه. خلال المفاوضات لا يجوز للسلطة الانضمام لأي منظمة دولية دون موافقة "إسرائيل".

    و. الإقرار بـ"يهودية الدولة الإسرائيلية".

    5. لن تخلع "إسرائيل" أي مستوطنة، ويتم ربط المستوطنات الإسرائيلية التي تقع داخل مناطق السلطة الفلسطينية بشبكات نقل، أما الفلسطينيون الذين يقعون في مناطق "إسرائيلية" فيسمح لهم بالتنقل نحو أراضي السلطة الفلسطينية.

    6. يخضع نهر الأردن للسيادة الإسرائيلية، مع تعويض المزارعين الفلسطينيين أو الترخيص لهم في هذه المنطقة.

    7. المياه الإقليمية لغزة تبقى تحت السيطرة الإسرائيلية.

    8. دمج سكان قرى المثلث الفلسطيني (كفر قرع، وعرعره، وياقة الغربية، وأم الفحم...إلخ) مع السلطة الفلسطينية، ومقايضة الفلسطينيين بحيث يتم ضم مناطق للسلطة الفلسطينية تعويضاً عن ما سيقتطع منها.

    9. تبقى المعابر للدولة الفلسطينية خاضعة لرقابة السلطة الإسرائيلية، كما أن الولايات المتحدة مستعدة للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على أراضٍ محتلة (غور الأردن، والكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية، وهو التفسير الذي أشار له نتنياهو في المؤتمر نفسه).

    ثانياً: اللاجئون:

    تم ربط موضوع اللاجئين الفلسطينيين باللاجئين اليهود من الدول العربية، والإشارة لحق "إسرائيل" في التعويض عن ممتلكات المهاجرين اليهود وما تحملته "إسرائيل" من نفقات استيعاب هؤلاء المهاجرين اليهود. أما الحل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين فهي:

    1. بعضهم تستوعبه الدولة الفلسطينية.

    2. وبعض يتم دمجه في الدول التي يقيمون فيها.

    3. والجزء المتبقي منهم يتم توطينه في دول إسلامية من دول منظمة المؤتمر الإسلامي.

    4. توسيع قطاع غزة بما يساعد على تحسين ظروفهم من خلال مناطق مجاورة في النقب، ويتم وضع مرافق ومشاريع صناعية لاستيعاب جزء من الضغط السكاني في غزة.

    ثالثاً: التكامل الاقتصادي الإقليمي:

    عنوان القسم الثالث من الوثيقة هو "رؤية للسلام بين دولة إسرائيل والفلسطينيين والإقليم"، ويتم ذلك من خلال:

    1. تعزيز مسار التطبيع بين الدول العربية و"إسرائيل"، والتشارك في علاقات مع أوروبا.

    2. ربط الضفة وغزة بخطوط نقل سريعة تكون خاضعة للسيطرة الإسرائيلية.

    3. السماح للفلسطينيين باستخدام الموانئ الإسرائيلية في حيفا وأسدود.

    4. تسهيل العبور بين الأردن وفلسطين مع حق "إسرائيل" في الرقابة على السلع المنقولة.

    5. إنشاء منطقة تجارة حرة بين الأردن وفلسطين.

    6. ضرورة التعاون العربي الإسرائيلي لمواجهة حماس وحزب الله.

    7. الوعد بوضع الولايات المتحدة نهاية لاعتماد الفلسطينيين على المؤسسات الخيرية والمعونة الأجنبية.

    رابعاً: المعتقلون:

    الإفراج عن السجناء ما لم يكونوا ممن اقترف "جرائم قتل أو شروع بالقتل"، أي أن عناصر المقاومة لن يتم الإفراج عنهم.

    الدلالات المستقبلية للخطة:

    من الارجح أن هذه الخطة (الوثيقة) تمهِّد المسرح لعراك في غاية القسوة ستواجهه التنظيمات الفلسطينية، ومن الأرجح أن تكون غزة عرضة لضغوط سياسية (تقييد حركة زعمائها)، وحروب إعلامية (بالصور المفبركة، والأخبار المغرضة، والإشاعات،...إلخ)، واقتصادية (مزيد من الخنق الاقتصادي خصوصاً تجاه غزة)، وعسكرية (الضربات الجوية المتلاحقة، والاغتيالات، وعمليات تفجير واغتيال مشبوهة...إلخ).

    والوجه الثاني للعراك سيكون بمزيد من الضغط الأمريكي على الدول العربية لتسريع وتيرة التطبيع الواسع، وصولاً لتحالفات عسكرية تندمج في إطار توسيع عمل الناتو شرقاً وجنوباً، ومزيد من الضغط على كل دولة او جهة عامة أو خاصة تقدم أي مساعدات للفلسطينيين.

    والوجه الثالث محاولة جر بعض الدول الأوروبية، لا سيّما بريطانيا، باتجاه المشاركة في إنجاح المشروع الأمريكي.

    إن المشروع الأمريكي لدليل قاطع على عبثية أي مسار سلمي مع هذا الكيان الشاذ، بل إن هذه الوثيقة ستعمل "إسرائيل" على غرار ما فعلته في أوسلو بأن تطبق منها ما هو في صالحها، وهو الجزء الأكبر، بينما ستعمل على تعطيل تنفيذ ما تراه غير مناسب لها.

    إن مواجهة هذا المشروع الأمريكي يحتاج إلى بناء استراتيجية واضحة تجعل من إسقاط هذا المشروع دالته الأولى، وهو ما يعني تطوير العلاقات مهما كانت متواضعة مع كل من يعارض أو يتحفظ على المشروع، وهو ما يستدعي التخلي عن أصل البلاء وهو اتفاق أوسلو، وكل ما ترتب عليه من تنسيق أمني وتدجين للضفة الغربية والعودة للمقاومة المسلحة بعد إعادة ترتيب الصفوف.
     


    مصدر الخريطة: الحساب الرسمي لدونالد ترامب على موقع تويتر، 28-1-2020


    مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 29/1/2020

  • خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط (صفقة القرن)

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

           جميع النزاعات في الشرق الأوسط مستعرة، ويأتي في مقدمتها الصراع }الصهيوني (الإسرائيلي)، الفلسطيني {حيث مضى عليه 100 عام وهو الصراع الأكثر صعوبة. على الرغم من أن الجانبين وقّعا اتفاق سلام في أوسلو عام 1993، إلا أنهما -ولأكثر من ربع قرن- متباعدان أكثر من أي وقت مضى.

           بعد مرور عامين من التكتم التام على خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي أطلق عليها “خطة السلام” للشرق الأوسط، تمّ إعلان الخطة التي طال انتظارها للسلام في الشرق الأوسط، متعهدًا بأن تظلّ القدس عاصمة “غير مقسمة” لإسرائيل. واقترح حل دولتين، وقال: إنه لن يجبر أي إسرائيلي أو فلسطيني على ترك منزله. وقال ترامب، في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض وإلى جواره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إن خطته “قد تكون الفرصة الأخيرة” للفلسطينيين. وتوالت ردود الفعل العربية والدولية على هذه الخطة بين التأييد والمعارضة والصمت. وطرحت الكثير من الأسئلة حول مضمون هذه الخطة.

    فما هي أبرز محاورها؟

            أُعدّ هذا المشروع خلف الكواليس بين الكيان الصهيوني (اسرائيل) والولايات المتحدة، من خلال إعادة صياغة المشاريع الصهيونية القديمة، ولكن لابد من السؤال لماذا لم يؤخذ رأي الطرف الثاني في أثناء الإعداد له، وقبل الإعلان عنه ليكن مقبولا إذا كانوا يرغبون في السلام الحقيقي؟ وماذا حقّق المشرع الجديد من امتيازات لفلسطين عن المشاريع القديمة المرفوضة فلسطينيا؟ وما هو الدور العربي لخدمة القضية المركزية قضية فلسطين؟

    مشروع جديد على أنقاض الحلول القديم

         منذ عام 1947 طرحت العديد من القرارات والمبادرات الإقليمية والدولية لحل الصراع العربي الصهيوني، تأثرت بالمجريات التاريخية ونتائج الحروب العربية الإسرائيلية وبتقلبات الأوضاع الدولية، لكن معظم هذه القرارات والحلول كانت تصطدم بتعنّت إسرائيلي يسنده انحياز أميركي لتل أبيب.

