• الانتخابات الفلسطينية.... تحديات وفرص

    أحمد عطاونة

    يحتدم النقاش في الساحة الفلسطينية حول الانتخابات التشريعية والرئاسية، لا سيما بعد أن أعلنت كافة الفصائل الفلسطينية في غزة وفي مقدمتها حركة حماس الموافقة على عقد الانتخابات وفقا لرؤية الرئيس محمود عباس القائمة على إجرائها على أساس قانون التمثيل النسبي الكامل، الذي يعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة دائرة انتخابية واحدة، وكذلك عدم التزامن بين التشريعية والرئاسية بحيث يفصل بينهما ثلاثة أشهر أو أكثر. ومما يرفع من سقف التوقعات بإجراء هذه الانتخابات و يوحي بأن فرصة جدية تلوح في الأفق، كثرة الحديث عن ضغوط دولية، وبالذات أوروبية، تمارس على السلطة، في ظل فراغ دستوري نجم عن قرار السيد أبو مازن حل المجلس التشريعي، وعجز فصائلي عن الخروج من المأزق الوطني القائم، بالإضافة الى أن صحة الرئيس "الثمانيني"، الذي بات بيده كل السلطات والصلاحيات وهو رئيس كل المؤسسات السياسية، محل نقاش ما أن يخفت حتى يعود من جديد، واذا ما تزامن ذلك مع فشل رهانات مختلف الأطراف الفلسطينية على التغير في المنطقة العربية، سواء لصالح الربيع العربي أو الثورات المضادة، وبما يخدم صراعها البيني، فإن الأمل يزداد بجدية هذه الخطوة وبلوغها منتهاها.

    "فمن يشارك في الانتخابات يدرك أنه يجب أن يتخلى عن السلطة إذا ما قادت إرادة الناخبين الى ذلك، وإلا فلا مبرر للمشاركة فيها أو الدفع باتجاه عقدها"

    رغم ذلك، يثير كثيرون وهم محقون، الكثير من التساؤلات حول إمكانية إجراء الانتخابات، وكيف لها أن تتم في بيئة سياسية يسودها انعدام الثقة بين الأطراف والعجز عن تطبيق أي من التفاهمات التي وقعت بين الفصائل، وغياب سلطة القانون، وفقدان الحريات في ظل سيطرة وسطوة الأجهزة الأمنية، التي باتت الحاكم الفعلي للأراضي الفلسطينية والمتحكم في تفاصيل حياة الناس، وفي ظل الأزمات الداخلية التي تعاني منها الفصائل، لا سيما حركة فتح، التي يشكل تيار القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان أحد التحديات الرئيسة التي تواجهها، وقبل كل ذلك التحديات الناجمة عن الاحتلال وقدرته على التأثير بشكل فعال في الانتخابات وبالذات في الضفة الغربية وخاصة في مدينة القدس. وأخيرا مدى جدية الأطراف المختلفة في التنازل عما بين أيديها من سلطات إذا ما خسرت الانتخابات، أو عجزت عن تشكيل تحالفات تضمن بقاءها في السلطة، فمن يشارك في الانتخابات يدرك أنه يجب أن يتخلى عن السلطة إذا ما قادت إرادة الناخبين الى ذلك، وإلا فلا مبرر للمشاركة فيها أو الدفع باتجاه عقدها.

    النظر في هذه التخوفات والتساؤلات ينبغي أن يكون في سياق نظرة شاملة للمشهد الفلسطيني ومن كافة الزوايا، وبنظرة سريعة على الواقع السياسي الدولي والإقليمي، نجد أن موقع القضية الفلسطينية قد تراجع كثيرا، ولم تعد القضية الفلسطينية أولوية عند عدد كبير من القوى الدولية والإقليمية، وحتى العربية، فقد نتج عن موجة الربيع العربي، وموجة الردة عنها عبر الثورات المضادة، مجموعة من القضايا السياسية والوطنية والقومية، ولم تعد فلسطين قضية المنطقة الوحيدة، فلدينا القضية العراقية واليمينة والسورية والليبية، وهي قضايا شائكة ومعقدة تتداخل فيها الأدوار الدولية والإقليمية والدينية والسياسية والطائفية والقومية...الخ، مما يجعل التنبؤ بموعد انتهائها أمرا غاية في الصعوبة، خصوصا وأن هذه القضايا المتفجرة مركزها مجموعة من أهم الدول التي عرفت تاريخيا بدعمها للقضية الفلسطينية.

