• الإسلام.. وزمن "الكورونا"

    أ.محمد سالم الراشد

    رئيس جمعية مجموعة التفكير الاستراتيجي

    نستقبل التقارير العالمية حول نجاح الصين في حصار فيروس "كورونا" الذي أردى 21.116 ضحية حول العالم، وأصاب 465.274 إنساناً -حتى تاريخ كتابة هذا المقال 26 مارس 2020م- لكن تظل الصين، بسبب سياستها الترويجية الخائفة من فقدان المصداقية والثقة بمنتوجاتها الاستهلاكية، لا تعترف أخلاقياً عن مسؤوليتها عن هذا الوباء العالمي؛ الذي أثر على حياة البشر في هذا العالم؛ بتأخرها عن إبلاغ منظمة الصحة العالمية عنه.

    ومن جهة أخرى، يتضح قمة الكبر والغرور الإنساني في أوروبا والولايات المتحدة؛ حيث ظن قادة تلك الدول أن الوباء صينيّ؛ فليكن هذا الجنس الأصفر وقوداً لهذا المرض؛ وأن هذا الفيروس ربما يميز بين الجنس الأبيض والأصفر، وأتت التحذيرات متأخرة بعدما فتك الفيروس بالآلاف من الناس في أوروبا والولايات المتحدة؛ بسبب حمأة الرأسمالية المتوحشة، التي ترى أن امتصاص ملكية الإنسان من خلال العمل والضرائب هي الأولوية على حياة الإنسان؛ لأنها تخدم الطبقة الرأسمالية في مجتمعاتها، إنها تريد جني المال على حساب الحياة البشرية والإنسانية.

    في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ما زال غرور ترمب مستمراً؛ إذ إنه على مضض يوافق على إيقاف العمل لمدة أسبوعين، لكنه مُصِرّ على أن تفتح الشركات والأعمال الحكومية مجدداً بعدها، ولا يضره ذلك، لأن الأساس هو الناتج الاقتصادي.

    في الولايات المتحدة من أجل إنقاذ "وول ستريت" على حساب الإنسان تم ضخ تريليون ونصف تريليون دولار.

    ولإنقاذ قطاعات الشركات الكبرى في النظام الرأسمالي فهو يسعى لتحقيق الأرباح، لقد كشف الفيروس عن عوار الرأسمالية والنظام العالمي السياسي، ففي الولايات المتحدة لا تستطيع الدولة تقديم الرعاية الصحية لكامل الشعب الأمريكي.

    إذاً؛ أين رفاهية الرأسمالية؟! فغالبية الشعب الأمريكي إذا حاول طلب العلاج فإنهم سيصبحون مدينين؛ لأن كل شيء إما بالتأمين الصحي، وهذا يغطي فئة محدودة في الولايات المتحدة، أو الاقتراض من البنك، وهذا يركب فوائد كبيرة على المقترض، هذه هي حقيقة الرأسمالية المتوحشة، يهمها المنفعة المادية على حساب القيمة الحياتية للإنسان؛ الأرباح أهم من الناس.

    فالرعاية الصحية الخاصة والرسمية لا تستطيع التعامل مع الأزمة بكل بساطة.

    • 30 مليون أمريكي لا يملكون تأميناً صحياً.
    • 15 مليوناً منهم لديهم تأمينات خاصة.
    • 60 مليوناً آخرون عليهم دفعات مسبقة عالية لدرجة أنهم سيصبحون مدينين بآلاف الدولارات إذا ما حاولوا أن يطلبوا العلاج.
    • 45 % لا يمتلكون أو يدخرون دولاراً واحداً.
    • 24 % لديهم أقل من 1000 دولار.

    إن زيارة واحدة إلى غرفة الطوارئ أو العناية المركزة لفيروس "كورونا" تكلف الفرد الواحد 10 آلاف دولار، وهذا يهدد بمحو الملايين من مدخرات الأمريكيين، كما أن هناك 34 مليوناً من الناس في الولايات المتحدة لا يملكون يوماً واحداً إجازات صحية مدفوعة الأجر.

    علماً بأن 45% من العاملين في فنادق الولايات المتحدة وخدمات المطاعم فقط يحصلون على تعويض إجازات مرضية، وهم أمام خيارين؛ فقدان العمل، أو الفيروس.