    مشاريع وخلفيات

         يبدو أنّ ما تسرّب من “صفقة القرن” يتشابه إلى حدّ كبير مع ما طرحه مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق جيورا آيلاند (Giora Eiland) في دراسة نشرها عام 2010 تحت عنوان “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”. كما تأخذ الصفقة أيضا أجزاء من خطة طرحها أفيغدور ليبرمان -رئيس حزب “إسرائيل بيتنا” ووزير الخارجية والدفاع سابقا- المعروفة بخطة “تبادل الأراضي المأهولة”، وخطة أخرى طرحها يسرائيل كاتس القائم بأعمال وزارة الخارجية ووزير النقل والاستخبارات.

         ويأخذ المشروع أيضا أفكارًا من دراسة موسعة طرحها الرئيس السابق للجامعة العبرية البروفيسور يوشع بن آريه عام 2003، جمعت تحت عنوان خطة “تبادل أراض ثلاثية”؛ وترتكز مجمل هذه المشاريع على فكرة توطين الفلسطينيين في أرض ثالثة.

         وفي تموز/يوليو 2018، أشار الصحفي الإسرائيلي شاؤول أرئيلي -في مقال له في جريدة “هآرتس”، تعقيبا على تسريبات للخطة- إلى أنها مجرّد حزمة أفكار إسرائيلية أعدّها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يتم تقديمها في حلّة أمريكية. مما يتضح أنّ “خطة السلام” للشرق الأوسط لم تأتِ بشيء جديد بل هي جمع الأفكار بحلّة أمريكية، رغم أنّ كل هذه الأفكار والمشاريع رفضت من قبل فلسطين.

    هكذا حارب ترامب القضية الفلسطينية

         منذ فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر 2016 قدّم لدولة الاحتلال الإسرائيلي جملة من القرارات التاريخية التي تمسّ بالأراضي الفلسطينية المحتلة إضافة إلى أخرى عربية، كهضبة الجولان المحتلة.

         وكان أبرز قرارات ترامب وأشدها ألماً على الفلسطينيين والعرب اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لـ “إسرائيل”، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في (ديسمبر 2017). هذا القرار جاء بعد عام تقريباً من تولي ترامب رئاسة البيت الأبيض، لكن ذلك التاريخ شهد بعده سلسلة قرارات كانت كفيلة بزيادة ثقل كاهل القضية الفلسطينية.

    1. إغلاق مكتب منظمة التحرير. في واشنطن في نوفمبر 2017 وبعدها بأسبوع تقريباً تراجع ترامب عن القرار، واستبدل به فرض “قيود” على بعثة منظمة التحرير، وهو ما لم يرق للسلطة الفلسطينية التي أعلنت تخليها عن واشنطن كـ “وسيط لعملية السلام”.
    2. القدس عاصمة لـ “إسرائيل”. في 6 ديسمبر 2017 أعلن ترامب القدس عاصمة لـ “إسرائيل. أشعل موجة غضب شعبية ورسمية واسعة في العالمين العربي والإسلامي.
    3. تجميد 125 مليون دولار من مخصصات “أونروا”. بعد شهر بالتمام من إعلان القدس عاصمة لـ “إسرائيل”، وبدأت قرارات ترامب التضييقية على القضية الفلسطينية تتضح أكثر، وخاصة عندما أمر بتجميد 125 مليون دولار أمريكي من مخصصات “أونروا”.
    4. نقل سفارة واشنطن إلى القدس. نفذ ترامب وعده بمنح ما لا يملك إلى من لا يستحق وفي 14 مايو 2018، افتتحت الولايات المتحدة سفارتها الجديدة لدى دولة الاحتلال في مدينة القدس المحتلة.
    5. في مايو 2018 نفذت الإدارة الأمريكية ما أمر به ترامب من إعادة توجيه مساعدات اقتصادية بأكثر من 200 مليون دولار كانت مخصصة إلى قطاع غزة والضفة الغربية إلى مشاريع في أماكن أخرى.
    6. وقف دعم مستشفيات القدس. في سبتمبر 2018 حجبت وزارة الخارجية الأمريكية 25 مليون دولار، كان من المقرر أن تقدمها كمساعدة للمستشفيات الفلسطينية في القدس، وعددها 6 مستشفيات.
    7. إغلاق مكتب منظمة التحرير. في سبتمبر 2018 الإدارة الأمريكية أبلغتهم رسمياً بقرارها بإغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وجاء القرار كـ “عقاب” على مواصلة عمل السلطة الفلسطينية مع المحكمة الجنائية الدولية ضدّ جرائم الحرب الإسرائيلية، كما قالت واشنطن: إنها ستنزل علم فلسطين في واشنطن.
    8. طرد السفير الفلسطيني. قرّرت الإدارة الأمريكية طرد السفير الفلسطيني لديها، حسام زملط وعائلته، في سبتمبر 2018 وهو ما وصفته المنظمة بـ “السلوك الإنتقامي الذي يعكس ما وصلت إليه الإدارة الأمريكية من حقد على فلسطين قيادة وشعباً”.
    9. شرعنة المستوطنات. أعلن وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، أن واشنطن لم تعد تعتبر أن المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية “مخالفة للقانون الدولي”.
    10. ترامب يعلن صفقة القرن. بعد سنوات من التكهنات والتمهيد الإعلامي والسياسي، خرج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن صمته، الثلاثاء 28 يناير 2020، وأعلن خطة السلام التي أعدتها إدارته، المعروفة باسم “صفقة القرن”، وسط رفض فلسطيني لها ودعوات للمواجهة مع الاحتلال رداً على إعلانها.

         يتضح من خلال سلسلة قرارات الرئيس ترامب أعلاه شدّة كرهه للقضية الفلسطينية وانحيازه للكيان الصهيوني المحتل، وكانت كفيلة بزيادة ثقل كاهل القضية الفلسطينية.

    أبرز محاور الصفقة

        ركّزت الولايات المتحدة دائما، خلال سنوات الوساطة في محادثات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، على رغبات إسرائيل وقيودها مع إيلاء أولوية خاصة لأمنها، بيد أن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين قبلوا فكرة مفادها أن السلام يتطلب قيام دولة فلسطينية جنبا إلى جنب مع إسرائيل، حتى وإن كانوا غير مستعدين للسماح لها بسيادة كاملة على قدم المساواة.

         قد تبدو صفقة ترامب وثيقة استسلام أكثر من كونها أي شيء آخر، إذ تمثل فرصة لإسرائيل لتأكيد انتصارها على الفلسطينيين مرّة أخرى وإلى الأبد، بعد 7 عقود من الاستقلال وأكثر من قرن منذ بدء الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

         الخطة كانت مختلفة، كونها تتعامل مع الوقائع التي فرضتها إسرائيل على الأرض منذ التوقيع على اتفاق أوسلو، وليست قائمة على تطلعات وأحلام الفلسطينيين بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وضمان حق عودة اللاجئين.

        تقترح “صفقة القرن” إقامة دولة فلسطينية بلا جيش أو سيادة، على مساحة 70% من الضفة الغربية، يمكن أن تكون عاصمتها بلدة “شعفاط” شمال شرقي القدس. وإن الخطة تسمح لإسرائيل بضم ما بين 30 إلى 40% من أراضي الضفة الغربية.

        إن الدولة الفلسطينية الموعودة، بموجب “رؤية السلام” الأمريكية، يجب أن تكون “منزوعة السلاح” وبلا سيادة وهي لن ترى النور إلا بعد أن يعترف الفلسطينيون بيهودية الدولة الإسرائيلية. والدولة المنزوعة السلاح تعني تخلي حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة عن أسلحتها، وهو شرط يصعب تحقيقه في ظل سيطرة حماس على غزة.

