• الذكرى الـ 17 لاحتلال العراق وإرهاصاته على الأمن العربي

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

       كان يوم التاسع من أبريل/ نيسان من العام 2003 يومًا فارقًا في تاريخ العراق، عندما دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى العاصمة بغداد، وفككت الجيش وكل مقومات الدولة، وتركت البلاد تعيش فوضى عارمة وفسادا سياسيا وانهيارا اقتصاديا لم تشهده البلاد طوال تاريخها الحديث.

         تمر الذكرى السابعة عشر للاحتلال الأمريكي وبريطانيا وحلفائهما بالتعاون مع إيران لاحتلال العراق ، ويستذكر العراقيون هذا التاريخ كل عام بمرارة، لاسيما وأن أثار الغزو وتداعياته لاتزال قائمة بل وتتفاقم يومًا بعد يوم.

         ففي مثل هذا اليوم من عام 2003 أعلنت الولايات المتحدة سيطرتها على العاصمة بغداد وباقي المدن العراقية وانتشرت قواتها بشكل غير مسبوق على طول الأراضي العراقية ضاربة عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن والشرعية الدولية، وقامت بتسليم العراق لإيران على طبق من ذهب.

         وبعد مرور سبعة عشر سنة على الاحتلال الغاشم، لايزال العراق يعيش في ظلّ حكم الميليشيات والأحزاب التابعة لإيران، فضلا عن التدهور الاقتصادي والخروقات الأمنية، وغياب القوانين، والفساد المالي والإداري، والخلافات والتناحر السياسي للحصول على المناصب العليا في الدولة…

          لقد تسبّب الاحتلال بسقوط الكثير من الضحايا، والتي تقدّر بأكثر من مليون عراقي، مخلفا وراءه جيشا من الأرامل والفقراء والمشردين وعشرات الآلاف من المعتقلين والمغيبين، فضلا عن ملايين النازحين والمهجرين داخل العراق وخارجه.

          كما تسبب الاحتلال الأمريكي بدمار شامل في المنشآت الصناعية والعمرانية والبنية التحتية، وساهم في استشراء الفساد المالي والاداري الذي أخذ ينخر جميع مؤسسات الدولة، يرافقه تردٍّ في الخدمات مما انعكس سلبا على حياة المواطن الذي كان وما زال المتضرر الأكبر.

          وفي ذكرى الاحتلال، أكدّت اللجنة المنظمة لتظاهرات ثورة تشرين العراقية أن الـغـزو الأمـريـكي  الايراني أثبت غياب القانون الدولي وسيادة شريعة الغاب.

    ماذا حققت أمريكا في العراق؟

         في التاسع من نيسان (يوم احتلال بغداد)، سقطت الأمة العربية وانتهى ما يسمى (الوطن العربي)”،  ذلك اليوم يمثل “يوم انتقال العالم إلى مرحلة جديدة من الفوضى”. لم يسقط النظام الوطني فقط، بل سقطت أنظمة المنطقة عامة والعرب خاصة، فاحتلال العراق كان نقطة فاصلة في تاريخ المنطقة كلها، وتغيير النظام أدى إلى تغيير مفاهيم المجتمع، بعد محاولة “بلقنة العراق” وفق رؤيا تم إقرارها منذ عقود”.

        فأمريكيا كانت تدرك أن بقاء النظام الوطني -ما قبل 2003- يشكل خطرا حقيقيًا على الكيان الصهيوني، والأطراف الصديقة لأمريكا، وهو ما قاد لاحتلال العراق وإنهاء دوره وتأثيره الإقليمي ليصبح خارج التوازن الإقليمي على كل الأصعدة.

         إن العراق لم يتم احتلاله لتغيير نظام الحكم، بل احتل من أجل تدمير مجتمعه وبنيته ونهضته والأهم من ذلك تدمير الفكر الوطني فيه وقتل الانتماء للوطن عند العراقيين، ومن ثم تدمير قدراته العلمية والعسكرية، فما أشبه احتلال أمريكا للعراق باجتياح المغول للعراق سنة 658 ميلادية.

