• استبدال الليرة السورية بالتركية في الشمال السوري: مدى توفر مقومات النجاح

    تأتي خطوة استبدال الليرة السورية بالتركية في الشمال السوري في هذا الوقت متكئة على مطلب ينادي بضرورة المساعدة على الحفاظ على ما تبقى من مدخرات السكان والحفاظ على قوتهم الشرائية، وضمان استقرارهم الاقتصادي والاجتماعي بحده الأدنى، وبما يخفف من أثر الظروف الأمنية على استقرارهم. لكن، ودون الخوض في الدلالات السياسية لهذه الخطوة، والمدى الزمني المتوقع لاستمرارها، وعن التجاذبات التي أحاطت بها بين مؤيد ورافض منذ بداية طرح الفكرة، تحاول هذه الورقة تقديم قراءة تحليلية حول هذه الخطوة مسلطة الضوء على مقومات نجاحها في شقيها الاقتصادي والاجتماعي، من خلال تحليل مدى توفر مقومات النجاح، إلى جانب محاولة استشراف مآل الليرة السورية في هذه المناطق، والدور المنوط بالفواعل الرئيسية لنجاح هذا المسعى

  • الإدارة الذاتية وأزمة كورونا: قطاع صحي معتل وتحديات متزايدة

    تواجه منطقة شمال شرق سورية، التي تعاني أساساً من نقص طبي حاد وقطاع صحي معتل، تهديداً جديداً يفرضه فيروس كورونا المستجد الذي تتوقع العديد من المنظمات احتياجه لكافة مناطق سورية، أمرٌ تجاوبت معه "الإدارة الذاتية" بسلسلة من المناشدات والمطالبات بالدعم والمساندة، بالإضافة إلى اعلانها عن سلسلة من الإجراءات الاحترازية على عدة صعد؛

    يتناول هذا التقرير إطلالة عامة على واقع القطاع الصحي ومدى نجاعة السياسات التي اتبعتها "الإدارة الذاتية"؛ ويقف على أهم الاجراءات التي اتخذتها وأهم التحديات التي تواجهها.

    قطاع صحي هش

    تعاني مناطق شمال شرق سورية خلال حكم النظام من نقص في المستلزمات والمباني والكوادر الطبية؛ فعلى سبيل المثال وقبل الثورة في عام 2010 ووفقاً لمكتب الاحصاء المركزي فإنه لم يتجاوز عدد الأطباء في محافظة الحسكة أكثر من (1252) طبيباً، بمعدل (1166) شخص لكل طبيب، ولم يتجاوز عدد الصيادلة لم يتجاوز (690) صيدلانياً، أي بمعدل (2116) شخص لكل صيدلي، وضمت محافظة الحسكة آنذاك (32) مشفى بين حكومي وخاص يتوفر فيها (1348) سرير فقط، أي بمعدل سرير لكل (1083) شخص، إضافة إلى افتقارها لوجود مركز خدمة الأورام السرطانية، وبعض الأجهزة مثل المرنان المغناطيسي.

    والآن؛ وباستثناء المستشفى الوطني بالقامشلي؛ تسيطر "الإدارة الذاتية" على كافة المقرات والمباني الصحية في مناطق سيطرتها وتتولى "هيئة الصحة"  إدارة المستشفيات والمراكز الطبية معتمدة على كوادر بشرية قليلة (قسم منهم  موظفين لدى حكومة النظام، وقسم تم تدريبهم للتعامل مع الحالات الإسعافية والطارئة فقط)، خاصة بعد هجرة اكثر هذه الكوادر خارج البلاد لأسباب شتى؛ ولا تقدم "الإدارة" أي خدمات سوى دفع رواتب العاملين في القطاع الصحي واللقاحات الممنوحة لها من منظمة الصحة العالمية. ويشكل الدعم الخيري المقدم من المنظمات الدولية وغير الحكومية رافداً لحاجات القطاع الطبي والصحي إضافة إلى هبات يقدمها مغتربون أكراد في البلدان الأوروبية. وبتقريرها السنوي، أوضحت "الإدارة الذاتية" أنها في مجال الصحة قد أهلت وجهزت 58 مستوصف و8 مشافي بالإضافة إلى فتح مركزين للزنين المغناطيسي وتجهيز ثلاث غرف للعمليات وتجهيز بنك دم بأجهزة فحص مخبرية وتفعيل قسم الكلية بمشفى الفرات.

    وبدراسة أعدها مركز توثيق الانتهاكات في الشمال السوري بين أنه في مناطق الإدارة الذاتية يمكن أن يصاب بفيروس كورونا قرابة مليون شخص، من أصل 5 ملايين يسكنونها، وسيحتاج 13 ألف شخص مصاب على الأقل إلى وضعهم على أجهزة التنفس الصناعي. وقدر البحث أنّ هنالك بحدود 27 – 30 جهاز تنفس صناعي في مختلف المراكز الصحية، حيث أوضح الرئيس المشترك لهيئة الصحة في شمال وشرق سوريا جوان مصطفى: “نملك الآن 27 منفس هوائي، ونسعى إلى تأمين منافس أخرى ليصل العدد إلى 100” وأنّ عدد الغرف المتوفرة بالكاد يمكن أن يصل إلى 200 غرفة، قادرة على استيعاب حتى 1500 شخص فقط، فيما ولا يتوفر في مناطق الإدارة الذاتية سوى /28/ سريراً فقط في وحدات العناية المركزة في جميع مشافي المنطقة مجتمعةً، كما ليس هناك سوى طبيبين اثنين مدربين على كيفية التعامل مع أجهزة التنفّس، ما “سيؤدي إلى كارثة إنسانية مع انتشار الفايروس في ظل الإمكانيات المتوفرة” أي إنّ قدرة الاستيعاب قد تشمل فقط 5 %، كما أن الخطوة الكبيرة تأتي من أن الفيروس سيكون سريعاً في التفشي خاصة في المخيمات وعددها 15 مخيم وحوالي 35 مركز إيواء مؤقت يقطن بها ما يصل إلى 110 ألف.

    وحذّرت هيئة الصحة في بيان لها من نقص حاد في التجهيزات الأساسية والأدوية لعلاج المصابين، بينها الفحوص المخبرية للكشف عن الفيروس وعليه فإن  جميع العينات ترسل إلى مختبرات لتحليلها، وهو ما يجعل الإدارة الذاتية تعتمد على الحكومة السورية،  الأمر الذي يؤكد أن قطاع الصحة في الإدارة الذاتية لا يزال يفتقر لمقومات التأهيل والفاعلية سواء على المستوى الفني او البشري.

    مناشدات وإجراءات احترازية

    ناشدت "الإدارة الذاتية" المنظمات الإنسانية وجميع الجهات المعنية وحكومة إقليم كردستان العراق بضرورة تقديمها المساعدة لمنع انتشار فيروس "كورونا المستجد"؛  كما ناشد مدير مشفى السلام في القامشلي، منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة، لتقديم المساعدة للمشافي الخاصة في المنطقة لمواجهة احتمالات تفشي فيروس "كورونا، وبناء على ذلك قدم التحالف الدولي ضد داعش – وفقاً للمركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية- كميات من الأدوية والمعدات الطبية  لمشافي الحسكة والشدادي ، كما أنه تم الاعلان عن مساعدة طبية من  التحالف لشرق الفرات بقيمة 1.2 مليون دولار.

    مؤخراً؛ أعلنت الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية إيقاف حملات التجنيد الإجباري "واجب الدفاع الذاتي"، في المناطق التي تقع تحت إدارتها، مدة ثلاثة أشهر. وقالت الإدارة الذاتية في بيان، أنه "بدأ إيقاف الحملات فعلياً، منذ 5 نيسان 2020، ليستمر حتى 5 تموز2020، وذلك حرصاً على سلامة المواطنين من انتشار وباء كورونا.

  • الانتخابات في سورية.. بين الحق والمَكرُمة

    تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى معاينة "هندسة" النظام الانتخابي السوري في ظل نظام الأسد، وكيف تم تصميمه من الناحية القانونية والتقنية بما يحقق الاستحواذ الكامل على الحكم بسلطاته الرئاسية والتشريعية فضلاً عن المحلية. وذلك من خلال تسليط الضوء على العناصر القانونية والدستورية التي تحكم العملية الانتخابية وتؤثر على نتائجها وجدواها، إضافةً إلى بعض الملاحظات الواجب مراعاتها في أي عملية سياسية للحل في سورية تفادياً لتكرار ما حدث عشية 1973، وبما يضمن الوصول إلى تمثيل ديمقراطي حقيقي للشعب في سلطات الحكم. خصوصاً مع تجهيز نظام الحكم الحالي للانتخابات التشريعية هذا العام، والانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في العام القادم (2021)، وأخيراً الانتخابات المحلية في حال إجراءها كما هو مقرر لها قانوناً (عام 2022).

  • التعاطي التركي الجديد بعد حادثة مقتل الجنود الأتراك في إدلب

    طرح الرئيس التركي في خطابه الأخير بعد مقتل الجنود الاتراك في إدلب جملة من الرسائل يمكن وصفها "بالحازمة" وتدل على توجه جديد للتعاطي التركي في سورية على رأسها "تغيير قواعد الاشتباك"؛ واستهداف ممنهج لقوات النظام في منطقة خفض التصعيد؛ إلا أن هذا التوجه يعتريه العديد من العقبات مما يجعل السيناريو الأكثر توقعاً في ظل عدم إنجاز اتفاق جديد مع الروس هو استمرار التصعيد العسكري الذي سيكون مليئاً بمؤشرات الانزلاق لمواجهة كبرى.

    أولاً: رسائل أردوغان: طروحات سياسية حاسمة

    من خلال استعراض نقاط حديث الرئيس التركي الأخير بتاريخ 29 شباط 2020، يمكن استنباط أربعة محاور:

    1. "لا كلام قبل الفعل": لم يخطب أردوغان إلا بعد أن وجه الجيش التركي عدة رسائل حاسمة، منها الرد القوي على نقاط تمركز النظام وتكبده خسائر قاسية، ومنها أيضاً إظهار فعالية السلاح التركي النوعي والذي قادر على تجاوز قضية تغييب سلاح الجو التركي. (قتل اكثر 2000 عنصر من المظام وتدمير 300مركبة ومدارج طيران ومخازن أسلحة كيميائية).
    2. "دولة وشعباً: النظام عدو": على الرغم من عدم إقفال طرق المفاوضات مع الروس إلا أن ما أفرزته الأستانة من تغييب للمحددات السياسية لصالح التطبيقات الأمنية قد انتهى؛ فالدولة التركية تصنف النظام عدو وتجعله هدفاً رئيسياً؛ وبالتالي قواعد الاشتباك في الشمال السوري قد تغيرت.
    3. "الكل شريك في تحمل مسؤولياته في إدلب": تريد تركيا أن تعيد انخراط المجتمع الدولي في إدلب ضاغطة على الاتحاد الأوربي في مسألة اللاجئين وعلى الناتو في تكوين موقف واضح من دعم الجيش التركي، وعلى الولايات المتحدة الأمريكية في قضية المنطقة الآمنة.
    4. "انخراط مستدام في إدلب": فبعد الأحداث الأخيرة تقدمت "إدلب" من بوابة دفاع متقدمة عن الهواجس الأمنية التركية المركبة إلى ساحة هجوم؛ ومنافسة الروس على قضية شرعية التواجد وربطها بالطلب والدعم الشعبي.