    يتزامن هذا التراجع في الموقع الدولي والإقليمي للقضية مع أزمة  غير مسبوقة في البرامج السياسية والوطنية وغياب للرؤية تعاني منها الفصائل والقوى الفلسطينية، ما جعل الفلسطينيين يعيشون متاهة لا يبدو لها مخرج في المدى المنظور، وقد قاد ذلك إلى حالة جمود سياسي ووطني لا تؤدي الا لمزيد من التدهور في الحالة الوطنية، وبدا الانقسام وكأنه قدر الفلسطينيين الذي لا يستطيعون الخلاص منه، وظهر الجميع عاجزا أمام التيارات المستفيدة منه، وباتت لقاءات المصالحة التي لا يترتب عليها أي تغيير إيجابي على الأرض محل نقد شديد، بل وتهكم في بعض الأحيان، من قبل غالبية الشعب الفلسطيني.

    "وفي ظل الانغلاق القائم وعجز آليات مختلفة عن التغيير في الوضع القائم والتخلص من الانقسام، قد تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية مدخلا ممكنا للتغير"

    هذا الفشل الوطني في الوصول إلى صيغ قابلة للتطبيق، وغياب الإرادة أو القدرة على تطبيق ما يتفق عليه من تفاهمات وطنية، أدى الى حالة ركود وطني قاتل، ففي مقابل العجز الفلسطيني عن الفعل، على أكثر من صعيد، يستمر الاحتلال في فرض الوقائع على الأرض، مستندا الى ضعفنا ودعم دولي منحاز يشجعه على الاستمرار في التغول على الحقوق الفلسطينية، فنقل السفارة الصهيونية الى القدس، والاعتراف بها عاصمة للكيان ،وضم الجولان السوري المحتل، والحديث عن ضم معظم أراضي الضفة الغربية، كل ذلك حدث في ظل عجز فلسطيني، لا بد من العمل على التحرر منه، والتغلب على العوامل التي أوصلتنا إليه، فالانتظار لا يخدم إلا الاحتلال. بينما التغير في المشهد السياسي الفلسطيني والبنية السياسية والمؤسساتية متطلب أساسي للتغلب على هذه الحالة من العجز، وفي ظل الانغلاق القائم وعجز آليات مختلفة عن التغيير في الوضع القائم والتخلص من الانقسام، قد تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية مدخلا ممكنا للتغير، عدا عن كونها مسارا طبيعيا وصحيا، وذلك للاعتبارات الآتية:

    أولا: الانتخابات حق أصيل للشعب الفلسطيني، وكما أن الشعب الفلسطيني، كان ولا زال، هو صمام الأمان في الحفاظ على القضية الوطنية وحامي ثوابتها ، فمن حقه أن يقول كلمته ويعبر عن إرادته تجاه الأزمة القائمة.

    ثانيا: عدم قدرة الفصائل الفلسطينية، لاعتبارات ذاتية وموضوعية، على التوافق والعمل ضمن المشترك الوطني الممكن، والاستمرار في حالة المناكفة غير المسؤولة وعلى حساب الوطن والمواطن، مما يؤكد ضرورة إعادة القرار الى صاحبه الشرعي وهو الشعب الفلسطيني.

    ثالثا: افتقار كل المؤسسات السياسية القائمة إلى الشرعية الشعبية، وبالتالي الدستورية، فقد انتهت فترة شرعيتها منذ سنوات، الأمر الذي يعني أن السلطات القائمة تتصرف وفق شرعية مدعاة، تجعلها ضعيفة أمام أي تحد جدي، فهي ضعيفة أمام المجتمع الدولي وأمام دول الإقليم وقبل ذلك أمام الشعب الفلسطيني.