    وكذلك فإن المدارس العامة في الولايات المتحدة، زعيم النظام العالمي، ظلت تعمل لأن الطلاب يعتمدون عليها لأجل الطعام المجاني؛ حيث إن 22 مليون طفل في الولايات المتحدة يعتمدون عليها.

    وسيتم طرد 700 ألف من إيصالات الطعام المجانية في الأول من أبريل؛ وهذا سيشكل جزءاً من المجاعة، علماً بأن الملايين من الأطفال في الولايات المتحدة مشردون ويعيشون في مآوٍ مكتظة، وسيكونون على اتصال مع أشخاص حاملين للفيروس، كل ذلك لا يعادل قيمة "وول ستريت".

    يقول جوزف إستيفال، الاقتصادي الحائز على جائزة "نوبل": "إن ديمقراطيتنا واقتصادنا في خطر كبير إذا استجبنا إلى مطالب الشركات ذات الأصوات الأعلى والأقوى، بدلاً من التفكير فيمن في الحقيقة يحتاجون الدعم".

    الحقيقة أن النظام العالمي اليوم نظام أثبت فشله وفساده ومرضه وهو قادم على كارثة اقتصادية، ومن الطبيعي ستصبح جائحة اجتماعية متطرفة ربما تتحول إلى حرب شاملة لا يعلم مداها إلا الله؛ بسبب طبيعة وغايات تركيبة النظام الذي يقود البشرية إلى الصراعات والهاوية.

    1- فعلى المستوى الصحي، فالفيروس ما زال يتفشى ويكسب الحرب ويثبت عجز أكبر العقول على حل معضلته.

    2- وعلى المستوى السياسي، فإن هذا النظام أثبت أنانيته وفشله في قيادة ثقافية للعالم لمواجهة حرب الفيروس الصغير، وانحاز إلى الأنانية والمصلحة القومية.

    3- وعلى المستوى الأخلاقي، فلا حدود للتفلت الأخلاقي العولمي؛ إذ إن كل شذوذ مباح وكل خبيث جائز أكله وشربه.

    4- وعلى المستوى الاقتصادي، فالرأسمالية المتوحشة وبحثها عن المنفعة والربح أغلى من حياة الإنسان.

    5- وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، فإن التراحم والتكافل والاعتناء بالضعفاء والفقراء وكبار السن مفقود.

    لقد كشف فيروس "كورونا" زيف البناء الحضاري الغربي والنظام العالمي السياسي وضعف النظام الصحي في العالم المتمدن وتراجع الأخلاقيات الاجتماعية والمدنية.

    ولكن هل هذا سيدفع المسلمين إلى إعادة النظر في عمق الأخلاق الحضارية في دينهم "الإسلام العظيم"؟ وهل سيستطيع المسلمون أن يتقدموا بنموذجهم الحضاري في فرصة قد أزفت، وأن العالم اليوم يفكر بالحل الشامل لاحتمالات سقوط النظام العولمي وثقافة الحضارة الاستهلاكية المتوحشة؟

    فعلى المستوى الصحي:

    يستطيع المسلمون أن يقدموا للعالم أساسيات الطهارة التي يدرسها صغار أبناء المسلمين في مدارسهم ويتعلمونها في بيوتهم.

    الطهارة البدنية والحسية التي أسست لنظافة البدن وصحة النفس ورقي التهذيب.

    نحتاج اليوم إلى الفقيه والمفكر والطبيب من المسلمين الذين يجتمعون ليطلقوا مبادرة "الصحة الحضارية في الإسلام".

    التي تقوم أساساً على "رفع الحدث وإزالة الخبث"، لقد قدم الإسلام تعاليم ثابتة في الاهتمام بالبدن والعورة ونظافة الملبس والمكان.

    إن تلك التعليمات وضعت أساساً صحياً لمواجهة أي مرض وفيروس أياً كان نوعه ومصدره، لقد قدم الإسلام نموذجاً في الطيبات التي يجب أن تتناولها البشرية، والخبائث والمحرمات التي يجب أن تتركها في النظام الغذائي للإنسان المسلم، وآداباً صحية للمأكل والمشرب واللباس والزينة.