    ثانياً: ملامح التوجه التركي الجديد

    1. إعادة تعريف العلاقة مع روسيا وفق ثنائية (إصبع على الزناد، وإصبع في المفاوضات)؛ إذ أنه بعد التطورات الأخيرة وإدراك تركيا للرضا والمعرفة الروسية بقتل جنودها، فإن تركيا لا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع الروس لكن ستعمل على توسيع هوامش قواعد الاشتباك سواء عبر مزيد من التنظيم للمعارضة المسلحة أو تزويدها بسلاح نوعي أو حتى بانخراطها بحرب مباشرة مع النظام لكن ضمن حدود منطقة خفض التصعيد.
    2. محاولة العودة إلى شبكة التحالفات القديمة عبر فتح مسار يعيد أولوية مبدأ التوازن للعلاقات الخارجية التركية؛ وهو ما سيساعدها على إدارة الملفات الخارجية مع روسيا بظهير أمريكي ناتوي؛ وهو ما سيتطلب التماهي مع المحددات الأمريكية خاصة بالتدرج كالتوافق على المسار السياسي وألوية جنيف، وفتح مساحة نقاش بخصوص اتفاقات شرق النهر.
    3. إدلب: (هدف تركي استراتيجي): وستعمل تركيا على تحصيلها سلماً عبر انتزاع اتفاق جديد مع روسيا، أو عبر الاستمرار في ضرب بنى النظام العسكرية في تلك المنطقة وقد يكون الأولويات العسكرية الجديدة آخذة بالتشكل والتوقع هنا أنها ضمن مفهوم تمتين خطوط الدفاع عن المنطقة الآمنة المتخيلة وإيقاف تقدم النظام على المجال الحيوي الأمني.

    ثالثاً: معوقات هذا التوجه

    1. الكلفة الباهظة لسيناريو الانزلاق لحرب الاصلاء في الشمال السوري؛ خاصة في ظل الموقف الأمريكي والأوروبي الناعم، واحتمالية عدم تماسك الجبهة الداخلية.
    2. تعقد وتضارب الملفات التي يتطلبها مبدأ التوازن في إدارة العلاقات الدولية التركية فمن جهة قطعت تركيا أشواطاً مهمة مع روسيا ومن جهة ثانية تتبدى في إدارة ترامب الفرصة الاستراتيجية لانتزاع مصالح تركية أكثر إلا أن هذه الفرصة ستبقى معلقة حتى الانتخابات الرئاسية المقبلة أو بقبول تركيا التعامل مع قسد وإنجاز تفاهم جديد.
    3. ضريبة تأخر تغيير قواعد الاشتباك؛ فالنظام بات مسيطراً على أجزاء واسعة من إدلب وكامل ريف حلب الغربي والجنوبي، أي نفذ عبر الدعم الروسي تحركاً بات فيه قاب قوسين أو أدنى من استعادة الطريقين؛ ومواجهة هذا التمدد فيها العديد من الألغام التي تجعل قد سيناريو الانزلاق سيناريو حتمي.
    4. التعامي الروسي عن متطلبات تركيا: فالروس بعد اتفاقات آستانة وسوتشي استعاد السيطرة بشكل وبآخر على جل مناطق المعارضة مؤجلاً إدلب؛ لكن وفي ظل أولوية الحل الصفري المتحكمة بالذهنية الروسية وفي ظل عدم الاستجابة الروسية المطلوبة لإنجاز اتفاقات جديدة في إدلب، فإن روسيا ستفرض على تركيا مساراً تفاوضياً طويلاً إما أن يفرز تثبيتاً للواقع بشكل مؤقت أو لا يفرز شيئاً.

    رابعاً: السيناريو الأكثر توقعاً

    • انتهاء مسار آستانة وإلغاء اتفاقية سوتشي بحكم انتهاء صلاحيتها.
    • استمرار العمليات العسكرية التركية واستهداف بنى النظام مباشرة في الشمال السوري
    • استمرار معارك إعادة السيطرة يقابله استمرار لقضم النظام للعديد من المناطق جنوب إدلب. أي الامر متروك للميادين في الآونة الراهنة.
    • سلسلة مفاوضات مارثونية قد تفضي بمكان لما لمنطقة آمنة بعمق 30 كم.
    • بدء التقارب مع حلف شمال الأطلسي.
    • توقف السير في استكمال شراء منظومة صواريخ اس 400.
  • التعافي الاقتصادي في سورية: خارطة الفاعلين وتقييم السياسات الراهنة

    كثر الحديث مؤخراً عن عملية إعادة الإعمار في سورية، بحيث أصبحت إحدى أهم الملفات المتناولة من قبل المعنيين بالشأن السوري. لكن يبدو من الأهمية بمكان؛ في إطار الإحاطة بمدى توفر مقومات هذه العملية؛ ضرورة تلمس مدى نضوج المرحلة الأولى لها والمتمثلة بالتعافي الاقتصادي المبكر، حتى نتمكن من المحاكمة المنطقية لمدى القدرة على المضي قدماً في إعادة الإعمار. وفي هذا السياق يأتي هذا المخرج البحثي من مركز عمران للإضاءة على واقع التعافي الاقتصادي وتفكيك هذه المرحلة من جوانب عدة، والإحاطة بمدى التقدم المنجز فيها.
    وقدم تم تناول ذلك من خلال العناوين التالية:

    السياق السياسي للتعافي المبكر في سورية.

    1. التعافي الاقتصادي المبكر في سورية: التحديات والأولويات.
    2. الاقتصادالسياسي للتعافي المبكر في سورية.
    3. التعافي المبكر في سورية: دراسة تقييمية لدور وقدرة النظام السوري.

    المقاربة التركية للتعافي الاقتصادي المبكر في سورية: دراسة حالة منطقة درع الفرات

  • الثورة السورية بين ممارسات قادتها ومفاهيم الاستبداد الموروثة

    المركز السوري سيرز-عيسى حسين المحمد

    باكورة:

    يقول الله عز وجل: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}آل عمران: 35

    يقول الشيخ الشعرواي في تفسير هذه الآية:إننا عندما نسمع كلمة"محرراً"فمعناها أنه غير مملوك لأحد فإذا قلنا(حررتُ العبدَ)يعني ينصرفُ دون قيدٍ عليه، أو حررتُ الكِتابَ أصلحتُ مافيه، فتحرير أي أمرٍ هو إصلاحُ مافيه من فساد أو إطلاقه من أي ارتباط أو قيد.

    بعد أن كنا عبيداً للنظام البعثي، لا نعرف إلا كلمة نعم، صِرنا اليوم خارج سيطرته واستطعنا أن نقول نعم، لا، ونريد، إلا أننا لا زلنا محتفظين بقيوده علينا، فلا زلنا نئن تحت وطأة ثقافته وتعاليمه.

    إن أغلب شخصيات الثورة السورية السياسية والعسكرية لا زالت داخل عباءة البعث، رغم أنهم خارج سيطرته، يشتركون في ذلك مع شخصيات النظام السوري السياسية والعسكرية والاقتصادية، إلا أن هؤلاء خاضعين لسيطرته.

    هي لله ولكن!

    هذه العبارة"هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه"كانت العبارة الرئيسية في سيمفونيات المظاهرات السلمية ضد النظام السوري البعثي، إلا أنها اليوم تكاد لا تذكر في المظاهرات التي تُقام بين الحين والآخر، ومن الطرافة أن هذه العبارة يقولها اليوم أغلب القيادات أو من هم في مركز القرار الثوري وخاصة عندما يطرح عليهم عبر وسائل الإعلام سؤال: ما السبب الذي دفعك للمشاركة في الثورة؟ إلا أن تلك العبارة أصبحت غِطاءً لما هو بعثي بامتياز.

    كلنا شاهد رامي مخلوف وهو يتكلم عن مشاكله المالية مع آل الأسد، وكيف أدخل قضية الفقراء في خطابه، ووصل الى مرحلة الدعاء لرفع الظلم لشدة ما يعاني من ضغط البعث!وهذا مالم يكن معهوداً لدى هؤلاء.كأنه يقول لمؤيديه أموالي لله ثم للفقراء.المهم أن من وراء هذا الخطاب صراع شديد على النفوذ المالي والاقتصادي.

    نفس الأمر في حاضنة الثورة، فهناك الكثير ممن هم على شاكلة مخلوف، فخطاب القادة والمتنفذين المبطن يوحي بأن كل أعمالهم لله ثم لهذه الثورة ولهؤلاء المقهورين، وفي ذات الوقت يدخلون في صراعات دموية على المعابر التجارية، والمناصب التنفيذية!

    السؤال المهم هنا هو: أين عبارة"هي لله هي لله لا للسلطة ولا للجاه"من كل هذا؟ الإجابة ستكون تقديم أعذار، وإلقاء اللوم على الآخر، وعرض بطولات مجوفة.

    ومن للثورة؟!لسان الحال كما قال عبد المطلب: إنما أنا رب الإبل، وإن للبيت رب سيمنعه.نعم، إن للثورة ضامنٌ سيمنعها!لقد قالوها إن لم يكن بألسنتهم فبأفعالهم.تركهم للجبهات، ودخولهم في صراعات مع بعضهم، وتحركاتهم المشروطة، أليست دليلاً على ذلك؟

    ردة أخلاقية:

    يكاد يكون هناك اتفاق لدى الشعب السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام بأن الرعيل الأول من قادة الثورة وعناصرها، هم أفضل بكثير من قادة وعناصر اليوم.

    لقد تمتع الرعيل الأول(قادة وعناصر)بالأخلاق والسمعة الحسنة، وعدد لا بأس به منهم كان على قدر من القوة والأمانة.فعبارة"هي لله هي لله…"تماهت في شخصياتهم، فعاش الناس تلك العبارة واقعاً محسوساً.

    وأما اليوم فإننا نقضي أوقات فراغنا في متابعة أخبار قادة اليوم، فهذا سرق من هذا، وهذا اعتدى على عِرض هذا، وهذا فُضِح َعلى الملأ بسبب الرذائل الموجودة في هاتفه المخترق، وهذا يتابع أخبار العاهرات ويكلمهن، وغيرها من سيئات الأمور التي يندا لها الجبين.