    رابعا: فساد المؤسسات السياسية الحكومية والوطنية، فمؤسساتنا السياسية ليست فقط نموذجا للأنظمة الشمولية الفاسدة التي تغيب عنها التعددية والشفافية، بل هي أقرب إلى الدولة الفاشلة، حيث يتصرف كل حزب يسيطر على مؤسسة وفق هواه الحزبي وبما تمليه عليه مصالح حزبه، بعيدا عن المصالح الوطنية الكلية ودون اعتبار لعامة الناس ما يشعر قطاعات كبيرة من شعبنا بحالة اغتراب في بلدهم، ويزيد المشهد عبثا أن كل ذلك يتم في ظل الاحتلال وتحت سقفه.

    خامسا: ضعف النخبة السياسية وعجزها، وهذا أمر لا يحتاج لتفصيل لأن كل ما يمكن أن يقال في الحالة الفلسطينية مرتبط بهذه الفئة وأدائها.

    سادسا: ضعف الثقة بالأحزاب والنخب السياسية، وهو ما يظهره سلوك الناس في الميدان، بالإضافة لكثير من الدراسات واستطلاعات الرأي، وقد ترتب على ذلك، وعلى غيره من العوامل، ظهور مؤشرات على لامبالاة شعبية غير مسبوقة، حتى تجاه بعض القضايا ذات الحساسية الوطنية الكبيرة، كالشهداء والأسرى والاقدس والاستيطان وغيرها.

    بالرغم من كل ما سبق ذكره، يطرح الكثير من الكتاب والمثقفين والمتابعين للشأن الفلسطيني جملة من المحاذير والتحديات التي تجعلهم يتشككون في جدية وجدوى هذه الخطوة. ومن أهم هذه المحاذير مدى القدرة على إجرائها في مدينة القدس والآليات التي ستتم بها، وكذلك وجود المحكمة الدستورية، التي يعتبرها غالبية الفلسطينيون (مؤسسات وفصائل ومختصون) غير شرعية وغير قانونية، وتشكل أداة بيد الرئيس يمكن أن يستخدمها متى شاء وكيفما شاء، بالإضافة إلى عدم وجود ضمانات محلية أو دولية لاحترام نتائج الانتخابات فضلا عن ضمان نزاهتها وتوفير البيئة المناسبة لإجرائها بالذات الحرية في التجمع والتعبير عن الرأي وضرورة لجم الأجهزة الأمنية التي باتت تتدخل في كل تفاصيل حياة الناس.

    كل هذه التخوفات والتحديات الموضوعية، لا ينبغي أن تحول دون إجراء الانتخابات، لأن ما يترتب عليها من إشكاليات لا يمكن أن يقارن بمخاطر استمرار الوضع القائم، ولأن التغلب عليها والنضال من أجل تذليلها أمر ممكن، إذا وجدت الإرادة اللازمة، فعلى كل القوى والشخصيات التي تنوي خوض غمار هذه الانتخابات العمل متحدة لمواجهة هذه التحديات، وبالذات فيما يتعلق بالانتخابات في مدينة القدس، التي لا يمكن إجراء انتخابات بدونها، وفي ذات الوقت لا ينبغي التسليم بان قرارها بيد الاحتلال ولعل هذه فرصة لتحدي الاحتلال وكل إجراءاته الباطلة في المدينة. ومما يجعل النضال من أجل تجاوز هذه التحديات أمرا لا مفر منه، أنها ستبقى قائمة دائما ولا يعول على عامل الزمن في حلها، بل إنها تزداد صعوبة وخطرا كلما تأخر الوقت.