    وعلى المستوى الاقتصادي:

    فإن الإسلام وضع شرائع البيع والشراء، فأحل البيع وحرم الربا، ووضع قواعد العمل والكسب الحلال، وقدم نموذجاً في الاقتصاد المتوازن الذي يثبت الملكية ويطلق حرية السوق وضبطها بالأخلاق بعيداً عن الغرر والكسب الباطل "الحرام" والغش والاحتكار، لكنه أيضاً يضع المسؤولية الاجتماعية على عاتق المستثمر بأن يؤدي زكاة ماله للأصناف الثمانية في المجتمع.

    وعلى المستوى الاجتماعي:

    فالإسلام حث على التكافل والتعاون والحب والإخاء والتعارف بين البشرية، وإنّ رقابة الله أو تقواه مع البشر هي المعيار لكرامة الإنسان، فلا يترك ذا حاجة وإلّا على المجتمع أن يتعاون في استيفائها له.

    وألا تعلو طبقة على طبقة أخرى في المجتمع الإنساني الذي ينشئه الإسلام مهما كانت ألوانهم أو لغتهم أو جنسهم أو دينهم.

    إن لغة المساواة والحب والكرامة التي تشكلها المبادئ الحضارية للإسلام جاهزة لمعالجة الاهتزاز الاجتماعي العولمي.

    أما على مستوى الصحة النفسية:

    • فإن العقيدة الإسلامية التي أساسها أن القدر مكتوب خيره وشره، وأن المسلمين يتقبلون قضاء الله وفق مشيئته، وأن الموت لا يؤخر أو يقدم لإنسان من غير أن يحل أجله المكتوب، لهي عقيدة تغذي روح الإنسان بالطمأنينة والراحة والسعادة.
    • وإذا عرفنا أن الإنسان إذا أمسى آمناً في سربه معافى في بدنه يملك قوت يومه فقد حيزت له الدنيا، فلا صراع على المال ولا المادة ولا صراع أو خوف أو هلع من جوع، فتصبح الروح الإنسانية آمنة مطمئنة، فأي صحة نفسية عالية تلك التي يؤسسها الإسلام في حياة الناس.

    إذاً؛ من سيتجرأ لهذه المهمة "مهمة تبليغ العالم أن الإسلام لديه حل شامل لنظام الحياة الحضاري في العالم".

    وأن قادم الأيام سيثبت أن النظام الحضاري الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة والغرب سيتهاوى، وسينشأ نظام عالمي جديد، إنها فرصة للمسلمين ليُهدوا العالم أغلى كنز للبشرية وهو "الإسلام العظيم".

    إن لدينا مئات من المنظمات الإسلامية والعربية والأوروبية المتخصصة في الفكر الحضاري الإسلامي والأبحاث الشرعية سواءً كانت تلك المنظمات رسمية أم أهلية.

    إننا ندعو المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة واتحاد الجامعات الشرعية والمؤسسات الإسلامية للقيام بواجب الوقت.

    إن البشرية قد مرت بثلاث موجات حضارية؛ الموجة الزراعية، تلتها الموجة الصناعية، ثم أخيراً موجة "البتات"، فهل يستطيع المسلمون أن يقدموا للبشرية الموجة الرابعة؟ وهي موجة "عالم القيم"؛ حيث إن كل قيمة من قيم الإسلام العظيم لها وزن ماديّ ومعنويّ يعادل كل مكاسب الرأسمالية وتقنية "البتات" وحضارتها، وتستطيع البشرية أن تحول تلك القيم إلى "سلعة حضارية" قابلة للتداول بما يحقق الرفاهية والسعادة للبشرية.

  • بوتين وأكذوبة الديمقراطية

    محمد فاروق الإمام – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    نهاية التحالف الغربي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي

    لقد أدى سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي إلى نهاية نظام التحالف المضاد للشيوعية الذي شكله هاري ترومان عند نهاية الحرب العالمية الثانية.