         وكان ردّ الشعب العراق هو انطلاق المقاومة العراقية بشراسة لتسجل في التاريخ الحديث أنها أسرع مقاومة للمحتل، بعد أن كذّب الشعب العراقي الأصيل ادعاءات الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، بأن جنود بلاده سيستقبلون بالورود.

          وبعد انهيار الجيش الأمريكي في الأنبار وبغداد وصلاح الدين والموصل ونينوى وكركوك وديالى أطلق عليها المحتل (مثلث الموت)، وتفكك على إثرها تحالف الاحتلال وانهارت أسطورة الجيش الأمريكي. ورغم الدمار الذي أحدثه في “العراق”، وما تسبب به من كوارث اقتصادية، إلا أنه فشل في تطويع الواقع السياسي لإرادته، وإقامة نظام يُنفذ أجندته، وهو ما دفعهم لتأسيس عملية سياسية تحت الحماية الأمريكية في استخدام أحزاب ومليشيات مأجورة للقضاء على المقاومة العرقية.

          وبقيت قوتان تتحكمان في المشهد العراقي؛ المحتلون ومن معهم من الأدوات السياسية من جهة، وإيران وعملاؤها ومليشياتها من جهة أخرى.

    إيران ودورها في العراق

          بعد الانسحاب الأمريكي من العراق وإطلاق يد إيران في السيطرة السياسية والعسكرية عليه، انطلقت إيران من العراق، لتعيث في الأرض فسادا في كلّ من (سوريا، ولبنان، واليمن) لتجعل دول مجلس التعاون الخليجي في مأزق حقيقي.

          لقد أمسى الشعب العراقي ضحية الانهيار المستمر في مؤسسات الدولة بسبب السياسات الحكومية الفاشلة، فانهيار القطاع الصحي أمام جائحة كورونا وانتهاك السيادة العراقية وتحكم الميليشيات الموالية لإيران بالقرار السياسي والاقتصادي والأمني وممارستها الإجرام والتهجير والتغيير الديمغرافي لصالح إيران في المنطقة يُظهر حجم النفوذ الإيراني والفساد المستشري في العراق؛ وهو ما دفع الشعب العراقي للخروج بتظاهرات كبيرة منذ ستة أشهر للمطالبة بإسقاط العملية السياسية المُتهالكة وبناء عملية سياسية وطنية راشدة لإعادة السيادة للعراق.

    الدور الإيراني في المجال العربي

         لا شك أن الدور الإيراني الأبرز في المجال العربي قبل الغزو الأمريكي للعراق كان يمكن ملاحظته في سورية وكان محدودا. وبالرغم من ذلك لم يكن النفوذ الإيراني في سوريّا بالقوة التي وصلت إليه بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، وفتحه البلاد على مصرعيها أمام الوجود الإيراني فأصبحت إيران تتدخل في كل مفاصل الدولة، وخاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، إذ باتت سوريا تشهد نشاطا إيرانيا غير مسبوق في جميع المحافظات السورية، وسرعان ما انتقلت إلى التدخل المباشر في القرار السياسي الداخلي والخارجي.

          لقد ازداد التدخل الإيراني في لبنان بعد بسط نفوذه على العراق بشكل واضح، مستغلاً بشكل ذكي، المشاعر الشعبية العربية الملتهبة ضدّ الاحتلال الأمريكي من جهة، وضدّ العدو الإسرائيلي من جهة أخرى في تلك المرحلة، الأمر الذي خدم إيران و ساهم في إبراز “حزب الله”  وزيادة شعبيته بين الشعوب العربية، بوصفه “قوّة مقاومة” آنذاك، وبقيت هذه الصورة دون أن يتم اكتشاف حقيقتها إلا مع بداية الثورة السورية.