    أخيرا، فإن التوافق الوطني والعمل المشترك، هو الخيار الأنسب دوما وهو رغبة غالبية الشعب الفلسطيني، التي ظهرت في معظم استطلاعات الرأي، لكن الانتخابات التي تحمل في ثناياها بعض المخاطر تبقى أفضل بكثير من الواقع القائم الذي تخسر فيه القضية الوطنية وفصائل العمل الوطني كل يوم من رصيدها السياسي والمعنوي. وأعتقد أن أحدا لا يمكنه تقديم مخرج آمن تماما لأنهاء هذه الحالة السياسية المأساوية التي يعاني منها الفلسطينيين، فلا يوجد مخرج دون مخاطر وتحديات وهو ما يوجب على الفصائل أن تتهيأ للتعامل معها لا أن تستمر في الهروب إلى الامام.

     

  • مقال: حول مبادرة الفصائل الفلسطينية الثمانية لإنهاء الانقسام

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    أعلنت ثمانية فصائل فلسطينية في 19 أيلول/ سبتمبر 2019، عن مبادرة جديدة لإنهاء الانقسام، وتحديداً بين فتح وحماس. وتمثل هذه الفصائل مجمل الفصائل الفلسطينية الأساسية العاملة في الساحة الفلسطينية، من غير الفصيلين الرئيسيين. وهي فصائل منتمية إلى اتجاهات مختلفة، يسارية وقومية ووطنية وإسلامية، بما يؤكد أن ما يجمعها هو الهمُّ الفلسطيني، وتجاوز العوائق التي تمنع تقدم المشروع الوطني الفلسطيني.

    وهذه الفصائل هي: الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، وحزب الشعب، وحركة المبادرة الوطنية، والاتحاد الديمقراطي (فدا)، والجبهة الشعبية- القيادة العامة، والصاعقة. وجاءت مبادرتها تحت عنوان “رؤية وطنية لتحقيق الوحدة وإنهاء الانقسام”؛ وتتضمن جدولاً زمنياً لإنجاز الاتفاق، وهي ترى أن الوثيقة مؤكدة ومكملة للجهد المصري في هذا الإطار.

    وتتلخص المبادرة في أربعة بنود:

    الأول اعتبار كلّ الاتفاقات الموقعة منذ سنة 2005 حتى اليوم مرجعية لتنفيذ المصالحة، ويشير البند الثاني إلى عقد اجتماع لـ”لجنة تفعيل وتطوير منظمة التحرير” المسمّاة “الأمناء العامون” خلال تشرين الأول/ أكتوبر في القاهرة، بحضور عباس، على أن تشرف على تطبيق معظم إجراءات المصالحة. أما البند الثالث، فينص على اعتبار المدة من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى تموز/ يوليو 2020 “مرحلة انتقالية لتحقيق الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام، يتخلّلها وقفا لتصريحات الإعلامية التصعيدية، والتراجع عن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفلسطينية، ومسّت حياة المواطنين في غزة”. ويتعلق البند الرابع والأخير بالجدول الزمني للمرحلة الانتقالية، بما يشمل الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية قبيل نهاية سنة 2019، وصولاً إلى إجراء الانتخابات الشاملة (التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني) في منتصف 2020.

    وخلال بضعة أيام، أعلنت حماس موافقة غير مشروطة على مبادرة الفصائل الثمانية، ودونما إضافة أو تعديل، بعد أن قامت بدراستها في أطرها القيادية. وأكد رئيس الحركة إسماعيل هنية أن حماس وافقت على المبادرة “انطلاقاً من مسؤوليتها، وحرصها على تحقيق الوحدة الوطنية.. واستشعاراً للمخاطر والتحديات التي تحيط بالقضية وتهدّد ثوابتها”.