    ويمكن إرجاع سبب ذلك إلى أمرين إثنين:المال، ورد فعل على فكر تنظيم الدولة الإسلامية.

    فالمال الكثير إذا صار بأيدي الذين عاشوا الحرمان يحولهم الى طغاة ومجرمين.

    ومن جهة أخرى فإن هؤلاء يعتقدون بأن كل شي مسموح إلا أمرين:التفكير بعقلية تنظيم الدولة الإسلامية، والعمل ضد الضامن التركي.

    نفس الأمر عند شخصيات النظام البعثية، سواءً أكانت سياسية أو عسكرية.فمسموح لهم كل شي باستثناء ما يسيء الى الضامن الروسي، أو ما يسيء إلى قيادة البعث.

    أهم المبادئ:

    للكل مبادئ، سواءً كانوا دولاً، أو أحزاب، أو جماعات، أو أشخاص، ولكلٍ منهم مبادئ بارزة تصل إلى درجة التقديس،وتعتبر محركاً للجهة الحاملة، وأحياناً يشترك أكثر من طرف في مبدأ واحد، فعلى سبيل المثال:من أهم مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي إيمانه العميق بالثورة لتوحيد كافة الأقطار في دولة واحدة، فالبعث يؤمن بالثورة!ولكن ما هذه الثورة التي يؤمن بها البعث؟ هل هي ثورة ضد العلماء والمفكرين والمثقفين؟ أم هل هي ضد الأطفال والنساء والشيوخ؟

    وبالمقابل، نحن أيضاً نؤمن بالثورة الجامعة لكل أطياف المجتمع السوري، إلا أن أغلب من يقودها حرف مسارها وشوهها فصارت وكأنها سباق لمن يجمع المال أكثر من الأخر، ومنافسة من يحصل على أهم المناصب ويبقى فيها لأطول فترة ممكنة، والنتيجة لا هم وحدوا أقطارهم، ولا نحن وحدنا أطيافنا.

    تقتير هنا وإسراف هناك:

    سيارات فخمة، وبيوت كأنها قصور، وسياحة في أجمل المدن، ومناصب رفيعة، ومشاريع ضخمة بملايين الدولارات، وفي الجهة الأخرى خيام من قماش كانت وسيلة لتلك الغايات الذميمة، وعندما يطلب شيء للمقهورين من كلا الطرفين يبدؤون بتقديم الأعذار القبيحة لتبرير العجز عن المساعدة، فبعثيي النظام قتال الارهابيين عندهم أولى من أي شيء، فلا وقت لديهم للمساعدة، حتى وإن ساعدوا تكون مساعداتهم ضمن مجال وخطة تزيد من ثروتهم.أما بعثيي الثورة فلا أموال تأتي من الداعم، ولدينا ما هو أهم من هذا، قتال النظام وقسد، وغيرها الكثيرليسوا أهلاً لحمل همّ الناس، فعند أول فرصة تأتيهم يكونون في دول اللجوء، فأموالهم وابنائهم بانتظارهم.فعجز في الداخل وقوة ومنعة في الخارج.

    الروح الاستبدادية:

    منذ أربعينيات القرن العشرين، بدأت أفكار جمعية الإحياء العربي(نواة حزب البعث)تنتشر في المجتمع السوري، وتحفر في وجداننا حتى خدّت الأخاديد في ذاكرتنا الجمعية، فكان أهم ما ثبت في ثقافتنا هو الاستبداد.

    اليوم، وبعد خمسة عقود من حكم البعث أصبحنا من الشعوب التي تحمل في ذاكرتها الجمعية روح الاستبداد(بشكل عام الاستبداد متجذر في العالم الشرقي حسب تعبير هيجل)،ورغم أن ثورات الربيع العربي كانت ضد الاستبداد والمستبدين، إلا أن بعضها خلع المستبدين وبقيت روح الاستبداد(بأنواعها)تصول وتجول في أروقة الذاكرة، والخلاص منها من أهم ما يواجهنا اليوم.

    سنوات مرت على سياسيّ الثورة وعسكريّها وما زالوا متمسكين بمناصبهم وأفكارهم لا يرضون تركالمناصب لأهلها، ولا إدخال ماهو بعيد عن البعث لتطويرأفكارهم.

    فرغم الأخطاء الكارثية التي ارتكبوها، والحماقات التي فعلوها، والمناطق التي غضّوا الطرف عنها فذهبت ضحية محاصصاتهم السياسية، مازالوا كما هم، ثوريين بعقول بعثية.

    قد يحدث تغيير بسيط في المناصب، ولكن يبقى ضمن دائرة صغيرة، وضمن محاصصات سياسية قذرة.

    لا ينكر عاقل بثقل الموروث البعثي على عقول السوريين، والسؤال هنا:كيف نخفف من ثقله على عقولنا؟

    وفي الختام:

    أرى أن استمرار كل الأزمات الداخلية التي تعاني منها الثورة السورية اليوم، هو بسبب الصمت عن هؤلاء.

    فمازالت التفجيرات تفتك بالمدنيين، ومازالت مشاكل المؤسسات(الهشة)السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأمنية، والتعليمية، تزاد تأزماً.والقول بأننا نعيش في مناطق محررة يحتاج إلى مزيد من التوضيح، فإذا كنا خارج سيطرة النظام الجغرافية، فهذا لا يعني أننا في مناطق محررة.وللعلم مصطلح"مناطق محررة"لم يطلق إلا على المناطق التي شهدت عمليات عسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، نحن فقط من يسمي مناطقنا مناطق محررة.

    لقد وصلنا إلى مرحلة وضِعنا فيها بين فكي كماشة، قادة فاسدين مستبدين، لا قوة لهم ولا أمانة.وحثالة من الناس يهرفون بما لا يعرفون، يبررون لهم أفعالهم ويأوّلون لهم أقوالهم.والنتيجة، حرية بتراء ونظام أعرج.

  • الحرب في سوريا انتهكت كل المعايير والقواعد الدولية المقدّسة

    كريم شاهين     

              نهاية العقد: لقد دمّر الصراع في سوريا كل هذه الخرافات التي طورناها عن أنفسنا كمجتمع دولي- حيث لم نظهر التعاطف اللازم، ولم نتعامل معها بالجديّة المطلوبة، ولم نتحمل المسؤولية الملقاة على عواتقنا في حماية المدنيين!

           كانت الأيام الماضية مروّعة في سوريا. حيث فرّ عشرات الآلاف من المدنيين إلى المناطق الحدودية خوفًا من تقدّم النظام. فهناك احتمال كبير في أن يقوم النظام بذبح جماعي مرة أخرى لسكان هذه المناطق.

            لقد فُرض حظر على المساعدات الإنسانية التي تَعْبر الحدود من تركيا إلى ثلاثة ملايين مدني محاصرين داخل صندوق للقتل في الشمال الغربي، وهو واحد من الجيوب القليلة المتبقية الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تعيش تحت قصف المدافع والرشاشات والطائرات المقاتلة. لقد دُمرت مدينة معرّة النعمان بشكل كامل في ظل الصمت العالمي والتقاعس الدولي.

            إنه لأمر محزن ولكنه ذو طابع كلّي. فمنذ عقد من الزمن تمّ تدمير كل القواعد الأخلاقية في هذه الحرب بشكل ممنهج، فالحرب في سوريا لم تُراعَ فيها أخلاق الحرب إطلاقًا.

            قبل عشر سنوات، كان الرئيس السوري بشار الأسد ممتلئًا بالثقة، حيث أعلن في مقابلة له مع صحيفة وول ستريت جورنال أن الانتفاضات التي اجتاحت الدول العربية الأخرى لا يمكن أن تحدث في سوريا لأن الحكومة السورية كانت تتماشى مع مواطنيها عند حدّ قوله.

            بالطبع، تمّت السيطرة الواضحة على المواطنين من خلال القبضة الحديدية متمثلة بشبكات واسعة النطاق من المخبرين، ومقرّات الأمن، والمخابرات، والسجون. والقبض كذلك على الاقتصاد حيث سُمح للفاسدين العبث بمقدرات الناس، والسيطرة على كل جوانب الحياة العامة والمجتمع المدني.

             ومع ذلك، كانت سوريا الأسد تتمتّع بثمار الانفتاح الواسع على الغرب وجيرانها العرب والترك.

             لقد نجحت دمشق في انتهاز الفرصة لإصلاح علاقتها مع الولايات المتحدة على خلفية مشكلة خلقتها وهي: -تحريك الخلايا الإرهابية والسماح لها أن تعبر الحدود العراقية لمحاربة القوات الأمريكية- واستثمرت العلاقات التجارية والدبلوماسية فضلا عن الجهود المبذولة لعزل إيران.

           لقد حضر الزوجان السوريان الأولان بشار وأسماء الأسد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان احتفالا يوم الباستيل مع ساركوزي في فرنسا.  فجذبوا اهتمام الناس عندما تحدّثوا بأريحية إلى المراسلين الغربيين حول الطموحات الديمقراطية المبذولة، وأظهروا لهم كيف تناولوا الطعام مع الجماهير في المطاعم الشعبية في مديني حلب ودمشق.

            كل شيء كان سرابًا، لقد أدّت عقود من الفوضى بقيادة حزب البعث المعروف بسوء الإدارة وعدم المساواة وتفشي المحسوبيات… إلى تراجع البلاد وضعف الاقتصاد… وبخاصة قطاع الزراعة، ما تسبب بهجرة سكان الأرياف إلى المدن.

          وكان لدى الجميع قصّته محزنة عن قريب حميم اختفى قسرًا في دهاليز المخابرات، ففي كل صباح تنفّذ أجهزة المخابرات عملية اعتقال للمشتبه بهم، ولا يُعرف مصيرهم إلا بعد إنفاق الأموال الطائلة من الرشاوي على السماسرة لدى الأفرع الأمنية.

            محمد محي الدين أنيس أبو عمر 70 عاماً، يدخن الغليون، وهو يجلس في غرفة نومه المدمّرة، يستمع إلى الموسيقى على مشغل فينيله الحاكي، في حي الشعار الذي كان يسيطر عليه الثوار في حلب سابقًا.

           وكان احتجاز المراهقين عام 2011م الذين كتبوا شعارات مناهضة للأسد على حائط مدرستهم. وكان اعتقالهم وتعذيبهم بمثابة الشرارة الأولى للحراك الشعبي، وتلاها احتجاج مدني سرعان ما انتشر في جميع أنحاء البلاد.

            في البداية طالب المحتجون بإصلاحات جزئية صغيرة، وكان ردّ الحكومة عنيفًا، فطالبوا بالإطاحة الصريحة بالنظام! فقابلهم النظام بوحشية كبيرة، ورفض الدخول في حوار جديّ معهم فاستمرّ الحراك الشعبي حتى يومنا هذا.