          أما على الصعيد اليمني فقد زاد الوضع تعقيداً، واستثمرت إيران الحراك الشعبي لدعم جماعة الحوثي، واستطاعت تزويدهم  بالأسلحة والخبراء والأموال، وبدأت شوكتهم تزداد بالتحالف مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، للإسهام في زعزعة أمن الخليج  واستقراره عن طريق استهداف أكبر وأقوى دولة في الخليج. الأمر الذي دفع التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية للتدخل العسكري المباشر، لإجهاض المشروع الإيراني، رغم مضي خمسة سنوات لم يتمكن التحالف من تحيد هذا التمرد أو القضاء عليه.

          أما دول مجلس التعاون الخليجي، فقد توسع التغلغل الإيراني  في معظمها بعد بسط سيطرتم على العراق وزاد التغول الإيراني حتى أصبح يهدد الأنظمة من خلال الأذرع النائمة داخل هذه الدول، حيث توسع ديمغرافيا واقتصاديا من خلال توظيف رؤوس الأموال في قسم من هذه الدول، وأصبح يتحكم بها اقتصاديا فضلا عن تحريكه لخلاياه النائمة متى شاء لتهديد هذه الأنظمة ولزعزعة الاستقرار.

          لا شك أن الدور العربي الذي كان ضعيفا في العراق، وعكس عدم وجود أمن قومي عربي حقيقي، استمر بنفس الوتيرة في سورية، إذ اقتصر الدور العربي فيها على تقديم مساعدات غذائية ومساعدات عسكرية في سنوات الثورة الأولى، دون أي تواجد فعلي حقيقي عربي على الأرض، وإذا ما استثنينا التدخل العربي المباشر في اليمن، وبعض محاولات التأثير في سياق الأحداث في ليبيا، فأننا سنجد بأن الدول العربية نأت بنفسها عن إحداث فارقة في مجريات ما يحدث، وتركت المجال مفتوحا أمام الجيوش والقوات الأجنبية (روسيا، أمريكا، تركيا، فرنسا، إيران …).

    وبعد مرور 17 عام على الاحتلالين الامريكي الايراني يتضح المشهد من خلال :

    1 . لقد فشل الأميركيون في العراق لأن صانعي السياسة الكبار لم يكونوا مدركين للكثير من الحقائق عن طبيعة الشعب العراقي.

    2 . كان المبرر التي قدمته أمريكيا الاحتلال العراق، أن يكون الشرق الأوسط أكثر إنسانية وليبرالية، لذلك بدأت الإطاحة بالنظام العراقي لتحقيق هدفها، ولكن الحقيقة أظهرت تحول منطقة الشرق الأوسط الى مسرح للصراع المستمر.

    3 . تصاعد أحداث العنف في العراق، كانت نتيجة لتوافق سياسات الاحتلال الأمريكي والإيراني، في ترسيخ العنف الطائفي في العراق، كما كان له أثره في عدم الاستقرار السياسي، وظهور بعض الجماعات المتطرفة التي استغلت أحداث الطائفية في خدمة مصالحها. ومن أهم مؤشرات العنف الطائفي في العراق زيادة عدد القتلى على أساس الهوية، تقتل المواطنين على أساس انتمائهم العرقي والمذهبي، وتفجير دور العبادة للطوائف المختلفة.

    4 . ظاهرة التهجير القسري، التي تخدم في النهاية مخطط تقسيم العراق إلى كيانات عرقية وإثنية، وهذه الظاهرة التي تعني إجبار أتباع طائفة معينة إلى ترك المناطق التي بها أغلبية من أتباع الطائفة الأخرى حتى لا تتعرض للقتل، ونتيجة للعنف الطائفي الذي اشتعل بعد تفجيرات سامراء، فر آلاف من مناطقهم إلى مناطق أخرى، مما أحدث تغيّر ديمغرافي في العراق لصالح مشروع التقسيم.

         بدأت أمريكا تدرك خطورة النفوذ الإيراني، وعزمت على تقليصه وبالتحديد في العراق، للحد الذي تعجز فيه إيران عن الانطلاق إقليميا، بعد تقاطع المصالح، لكن الموضوع أصبح معقدا بعد أن بسطت إيران نفوذها على كل مفاصل الدولة بفضل أمريكا من خلال الدستور الطائفي وإطلاق يدها في البلاد.