    وبعد عام من وقوع تلك الأحداث، كان بيل كلينتون يتبادل النكات مع رئيس روسيا آنذاك، بوريس يلتسين، وأصبحت الولايات المتحدة قوة عالمية نافذة وحيدة في العالم، ولكن عوضاً عن استخدام تلك القوة لصياغة إطار دولي جديد لحماية قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وتصديرها إلى العالم، كما فعل ترومان من أجل ضبط ومراقبة ستالين، تصرف العالم الحر وكأنه انتصر إلى الأبد.
    لقد أخطأت روسيا وعدد من الدول المستقلة حديثاً والمتلهفة لتحقيق مستقبل واعد بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار الحكم البوليسي الشيوعي القمعي، بحيث أخفقت روسيا وهذه الدول في التعامل مع ماضيها الأسود، وفي هذا الإطار؛ لم تشكل لجان للكشف عن حقائق، ولا لجان لمحاسبة من ارتكبوا جرائم قمع وترهيب على مدار عشرات السنين، ولَم تؤد انتخابات لاستئصال “السيلوفيكي” (شبكة نافذة من المسؤولين الأمنيين والعسكريين)، فقد واصل بيروقراطيون سوفييت العمل كسماسرة للسلطة، دون محاسبة أو شفافية.

    وقد تم الجمع في روسيا بين الديمقراطية والثروة، ولَم يهتم يلتسين ببناء مؤسسات قوية قادرة على تحدي السلطة، ما أدى إلى انتشار الفساد في إدارته. ولكن تلك السياسة خلفت آثاراً أشد حدة عندما حل مكانه رجل أكثر سطوة وشدة.

    بوتن يتسلم مقاليد السلطة في موسكو

    عندما تسلم فلاديمير بوتين السلطة في عام 2000، لم تقف عراقيل كثيرة أمام رغبته الجامحة في إعادة تنظيم روسيا على صورة كي جي بي. كما وجد بوتن أمامه شعباً روسياً يشعر بخيبة أمل من وعود بالديمقراطية، وبخوف من حالات عنف وفساد حوله.

    وكان من شأن خطاب بوتن الشعبوي بشأن الأمن والكبرياء الوطني أن يتلاشى بسرعة لولا الارتفاع الكبير في أسعار النفط في بداية الألفية الجديدة. وهكذا قايض الشعب الروسي على حرياته في مقابل تحقيق الاستقرار له.

    العالم الغربي يتساهل مع بوتن

    لقد تساهل العالم الغربي مع بوتين، بل أشاد به “كزعيم قوي”، لدرجة أن روسيا دخلت في عام 1997 نادي الدول الثماني الغنية، ومضى بوتين في إقناع شعبه بمزاياه وبنفاق العالم الغربي الذي يتعامل مع روسيا كبلد غني، ويتغاضى عما عداه.

    مولد بوتن ونشأته

    ولد فلاديمير فلاديميروفتش بوتين في لينين غراد (تعرف الآن باسم بطرسبرغ) في روسيا في 7 تشرين الأول عام 1952.

    نشأ فلاديمير بوتين في شقة مجتمعية تسكن فيها ثلاث عائلات في سانت بطرسبرغ (التي كانت تعرف آنذاك بليننغراد)، ويتذكر بوتن اصطياده للجرذان على درج الشقة.

    عمل جد بوتن طاهيًا في منزل لينين الريفي وبعد ذلك أعد الطعام مرات عدة لستالين، كما حصل بوتن على الحزام الأسود في رياضة الجودو عندما كان في الثامنة عشر من عمره، وهو لايزال يمارس رياضات الدفاع عن النفس حيث يصفها بأنها فلسفة حياة.

    مسيرة بوتن في الاستخبارات السوفييتية والمناصب الإدارية

    بعد أن تخرج من جامعة ولاية ليننغراد تخصص في القانون عام 1975 بدأ بوتن مسيرته في الاستخبارات السوفييتية ضابط استخبارات، وقد ظل يشغل هذا المنصب في ألمانيا الشرقية حتى عام 1990 ثم تقاعد برتبة مقدم. وقضى فترة الثمانينات وهو يساعد الشرطة السرية السوفييتية على تجنيد أشخاص يتجسسون على الغرب.

    وعند عودته لروسيا شغل بوتن منصبًا إداريًا في جامعة ليننغراد، ثم بعد انهيار الشيوعية عام 1991 أصبح مستشارًا للسياسي الليبرالي أناتولي سوبتشاك، وعندما انتخب سوبتشاك رئيسا لبلدية ليننغراد في وقت لاحق من العام ذاته أصبح بوتن مسؤول العلاقات الخارجية لديه، ومع حلول عام 1994 أصبح بوتن أول نائب رئيس عمدة لسوبتشاك.