            قام النظام بإطلاق سراح الإرهابيين المدانين في محاولة منه لعسكرة المعارضة ولوضع المجتمع الدولي أمام خيارين: إما الرئيس الأسد بتاريخه الدموي الفظيع أو مواجهة المتطرّفين.

            لقد توقفت الأمم المتحدة في نهاية المطاف عن حساب عدد القتلى الذي بلغ 400000، في عام 2016. ومن المؤكد أن الأعداد أكثر من نصف مليون شخصا.

           تم تهجير نصف سكان البلاد، معظمهم داخل سوريا، وأجبر العديد منهم على ترك منازلهم عدّة مرات خلال الحرب التي استمرت تسع سنوات. فالملايين الذين فروا إلى الخارج غيّروا بشكل جذري في شخصية البلاد المجاورة وسياستها، وأولئك الذين تحدّوا البحار ليعبروا إلى الشواطئ الأوروبية، هرباً من الموت وطمعًا بحياة كريمة لأطفالهم، استخدموا كتكتيك مهزوم من قبل الزعماء الشعبويين في جميع أنحاء العالم لدفعهم. وساهموا في عودة اليمين المتطرف إلى السياسة الأوروبية والأمريكية.

          وهذا التحول العميق أدى إلى تغييرات كبيرة وإعادة تنظيم تكتونية، سواء في الخارج أو على المستوى الإقليمي، حيث لبست موسكو الوشاح الذي تخلّت عنه واشنطن، فتدخلت في الحرب لإنقاذ الأسد مما بدا في ذلك الوقت هزيمة لا مفر منها. وتركت تركيا، الغاضبة من الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية ذات التطلعات لإقامة الدولة، وتخليها عن تحالفها مع الناتو لصالح التعاون الوثيق مع روسيا، مما زاد من تقويض نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية.

    قافلة من الناس يفرون من معرة النعمان في شمال إدلب

           استفادت داعش من فراغ السلطة، ومن الظلم العميق في الحرب لإقامة ما يسمى بالدولة التي تغطي أجزاء من سوريا والعراق، وهو مشروع مزين بفظائع الوحشية الخطيرة مثل الاستعباد المنتظم للأقلية اليزيدية فضلا عن اغتصاب نسائهن، وطرده للمسيحيين من وطنهم وإعدام الآلاف من المدنيين بطرق مروّعة ومتعددة.

          خلال هذا الوقت، تم تدمير سوريا بشكل ممنهج. اتبع النظام وحلفاؤه سياسة الأرض المحروقة لمحاصرة مناطق المعارضة. فأمطرها بمئات البرميل المتفجرة ما جعل هذه المناطق غير صالحة للسكن.

           تحتاج سوريا إلى 200 مليار دولار على الأقل لإعادة الإعمار، وربما ضعف هذا المبلغ، ولكن هذه المساعدات تمنعها الدول الغربية بسبب غياب الإصلاحات السياسية الحقيقية.

           ربما يكمن إرث سوريا الدائم في كيفية تفكيكها النظام الدولي القائم على القواعد الأخلاقية، على مدى عقد من الحرب والتدمير بشكل ممنهج، تم ّخلالها انتهاك كل المعايير الدولية التي كانت تعتبر ذات يوم مقدسة!!!!

          إنه تناقض صارخ للرسالة التي خرج بها العالم بعد عمليات الإبادة الجماعية في يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، -شعار “لم يسبق له مثيل” في قاعات المحاكم الدولية. وبمرور الوقت، تلاشت شيئا فشيئا دورات الفظائع التي أعقبها الغضب والعجز في المبادئ التي قررنا أنها تشكل سلوكًا حضاريًا في الحرب وشؤون الدولة شيئًا، وكانت إنسانيتنا تتآكل باستمرار!!

          فهذه الانتهاكات العديدة تستحق التوضيح لأنها توضّح إلى أي مدى سقطنا. استخدمت في سوريا الأسلحة الكيماوية مرارًا وتكرارًا ضدّ المدنيين في محاولة ناجحة إلى حدّ كبير لإرهابهم وإخضاعهم، دون أي عقاب!! ثم الحصار والتجويع بشكل متكرر كسلاح حرب من قبل السيد الأسد وميليشياته في الحملة الشرسة المسعورة لاستعادة الأراضي التي يسيطر عليها المتمردون.

    مهجرّة معمّرة من النعمان في شمال غرب محافظة إدلب

            القصف الممنهج للمدنيين بأسلحة غير دقيقة مثل البراميل المتفجرة، والتي يعتبر استخدامها جريمة حرب فعلية، فضلا عن الاعتقالات التعسفية على نطاق واسع، والاختفاء القسري لعشرات الآلاف من المدنيين، واستهداف المستشفيات واستخدام المساعدات الإنسانية ومساعدة الأمم المتحدة كأدوات سياسية لصالحهم… جعلت الحياة لا تطاق.

           من الصعب التنبؤ بالسنوات القليلة القادمة في سوريا لأن النزاع دمر كل الخرافات التي زرعناها عن أنفسنا – مدى تعاطفنا، ومدى جديتنا وتحملنا المسؤولية كمجتمع دولي لحماية المدنيين، وإيماننا الجماعي بالعدالة وفي المصير المشترك.

           لقد دمرت سوريا كل ذلك من خلال سحق أحلام شعب بأكمله ومنعه من حقوقه في العيش بكرامة وسلام ورخاء.

          حتى مع استمرار الجدل حول الرماد، فإن إرث العقد الماضي سيستمر. لقد نحتت سوريا مثال الضمير الجماعي للمجتمع الدولي.

  • الرؤية الجيواستراتيجية الروسية لوصل روسيا بسورية عبر البر

    د. عبادة التامر – المركز السوري سيرز 10.02.2020

    تشير التطورات المتعاقبة وفصول الحرب التي تشن في سورية وإصرار روسيا على مسألة السيطرة على طريقي الM5 وM4 إلى توجه يبدو أقرب لمحاولة فتح طريق بري يربط روسيا بسورية عبر إيران والعراق. وهنا تتجلى عقدة من أهم عقد الملف السوري في استراتيجيات الدول المعنية بالملف.

    إذ تتشارك كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا الإشراف على أجزاءٍ من هذا الطريق البري الذي يربط الموانئ الإيرانية المطلة على بحر قزوين بميناء اللاذقية، وبدمشق.

    لطالما اعتبرت روسيا نفسها قوة برية من المنظور الجيوبوليتيكي، ولطالما كان الهدف الأساسي لاستراتيجية الروسية متمثلاً في الوصول إلى منطقة الحافة (الريم لاند) والإطلال على المياه الدافئة وكسر الطوق الجيواسراتيجي الذي فرضته حولها القوى الأطلسية. ولهذا الهدف وبعد إعادة تعريف روسيا لنفسها باعتبارها قوة عاملية إثر غزوها لجورجيا عام 2008 بدأت تنشط من جديد التوجهات الجيوبوليتكية الروسية الرامية إلى إعادة تعريف نفسها بوصفها القوة المسيطرة في أوراسيا عبر سلسلة من التحركات البطيئة نسبياً، وما لبثت أن تسارعت هذه التحركات بعد تدخلها العسكري المباشر في سورية عام 2015.

    أولاً: الطريق البحري بين سورية وروسيا

    يبدأ هذا الطريق من ميناء سيفاستوبل في شبه جزيرة القرم والتي كانت موضوع أبرز أزمة بين الشرق والغرب بعد مرحلة الحرب الباردة إذ ضمت روسيا شبه جزيرة القرم المتمتعة بالحكم الذاتي والتابعة لأوكرانيا عام 2014، ما شكل أزمة لاتزال تظهر مفاعليها بشكل متكرر منذ ذلك الوقت وحتى الآن.

    ومع ذلك فقد وقع كلٌ من حاكم سيفاستوبل الروسي دميتري أوفسيانيكوف ومحافظ طرطوس صفوان أبو سعد عام 2018 اتفاقية لتسيير خط شحن بحري مباشر بين سيفاستوبل وطرطوس، للاتفاف على العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري ومن يتعامل معه.

  • العنف ضد المدنيين: سياسية النظام لإنهاء شرعية المعارضة

    المركز السوري - بلال صطوف

    مقدمة

    تعتبر الثورة السورية إحدى أكثر ثورات الربيع العربي التي شهدت أعمال عنف مصدره السلطة، طالت مئات ألاف المدنيين، فمنذ انطلاقة المظاهرات السلمية عمد النظام إلى استخدام الحل الأمني في قمع المظاهرات وذلك من خلال استهداف المتظاهرين بشكل مباشر ، ومع حمل الثوار السلاح وسيطرتهم على مناطق واسعة من الجغرافية والمدن السورية تحول النظام إلى الحل العسكري من خلال زج الجيش بشكل مباشر في معركته ضد قوى الثورة ، مستخدماً الدبابات والطائرات في قصف المدن والاحياء الشعبية والأسواق بشكل خاص ، فضلاً عن ارسال مفخخاته إلى مناطق الثورة ، كثيراً ما سمعنا من يحاول سوق الأسباب والدوافع التي تقف خلف ممارسات النظام هذه ، عبر إرجاعها إلى أسباب طائفية أو انتقامية.

    تحاول هذه الورقة التعرف على أسباب ودوافع العنف المفرط الذي ارتكبه النظام، وذلك من خلال تقديم تصور لطبيعة الصراع السوري، ودور العنف في تثبيت حكم النظام السوري.

    أولاً: ماهية الصراع في الثورة السورية:

    يدور الصراع في الثورة السورية كما هو الحال في جميع الثورات حول مدى شرعية كل طرف من الأطراف المتصارعة،ففي حين تعمل قوى الثورة على بيان الجوانب التي تظهر عدم شرعية النظام القائم، وإثبات شرعيتها وأحقيتها في تسلم سلطة البلاد، يحاول النظام القائم هو الأخر منع الثوار من امتلاك الوسائل المناسبة لحصولهم على شرعية الحكم فضلاً عن سلطة البلاد، وتبقى لكل دولة خصوصيتها المتعلقة بمفهوم الأسس التي تقوم عليها شرعية نظام الحكم، فلكل دولة أركان شرعية تختلف عن بقية الدول.

    وتشهد الثورة السورية صراع يدور في مجمله حول نفي أو تأكيد شرعية الحكم، إلا انها تتميز في اختلاف أركان شرعية الحكم بين النظام والمعارضة.