          إن انعكاسات الغزو الأمريكي ستستمر طويلا، رغم أن العراقيون يحاولون ترميم ما تركه الاحتلال الأمريكي لكنهم ضائعون بسبب المحاصصة العرقية والطائفية، وولاء السطلة الحاكمة لإيران، التي تأسست بعد الاحتلال والتي ما يزالون يدفعون ثمنها وسوف تستمر إلى فترة طويلة لأن المحاصصة تكرست.

           المستفيد الأكبر وعلى المدى الاستراتيجي هو الكيان الصهيوني. كان غزو العراق  وعدم استقراره، بمثابة الزلزال الاستراتيجي الثاني في التوازن الاستراتيجي في المنطقة. وكانت كامب ديفيد هي الزلزال الأول، وبفعل ما جرى أصبحت المنطقة العربية والشرق الأوسط جميعها تعيش عدم استقرار ومهددة  بالتغيّر.

         رغم مرور ما يقارب عقدين من الزمان، مازال الدم العراقي ينزف وأوصال البلاد مقطعة بين الإرهاب والفساد والطائفية والأطماع الدولية والإقليمية…

          في الذكرى الـ17 للغزو الأمريكي ندعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى التحلي بالواجب القانوني والأخلاقي بالانسحاب المسؤول من العراق وتسليمه لشعبه وإنهاء الدور الإيراني الذي دخل بموافقتهم ودعمهم.

          وليعلموا جيدا أن الظالمين لن يعيشوا طويلا فوق أرض العراق، والظالمون بكل جنسياتهم سوف يرحلون، فليقرؤوا التاريخ جيدا، فقد مرّ على العراق إمبراطوريات كثيرة أين هي اليوم؟ كلها اندثرت ورحلت إلى غير رجعة، وبقي العراق صامدا شامخا حرا … وسيبقى العراق العربي كما كان حاملًا لواء الحرية، مدافعا عن حقه وعن أمته العربية، محافظا على هويته حتى يكتب له النصر بإذن الله.

  • المشهد العراقي بعد اغتيال قاسم سليماني

    د.ناجي خليفة الدهان – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

         المشهد العراقي، كما لا يخفى كان مسرحًا للعملية الأمريكية ضدّ إيران، فإنه من المتوقع أن يستمر كساحة للحرب بالوكالة بين (طهران، وواشنطن) في الوقت الذي يزداد فيه احتمال نشوب عمليات أخرى وضربات جديدة، وخاصة في ظلّ تمركز العديد من القوات الأمريكية هنالك، واستمرارها بالوعيد والتهديد لإيران وقوات الحشد الشعبيّ.

         لقد أكدت وزارة الدفاع الأمريكية، فجر يوم جمعة 3/1/2020، مقتل قائد فيلق القدس الإيراني “قاسم سليماني” في بغداد، بناء على توجيهات من الرئيس دونالد ترامب مباشرة، في مؤشر لتغيير قواعد اللعبة، بحسب “مارك أسبر” وزير الدفاع.

        ويعتبر اغتيال سليماني تغييراً ملحوظا في قواعد الاشتباك، حيث اتّخذت الولايات المتّحدة قرارها السياسي بقتل سليماني، وهو القيادي الإيراني الأبرز، ومدير عمليات إيران خارج حدودها.

           جاء اغتياله بعد تصعيد حادّ بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران والفصائل المدعومة من قِبلها في العراق من جهة أخرى، في أعقاب مقتل مقاول عسكري أميركي في هجوم صاروخي على قاعدة أميركية في كركوك / العراق، فحمَّلت الولايات المتحدة إيران المسؤولية عنه، وردَّت الولايات المتحدة بهجوم جويّ على فصائل حزب الله العراقي المدعومة من إيران، وهاجم أنصار الحزب السفارة الأمريكية في بغداد، على إثره.