    عيّن بوتين رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهو أحد أذرع الاستخبارات السوفييتية سابقًا، ورئيسًا لمجلس أمن يلسن، وفي آب/ أغسطس عام 1999 أقال يلسن رئيس الوزراء آنذاك سيرغي ستاباسين وجميع وزرائه ورشح بوتن لخلافته.

    يلتسن يختار بوتن لخلافته في الحكم ليصبح رئيساً لروسيا لثلاث دورات

    في كانون الأول من عام 1999 استقال بوريس يلسن من منصبه في رئاسة روسيا وعين بوتن ليحل محله حتى يحين موعد الانتخابات الرسمية، وكان الثمن إصدار بوتين مرسوماً رئاسياً يمنع محاسبة يلتسين على فساده المالي خلال فترة حكمه، وأعاد بوتين هيكلة الحكومة وشن حملة تحقيقات في جرائم متعلقة بالمعاملات التجارية لمواطنين روس في مناصب رفيعة، كما واصل حملة الجيش الروسي العسكرية على الشيشان.

     وفي آذار/ مارس عام 2000 انتخب بوتن للدورة الأولى بأصوات بلغت نسبتها 53% من إجمالي الأصوات.

    ثم في عام 2004 أعيد انتخاب بوتن لمنصب الرئاسة، وفي نيسان/ إبريل من العام التالي أجرى زيارة تاريخية لدولة الكيان الصهيوني؛ لإجراء محادثات مع رئيس الوزراء الصهيوني أرييل شارون، فكانت تلك أول زيارة للكيان الصهيوني يقوم بها رئيس للكرملين.

    بوتن يتضامن مع الولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب

    في أيلول/ سبتمبر عام 2001 أعلن بوتن ردًا على الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها الولايات المتحدة، عن تضامن روسيا مع الولايات المتحدة في حملتها ضد الإرهاب، إلا أنه عندما تحولت “الحرب الأمريكية على الإرهاب” للتركيز على تنحية الرئيس العراقي صدام حسين، انضم بوتن إلى المستشار الألماني غيرهارد شرودر والرئيس الفرنسي جاك شيراك في معارضتهم للمخطط الأمريكي.

    في تبادل مسرحي للسلطات ميدفيدف رئيساً لروسيا وبوتن رئيساً للوزراء

    بعد ذلك لم يتمكن بوتين من الترشح للرئاسة عام 2008 لأنه كان مقيدا بطول الفترة الرئاسية حسب الدستور الروسي، إلا أنه في ذلك العام تم تمديد الفترة الرئاسية في الدستور من أربع سنوات إلى ست سنوات، وراح مع تلميذه ديمتري ميدفيدف يتناوبان الانتخابات الرئاسية في مسرحية هزلية  ممجوجة أضحكت العالم عليه وعلى الديمقراطية المزيفة التي يحكم بها روسيا، وفي آذار عام 2008 عين بوتن رئيس وزراء على الفور، وهو ما أتاح الفرصة لبوتن للحفاظ على موقع رئيسي مؤثر على مدى السنوات الأربعة التالية.

    بوتن رئيساً لروسيا مجدداً

    في 4 آذار عام 2012 أعيد انتخاب فلاديمير بوتن لفترة رئاسية ثالثة، فبعد مظاهرات واسعة عمت البلاد وأخبار عن عمليات تزوير تخللت الانتخابات تم تنصيبه في السابع من أيار/مايو عام 2012، وبعد استلامه المنصب بفترة وجيزة عين مدفيدف رئيسًا للوزراء، كما عاد مرة أخرى ليصدر من موقعه قرارات جديدة مثيرة للجدل تتعلق بالشؤون الداخلية لروسيا وسياستها الخارجية.

    بوتن ينقذ بشار بعد ضربه للسوريين بالمواد الكيميائية

    في أيلول عام 2013 تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والنظام السوري جراء امتلاكه أسلحة كيماوية واستخدامها في ضرب السوريين، حيث لوحت الولايات المتحدة بتدخل عسكري في حال عدم تخلي النظام عن تلك الأسلحة، وقد تم تفادي حدوث أزمة مباشرة من خلال عقد اتفاق بين الحكومتين الروسية والأمريكية يتم على إثرها تدمير تلك الأسلحة.