    ثانياً: مفهوم الشرعية لدى نظام الأسد:

    هناك العديد من أسس الشرعية على مستوى الحياة اليومية التي حاول النظام السوري بناءها وسوقها كل ما دعت الحاجة إليها وتنقسم هذه الاركان إلى:

    • ·توفير "الاستقرار الأمني" : لقد حاول النظام السوري طوال عقود حكمه إظهار قدرته على ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار داخل البلاد من خلال بناء عدد كبير من الأجهزة الأمنية " أمن الدولة ، الأمن السياسي، المخابرات الجوية، المخابرات العامة" وتوسيع حلقة نفوذ هذه الأجهزة ، وإقرار قانون الأحكام العرفية "الطوارئ" ، وأن كانت مهمة هذه الأجهزة تتركز في حماية النظام ، إلا أنها تمكنت من تحقيق " الاستقرار الأمني" القائم على القمع والترهيب بالدرجة الأولى، ثم عمد النظام إلى رفع الشعارات التي تتغنى بالسلام الذي يعم البلاد " سورية الله حاميها" ، واكساب هذا النموذج من "الاستقرار" طابعاً مقدساً.

    احتكار الخدمات العامة: عمل نظام الأسد منذ وصوله إلى السلطة على احتكار الخدمات العامة وذلك من خلال تبنيه نموذج الاقتصاد المخطط والتي تتحكم فيه السلطة بكل أشكال العمل الاقتصادي ومنها الخدمات العامة كشبكات الكهرباء والمياه والاتصالات، بالإضافة إلى توسيع نطاق عمل القطاع الصحي الحكومي عبر بناء مشافي ومراكز صحة حكومية "

     

  • اللجنة الدستورية السورية ومتلازمة التفكير الجمعي

    تقدير موقف

    د. عبادة التامر – المركز السوري سيرز

    بعد سلسلة طويلة من المفاوضات والنقاشات بين أطرافٍ دولية متعددة استمرت لأكثر عامين دعا المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسون إلى انعقاد أول اجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف في 30 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام.

    وبالرغم من وجاهة كثير من الآراء القانونية حول مسألة تشكيل وآلية عمل اللجنة الدستورية التي أطلقت للبحث في مسألة الدستور السوري المزمع. فإن التركيز هنا سيأخذنا لأبعاد قلما يتم الحديث عنها، في ظل الصخب والآراء المتباينة حول مسألة الشرعية والمشروعية والآليات المعتادة لكتابة الدساتير، وما يتطلبه ذلك من بيئة مواتية. وبالرغم أيضاً من إثارة مسألة قانونية يتم الحديث عنها حالياً وهي إطفاء الشرعية والمشروعية بإجراءات لاحقة من بينها الاستفتاء على الدستور.

    الأبعاد التي يجب أن توضع كأسئلة يبنى عليها مقتضاها هي التساؤل التالي: ما هي علاقة بنية وآلية عمل اللجنة الدستورية بـ (متلازمة التفكير الجمعي(Groupthink Syndrome؟

    وهل يمكن أن يقود التوافق المفترض بين أعضاء اللجنة الدستورية إن حصل – وهذا ما سنناقشه مفصلاً- إلى ما يسمى في علم النفس السياسي بـ الانسياق للجماعةGroup conformity الأمر الذي سيقبل بمحصلته الشعب عبر استفتاء بـ(الدستور المفترض)؟

    أولاً، ووفق التسلسل المنطقي يمكن وصف المخرج النهائي لعمل اللجنة الدستورية إن تم التوافق على مخرج نهائي بأنه "شيء ما" لا يشبه الهدف الذي دخلت على أساسه المجموعات الثلاث – المعارضة، النظام، قائمة الأمم المتحدة- هذه العملية.

    لماذا؟ تقول طرفة قديمة أن " الجمل ماهو إلا حصان سباق صممته لجنة" ولنفرض بأن حصان السباق الموجود والمعروف لم يكن موجوداً، وأننا أوكلنا إلى لجنة مشكلة وفق طريقة تشكيل اللجنة الدستورية مهمة تصميمه، فربما يقترح أحد أعضاء اللجنة جعل الحصان أملساً ويتمتع بإيروديناميكية تمكنه من أداء وظيفته بدقة، وربما يعارضه آخر بأن يقول بأن إضافة سنامٍ للتصميم سيعطي سائقه شيئاً يتعلق به أثناء السباق، ويقول شخص ثالث لماذا لا نعطيه ثلاثة أسنمة حتى يتمكن عدد أكبر من الأشخاص قيادته وتوجيهه معاً. وفي نهاية المطاف ربما لا يتفقون إلا على تصميم بسنامين شيء يشبه الجمل، ولكنه ليس حصان سباق.

    ناقش غراهام أليسون وفيليب زيليكوف في كتابها "جوهر القرارEssence Decision" نموذجاً لصناعة القرار يكاد ينطبق على شكل وبنية وآلية عمل اللجنة الدستورية الحالية الموكل إليها مسألة وضع الدستور السوري المفترض، وفي ذلك النموذج (نموذج غراهام وفيليب) تتوزع قوة التأثير في صنع القرار على الجميع وتتحدد مخرجات القرار عن طريق المفاوضات والتسويات، ويقترح النموذج أن يمتلك كل عضو في الجماعة قدراً من القوة يستطيع معه الوقوف من دون تحقيق الأعضاء الآخرين لرغباتهم وأي قرار يتم الوصول إليه لا يمثل سوى القاسم المشترك الأصغر لآراء الجماعة، أو ذلك الشيء الذي يتفقون عليه جميعاً ولكنه لن يكون الشيء الذي رغب فيه أحد، وفي هذه الحالة فإن الواقع سيؤدي إلى إنتاج مخرجات غير فعالة أو أدنى مما هو مأمول على أقل تقدير.

    يشير التحليل البنيوي والوظيفي المتأني للجنة الدستورية وتكوينها وآلياتها إلى سلسلة معقدة من الأزمات البنيوية التي قد تعيق عملها أو أن تنتج مخرجات غير فعالة، إن نجت من الوقوع في سلسلة عطبٍ ذاتي. وتحمل هذه البنية من حيث المبدأ المزايا السلبية لما يمكن تسميته بالانسياق للجماعةGroup Conformity الذي سينتج شيئاً شبيها بجملٍ ذي سنامين في حين كان الهدف هو انتاج حصان سباق.

    فهذه البنية – اللجنة الدستورية بكل مكوناتها- إما ستجتمع بوصفها مجموعة تعزل نفسها عن محيطها، الأمر الذي سيقود إلى شعور أعضاء اللجنة بحالة عارضة من التقدير للذات وتوهم الحصانة مما سيقود إلى تفاؤل مفرط يشجعها على المخاطرة ونتيجةً لذلك ستصل اللجنة إلى حالة التبرير الجمعي ويسقِطون أو يتجاهلون ما يصلهم من تحذيرات وما خلف هذه التحذيرات من افتراضات جوهرية تشكل أسس البناء السليم لعملها.

    وقد يتذرع البعض بأن نقل المخرج النهائي لعمل اللجنة الدستورية إلى الاستفتاء الشعبي سيضفي عليها وعلى عملها ومُخرجها الشرعية اللاحقة، وهذه المقولة يمكن مناقشتها أيضاً عبر مدخل الانسياق للجماعة فالاستفاء الشعبي في هذه الحالة لن يقود إلى تمعن مواد الدستور من قبل الشعب وفحص وتبين مآلاتها بل سيخضع الشعب نتيجة سلسلة من الأفعال والوقائع لما يسميه سولومون آش بالامتثال أو الانسياق للجماعة.Group Conformity

    أوأن تنقسم اللجنة الدستورية إلى ثلاث مكونات وفق تركيبتها الحالية أو مكونين نتيجة عدم تماسك المكون الثالث الذي اختارته نظرياً الأمم المتحدة، أو أنها ستتشظى إلا أكثر من ذلك... بحيث تبقى كتلة النظام هي الكتلة الوحيدة المتماسكة نتيجة وجود مرجعية عليا تحدد لها سياقات عملها ودورها. وفي هذه الحالة فإن المخرج المتوقع من عمل اللجنة قد لا يشبه حصان السباق أو الجمل ذو السنام الواحد أو حتى الجمل ذي السنامين، أو أنها ستدخل في سلسلة طويلة جداً من الأخذ والرد والتعطيل مما يفقدها وزنها بشكل كلي.

    تشير كلتا الحالتين إلى واقعٍ يشي بفهمٍ مغلوط لما يروج له من باب الواقعية السياسية – وهذه الاشارة لا تمت لمبدأ الواقعية بصلة- فالواقعية السياسية تعني تبين مواطن الضعف وتعزيزها وتقويتها وذلك لغايةٍ محددة هي تجميع ومراكمة القوة كما يعبر عنها أبرز منظري الواقعية السياسية هانز مورغانثو.

    إن هذا الشكل من الحلول الوسط ستنسف بشكل أو بآخر مبدأ العدالة الانتقالية ومحاكمة عادلة لمن تسبب في دمار وتشريد وقتل الشعب ومصادرة خياره الحر. كما أنها ستفتح الباب إن فشلت في تلبية خيار وطموحات الشعب لطرق أبواب أخرى قد تقود إلى تشظي الجغرافيا واعادة تشكيلها من جديد.

  • جبهة السلام والحرية.. رجاءٌ بالفاعلية بواقع متخم بالتحديات

    بعد مفاوضاتٍ طويلة توجهت مجموعة من القوى المحلية شرق الفرات لعقد اتفاق حول رؤى سياسية موحدة، تتعلق بمصير منطة شرق الفرات، وسوريا عموماً، تحت عنوان " جبهة السلام والحرية "، وضمت كل من المجلس العربي للجزيرة والفرات، وتيار الغد السوري، والمنظمة الآثورية

    الديمقراطية، والمجلس الوطني الكُردي، وتزامن هذا الإعلان في وقتٍ تشهد فيه منطقة شرق الفرات حواراتٍ كُردية بينية تهدف لصيغة توافق حول إدارة المنطقة سياسياً وعسكرياً.

    ولأهمية الموضوع ولما له من تأثير على تموضع القوى المشاركة في الجبهة المشكلة حديثاً سواءً ضمن التفاعلات المحلية، أو على صعيد المفاوضات الجارية بين المعارضة والنظام السوري، يحاول تقدير الموقف هذا توضيح السياقات المتعلقة بتوقيت إعلان الجبهة، وما تمتلكه من نقاط قوة سواءً فيما يخص التفاعلات السياسية المحلية، أو ضمن اللجنة الدستورية وهيئة التفاوض وما ستؤول إليه العملية التفاوضية النهائية، ويحاول تقدير الموقف هذا تسليط الضوء على مدلولات هذا الاعلان واختبار التماسك البنيوي بين الكيانات الموقعة على الاتفاق بالإضافة إلى محاولة الإحاطة بسياق التشكل وتحدياته ومآلاته.