    توقيت الصفقة

         اختيار دونالد ترامب لتوقيت الإعلان عن خطته للسلام حساس جدًا بسبب موقفه الحالي في مجلس الشيوخ فقد ضيّق الديمقراطيون عليه الخناق واستدعوا مزيدا من الشهود لعزله. أما نتانياهو، فهو يواجه انتخابات مفصلية في بلاده بحلول شهر مارس المقبل لذا يرى المحللون أن ترامب قد ألقى بطوق النجاة لنتنياهو لكي ينقذ نفسه وصديقه”.

       “فصفقة القرن” بمثابة صفقة بين ترامب ونتنياهو قبيل الانتخابات سواء في إسرائيل أو أميركا، مؤكدا أن الخطة تهدف إلى تمهيد الطريق أمام نتنياهو لضم جميع المستوطنات في الضفة إلى السيادة الإسرائيلية من دون أن تدفع إسرائيل أي مقابل للسلطة الفلسطينية.

        والامتحان الحقيقي للخطة الأميركية سيكون بحال انتخب ترامب رئيسا لولاية ثانية، وحتى ذلك الحين فإن الخطة ما هي إلا تدخل في الانتخابات الإسرائيلية وصرف الأنظار عن محاكمة نتنياهو الذي يواجه تهما بالفساد وخيانة الأمانة وتلقي الرشى.

    رؤية القيادة الفلسطينية للخطة الأمريكية

         أعلن الرئيس الفلسطيني رفضه الخطة رفضًا قاطعًا وعدم قبوله بالتفاوض على صفقة القرن، وأكد كذلك رفض الشعب الفلسطيني لها.

         وحول رؤية القيادة الفلسطينية للخطة الأمريكية، شدّد “نبيل شعث” على أنها “أكاذيب تحاول الولايات المتحدة من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، وليس تحقيق السلام، وطموح الشعوب”.

        هاجم نبيل شعث، الممثل الخاص لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، حضور دول خليجية لإعلان “صفقة القرن”، معتبرًا أنّ عذر هذه الدول “أقبح من ذنب”.

        فوّضت القيادة الفلسطينية الرئيس محمود عباس، بتنفيذ كل القرارات التي صدرت عن المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير، المتمثلة بوقف التنسيق الأمني، ووقف العلاقة الاقتصادية مع “إسرائيل”، وغيرها من الالتزامات التي لم تلتزم بها “إسرائيل”،

       منذ إعلان الصفقة خرج للشوارع آلاف الفلسطينيين منددين بها، في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، والقدس، وبعض الدول العربية.

    مستقبل خطّة السلام للشرق الأوسط

        أجمعت غالبية الصحف الأوروبية على أن خطّة ترامب لحلّ أزمة الشرق الأوسط لن تجلب السلام المنشود، لأنها تحمل في طياتها خطرًا كبيرا في تصعيد الصراع بين الطرفين، كونها تراعي فقط مصالح إسرائيل على حساب الفلسطينيين.

        فقد أعلن مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري، في دورته غير العادية، أمس، رفض «صفقة القرن» الأميركية الإسرائيلية، باعتبارها لا تلبي الحدّ الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته وتخالف مرجعيات عملية السلام. وشددت كذلك على عدم التعاطي مع هذه الصفقة التي وصفتها بـ «المجحفة»، أو التعاون مع الإدارة الأميركية في تنفيذها بأي شكل من الأشكال.

         ورغم ضعف ردود الفعل الدولية على خطة الولايات المتحدة ـالإسرائيلية الذي يطرح كثيرا من الأسئلة. والشيء نفسه يقال عن التعليقات العربية المزدوجة المعنى. فالدول العربية مرتبطة وتابعة للولايات المتحدة، ولا تستطيع اتخاذ موقف مضاد لترامب، ويجدون صعوبات متزايدة في إسناد “الجهود” التي يبذلها ترامب من أجل التوصل إلى سلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين، لأنهم متردّدون في أن يكونوا شركاء في قرارات أمريكية تعد موالية لإسرائيل.

          وهناك احتمالات لنجاح الخطة ولو بشكل محدود، “وهذا النجاح يتوقف على قبول الطرف الفلسطيني بالبدء في مفاوضات مع الطرف الإسرائيلي تحت رعاية أمريكية. وفي ظلّ الموقف المعلن للسلطة الفلسطينية برفض الخطة الأمريكية، فإن هذا المسار ونجاح الخطة غير ممكن والفشل قد يلحق بالخطة التي تؤسس لدولة فلسطينية منزوعة السيادة عاصمتها “شعفاط” (يديعوت).

         إن إعلان الخطة في هذا التوقيت وبدون توافق فلسطيني لا يمكن استبعاد عنصر الانتخابات من توقيت إعلان صفقة القرن، وذلك لخدمة ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ثالث انتخابات برلمانية تشهدها إسرائيل خلال أقل من عام.

          ويبدو أن الصفقة لها هدف سياسي أوحد: وهو مساعدة نتانياهو في معركته السياسية-القضائية وتعزيز الدعم لترامب في صفوف الناخبين المؤيدين لإسرائيل”.

         ورغم أن التعبير عن الإحباط من مواقف الحكومات العربية بشكل خاص والعالم بشكل عام  إزاء صفقة القرن، ورغم تآمر البعض على القضية الفلسطينية من خلف الكواليس وأخيرا وليس آخرًا، لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني مع نتنياهو يوم الإثنين الموافق 3/1/ 2020، سيكون مصيرها الفشل كما في المشاريع السابقة رغم أن ظروف الدول العربية  الآن تختلف عن السابق، لأن هناك شعب فلسطيني مقاوم ورافض لكل مشاريع  الاستسلام والمساومات، والقدس ليست للبيع، وسيدافع عن القدس الشعب الفلسطيني الذي قال عنه رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: “لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لإوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: “بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ”.

  • سياسة الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية

    أحمد عبد القادر*

    مقدمة

    مع بداية ثورات الربيع العربي ازداد التواجد الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، مما شكل خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة، فسعت الأخيرة إلى تقليص النفوذ الإيراني في المنطقة من خلال مجموعة من الإجراءات منها تجديد العقوبات الاقتصادية على النفط الإيراني في عام 2018م مروراً بالغارات الجوية على المواقع الإيرانية في سورية ثم اغتيال قاسم سليماني " قائد لواء القدس في الحرس الثوري الإيراني " في 3 يناير 2020م، لاحقاً ردت إيران بقصف صاروخي لقاعدة " عين الأسد" الأمريكية في 8 يناير 2020م.

    فإلى أي مدى يمكن أن يشكل ازدياد النفوذ الإيراني خطراً على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط؟

    وماهي الوسائل المحتملة التي قد تستخدمها الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية؟

    أولاً: التهديد الإيراني للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط:

    تقع إيران ضمن قائمة الأنظمة المارقة - حسب الاستراتيجية الدفاعية الوطنية الأمريكية لعام 2018م- التي تهديد مصالح الولايات المتحدة على المستوى الدولي والمستوى الإقليمي بشكل خاص، ويظهر ذلك من خلال سعيها المستمر للحصول على السلاح النووي والتي ترى فيه الولايات المتحدة خطراً وجودياً على إسرائيل حليفها الاستراتيجي، وكذلك من خلال دعمها الواضح والكبير لجماعات تصنفها الولايات المتحدة " منظمات إرهابية" ، وتطويرها لمنظومة صواريخ بعيدة المدى، وتدخلها المستمر في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، فضلاً عن بسط نفوذها الكامل في دول أخرى[1]. يضاف إلى ذلك سعيها لبناء نظام أمني إقليمي تكون هي دولة المركز فيه وذلك لن يتأتى لها إلا من خلال مزاحمة النفوذ الأمريكي في المنطقة، وتهديدها بإغلاق مضيق هرمز" الذي يمر عبره ثلث الإنتاج النفط العالمي"[2]، وبناءها تحالف مع روسيا الاتحادية المنافس التقليدي للولايات المتحدة، محاولة تصديرها لنظام" الولي الفقيه" تحت مسمى تصدير الثورة الإيرانية وهو نظام استبدادي لا يتفق مع المبادئ الديمقراطية التي تتبناها الولايات المتحدة.