    أما حركة فتح، فقد تجاهل الرئيس عباس في خطابه في الأمم المتحدة المبادرة، ودعا إلى انتخابات عامة، وركز على إنفاذ اتفاق 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 بين فتح وحماس، دون غيره من اتفاقات المصالحة. أما عزام الأحمد، مسؤول ملف المصالحة في حركة فتح وعضو لجنتها المركزية، فاتهم الفصائل الفلسطينية بـ”تخريب” التحرك المصري، واتهمها بأنها تتلقى أوامرها من حماس، ووصف المبادرة بأنها غير مجدية. وقال محمود العالول، نائب رئيس حركة فتح، إنه لا جدوى لأي مبادرات جديدة لإنهاء الانقسام. وأضاف أن موقف اللجنة المركزية لفتح ثابت بأنه لا مجال لبحث مبادرة الفصائل الثمانية، لسببين؛ أولهما عدم إعطاء مزيد من الأمل للشعب الفلسطيني دون جدوى، والثاني إصرار فتح على تطبيق ما تم الاتفاق عليه في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. من جهة أخرى، اعتبر حسين الشيخ، عضو اللجنة المركزية لفتح، مبادرة الفصائل “مضيعة للوقت”. أما فايز أبو عيطة، أمين سر المجلس الثوري لفتح، فقال إنها “ورقة مجاملات فضفاضة وليست حاسمة”، وأنها لا تصلح مدخلاً لتحقيق المصالحة، ولم تطرح جديداً، ولم تحمّل أحد الأطراف (حماس) المسؤولية.

    * * *

    من خلال القراءة المتأنية للمبادرة ولموقف الفصائل الثمانية، وردود فعل فتح وحماس، يمكن أن نضع الملاحظات التالية:

    الملاحظة الأولى: المبادرة حظيت بشبه إجماع فلسطيني، بينما وجدت فتح نفسها منعزلة عن المجموع الوطني، بالرغم من أنها تتولى قيادة منظمة التحرير وقيادة السلطة الفلسطينية، أو ما يعرف بـ”الشرعية” الفلسطينية. وللأسف، فليس هذا غريباً على سلوك قيادة فتح في الآونة الأخيرة. فقد عقدت المجلس الوطني الفلسطيني في رام الله، في نيسان/ أبريل 2018، بعيداً عن التوافق الفلسطيني وبخلاف اتفاق بيروت الذي تبنته فتح نفسها مع باقي الفصائل في كانون الثاني/ يناير 2017، وعقدت اجتماعات المجلس المركزي للمنظمة حتى بمقاطعة الفصائل الأعضاء في منظمة التحرير، وتبنت حل المجلس التشريعي في كانون الأول/ ديسمبر 2018 بخلاف اتفاق المصالحة وبخلاف الإجماع الفلسطيني، وشكلت حكومة للسلطة بقيادتها، بالرغم من مقاطعة معظم الفصائل الفلسطينية الفاعلة وبخلاف اتفاق المصالحة. ويبدو أن السير عكس التيار العام أصبح ظاهرة من ظواهر سلوك فتح في الفترة الأخيرة.

    والسؤال: إذا كانت فتح تتجاهل حالة شبه الإجماع الفلسطيني، ولا تعير لها بالاً، فما هي “الشرعية” التي تستند إليها في قيادة المنظمة والسلطة، واحتكار القرار السياسي الفلسطيني، وفي التحدث باسم الشعب الفلسطيني؟!

    الملاحظة الثانية: ركزت قيادات فتح على إنفاذ الاتفاق المتعلق بإدارة غزة في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2017، كما ركزت على تفسيره بالشكل الذي يروق لها (سلطة واحدة، سلاح واحد، السيطرة على ما فوق الأرض وما تحت الأرض، وتطبيق معايير أوسلو واشتراطات الاحتلال المطبقة في الضفة على القطاع)، وكأنها تريد أن تكون الأداة التي تُكسر بها شوكة المقاومة بعد أن فشلت “إسرائيل” في ذلك طوال 12 عاماً وفي ثلاثة حروب مدمرة.

    وتعرف فتح أن مبادرة الفصائل الثمانية لم تتجاهل اتفاق تشرين الأول/ أكتوبر 2017، ولكنها وضعته في إطار فهم وإنفاذ الاتفاقات السابقة، وخصوصاً اتفاق المصالحة الأساسي المتفق عليه من الجميع في أيار/ مايو 2011، والذي غطى جميع القضايا ووضع آليات واضحة وخريطة طريق لتجاوز الانقسام. أما الاتفاقات التالية (الدوحة، الشاطئ، بيروت، القاهرة 2017..) فهي اتفاقات فرعية إجرائية وتحل بعض القضايا الجزئية، بينما يبقى اتفاق 2011 الاتفاق الشامل الوحيد الذي تصرّ فتح على تجاهله وتجاوزه.