  • روسيا وتركيا والصراع على إدلب

    توران قشلاقجي

    تركيا منذ الحرب العالمية الأولى، للمرة الأولى تواجه صعوبات كبيرة مثل هذه. الغرب هو الغرب نفسه في موقفه، وروسيا هي روسيا نفسها التي لا تهتم بالاتفاقيات. الغرب وروسيا وإيران والعديد من الدول الأخرى الموجودة في سوريا. قبل أن ندخل في تحليل المشكلة في إدلب، دعونا نلقي نظرة سريعة على العلاقات التركية الروسية.
    حتى الأمس القريب، كانت روسيا وتركيا تقعان في فضاءين استراتيجيين مختلفين، أيديولوجيا وسياسيا واقتصاديا، واحدة تتزعم حلف وارسو الاشتراكي، والأخرى جزء فاعل في حلف الناتو الغربي. ومع أن العلاقات بين الجانبين بدأت تتحسن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، غير أنها لم تصل إلى المستوى الإيجابي، إلا من بوابة الملف السوري، بحكم الضرورات الملحة التي فرضت نفسها على العاصمتين. ومع ذلك، فعلى الرغم من الاتفاقات والتفاهمات الروسية ـ التركية في سوريا (مسار أستانة، درع الفرات، غصن الزيتون، سوتشي، شرق الفرات)، يعتبر الملف السوري جزءا من سياق أعم للمجال التداولي الاستراتيجي بين الدولتين، يحكمه الموقف من الغرب.
    على مدار القرون الثلاثة الماضية، تعاونت الدولتان معا لمواجهة الهجمات الغربية، وظهر هذا التعاون بشكل جلي في مواجهة التوسع الفرنسي بقيادة نابليون نهاية القرن الثامن عشر، وظهر ثانيا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، مع توقيع اتفاقية أونكيار ـ إسكيليسكي، التي التزمت روسيا بمقتضاها تقديم الدعم العسكري لتركيا بعد عصيان محمد علي باشا في مصر. لكن في ذاك العصر نفسه، وقعت صراعات بين روسيا وتركيا، ففي عام 1768 عبر أسطول روسي مضيق جبل طارق للمرة الأولى نحو المتوسط، وخاض معركة بحرية كبرى ضد الأسطول العثماني، بسبب الصراع على شبه جزيرة القرم. وبعد ذلك بأربعة أعوام، قصف الأسطول الروسي المدن السورية الساحلية، في مشهد يشبه ما يحدث اليوم. باختصار، يمكن القول إن الخلافات الروسية ـ التركية في منطقة أوراسيا والقوقاز، كانت سببا في صراعهما، في حين كان التهديد الغربي سببا في تعاونهما.
    ما يحدث في إدلب الآن يلخص طبيعة العلاقات بين الدولتين طوال القرون الثلاثة الماضية. تشترك الدولتان بوجود حالة من فائض القوة لديهما في وقت تدخل علاقتهما مع الولايات المتحدة بمرحلة فتور، وقد برز فائض القوة الروسي والتركي بشكل جلي في سوريا: الأولى أصبحت اللاعب العسكري الدولي الرئيسي، فيما أصبحت الثانية اللاعب الإقليمي الرئيسي.
    شكلت الأزمة السورية نوعا من المفارقة في تاريخ العلاقة بين البلدين: اختلاف استراتيجي حيال الموقف من الثورة، ومن النظام، ومن مستقبل سوريا السياسي، غير أن هذه الخلافات الحادّة، وبفعل تعقد المشهد السوري بسبب كثرة الفاعلين الإقليميين، دفعت الطرفين إلى الاقتراب من بعضهما بعضا، وتقديم تنازلات متبادلة فرضتها مجريات الأمور. يمكن النظر إلى التعاون والصراع الروسي ـ التركي في إدلب من خلال بعدين اثنين:
    الأول، تكتيكي مرتبط بمفاعيل الترتيبات العسكرية في الجغرافية السورية، وفي هذا المستوى ثمة تفاهمات بين الدولتين، وثمة خلافات حول السيطرة على بعض المناطق في محافظة إدلب.

    الثاني، استراتيجي أبعد وأشمل من الجغرافية السورية، ويمكن تلمس أبعاده في أوكرانيا مع زيارة أردوغان إليها مؤخرا، والتوجه التركي إلى البحر المتوسط والوصول إلى الشاطئ الليبي، وقبلها التلاقي التركي ـ الأمريكي في شرق الفرات، وهذا المستوى هو الأهم، كونه من يحدد مسار العلاقات بين الجانبين.
    مشكلة روسيا، أنها لم تنظر إلى تركيا من خلال موقعها الاستراتيجي في المنطقة، بقدر ما نظرت إليها من البوابة السورية فقط، ومن هنا اعتقد الروس أن السماح للأتراك بالبقاء في إدلب والحصول على أراض في ريف حلب الشمالي الغربي، كفيل بإبعادهم عن الولايات المتحدة وأوروبا. لكن صناع القرار في الكرملين، لم يدركوا أن موقع تركيا في قلب العالم يضعها على تماس مع قارات ثلاث، ما يجعل خياراتها واسعة جدا، بحيث يصعب اختزالها في الشرق وحده أو الغرب وحده. عند هذه النقطة الرفيعة نشهد ارتفاع التوتر بين الجانبين، لكن من المهم التأكيد على أن العلاقة بينهما لن تصل إلى نقطة الصفر السياسي والعسكري، فتركيا تتحمل خسارة بعض الأراضي في إدلب من إجل الإبقاء على علاقتها مع روسيا، والأخيرة أيضا تتحمل بقاء بعض المناطق تحت سيطرة المعارضة السورية المدعومة من تركيا، لأجل السبب نفسه. وعليه، لن تنخدع أنقرة بالوعود والتصريحات الأمريكية، ومهما حاول جيمس جيفري دغدغة مشاعر الأتراك بالتحدث باللغة التركية، ووصفه الجنود الأتراك بالشهداء، فلن ينجح في دفع تركيا للوقوع في الفخ الأمريكي، وهو توتير العلاقة مع روسيا. هذه اللعبة يعيها صناع القرار في أنقرة جيدا، لكنها كانت مفيدة لتركيا، لأنها تخيف الروس الذين سارعوا عبر سفارتهم في أنقرة إلى القول إن التصريحات الأمريكية حيال تركيا كاذبة.
    الاستراتيجية التي يرسمها الرئيس أردوغان واضحة: تركيا قادرة ومستعدة لتحمل ثمن دورها التاريخي في سوريا، وعلى الروس أن يفهموا ذلك. التصعيد التركي بدا واضحا على الأرض، من خلال ارتفاع أعداد الجنود الأتراك في سوريا من ألف جندي إلى عشرة آلاف جندي، مع نحو ألفي مركبة عسكرية. وترافق التصعيد العسكري مع خطوط حمر وضعها أردوغان في وجه النظام السوري ومن ورائه الروس: ضبط حركة طيران مقاتلات النظام السوري في المحافظة، وأي اعتداء على الجيش التركي من قبل النظام السوري، سيرد عليه مباشرة في عموم الجغرافية السورية، بما يتجاوز منطقة اتفاق سوتشي في إدلب. ويمكن رؤية مدى جدية الموقف التركي من خلال عبارتين ذكرهما الرئيس أردوغان لأول مرة، «أي كفاح لا نقوم به اليوم داخل سوريا سنضطر للقيام به لاحقا في تركيا»، والثانية «إذا تركنا المبادرة للنظام السوري والأنظمة الداعمة له فلن ترتاح تركيا». يبدو أن الروس قد فهموا جدية الموقف التركي، فبعد المحادثة الهاتفية بين بوتين وأردوغان، أعلن الكرملين أن المطلوب هو تنفيذ اتفاق سوتشي، بمعنى أن روسيا لن تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الاتفاق، وقد تم التعبير عن هذا الموقف أيضا بإعلان وزارة الدفاع الروسية مساء الأربعاء الماضي، أن السيطرة على الطريق السريع دمشق ـ حلب M5 سمح بإنشاء المنطقة الآمنة المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية. نتيجة لذلك قال رئيس مكتب الاتصالات في الرئاسة التركية، فخر الدين ألتون: «الحرية والتحرير، نضال الشعب السوري هو جزء لا يتجزأ، البقاء على قيد الحياة، والأمن القومي لتركيا، لا يمكننا السماح للأراضي السورية بأن يسيطر عليها مجرمون وإرهابيون. من واجبنا محاربة هذه العناصر، سواء في حدودنا أو في منطقتنا.»

  • سورية..... مواجهة من نوعٍ آخر

    المركز السوري سيرز - د. سامر عبد الهادي علي

    13 حزيران 2020

     منذ تدخل روسيا العسكري في سورية نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 حتى اليوم كانت سورية ساحة اللعب الرئيسية للقيصر الروسي "فلاديمير بوتين"، سياسياً من خلال الإمساك بخيوط القرار السياسي للنظام السوري، والتفاوض بدلاً عنه في المحافل الإقليمية والدولية المختلفة، واتخاذ القرارات الداخلية والخارجية، وكذلك عسكرياً من خلال قيادة عمليات ميليشيات النظام ومرتزقته في المعارك ضد الشعب السوري وقواه الثورية. واستطاعت روسيا فرض إرادتها السياسية والعسكرية في الملف السوري إلى حدٍّ بعيد رغم مواجهتها لمعارضة تركيّة منعتها من الوصول لأهدافها بالسيطرة على ما تبقى من ريفي حماة وإدلب، وإصرار أمريكي على البقاء في شرق وشمال شرق سورية، حيث الموارد النفطية الرئيسية في البلاد، وخزان الزراعات الاستراتيجية فيها.

    ولم يدع قيصر روسيا محفلاً إلا وأظهر فيه عنجهيته السياسية والعسكرية، وتفوقه في سورية على بقية اللاعبين في هذه الساحة الدموية. إلا أنّ روسيا "الغبيّة تاريخياً" في دعم الطغاة والمستبدين لم تتعلم من دروس الماضي حيث سقط كل الطغاة الذين دعمتهم على شاكلة النظام السوري، وخسرت بسقوطهم سنوات من الدعم بأشكاله المختلفة، ولم تجنِ سوى الخسائر السياسية والعسكرية والاقتصادية، التي أدّت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990 انهياراً مدوّياً.

      واليوم.... وصلت روسيا في سورية إلى نهاية الطريق ذاته الذي سلكته سابقاً، فبالرغم من الدعم اللامحدود الذي قدّمته للنظام السوري لإعادة بسط سيطرته العسكرية على البلاد، وإعادة تعويمه سياسياً في الداخل والخارج إلا أنها فشلت في ذلك تماماً، فهي لم تستطع إعادة بسط سيطرة النظام على أهم مناطق سورية الاقتصادية والاستراتيجية من جهة، كما لم تستطع إعادة جزءاً من سمعته السياسية على المستوى الخارجي، وبقي منبوذاً عربياً وإقليمياً ودولياً.