    وفي أيلول عام 2013 نشرت النيويورك تايمز مقالة كتبها بوتن تحت عنوان “نداء من روسيا لتوخي الحذر”، وفيها تحدث بوتين إلى صانعي القرار الأمريكيين حول قرار التحرك ضد سورية مؤكدًا على أن مثل هذا التحرك من جانب واحد قد يتسبب في تصعيد أعمال العنف في الشرق الأوسط.

    كما أكد بوتين على أن زعم الولايات المتحدة بأن بشار الأسد استخدم أسلحة كيماوية قد يكون في غير موضعه، في ضوء تفسيره الأمر باحتمالية حيازة الثوار السوريين للأسلحة الكيماوية واستخدامها غير المشروع، واختتم المقالة معبرًا عن ترحيبه بمواصلة الحوار المفتوح بين الدول ذات الصلة من أجل تجنب أي صراعات أخرى في المنطقة.

    بوتن يحتل شبه جزيرة القرم

    بعد نشوء حالة من عدم الاستقرار السياسي في أوكرانيا نتجت عن انتخاب الرئيس فيكتور يانوكوفيتش أرسل بوتين قواته إلى القرم، وهي شبه جزيرة على الساحل الشمالي الشرقي للبلاد على البحر الأسود، وقد كانت جزءًا من روسيا حتى تنازل عنها نيكيتا كروشيف، رئيس الوزراء السابق للاتحاد السوفييتي، لصالح أوكرانيا عام 1954.

    وأشار سفير أوكرانيا في الأمم المتحدة يوري سيرغييف إلى أن ما يقرب من 16,000 جندي روسي احتلوا المنطقة، وقد لفتت تحركات روسيا أنظار العديد من دول أوروبا بالإضافة إلى الولايات المتحدة، التي رفضت بدورها الاعتراف بشرعية الاستفتاء الذي صوتت فيه أغلبية سكان القرم لصالح الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا.

    في المقابل دافع بوتن عن تحركاته مدعيًا أن قواته التي دخلت القرم كانت مجرد قوات دعم للجيش الروسي داخل البلاد (ويعني بذلك الأسطول الروسي في البحر الأسود الذي له مقرات في القرم)، كما نفى جميع الاتهامات الموجهة له من قبل الدول الأخرى خاصة الولايات المتحدة بأن روسيا كانت تنوي إقحام أوكرانيا في حرب.

    كما زعم أنه على الرغم من أن مجلس الشيوخ في البرلمان الروسي أعطاه الإذن باستخدام القوة في أوكرانيا إلا أنه لم يجد من داع لذلك، ونفى أيضا أي توقعات عن اعتزامه الهجوم على المناطق الأوكرانية قائلًا: “هذا الإجراء سيكون في التأكيد الحل الأخير”، ليعلن في اليوم التالي عن ترشيح بوتن لجائزة نوبل للسلام عام 2014.

    كلاب بوتن المدللة

    لدى بوتن كلاب أليفة يحبها كثيرًا ويصطحبها إلى المحادثات السياسية، حيث يشير البعض إلى أنه يسعى بذلك إلى إخافة قادة العالم، ولعل من أشهر الحوادث على ذلك اصطحابه لكلب اللابرادور الخاص به في اجتماع عقده مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل؛ مع علمه بخوفها من الكلاب.
    يتحدث بوتن الألمانية بطلاقة إلا أنه لا يجيد الإنجليزية جيدًا.

    بوتين يعين ميخائيل رئيسا للحكومة الجديدة

    في خطوات سريعة، كلها تمت في يوم واحد، أعلن بوتين عن نيته في إدخال تعديلات دستورية، وعقب الإعلان مباشرة؛ قدم رئيس الوزرء ديميتري مدفيديف استقالة حكومته بهدف إفساح المجال لتعزيز سلطة البرلمان عن طريق التعديلات الدستورية الرئاسية المقترحة، وعقب مرور سويعات، عين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤولا غير معروف للرأي العام لرئاسة الحكومة الجديدة.

    واختار بوتين مباشرة ميخائيل ميشوستين، الذي ترأس إدارة الضرائب الاتحادية منذ عام 2010، ويعتبر صاحب اختصاص، لتشكيل حكومة جديدة.