    ثانياً: أدوات الولايات المتحدة لتقليص النفوذ الإيراني في سورية:

    تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية عدد من الوسائل والأدوات التي من الممكن استخدامها في تقليص النفوذ الإيراني بدايةً من استخدام القوة العسكرية المباشرة وصولاً إلى استخدام العقوبات الاقتصادية مروراً بتوظيف الوسائل والأدوات الإقليمية والمحلية ومن هذه الأدوات:

    1. دعم فصائل الثورة السورية

      بدأ الدعم الأمريكي لفصائل الثورة السورية في عام 2013م بهدف إسقاط النظام السوري ومن خلفه النفوذ الإيراني من خلال غرفة تنسيق الدعم لقوات المعارضة" الموك" ومن أهم الفصائل التي تلقت الدعم الأمريكي "جبهة ثوار سورية، وحركة حزم" إلا أن الدعم الأمريكي لفصائل المعارضة السورية قد توقف في عام2017م بعد فشلها في مواجهة تنظيمات تصنفها الولايات المتحدة" منظمات إرهابية".

    2. دعم تنظيم قوات سورية الديمقراطية" قسد"

      بدأت الولايات المتحدة في دعم قوات سورية الديمقراطية "قسد" مع بداية تشكيلها في عام 2015م بهدف محاربة تنظيم الدولة الإسلامية من خلال تقديم الاستشارات العسكرية ،ثم من خلال التدريب وتقديم الأسلحة والذخائر والمشاركة بالعمليات الميدانية من خلال القصف الجوي، وكانت مشاركتها الأكبر في معركة عين العرب، وتعمل الولايات المتحدة على توظيف دعمها لهذه القوات للسيطرة على منطقة الجزيرة السورية والتي تمر فيها أغلب الطرق البرية بين سورية والعراق وبخاصة بعد سيطرتها على المنطقة الممتدة شرق نهر الفرات بين الرقة ودير الزور، مانعةً بذلك إيران من السيطرة على هذه المنطقة.

    3. القواعد العسكرية

      • قاعدة التنف: تعتبر قاعدة التنف العسكرية من أهم القواعد الأمريكية في سورية وقد تم إنشاءها في العام 2014م، وكانت قد استخدمتها بداية إنشاءها لمحاربة تنظيم الدولة الاسلامية، ولاحقاً لتقليص النفوذ الإيراني من خلال سيطرتها على الطريق بين دمشق وبغداد، والذي تستخدمه الميليشيات التابعة لإيران كخط امداد رئيسي لقواتها المتواجدة في سورية[3]، وتعتمد هذه القاعدة على التواجد المباشر للقوات الأمريكية إضافة إلى بعض التشكيلات التابعة لقوات المعارضة السورية*. تاركةً القوات الإيرانية تستخدم طريق البو كمال -تدمر والذي يتعرض بشكل متكرر لهجمات تنظيم الدولة الإسلامية.

      • قاعدة الرميلان: تم إنشاؤها في عام 2015م وتعتبر القاعدة المركزية في منطقة الجزيرة السورية وتحتوي على مهبط للطائرات[4]، وتشكل مع مجموعة من القواعد الأخرى* حزام حمائي للطريق الدولي M4على طول المناطق الممتدة من الحدود السورية العراقية عند معبر اليعربية وصولاً منبج في ريف حلب الشرقي، وبذلك تحرم الميليشيات الإيرانية من استخدام هذا الطريق الاستراتيجي.

    4. الغارات الجوية على المواقع العسكرية

      بدأ الطيران الأمريكي باستهداف الميليشيات التابعة لإيران في أوائل العام 2018م واستمر خلال العام 2019م، وتركز القصف في دير الزور حيث استهدفت الأرتال الإيرانية ومواقع القيادة والذخائر أكثر من مرة وازدادت هذه الهجمات بعد مقتل "قائد لواء القدس" قاسم سليماني بغارة أمريكية في العراق.

    ثالثاً: السيناريوهات المحتملة لمستقبل أدوات تقليص النفوذ الإيراني في سورية:

    1. استمرار الاعتماد على الأدوات السابقة: من خلال القواعد العسكرية المتواجدة في التنف ومنطقة الجزيرة السورية ، والحفاظ على مستوى دعم قوات سورية الديمقراطية ولكن دعم هذه القوات قد يلقى معارضة شديدة من قبل تركيا حليف الولايات المتحدة في الناتو، وكذلك الحفاظ على مستوى الدعم المحدود لفصائل المعارضة المتواجدة في قاعدة التنف والتي ليس بمقدورها تحقيق مهمات كبيرة في تقليص النفوذ الإيراني بسبب قلة عددها وطبيعة المنطقة التي تتواجد فيها، واستخدام الغارات الجوية بين الحين والأخر، وكل ذلك قد لا يسهم بشكل فعّال في تحقيق هدف تقليص النفوذ الإيراني.
    2. زيادة الاعتماد على الأدوات السابقة: وهو السيناريو المرجح، ويمكن للولايات المتحدة تحقيق ذلك من خلال زيادة دعم ونفوذ قواعدها العسكرية بهدف تحقيق السيطرة المطلقة على طرق امداد الميليشيات الإيرانية، أو من خلال زيادة دعم قوات سورية الديمقراطية ولكن ذلك قد يواجه بموقف تركي رافض لهذا الدعم ، ويمكن كذلك زيادة الغارات الجوية والتركيز على استهداف قيادات في الميليشيات الإيرانية وحلفائها وهو ما ظهر في استهداف قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني والمسؤول عن عمليات الحرس الثوري في وتوسيع نفوذه في الدول العربية ، وزيادة دعم فصائل المعارضة وبخاصة بعد تقدم النظام وحلفائه في إدلب واحتمال فقدان المعارضة أخر معاقلها في ظل دفع إيران أعداد كبيرة من ميليشياتها إلى جبهات إدلب ، وبالتالي قد يكون زيادة دعم قوات المعارضة لمنع إيران من الاستفادة من هذا التقدم عن طريق دعم فصائل جديدة متواجدة في إدلب إضافةً إلى الفصائل الموجودة في قاعدة التنف.
    3. تقليص دعم الأدوات السابقة: يمكن للولايات المتحدة تقليص النفوذ الإيراني في سورية من خلال الحرب المباشرة مع ما يرافقها من تقليص دعم الأدوات السابقة ولكن يبقى هذا السيناريو مستبعداً بسبب التكلفة الباهظة العسكرية والسياسية والاقتصادية للحرب المباشرة، وكذلك حاجة الحرب إلى تأييد داخلي واستعداد شعبي لتحمل هذه التكاليف، فضلاً عن حشد التأييد الدولي وقد يزيد ذلك من حدة التنافس مع روسيا والصين.

    *طالب علوم سياسية في جامعة شام العالمية

    [1] ضرار الخضر، ملخص الاستراتيجية الدفاعية الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية2018، مركز نورس للدراسات،2019م.

    [2] بالخرائط: قراءة لواقع النفط في الشرق الأوسط، ن بوست، 23\12\2014م، http://bit.ly/2PWGXaA، أخر تحديث 7\3\2020م

    3] واشنطن بوست تكشف عن الأهمية الاستراتيجية لقاعدة التنف، أورينت نت، 24\10\2018، http://bit.ly/2vDGIKU، أخر تحديث 7\3\2020م

    *ومن أهم التشكيلات العسكرية لقوات المعارضة المتواجدة في قاعدة التنف فصيل" مغاوير الثورة"

    [4] سوريا مكتظة بالقواعد الأجنبة .. تعرف عليها، الجزيرة نت، 1\3\2018م، http://bit.ly/3cFINGI، أخر تحديث 7\3\2020م

    *تل تمر، تل السمن، صباح الخير، حرب عشق

  • قراءة في تداعيات الأزمة الأمريكية الإيرانية على الوضع الفلسطيني

    تقديم

    شكًل اغتيال الولايات المتحدة لقائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، حيزًا لتفاعلاتٍ واسعة في المنطقة، حيث بدت عملية الاغتيال كنقطة تحول، أو عتبة فارقة، فيما يتعلق بالعديد من مسارات الصراع، والأطراف المنخرطة فيه، بما فيها الصراع بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، وذلك بشكل ربما فاق التأثيرات المباشرة للأزمة على طرفيها المباشرين، الولايات المتحدة وإيران.