     كانت روسيا تعتقد أنّ النظام السوري سيكون أكثر قوةً وشرعيةً فيما إذا تمكّن من السيطرة وإعادة التحكم بالبلاد أو بأجزاء واسعة منها، هذا الاعتقاد فشل هو الآخر بعد أن أصبحت المناطق الخاضعة له الأكثر فقراً ومعاناةً، لتزداد الأوضاع سوءاً مع الانهيار المتسارع للعملة السورية، رافقها غلاء غير مسبوق في المعيشة، ما جعل الحاضنة الشعبية له تعيش حالة غير مسبوقة من التذمر والغليان نتيجة فشل حكومة النظام في إيجاد حلول مرضية توقف التدهور الحاصل على الأصعدة كافة.

     بالرغم من كل ذلك..... إلا أنّ ما لم تتوقعه روسيا وقيصرها بوتين أن تكون الضربة الأقسى لأطماعه ومشروعه التوسعي في سورية من خلال قانون أمريكي "قانون قيصر" الذي يفرض عقوبات غير مسبوقة على النظام السوري برجالاته ومؤسساته وجميع داعميه "أفراد ومؤسسات ودول" في مقدمتها روسيا وإيران.

       نعم..... قانون قيصر الذي عملت عليه نخبة من السوريين في الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع مؤسسات أمريكية ذات صلة بعد أن قام "قيصر" السوري بتسليم الولايات المتحدة عشرات آلاف الصور لسوريين معتقلين قتلهم النظام بأبشع الطرق والوسائل التي لم يعرف التاريخ الحديث والمعاصر مثيلاً لها.

     هذا القانون هو التحرك السياسي والحقوقي والإنساني الأهم منذ عام 2011 حتى اليوم، بما يخص الملف السوري والصراع مع النظام وداعميه، وقد بدأت آثاره بالظهور سريعاً مع اقتراب موعد دخول حزمة العقوبات الأولى حيّز التنفيذ في 17 حزيران/ يونيو الجاري، فبدأ الصراع داخل الدائرة الضيقة للنظام من أجل كسب أكبر قدر ممكن من الأموال المنهوبة مع استشعار رجالات النظام لخطر قيصر من جهة، وإرضاءً لحلفاء جمعهم الهدف وفرّقتهم المصالح "روسيا وإيران".

     الخلاف الأهم ما ظهر للعلن مؤخراً بين أقوى شخصية اقتصادية ومالية في النظام "رامي مخلوف" مع رأس النظام "بشار الأسد وزوجته". هذا الخلاف انعكس على الحاضنة المؤيدة للنظام، حيث بدأ التصدع والخلاف بينها، بين مؤيد للأسد وآخر لمخلوف، وهو ما لم يحصل طوال تسعة أعوام من الثورة.

     نعم..... نحن اليوم أمام مواجهة من نوعٍ آخر بين قيصر روسيا الذي استشعر الخطر الحقيقي، وقيصر سورية الذي شكّل ضربة غير متوقعة لروسيا والنظام وجميع داعميه. مواجهة بدأتها روسيا بمقاربة جديدة في تعاملها مع الملف السوري، بحيث تسعى لتلافي السقوط غير المحسوب للنظام، وبالتالي سقوط جميع أحلامها ومطامعها ومصالحها في سورية وخارجها، وهي اليوم أمام خيارين، الأول: استمرار دعمها غير المجدي للنظام السوري المتهالك، ما يعني خسارة محتّمة لها ما بعد قيصر القانون. والثاني: أن تقود روسيا بنفسها وضمن تفاهمات إقليمية مع تركيا، ودولية مع الولايات المتحدة الأمريكية، عملية إنهاء حكم الأسد الهزيل، وقيادة مرحلة انتقالية يجري فيها تجميع حكومة ائتلافية ما، أو مجلس عسكري- مدني يوقف في النهاية تطبيق قانون قيصر وتبعاته على مصالحها في سورية، وهو الاحتمال الأقرب للواقع. لذلك يأتي تعيين سفير روسيا في سورية "ألكسندر يفيموف" ممثلاً رئاسياً لبوتين في سورية في 25 أيار/ مايو الماضي أولى الخطوات الروسية في هذا الطريق، ما يعني أنّ سورية "الأسد" أصبحت تحت الانتداب الروسي المباشر، والمفاوض على حاضر ومستقبل سورية.

     وبين قيصر روسيا وقيصر سورية "الأمريكي" تبقى سورية الدولة والوطن، ويبقى الشعب السوري بأطيافه كافة الخاسر الأول والأخير في جميع المواجهات السابقة، وهذه المواجهة اليوم.

  • عملية نبع السلام/ أهدافها ومآلاتها

    د. حسين إبراهيم قطريب – المركز السوري سيرز

    مسرح العملية وأهم أهدافها:                                                  

    أمر الرئيس أردوغان ببدء عملية نبع السلامفيمساء يوم الأربعاء الموافق 9/10/2019م، بعد استكمال كافة الاستعدادات العسكرية والإجراءات اللوجستية من قبل الجيشين التركي والوطني السوري، وتهيئة الأجواء الداخلية والدولية لشن هذه العملية العسكرية في منطقة شرق الفراتمن سورية.

    وأهم ما يلفت النظر من الناحية الدبلوماسية أنها بدأت بعد التفاهم مع الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتن وإقناعهما بالموافقة عليها من قبل الرئيس أردوغان، وهما من أهم اللاعبين المؤثرين على الساحة السورية، وتأكدت موافقتهما بتصريحات لهما، وبموقف دولتيهما في مجلس الأمن اللتين رفضتا إدانة العملية بموجب اقتراح تقدمت به خمس دول أوربية في اليوم الثاني لبدء العملية.

    ويشمل مسرح الأنشطة العسكرية لعملية نبع السلامكامل الشريط الحدودي لتركيا مع سورية في منطقة شرق الفرات بعمق حوالي (30) كم، وامتداد حوالي 460 كم من منطقة عين العرب في الغرب إلى منطقة المالكية في الشرق، مروراً بمنطقتي تل أبيض ورأس العين، وضمن هذا الامتداد نحو الشرق والعمق نحو الجنوب يقع معظم إقليم انتشار الأكراد في شمال شرق سورية، وأهم مناطقهم التي يشكلون فيها أغلبية سكانية من الغرب نحو الشرق هي: منطقة عين العرب، وناحيتا عمودا والدرباسية، ومنطقة القامشلي، ثم ناحيتا القحطانية والجوادية، ومنطقة المالكية.

    وتتركز المعارك الآن في المرحلة الأولى من العملية في شمال محافظة الرقة بمنطقتي تل أبيض ورأس العين، وهاتان المنطقتان تسكنهما أغلبية عربية ومكونات أخرى من التركمان وغيرهم، وتم تهجير معظم سكانهما بالقوة بعد السيطرة عليها من قبل عصابات(pkk & pyd) الإرهابية.

  • قراءة في الموقف التركي في إدلب

    محمد أديب عبد الغني* – تقدير موقف
    المركز السوري سيرز
    مقدمة
    أعلنت تركيا في 2020\3\1م عن انطلاق عملية "درع الربيع" في منطقة إدلب السورية بهدف استعادة المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري في الآونة الأخيرة، والتخفيف من حدة موجة اللجوء تجاه الحدود التركية التي تسببت بها هذه الحملة، وقد سبق إعلان انطلاق العملية ارتفاع حدة المواجهات بين الجيش التركي وقوات النظام، حيث سيطر الجيش الوطني السوري بدعم من أنقرة على مدينة سراقب الاستراتيجية وتمكن من قطع الطريقين الدوليينM4 وM5 تلى ذلك استهداف قوات النظام بتاريخ 27- فبراير- 2020 رتلاً من القوات التركية مما تسبب بمقتل عدد من الجنود الأتراك، والذي أدى بدوره إلى التسريع في بدأ العملية التركية.
    تتضارب الآراء حول تفسير هذه العملية بين مشكّك في مصداقيتها وبين من يراها خطوة متأخرة، فكيف يمكن تفسير السلوك التركي في إدلب وأسباب إعلان انطلاق العملية في هذا التوقيت وماهو المدى المحتمل لنطاق العملية؟
    أولاً: مراحل تصاعد الموقف التركي في إدلب
    بدأ النفوذ التركي في إدلب بالانحسار لصالح قوات النظام السوري مدعوماً بالقوات الروسية مع بدأ الحملة العسكرية التي تسببت بحصار نقطة المراقبة التركية في مدينة مورك بتاريخ 2019\8\20، تبعها حصار عدة نقاط تركية" الصرمان- تل الطوقان- العيس- سراقب- شير مغار" وظهرت تركيا عاجزة عن الحفاظ على مناطق خفض التصعيد بوصفها ضامن في اتفاقية استانا وسوتشي، ويمكن تقسم المواقف التركي من هذه الأحداث إلى مرحلتين أساسيتين
    1. مرحلة استخدام الأدوات الدبلوماسية: استخدمت تركيا هذه الأدوات بعد سيطرة النظام على منطقة ريف حماه وحصار نقطة المراقبة في مورك حيث عقدت تركيا مع روسيا عدة لقاءات بهدف تثبيت وقف إطلاق النار بين قوات المعارضة من جانب وقوات النظام السوري من جانب أخر نتج عنها الهدنة التي أعلنت عنها وزارة الدفاع التركية في 12 كانون الثاني (يناير) ،ولم تنجح هذه الهدنة في تحقيق أهدافها بسبب خرق قوات النظام المستمر لها، أصرت أنقرة على المحافظة على تواجد نقاطها على الرغم من حصار هذه النقاط وتعرضها للقصف عدة مرات، ويمكن تفسير سلوك تركيا في هذه المرحلة واقتصارها على الأدوات الدبلوماسية في رغبتها بالالتزام ببنود اتفاقية وقف التصعيد وتجنباً للتكلفة الباهظة التي يمكن أن تحدثها الأدوات العسكرية.