    الملاحظة الثالثة: تحدث عباس، كما تحدثت قيادات فتح، عن إجراء انتخابات؛ غير أنه من خلال متابعة التصريحات يتضح أن المقصود هو انتخابات المجلس التشريعي للسلطة فقط. ومبادرة الفصائل الثمانية تتحدث عن الانتخابات أيضاً، ولكن وفق ما تمّ التوافق عليه في اتفاق المصالحة، بأنها انتخابات متزامنة رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني. بمعنى آخر، تريد فتح أن تفرض أجندة جديدة في إنفاذ اتفاق المصالحة قائمة على رعاية حساباتها، مع إيجاد البيئات المناسبة لكسب الجولة لصالحها. وبالتالي، سعت فتح لتأجيل الانتخابات الرئاسية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني (حبث مجال هيمنتها)؛ بينما تريد انتخابات للمجلس التشريعي التي تسيطر عليه حماس، والذي قامت فتح “الرئاسة الفلسطينية” بتعطيله منذ 2007. وهي انتخابات تريدها بعيداً عن اتفاق المصالحة 2011، وبعيداً عن خريطة الطريق التي اقترحتها الفصائل الثمانية، وبعد أن كانت قيادة فتح وراء قرار “المحكمة الدستورية” بإبطال المجلس التشريعي وتشكيل حكومة للسلطة بقيادة فتح (بخلاف مسار المصالحة وبخلاف التوافق الوطني)، وفي أجواء العقوبات على قطاع غزة، ومطاردة كوادر حماس والمقاومة في الضفة؛ مما أوجد بيئة غير صحية وغير شفافة لأي ممارسة “ديمقراطية” حقيقية.

    الملاحظة الرابعة: إذا كانت خريطة الطريق التي قدمتها الفصائل الثمانية، لتُنفذ على مدى تسعة أشهر فقط “مضيعة للوقت”، وعملية “تخريب”، و”غير مجدية”، و”بلا جدوى” حسب تصريحات قيادات فتح!! فهل كان أسلوب قيادة فتح طوال السنوات الثماني الماضية في إدارة ملف المصالحة أحسن استغلالاً للوقت، وذا جدوى؟! أم أنه أعادنا سنوات إلى الوراء؟! وهل وجدت فتح في أسلوب فرض الأمر الواقع، والاستقواء بوجودها على رأس السلطة والمنظمة، والاستقواء ببيئة عربية ودولية معادية لـ”الإسلام السياسي” ولخط المقاومة.. هل وجدت فيه أسلوباً أكثر فعالية، وأكثر حفاظاً على الوحدة الوطنية الفلسطينية؟ أم أنها لم تفعل شيئاً سوى تكريس الانقسام، وتكريس هيمنة فصيل فلسطيني في مواجهة التيار الفلسطيني العام؟

    الملاحظة الخامسة: لماذا لا تراجع فتح موقفها من المصالحة، خصوصاً وأنها ترى الساحة الفلسطينية تموج بالرفض للإجراءات والمواقف التي تتخذها؟

    هددت قيادة فتح بوقف العمل باتفاقات أوسلو ولكنها لم تفعل، وهددت بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال ولكنها لم تفعل، وأوقفت المفاوضات مع الاحتلال ولكنها الآن مستعدة للعودة لطاولة التفاوض حسب التصريحات المتداولة مؤخراً، ورفضت استلام أموال الضرائب التي يجبيها الاحتلال ولكنها تراجعت أيضاً..

    لماذا كل هذا التساهل مع الاحتلال؟ ولماذا في المقابل كل هذا الاصرار والتعنت في الملف الداخلي الفلسطيني،

    ألم يأن وقت المراجعة؟!