    ومما يسهم في دعم قراءة التفاعلات الناجمة عن هذه العملية بهذا الاتجاه، إرهاصات عملية الاغتيال، والتداخل المباشر لدولة الاحتلال في هذه الأزمة، وتداخل مختلف المسارات والملفات في هذه المنطقة. فإعلان الجيش الأمريكي مسؤوليته عن تنفيذ الاغتيال في بيان رسمي[1]، وما قابله من مواقف صدرت عن الجهات المسؤولة في إيران، والقوى المتحالفة معها [2]، تؤكد التفاعلات المحتملة في المنطقة.

    وهذا أيضا ما عبرت عنه تصريحات المسؤولين الأمريكيين إثر عملية الاغتيال. ولعل أبرزها تصريحات وزير الدفاع الأمريكي مايك إسبر، بحديثه عن قواعد جديدة للصراع، وقوله إن “قواعد اللعبة تغيرت. نحن على أتم الاستعداد لفعل ما هو ضروري للدفاع عن عناصرنا، ومصالحنا، وشركائنا في المنطقة”.

    الموقف الإيراني أيضا، أعطى الحدث بُعدًا استراتيجيًا، وذلك بتبني المسؤولين الإيرانيين في تصريحاتهم، لهدف إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، كعنوان للمرحلة الجديدة[3]، إلى جانب تأكيدهم، وعلى لسان المرشد الأعلى للثورة الإسلامية في إيران علي خامنئي، على ضرورة حدوث رد إيراني مباشر، وبأيدٍ إيرانية، الأمر الذي يعني بوضوح، تجاوز ضوابط الاشتباك غير المباشر بين الولايات المتحدة وإيران.

    محدودية الرد الإيراني المباشر[4]، الذي اقتصر على تنفيذ هجمات بالصواريخ البالستية متوسطة المدى، على المقرات الأمريكية في قاعدة عين الأسد العسكرية في العراق، وامتناع الولايات المتحدة عن التصعيد، سمح للطرفين بتفادي الدخول في مواجهة عسكرية واسعة النطاق حاليا، ويبقى الباب مفتوحا لزيادة التصعيد وزيادة التأزم بين إيران والولايات المتحدة، وانعكاس ذلك على المشهد الفلسطيني.

    عوامل تأثير الأزمة في الوضع الفلسطيني

    يعتبر سليماني، كقائد لقوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، عنوانًا مركزيًا لسياسة إيران تجاه الملف الفلسطيني. وكان للرجل دور أساس في خلق نقلة نوعية في تطوير العلاقة مع قوى المقاومة، التي تنسب له أدوارًا هامة في دعمها، وتطوير قدراتها.[5]

    هذه الأدوار وضعته في موضع اتهام من قبل “إسرائيل”، وجهات غربية عدة، أبرزها الولايات المتحدة، التي اعتبرته مصدر تهديدٍ لمصالحها، ومصالح حلفائها في المنطقة. وقد كان أبرزها الاتهام الإسرائيلي له بالمسؤولية المباشرة عن تدريب خلية خططت لهجوم على “إسرائيل” بالطائرات المسيرة، وتوجيهها وقيادتها انطلاقا من سوريا في آب/ أغسطس الماضي[6]، وهو ما يعني مزيدًا من التماس بين الرجل وحدود الأمن الإسرائيلي، ومزيدًا من التواصل مع الساحة الفلسطينية، ودعم فصائل المقاومة فيها، وإمدادها العسكري، الحيوي بالنسبة لوجودها، وقدرتها على الاستمرار.

    شكّل اغتيال سليماني نقلة نوعية في سياق الصراع بين القوى المعادية لإسرائيل في فلسطين والمنطقة، وبين “إسرائيل” وحلفائها. فقد تمت عملية اغتيال سليماني بذات التقنية والأسلوب المتبع من قبل “إسرائيل”، على مدار العقدين الأخيرين في فلسطين ولبنان. كما أن الاغتيال شكل ضربة مباشرة لجملة القوى المعادية لـ “إسرائيل” إقليميًا، إلا أن الأخيرة لم تكن ملزمة بدفع الثمن، وما كان عليها إلا أن تعبر عن سعادتها، والتأكيد على كون العملية أمريكية خالصة.

    لا يخفى أن المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، تبلور لديها تصور أمني استراتيجي، يرتكز على وجود درجة عالية من الصلة والتداخل بين ساحات المواجهة، بما يتجاوز حدود فلسطين المحتلة ودول الطوق. يبرز هذا التوجه من خلال توسع  الحيز العملياتي لنشاطها العسكري في المنطقة، بما يجعلها ترى في عملها ضد إيران، أو الحشد الشعبي العراقي، جزءًا من مساعيها لقطع خطوط الإمداد عن فصائل المقاومة الفلسطينية، وحزب الله اللبناني.

    وفي إطار سعيها لتسويق هذا التداخل في ميدان العمليات، وتأكيد المصالح بينها وبين الولايات المتحدة، وحلفائها العرب في المنطقة، لم تدَّخر “إسرائيل”جهدًا في الإعلان عن المواجهة مع إيران، والقوى المتحالفة معها، وذلك على غرار إعلانها عن إفشالها لعملية قادها سليماني بشكل مباشر، وإعلانها عن غاراتها على أهداف تابعة للحشد الشعبي العراقي في تشرين أول/ أكتوبر 2019، أو في منطقة البوكمال[7]. يأتي هذا الفعل الميداني إلى جانب رسائل واضحة، سعت “إسرائيل” من خلالها لتثبيت سردية جديدة، وذلك عبر تصريحات رئيس أركان جيشها، التي أعلن فيها عن توقع مواجهة قريبة مع إيران، وأكد على نية جيشه العمل ضد عمليات نقل السلاح الإيراني إلى العراق، معتبرًا ذلك تهديدًا للأمن الإسرائيلي.[8]

    ولأسباب قد يطول سردها، لا يمكن اعتبار القرار الأمريكي بتنفيذ الاغتيال، انصياعًا لرغبة ومصلحة إسرائيلية، لكنه يأتي مكملًا للهجمات الإسرائيلية، حيث استهدفت “إسرائيل” الحشد الشعبي العراقي أولًا، ثم تبعتها الغارات الأمريكية على مواقع الحشد الشعبي. ولكن بخلاف الغارات الإسرائيلية التي مرت دون رد،  فتحت الغارة الأمريكية الباب لرد عراقي، تمثل في محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد، وتهديد فصائل الحشد بإخراج القوات الأمريكية من العراق، حتى وصلت ذروة الأزمة إلى اغتيال سليماني.

    تمارس كل من الولايات المتحدة وإيران، سياساتٍ نشطة تجاه الملف الفلسطيني، لا تقتصر على دعم الولايات المتحدة لـ “إسرائيل”، وسياساتها ضد الفلسطينيين، ولا على الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية، فكل من الطرفين ذو صلة بالاصطفافات الفلسطينية منذ انطلاق عملية التسوية في مؤتمر مدريد عام 1991، حيث إن الولايات المتحدة هي راعي عملية التسوية، فيما تمثل إيران واحدة من أشد دول الإقليم معارضة لهذا الخيار، لا سيما في الفترة اللاحقة لاتفاق أوسلو، وتوافقت، هي والعديد من حلفائها، مع القوى والفصائل الفلسطينية المعارضة لهذا الخيار.

    بعد قيام الولايات المتحدة، وبشكل وثيق، بعملية إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وهندسة عقيدتها وفقا لمتطلبات التنسيق الأمني مع الاحتلال، خاصة بعد مؤتمر أنابوليس عام 2007 [9]، جعل منها طرفًا في كل حدث فلسطيني، ومنحها بشكل مباشر، ومن خلال جنرالاتها المنتدبين، مهمة الإشراف على التنسيق الأمني بين الطرفين. وفي المقابل، كانت إيران، حسب الفصائل الفلسطينية، حاضرة في تعزيز الخيار المضاد للسياسات الأمريكية بشأن الفلسطينيين.