    2. مرحلة النزاع العسكري: يعتبر استخدام القوة العسكرية الأداة الأخيرة التي تلجأ إليها الدولة لتحقيق أهدافها وبعد استنفاذ استخدام الوسائل الدبلوماسية بسبب ارتفاع تكلفة الأداة العسكرية لتحقيق أي هدف تغييري. وتقسم هذه المرحلة إلى:
    أ‌- مرحلة مراكمة القوة العسكرية والتهديد باستخدامها: بدأت هذه المرحلة بعد سيطرة قوات النظام السوري على منطقة معرة النعمان أواخر شهر يناير من العام الحال حيث ظهر الموقف التركي في هذه المرحلة أكثر حدة، وتجلى ذلك بدفع عدد كبير من القوات العسكرية إلى داخل الأراضي السورية و إنشاء عدد جديد من النقاط العسكرية خارج اتفاقية خفض التصعيد*، ترافق ذلك من تصريحات تركية باستخدام القوة لإعادة النظام السوري إلى خطوط خفض التصعيد مع عقد لقاءات جديدة مع المسؤولين الروس لحثهم على وقف العمليات العسكرية ومع سيطرة قوات النظام السوري على أرياف حلف الجنوبية والغربية زادت تركيا من وتيرة إرسالها للأرتال العسكرية ونصب منظومة دفاع جوي للتشويش على طائرات النظام وتزويد قوات المعارضة بصواريخ دفاع جوي محمولة على الكتف ونشر عدد من القوات التركية داخل بعض المدن ووضع القوات في مواجهة قوات النظام السوري.

    ب‌- مرحلة استخدام القوة العسكرية: انتهجت أنقرة سياسة الرد بالمثل عند أي استهداف تتعرض له نقاط المراقبة التركية مطلع الشهر المنصرم حيث قصفت المدفعية التركية 46 هدف لقوات النظام السوري وقتلت 35 عنصر من قوات النظام رداً على استهداف نقطة المراقبة شرق إدلب ومقتل 4 جنود أتراك وإصابة تسعة أخرين ، تلى ذلك إسقاط عدد من طائرات النظام في إدلب وريف حلب الغربي ثم بدأت بدعم تركي عملية تحرير قرية النيرب ومدينة سراقب الاستراتيجية، وبعد مقتل 33 جندي من القوات التركية أعلنت تركيا عن انطلاق عملية " درع الربيع".
    ثانياً: التحديات التي تواجه عملية "درع الربيع"
    بالرغم من إعلان تركيا عن انطلاق العملية إلا أن هناك عدد من التحديات التي يمكن أن تواجها وذلك بسبب غموض موقف حلف شمال الأطلسي " الناتو" الذي اكتفى بتقديم الدعم الإعلامي للعملية تارةً والتصريح بإمكانية المساعدة بتقديم المعلومات الاستخباراتية تارةً أخرى ، مقابل موقف روسي أكثر حزماً في دعم النظام السوري.
    أعلنت تركيا عن هدف العملية المتمثل بتحقيق حالة الاستقرار في منطقة خفض التصعيد وإعادة قوات النظام إلى خلف خطوط نقاط المراقبة وحماية المدنيين في إدلب، يمكن لتركيا إيقاف العملية إذا ما استطاعت تحقيق هذه الأهداف من خلال الوسائل الدبلوماسية بالاتفاق مع الجانب الروسي بسبب ارتفاع تكلفة الوسائل العسكرية مقارنةً بالوسائل الدبلوماسية. يضاف إلى ذلك الأثر السلبي الكبير الذي يمكن أن يترتب على فشل العملية وامتداده إلى الدور التركي في الملف السوري إجمالاً.

    ثالثاُ: السيناريوهات المتوقعة لنطاق العملية
    1. استعادة كامل منطقة خفض التصعيد الرابعة في ظل الموقف الحالي للناتو: وهو أكثر السيناريوهات ترجيحاً ويمكن لهذا السيناريو أن يتحقق بفعل إصرار تركيا على تحقيق استعادة كاملة لمنطقة خفض التصعيد ويستند ذلك إلى التصريحات المتكررة للمسؤولين الأتراك وتلاحم الجبهة الداخلية لتركيا خلف هذا الموقف بعد مقتل 34جندي من الجيش التركي، وإمكانية حدوث أثر سلبي على الموقف الداخلي لحزب العدالة والتنمية في حال العجز عن تحقيق الهدف من العملية، أو بإمكانية التوصل لتفاهم تركي روسي يقضي بإنهاء وجود قوات النظام السوري في منطقة خفض التصعيد والحفاظ على المصالح الروسية مع تركيا والتي قد تتعدى تمسك موسكو بالوجود العسكري لقوات النظام داخل منطقة خفض التصعيد مع تخوف روسيا من خوضها حرب مباشرة مع تركيا في ظل الخسائر الفادحة لقوات النظام السوري.

    2. استعادة جزء من منطقة خفض التصعيد: قد يحدث هذا السيناريو إذا ما استمرت روسيا في تقديم الدعم لقوات النظام أو اشتراك قوات روسية بشكل مباشر في العمليات العسكرية وهذا ما قد يدفع تركيا للتوافق مع روسيا على حدود جديدة لمنطقة خفض التصعيد ويرتبط هذا السيناريو بالموقف المحدود للناتو ورغبة أنقرة بوضع حد للتصعيد العسكري مع موسكو، ويعزز هذا السيناريو مجريات العمليات الميدانية فإلى الآن لم تشهد المواجهات بين تركيا والنظام تصعيداً خارج حدود غرب الطريق الدولي M5.

    3. استعادة كامل منطقة خفض التصعيد الرابعة وبعض المناطق الأخرى: ويستند هذا السيناريو لما تروج له بعض المنصات الإعلامية عن رغبة تركيا في بسط سيطرتها على مدينة حلب استناداً لعوامل تاريخية وثقافية ومنطقة جبل التركمان في ريف اللاذقية استناداً لعوامل عرقية ويشترط تحقق هذا السيناريو دعم العمليات التركية من قبل الولايات المتحدة أو حلف الناتو رغبةً منهم بتقليص النفوذ الإيراني - خصوصاً بعد أن استهدفت القوات التركية مليشيات حزب الله في إدلب وضباط إيرانيين جنوب حلب مما يشير لإمكانية اشتراك أنقرة في أي عملية عسكرية ضد النفوذ الإيراني في سوريا - ويضاف إلى ذلك رغبة الولايات المتحدة في إعادة الروس لمسار جنيف للحل في سوريا.

  • مؤشرات التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق سيطرة المعارضة

    يرصد تقرير التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق سيطرة المعارضة، خلال فترتين زمنيتين (النصف الثاني من عام 2018 والنصف الاول من عام 2019 )، حركة المشاريع والاتفاقات المبرمة في قطاعات اقتصادية متنوعة، وقد أبرزت نتائج التقرير؛ هبوط المؤشر في الفترة الثانية من الدراسة مقارنة بالفترة الأولى جراء الحملة العسكرية على إدلب وتوقف معظم الأعمال فيها، في الوقت الذي برزت فيه المجالس كقوة إدارية فاعلة من ناحية إدارة مواردها والاستجابة لمتطلبات المرحلة. ودفع التقرير باتجاه استثمار حركة نشاطات التعافي وإبراز دور أكبر للجانب القانوني لضمان الحقوق، فضلا عن تعريف هوية المنطقة الزراعية والعمل على مأسسة القطاع العام والخاص.        

     

  • مؤشرات التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق سيطرة المعارضة خلال النصف الأول لعام 2020

    ملخص تنفيذي

    أظهرت البيانات أن عدد المشاريع التي تم تنفيذها في منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي وإدلب في الفترة الممتدة من 1 كانون الثاني حتى 30 حزيران 2020 نحو 457 مشروعاً. وحلّت القطاعات الخمسة التالية في المراتب الأولى بمؤشر التعافي المبكر: النزوح الداخلي (89 مشروعاً) وقطاع المياه (78مشروعاً) وقطاع التجارة (70 مشروعاً) وقطاع النقل والمواصلات (60 مشروعاً) والإسكان والتعمير (59) مشروعاً، فيما تذيّلت قطاعات الزراعة والكهرباء والخدمات الاجتماعية والتمويل والصناعة المراتب الأخيرة.

    • توزعت الأعمال في مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي بنسبة 59% (277 مشروعاً)، وإدلب وريفها بواقع 41% (191 مشروعاً) ويُعزى الارتفاع في تنفيذ مشاريع في إدلب عن الفترة السابقة (30%) إلى زخم المشاريع المنفذة لصالح النازحين داخلياً من ريف إدلب في المخيمات القديمة والمنشأة حديثاً عبر مشاريع المياه والكهرباء والبنية التحتية وكل ما يتعلق بترميم منازل النازحين لتحسين ظروف السكن.
    • تُظهر مقارنة البيانات بين النصف الأول من 2020 والنصف الثاني من 2019 انخفاض مؤشر التعافي المبكر في المنطقة جراء جملة من العوامل بينها الحملات العسكرية وفيروس كورونا وهبوط قيمة الليرة السورية إلى أدنى مستوياتها.
    • ارتفعت أعداد فرص العمل الموفّرة في المنطقة إلى 891 فرصة عمل عن 224 فرصة في النصف الثاني من 2019 معظمها في القطاع الطبي جراء انتشار فيروس كورونا وافتتاح مشافي ومراكز صحية أكثر.
    • تم توقيع 12 مذكرة تفاهم بين المجالس المحلية والمنظمات العاملة في المنطقة تنوعت بين تنفيذ مشاريع كهربائية ومشاريع في قطاع المياه والخدمات الاجتماعية.
    • اتخذت المجالس المحلية 85 قراراً وتعميماً وإعلاناً في كافة القطاعات الاقتصادية، وكان للإجراءات الصحية والوقائية من فيروس كورونا الحصة الأكبر، من قبيل تعليق النشاطات الاجتماعية والدوام في المدارس وإيقاف عمل البازارات الشعبية وسواها، كما اتخذت المجالس قراراً بإيقاف عمل كل المجمعات التربوية التابعة لنظام الأسد وإنهاء التعامل مع المدرسين في مناطق النظام، واستبدال الليرة السورية بالليرة التركية بعدما انخفضت قيمتها ولامس سعر صرفها أمام الدولار حاجز 3000 ليرة.
    • أبرز نقاط الضعف التي عانت منها المنطقة تمثلت في تبعية المنطقة للمنظمات والمانحين عبر قطاع النزوح الداخلي، ولا تزال المجالس المحلية تصدر قراراتها بشكل منفرد دون تنسيق مسبق وآلية موحدة فيما بينها، فضلاً أن قطاع الزراعة لا يزال يعاني من انخفاض في عدد المشاريع، وهشاشة كبيرة في قطاعي الصناعة والتمويل.
    • من بين أبرز نقاط القوة استمرار عملية تزويد المدن والبلدات بالكهرباء وإيصال المياه للمواطنين، وزيادة اعتماد المجالس المحلية والمنظمات على المناقصات والمزادات وهو ما ساهم في زيادة الأعمال في قطاع التجارة.
    • أوصى التقرير بجملة توصيات منها تشكيل هيئة استشارية من الخبراء في المنطقة، تجتمع بشكل دوري تُعنى مهامها في حل الأزمات الاقتصادية وتصميم برامج اقتصادية تُسهم في تذليل الصعوبات وركل النشاطات نحو مزيد من التقدم.