    وأثارت هذه التغييرات تكهنات حول كيفية تأثير هذه التعديلات على النظام السياسي الروسي، وإن كانت ستتيح لبوتين البقاء في السلطة إلى ما بعد نهاية ولايته الرئاسية الرابعة في 2024.

    ورأى البعض أن بوتين ربما يستعد لتولي منصب جديد أو الحفاظ على دور قوي له من خلف الكواليس كعادته، وهذه المرة الأولى التي يقترح فيها بوتين في خطاب له عن تغييرات فعلية في دستور البلاد الذي أقر عام 1993. 

    وتنص التغييرات التي اقترحها بوتين الأربعاء على نقل مزيد من السلطات إلى البرلمان بما في ذلك السلطة لاختيار رئيس الوزراء وأعضاء بارزين آخرين في الحكومة، بدلا من أن يقوم الرئيس بذلك كما كان يفعل هو، حتى يفوّت فرصة التفرد في الحكم لمن سيأتي من بعده، ليظل هو الرجل القوي الذي يحكم روسيا (للأبد)  من وراء الستار، كحال صاحبه نمرود الشام.

  • مقتل سليماني تموضع جديد

    منذ مقتل سليماني، الجمعة 3 يناير 2020م، في عملية نوعية لوحدات من الجيش الأمريكي والتحليلات لا تتوقف عن صدام وشيك بين إيران والولايات المتحدة، ولمن يتعمق في معرفة طبيعة السياسة الأمريكية والإيرانية في المنطقة منذ عقود، فإنها في الحقيقة قائمة على التفاهم لا الصراع.

    فإيران بالأساس تقع في الفراغ الإستراتيجي بين النفوذ الأمريكي ونفوذ الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة كروسيا والصين، وعلى هذا الأساس، فإن الولايات المتحدة لم ولن تفرط بإيران باعتبار إيران جزءاً من الكتلة الإقليمية التي لها دور في ترتيبات مصالح الولايات المتحدة في جغرافية السياسة لهذه المنطقة.

    ولذا، فإن طبيعة التعامل بينهما منذ اعتلاء الخميني للسلطة وتيار ولاية الفقيه في إيران قائمة على التفاهمات السياسية والمصلحية وكانت هي الأساس في الصراع، ويتبقى كل العمليات وأدوات الصراع ما بين الولايات المتحدة وإيران هو من أجل تحسين القدرات التفاوضية، وتحقيق أكبر المكاسب أو تقليل الخسائر من الطرفين، وهدفها أن تكسب إيران محيطاً حيوياً في الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية، وتحافظ الولايات المتحدة على نفوذها، وأن تكون إيران تحت السيطرة وتشذيب قدراتها لتحقيق المصالح المشتركة.

    خذ كل المسارات التصادمية بين إيران وأمريكا منذ احتلال السفارة الأمريكية بطهران، في 4 نوفمبر 1979، إلى مقتل سليماني (يناير 2020)، كلها عملية ضغط وتفاوضات مستمرة ومحاولات كسب المصالح والتفاهمات على الدور الحيوي لإيران في المنطقة كدولة لديها القدرة على رعاية مصالح أي دولة عظمى بديلاً عن أي قوة إقليمية أخرى في محتوى ديمغرافي سُني يملك تاريخياً العداء ضد المصالح الأمريكية وضد "إسرائيل".

    منذ قيام الثورة الإسلامية إلى اليوم لم نشهد مقتل إسرائيلي واحد داخل "إسرائيل" من إيران، لدى إيران سجل نظيف من قتل الأمريكيين بشكل مباشر، العمليات التي شنت على الأمريكيين من أطراف ذات طبيعة ولائية لإيران هي منضبطة وموجهة لتحقيق هدف التفاوض السياسي والإستراتيجي بين الطرفين.

    المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة من قتل سليماني تتمثل في قدرتها على تغيير رموز التفاوض الإيراني عندما يحدث خلاف على الإستراتيجية علماً بأن قاسم سليماني كان القائد الأعلى الذي ينسق ويتفاوض مع الأمريكيين في المنطقة ميدانياً، وبذلك أكدت الولايات المتحدة هيبتها كدولة بيدها قرار التغيير والسيطرة، وحققت لترمب نصراً انتخابياً ووضعاً مريحاً للانتخابات القادمة بتقديم أكبر رأسين مصنفين كإرهابيين من الدرجة الأولى في الولايات المتحدة (البغدادي، وسليماني)، ووضع الديمقراطيين في الولايات المتحدة في حالة حرج وفوضى سياسية في كيفية التعامل مع رد الفعل من قرار ترمب.