    وهنا يمكن الإشارة أيضا، إلى اتهام إيران من قبل السلطة الفلسطينية وحركة فتح، بمسؤوليتها عن عرقلة اتفاقيات التسوية، ودورها في استمرار الانقسام الفلسطيني، وهي اتهامات تزايدت منذ دعم إيران للحكومة التي شكلتها حركة حماس عام 2006، مقابل عمل الإدارة الأمريكية، والرباعية الدولية، على عزلها ومقاطعتها.[10]

    إقليميًا، شكلت الثورة الإيرانية منذ قيامها، هاجسًا كبيرًا للأنظمة العربية الحليفة للولايات المتحدة، التي لم تألُ جهدًا في تضخيم هذا الهاجس. وبدا هذا واضحًا في اعتبار تعامل أي طرف، أو مجموعة عربية، مع إيران، كاختراق للمجال العربي والنفوذ الأمريكي، أو كطابور خامس. وبالطبع، تشمل هذه النظرة، علاقة فصائل المقاومة الفلسطينية مع إيران، وكثيرا ما ضغطت هذه الدول على فصائل المقاومة، بهدف دفعها لقطع هذه العلاقة.[11]

    اتسعت دائرة العداء لإيران، فما كان يقتصر غالبا على النظم العربية ونخبها، تحول ليشمل قطاعًا واسعًا من الجمهور العربي. فمنذ بدايات الربيع العربي، وتحديدًا بعد اندلاع الثورة السورية، وتدخّل إيران عسكريا في سوريا بشكل مباشر، ومن خلال حلفائها، وأبرزهم حزب الله اللبناني، تأثرت العلاقة بين حركة حماس من جهة، وإيران من جهة ثانية، وذلك بفعل الخلاف حول الأزمة السورية، وخروج حركة حماس من سوريا.

    من الطبيعي أن تكون هذه التعقيدات المرتبطة بالموقف العربي من إيران، حاضرة في الأزمة الحالية، وأن تزيد التعقيدات أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، فيما يخص علاقتها مع إيران، وما يمليه التقاطع معها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.

    الأزمة كمدخل لاستعادة الاصطفافات

    شكلت عملية الاغتيال والتفاعلات التالية لها، بيئة مناسبة لتظهير مجموعة من المواقف، والإزاحات في المواقف والتحالفات السياسية، أنضجتها عوامل وتراكمات سابقة على الأزمة. كما أفصحت عملية الاغتيال عن درجة كبيرة من التداخل بين ملفات المنطقة، ومواقف الأطراف المختلفة فيها، وفي مقدمتها الموقف من الوجود الأمريكي في المنطقة، الذي يسعى إلى أهداف عديدة، منها دعم دولة الاحتلال، والشراكة معها. لقد جاء موقف فصائل المقاومة الفلسطينية، المتضامن مع إيران ضد عملية الاغتيال، وكذلك إعلان إيران نيتها العمل على إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، كتظهير للضرورات والدوافع الذاتية، المحفزة لكل من هذه الأطراف، على العمل المشترك في مواجهة التحالف الإسرائيلي الأمريكي. ورغم أن العلاقة لم تنقطع بين إيران وفصائل المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس، حتى في ذروة الأزمة السورية، والخلاف حول الموقف منها، فقد شهدت هذه العلاقة تطورًا مضطردًا خلال الأعوام الأخيرة، باتجاه استعادة هذه العلاقة لعافيتها. في هذا السياق، جاءت عملية الاغتيال، باعتبارها عدوانًا خارجيًا استهدف شخصية إيرانية رسمية، وذات صلة وثيقة بدعم المقاومة الفلسطينية، لتدفع الفصائل الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، لإظهار درجة عالية من التضامن مع إيران، فاق في تعبيراته التضامن الذي بلغ ذروته في سنواتٍ سابقة بين الطرفين[12]، وعلى نحو يوحي بإمكانية المزيد من التكامل بين إيران وحلفائها من جهة، وبين قوى المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى، وما يعنيه ذلك من ضغط على المحور الإسرائيلي الأمريكي، ومخططاته في المنطقة.

    وإذا كانت الدول التي تربطها علاقات إيجابية مع حركة حماس، قد أظهرت مواقف تضامنية مع إيران، وهي تواجه أزماتٍ أخرى مع المحور الإماراتي السعودي المصري، المتقارب مع “إسرائيل”، فإن ذلك يُظهر اتجاه المواقف الإقليمية، لإعادة الاصطفاف على شكل محاور تتجانس مواقف أطرافها بشأن معظم قضايا المنطقة، بما فيها الموقف من القوى الفلسطينية، والقضية الفلسطينية، ومحاولات تصفيتها من خلال ما يسمى بـ “صفقة القرن”.

    تداعيات الأزمة على الوضع الفلسطيني

    1- انخراط “إسرائيل” في الحدث

    إثر عملية الاغتيال، شدد نتانياهو على المسؤولين الإسرائيليين، بعدم الإدلاء بأي تصريح يتعلق باغتيال سليماني. أما على الأرض، فقد وضعت “إسرائيل” قواتها في الجولان السوري المحتل، في حالة التأهب، خوفًا من أن تطالها ردود فعل، خاصة في ضوء ما أشار إليه الحرس الثوري الإيراني، من إمكانية استهداف “إسرائيل”، في حال قيام الولايات المتحدة بأي عمل عسكري، بعد القصف الإيراني لقاعدة عين الأسد. من الواضح أن الإجراء الإسرائيلي، يدل على إدراك “إسرائيل” لمدى تداخلها مع الحدث، لا كحليف للولايات المتحدة فحسب، ولكن أيضا كجزء من المصالح الأمريكية المرشحة للاستهداف في ضوء التصعيد الأخير، وإمكانية عمل إيران ضد المصالح الأمريكية. هذا الإدراك الذي يعني إمكانية الانخراط في معركة شاملة ومتعددة الساحات، أظهره قيام “إسرائيل” بعدوان جديد، من خلال غارة نفذتها على منطقة البوكمال، على الحدود السورية العراقية، بعد عملية الاغتيال.

     2- تصعيد عربي ضد فصائل المقاومة الفلسطينية

    رأت العديد من الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، أن اغتيال سليماني يأتي في سياق صراعها مع إيران، وأنه يفعّل دورًا كانت الولايات المتحدة تطالب بالقيام به في مواجهة إيران. وفي المقابل، اعتبرت هذه الدول، موقف فصائل المقاومة الفلسطينية، انحيازًا لإيران، وقابلته بحملات تحريض شنتها وسائل إعلام وجهات مقربة منها[13]. فيما تحدثت مصادر إعلامية عن توجه مصري بضغوط سعودية، لإغلاق معبر رفح، ووقف أي تسهيلات كانت مصر قد قدمتها لحركة حماس وقطاع غزة مؤخرا، في إطار تفاهمات التهدئة مع “إسرائيل”[14]. يأتي ذلك في ظل توجه السياسة السعودية، نحو التضييق على حركة حماس ومقاطعتها، بما في ذلك من اعتقالات واسعة لفلسطينيين مقيمين على أراضيها، بتهمة العلاقة مع الحركة.

    3- جدل واسع حول العلاقة مع إيران

    أثار الموقف التضامني مع إيران، الذي اتخذته فصائل المقاومة الفلسطينية، ردود فعل متباينة، لدى الجمهور والنخب العربية المتعاطفة مع الربيع العربي. فبينما بدت نبرة احتجاجية حادة في خطاب المحسوبين على المعارضة السورية، والمؤيدين لها، وتجاوزت بعض أقلامها حدود الغضب من موقف الفصائل الفلسطينية، إلى نوع من الترويج المعلَن والمبطن، لمواقف تدعو للتطبيع مع “إسرائيل”، نكاية في موقف الفصائل، أو في إطار رؤية تعتبر ذلك مصلحة لقوى الثورة، والمعارضة السورية، وجمهورها، فإنه يُلحظ أن مركز النقاش كان في موضع آخر، حيث يمكن تسجيل جملة من التطورات الهامة في هذا الجانب، أبرزها تراجع مساحة المواقف المعارِضة لتقارب الفصائل الفلسطينية مع إيران، باستثناء مواقف الأوساط السورية. لقد أظهرت قطاعات واسعة من الجمهور العربي، تفهمًا لضرورات هذه العلاقة بالنسبة للفصائل الفلسطينية[15]، في ظل تراجع دور الخطاب الطائفي في هذا الجدل. أما داخليًا، فقد أظهرت قواعد حركة حماس، تفهمًا أكبر لموقف حركتهم، وانخراط العديد منهم في الدفاع عنه، وإدانة الهجوم على الحركة. لقد بدا هذا السلوك الجمعي على نقيض الجدل الحاد، والاستقطابات التي كانت تثيرها مثل هذه المواقف في أوساط الجمهور الفلسطيني، وجمهور حركة حماس، خاصة خلال الأعوام الماضية، حيث دار جزء أساسي من الجدل، حول حدود العلاقة مع إيران، وضوابطها، وليس حول وجود هذه العلاقة بحد ذاته، وذلك باستثناء المواقف التي تتبنى مواقف الأنظمة العربية، أو مواقف ذات بعد طائفي، صادرة عن جهات ذات توجهات عقائدية محددة، اعتادت بناء مواقفها وخطابها في إطار هذه التوجهات.

    الفرص والتحديات المرتبطة بالأزمة

    1- تزايد التهديدات على دولة الاحتلال

    يبدو أن تبلور موقف واضح لدى إيران وحلفائها الإقليميين، بشأن إخراج الأمريكيين من المنطقة، وإمكانيات انخراط حلفائها في مواجهات متعددة الساحات مع القوات الأمريكية، والدول الحليفة لها[16]، يرفع أكثر من أي وقت مضى، إمكانية توسع رقعة المواجهة المستقبلية مع الأمريكيين، لتصل إلى حدود فلسطين المحتلة، وتطال دولة الاحتلال، خاصة في ظل تزايد التدخل الإسرائيلي في الساحات الإقليمية، سواء عبر القصف المباشر، كما هو الحال في العراق وسوريا، أو عبر دعم الخصوم وإسنادهم، كما هو الحال في ملفات إقليمية أخرى.

    وإلى جانب إمكانية دخول قوى إقليمية جديدة في الصراع المباشر مع “إسرائيل”، فإن إضعاف الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، أو اهتزاز مظاهر الهيمنة الأمريكية عليها، من شأنه إلحاق ضرر كبير بالغطاء الذي تمنحه الولايات المتحدة لـ “إسرائيل”، عسكريا وسياسيا، وزيادة قدرة الفلسطينيين على مواجهتها. كما أن التقارب بين قوى المقاومة في المنطقة وإيران، يشير إلى إمكانية تشكل جبهة موحدة، تحظى بتأييد جماهيري من عدة تيارات وشرائح، تستطيع تعطيل محاولات فرض صفقة القرن التصفوية على الفلسطينيين.

    لكن في المقابل، قد تتجه الأمور نحو سياقات سلبية، مثل احتمال تعرض الفصائل الفلسطينية للاستهداف من عدة أطراف، أو انشغال إيران عن الملف الفلسطيني، أو انشغال دول الإقليم والمجتمع الدولي بملفات أخرى، مما يمنح “إسرائيل” الفرصة لمزيد من التغول على الفلسطينيين.

    2- تزايد احتمالات التقارب العربي مع دولة الاحتلال

    تسعى العديد من الأنظمة العربية، إلى التقارب مع دولة الاحتلال. وإزاء تزايد احتمالات المواجهة مع إيران، فإن هذه الدول، ترى في “إسرائيل” حليفًا محتملًا يمكن التقاطع معه في مواجهة إيران، لا سيما أن ذلك يلبي رغبة أمريكية، ويتقاطع مع مساعيها لفرض تسوية بين الدول العربية و”إسرائيل”، تتجاوز الحقوق الفلسطينية، وتصفي القضية الفلسطينية، وتنهي المواقف المعادية لـ “إسرائيل”، والسياسات الأمريكية في المنطقة. وإذا كان العنوان السياسي الشائع لهذه التوجهات هو “صفقة القرن”، فإن الرؤية الأمريكية ترتكز في جوهرها، على تأسيس “ناتو” شرق أوسطي يضم “إسرائيل” والدول العربية[17]، حيث يبدو أن احتمالات المواجهة مع إيران، ورغبة هذه الدول في الحصول على الحماية الأمريكية، أو على الدعم السياسي الإسرائيلي لدى الولايات المتحدة، يلعب دورًا في مضي عدة دول عربية، بهذا الاتجاه.

    3- انسجام الرؤية الأمنية بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”

    أفصحت مجريات المواجهة الحالية، وما سبقها، عن أن انزياح الموقف الأمريكي المتطابق مع الرؤية الإسرائيلية من الناحية السياسية، بات يصاحبه انزياح مماثل في الرؤية الأمنية الأمريكية للمنطقة، بما في ذلك التناغم مع التقدير الإسرائيلي لمصادر التهديد، وآليات العمل ضدها. وقد عبّر اغتيال سليماني، كما الغارات الأمريكية على الحشد الشعبي العراقي، عن انتقال هذا التناغم في الرؤى والتقديرات، إلى حيز الإجراءات التنفيذية والعملياتية، بكل ما يعنيه ذلك من انفتاح للاحتمالات على انخراط أمريكي مباشر، في استهداف فصائل المقاومة الفلسطينية بأشكال متعددة، قد تشمل حتى الاستهداف العسكري أو الأمني، بما يتجاوز أي حدود سابقة لإجراءات أمريكية من هذا النوع.

    من جانب آخر، فإن محدودية الرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني، وعلى الغارات الإسرائيلية المتكررة في سوريا والعراق، يفتح “شهية” الولايات المتحدة و”إسرائيل”، لمزيد من عمليات التصفية المحتملة، وعلى امتداد رقعة المنطقة، بما يطال شخصيات فلسطينية كانت تعتبر محصنة رمزيًا أو سياسيًا، أو محصنة بسبب إقامتها في بعض البلدان، وذلك في ضوء تعبير الولايات المتحدة، ومن قبلها “إسرائيل”، عن نيتها استئناف عمليات اغتيال، مماثلة لعملية اغتيال سليماني.

    4- إشكالية التحولات الإيرانية الداخلية

    لا شك أن تطوير فصائل المقاومة الفلسطينية لعلاقتها مع إيران، يوفر لها فرصًا للحصول على مزيد من الدعم والمساندة، من حليف قوي وحاضر في العديد من ساحات المنطقة. لكن ذلك يبقى مرهونًا بما تستطيع إيران تقديمه في هذه المرحلة، في ضوء الحصار الخانق الذي تعاني منه، والتغيرات في بناها الداخلية، وطبيعة الأولويات التي تتبناها القوى الصاعدة داخلها. فقد أظهرت المواجهة الأخيرة، استقطاباتٍ إيرانية داخلية حول الأولويات، وحدود المواجهة الممكنة مع الولايات المتحدة، وآليات هذه المواجهة، وهو أمر فاقمته مأساة إسقاط الطائرة الأوكرانية، وما خلقه ذلك من سخط شعبي داخلي، وحرج دولي لإيران.[18]

    5- الانقسام الفلسطيني بين التجاذبات والتحالفات

    أظهرت سنوات الانقسام الفلسطيني، تأثير الأحداث الإقليمية على العلاقة بين أطراف المشهد الفلسطيني. ففي ضوء التصعيد المحتمل للتجاذبات الإقليمية، حول الموقف من السياسات الأمريكية في المنطقة، فإن الحالة الفلسطينية تبدو مرشحة لمزيد من التجاذب، واستعادة الجدل حول الموقف من محاور الإقليم، وما يلحق ذلك من تبعات واستحقاقات.

    وفي ضوء احتمال عودة أطراف إقليمية ودولية، أبرزها الولايات المتحدة، للاستثمار في العلاقة مع السلطة الفلسطينية في مواجهة حركة حماس، وعلاقتها المتقدمة مع إيران، فإن ذلك قد يعني انفتاح الساحة الفلسطينية على ترتيبات جديدة ومختلفة.