    كما أن الولايات المتحدة أرضت حلفاءها العرب بأنها اتخذت إجراءً لمعاقبة إيران على أعمالها العدائية في الخليج، وجعلت تلك الدول تلتحف بشكل كبير وبخوف أكبر تحت عباءة الحماية الأمريكية.

    أما المكاسب الإيرانية، فقد تحققت منذ الثورة الإيرانية، الأولى حيث لم يخرج الشعب الإيراني متضامناً مع المرشد وقيادته الحالية إلا بمشهد التضامن الشعبي لجنازة سليماني؛ إذ وُحِّدت إيران شعبياً وحكومياً وقيادة تجاه التهديد الأمريكي، وبالرغم من آثار الحصار الكارثي والوضع الاقتصادي المنهار، فإن ملايين من الشعب الإيراني تضامنت مع القيادة الإيرانية، وكأنها رسالة اعتذار للقيادة الإيرانية بأننا نقف معكم رغم كل الحصار والظروف.

    أما في العراق، فإن قرار إنهاء التعاون العسكري المفتوح للقوات الأجنبية وخصوصاً الأمريكية قد اتخذ، وإن كان في الحقيقة هو إعادة تموضع تكتيكي، وهو نصر مادي ومعنوي لإيران في العراق، بالإضافة إلى إضعاف الحراك السياسي الشبابي الشعبي في العراق ولبنان ضد إيران مما يؤدي إلى إعادة تنظيم إيران لنفسها شعبياً وسياسياً وإستراتيجياً في الجغرافيا العربية.

    إن المفاوضات التي تمت في سويسرا برعاية قطرية بين إيران والولايات المتحدة خلال الأيام الماضية ظاهرها الفشل وحقيقتها اقتسام النفوذ والمواقع في الجغرافيا العربية، وتحقيق المصالح للطرفين الأمريكي والإيراني على حساب بقايا النظام السياسي العربي وآمال الحراك العربي الشعبي، لكنها لعبة السياسة في العقد الجديد 2020 مرحلة جديدة بمتغيرات جديدة ستبدأ معها مجموعة من التحولات وننتظر حدوثها على أساس هذا الصراع.

    إنها لعبة السياسة الدولية التي تضبط الدولة الإقليمية تحت نفوذ السيطرة الدولة، وهو ما بين سيطرة وانفلات والقدرة على ضبط المسار في اتجاه المصالح.

    لقد استفرغت التفاهمات السابقة بين الولايات المتحدة وإيران أغراضها في العقود الأربعة الماضية إلى إنهاء الحالة العربية السُّنية إلى وضع ضعيف ومنهك، يلتحف تحت إيران والولايات المتحدة، مع إنهاء الطاقات الشبابية والجهادية السُّنية المتطرفة منها والمعتدل (بما فيها حركة "حماس"؛ إذ إنها أصبحت تحت الضبط الإيراني والخشية أن تتحول إلى مليشيا إيرانية في المستقبل) التي كانت تواجه "إسرائيل" ومقاومة المستعمر، كما أنها أضعفت الحراك السياسي المعتدل وقهرت مسارات الثورات العربية.

    إن إيران ضمنت محيطها الحيوي وموقعها التفاوضي في أي إجراءات وترتيبات سياسية قادمة.

    لكن ستظل السياسة الإيرانية والأمريكية في المنطقة تعاني من أكبر مشكلتين إستراتيجيتين:

    الأولى: أنهما يديران مصالحهما في ديمغرافية وجغرافية ليست لصالحهما على المدى البعيد.

    الثانية: التناقضات في مستوى المشروعين الإيراني والأمريكي الإسرائيلي في المنطقة.

    وهو ما يجعل الكتل الحية في هذه المجتمعات أن تستفيد منها لتبني رؤية تغيير إستراتيجية في المستقبل إذا توافرت العوامل المناسبة للتغيير.