    المسارات الأساسية المحتملة

    1- تجاوز الأزمة وتداعياتها

    في ظل وجود مصلحة لمختلف الأطراف في تفادي الانزلاق نحو مواجهة شاملة، وفي ظل وجود رغبة أمريكية وإيرانية بالتفاوض، وفقا لشروط معينة يرغبها كل من الطرفين، فإن هناك فرصة حقيقية لتجاوز الأزمة، والحد من تداعياتها على المنطقة، وهو ما يعني انحسار الكثير من تأثيرات الحدث، وتداعياته على المشهد الفلسطيني الداخلي، أو على مستوى الصراع مع الاحتلال، والعلاقات الناجزة مع بعض الدول العربية، مثل مصر، التي ترتبط سياساتها تجاه الملف الفلسطيني عامة، وقوى المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة خاصة، برؤية خاصة بمصالحها، ورغبة في تعزيز دورها، من خلال إدارتها لعدد من الملفات المهمة، الخاصة بقطاع غزة.

    2- انعكاسات سلبية على الوضع الفلسطيني

    قد تسفر هذه الأزمة عن إلحاق مزيد من الضرر بالوضع الفلسطيني، وذلك بناء على انحيازات حادة محتملة من دول عربية مركزية ضدهم، أو بسبب حدوث اشتباك مباشر بين دول عربية وإيران، حيث إن هذا يعني أعباءً وضغوطًا إضافية، سيتحمل الفلسطينيون نصيبهم منها. يترافق مع هذا السيناريو، ازدياد التأهب الأمريكي لمزيد من العمل على تصفية الحقوق الفلسطينية، والاستعداد لضرب قدرات المقاومة الفلسطينية، من خلال إلحاق ضرر بخطوط إمداد المقاومة الفلسطينية، كما بحلفائها، ومنهم إيران. هذا إلى جانب مخاطر الانشغال الدولي والإقليمي، التي تتيح لـ “إسرائيل” مزيدًا من التغول ضد الفلسطينيين.

    3- انعكاسات إيجابية

    في الغالب، تخلق المواجهة مع القوى الغربية في المنطقة، أجواء من التوحد والتضامن بين شعوبها. وإذا ما تم تجاوز صعوبات المرحلة السابقة، المرتبطة بالاستقطاب الطائفي والصراعات الداخلية، فقد يشكل إخراج القوات الأمريكية من المنطقة، هدفًا تلتقي عنده العديد من القوى والتيارات الجماهيرية، خاصة إذا ما ترافق مع ذلك تشكيل ضغط حقيقي على أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما يعني تعطيلًا جزئيًا، أو كليًا، لقدرة الاحتلال على المبادرة، وزيادة قدرة الفلسطينيين على المواجهة.

    خلاصة

    من المؤكد أن دخول إيران وحلفائها في مفاوضات “مسلحة” مع الأمريكيين، دفاعًا عن نظامها السياسي ودورها الإقليمي، يشكل فرصة للفلسطينيين، قد تفوق ما تحمله من المخاطر التي وردت ضمن المسارات المحتملة أعلاه.

    ومع ذلك، يبدو أن سيناريو التداعيات السلبية للأزمة على الوضع الفلسطيني، هو السيناريو الأقوى، وذلك  لتوفر عناصره في المشهد الفلسطيني المأزوم، وفي المحيط العربي، وخاصة الانحيازات الحادة المحتملة من دول عربية مركزية لصالح التحالف الأمريكي-الإسرائيلي، أو بسبب حدوث اشتباك مباشر بين دول عربية وإيران.

    هذه العناصر لا يمكن ربطها بالموقف الفلسطيني من الأزمة، بل بسياسات متجذرة حفرت مساراتها وفقا لتركيبة أنظمة الحكم القائمة، وتحالفاتها، وتطلعاتها، والتي تجعلها تمضي في خطوات متسارعة نحو تفكيك الموقف العربي من “إسرائيل”، بما يعزز فرص الأخيرة في الهيمنة على المنطقة.

    وهذه السياسات ترجمها العداء لفصائل المقاومة الفلسطينية، والضغط المستمر على القيادة الرسمية للفلسطينيين، تماشيًا مع الرغبة والرؤية الأمريكية.

    إن الاستفادة الفلسطينية العامة من هذا الوضع،  تبقى مرهونة باقتناع الجمهور الفلسطيني أولا، والعربي ثانيا، بجدية المواجهة وجدواها، ورفع استعدادهم لتحمل مخاطرها، وبناء مواقف واستراتيجية وطنية جامعة، تتعلق بهذه المواجهة.

    [1] أول بيان من الجيش الأمريكي يؤكد قتل سليماني، موقع سي إن إن، 3 كانون ثاني/يناير 2020  arabic.cnn.com/middl

    [2] خمنائي يشارك شخصيا في بلورة الرد الإيراني، موقع روسيا اليوم، 3 كانون ثاني/يناير 2020   https://arabic.rt.com/

    [3] إيران تستنفر حلفاءها من بغداد إلى بيروت، موقع بي بي سي، 15 كانون ثاني/يناير 2020  https://www.bbc.com/

    [4]خمنائي: الضربة الصاروخية صفعة لأمريكا لكنها غير كافية، موقع الجزيرة نت، 8 كانون ثاني/ يناير 2020   www.aljazeera.net/

    [5] فصائل فلسطينية تنعى سليماني والمهندس، موقع عربي 21، 3 كانون ثاني/ يناير 2020  https://arabi21.com/

    [6] الأركان الإسرائيلية: قاسم سليماني أشرف شخصيا على خطة أفشلناها في سوريا، موقع روسيا اليوم، 25 آب/ أغسطس 2019، www.arabic.rt.comا

    [7]إسرائيل وراء الغارات الجوية على البوكمال السورية، موقع روسيا اليوم، 10 كانون ثاني/ يناير 2020  https://arabic.rt.com/world/

    [8]رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: إيران تنقل أسلحة للعراق ولن نسمح بذلك، موقع قناة الحرة، 25 كانون أول/ ديسمبر 2019 https://www.alhurra..com

    [9] الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية: أمن مَن؟ شبكة السياسات الفلسطينية، 16 أيار/ مايو 2017  al-shabaka.org

    [10] فتح تتهم إيران بتدبير «انقلاب غزة»… وطهران وحماس تنفيان، موقع صحيفة الأخبار اللبنانية، 25 حزيران/ يونيو 2007  al-akhbar.com

    [11] حماس تشكر إيران علنا والسعودية تشن حربا ضد الحركة، المونيتور، 26 حزيران/ يونيو 2019  www.al-monitor.com

    [12]هنية زار منزل سليماني: شهيد القدس، موقع  قناة الميادين، 6 كانون ثاني/ يناير 2020:  shorturl.at/hEP56

    [13]على خطى الخراب .. حماس تعزي إيران في سليماني، موقع صحيفة عكاظ، 3 كانون ثاني/ يناير2020، www.okaz.com.

    [14]طبيعة علاقات حماس مع مصر بعد مقتل سليماني، موقع نورث برس عربي، 11 كانون ثاني/ يناير 2020  npasyria.com

    [15]اغتيال سليماني يزيد من تقارب حماس وإيران، موقع وكالة الأناضول، 9 كانون ثاني/ يناير 2020، www.aa.com.tr

    [16]هددت بتوسيع دائرة الانتقام لحيفا ودبي.. إيران تعلن مقتل 80 جنديا أمريكيا بالعراق وترصد 100 هدف بالمنطقة، موقع الجزيرة نت، 8 كانون ثاني/ يناير 2020 ،www.aljazeera.net

    [17]واشنطن تستعيد “ناتو” الشرق الأوسط وتقرير إسرائيلي يفصل، موقع عربي 21، 29 نيسان/ إبريل 2017   arabi21.com

    [18] بعد اعتراف إيران.. مساعٍ لبدء تحقيق دولي في حادث إسقاط الطائرة الأوكرانية، موقع الجزيرة نت، 11 كانون ثاني/ يناير 2020 www..aljazeera.net