         ولكن لابد من سائل يسأل لماذا هذا الإعلام والضجة والصراخ على مقتل قاسم سليماني؟ فكم يقتل أبرياء في ساحات الاعتصام السلمية ولم نسمع صوتا واحدا؟!! ولم يحضر رئيس الوزراء إلى مجلس النواب بالرغم من طلبه لأكثر من مرة؟ فهل هانت دماء العراقيين لهذا الحدّ فليس لها حرمة ولا قيمة؟!!!

    من هو قاسم سليماني؟

         أحيط هذا الرجل بهالة كبيرة من خلال الدعم والصلاحيات والثقة العالية التي منحه إياها ما يسمى ب (ولي الفقيه)، حيث أصبح العقل المدبر للعمليات الإرهابية التي ينفذها فليق القدس، وهو المسؤول الأول عن تفتيت المنطقة برمتها! يستمد أهميته في الساحة الإيرانية من خلال قدرته على خلق تحالفات جديدة وغريبة لخدمة أهدافه، فهو بارع في التمدّد وحياكة المؤامرات، من خلال استخدام الرشاوي المالية لاستمالة السياسيين واستئجار المرتزقة وتخويف الخصوم أو المترددين في تنفيذ رغباته، وإنشاء المليشيات وتسليحها، وتنفيذ الاغتيالات…

           تبنّى سليماني الطائفية في العراق ووظف الخلافات الشيعية السنية في صالح السياسة الإيرانية، كما استثمر الانشقاقات لإحكام السيطرة على الجماعات المختلفة، وقد نجح بالفعل في تحقيق تلك الاستراتيجية بل وفي تطويرها من خلال حصوله على الدعم المالي الغير محدود من الدوائر الإيرانية، لدرجة تصفه تقارير إعلامية غربية بأنه الحاكم الفعلي للعراق، فقد أرسل في مطلع عام 2008 رسالة إلى الجنرال “ديفيد بترايوس” عندما كان قائد القوات الأمريكية في العراق على هاتفه الشخصي يقول فيها: ( أنا قاسم سليماني أتحكم في السياسة الإيرانية المتعلقة بالعراق، ولبنان، وغزّة، وأفغانستان، والسفير الإيراني لدى بغداد، وأنا عنصر من فليق القدس، والسفير الذي سيحل محله عنصر آخر).

          شكّل وصول محمود أحمدي نجاد علامة فارقة في نفوذ سليماني الذي سعى منذ تسليمه قيادة فيلق القدس إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح إيران، من خلال منحه الصلاحيات الواسعة ومنها التفرّد في الملف العراقي، وأصبحت وزارة الأمن تابعة له وفق أوامر المرشد دون أن تكون منافسة للحرس لثوري.

          تمكّن سليماني من إنقاذ نظام الرئيس السوري بشار أسد من الانهيار، من خلال وضع استراتيجية التصدّي للانتفاضة المسلحة التي اندلعت عام 2011، واستطاع خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من قلب موازين المعركة ودحر المعارضة السورية، إذ ساعد دعمه العسكري، مضافًا إلى الدعم الجوي الروسي على قلب دفة القتال ضدّ القوى الثورية لصالح الحكومة السورية، وسمح لها في استعادة العديد من المدن والبلدات الرئيسة، ووفقا للمعلومات فهو يدير المعركة من مبنى محصّن في سوريا، وقد أعدّ سلسلة من القادة متعددي الجنسيات الذين يديرون الحرب في الميدان، بينهم قادة سوريون، وقادة من حزب الله، وقادة من المليشيات العراقية…

         ولم تقتصر عملياته على الشرق الأوسط، فبين عامي 2012 -2013 قام بأكثر من ثلاثين عملية نوعية في كل من نيو دلهي، لاجوس، وتمكّن من نقل الرجال والمواد المتفجرة عبر تايلاند، ونيروبي، وساعد القاعدة على الدخول إلى إيران والخروج منها، واستثمارها لأهدافه!

          يتمتع سليماني بنفوذ واسع داخل إيران ويعد ثاني شخصية بعد المرشد وله دور كبير في قمع كل التظاهرات داخل إيران، وكل ذلك كان تحت سمع أمريكا وبصرها.

         وقد بلغت عملية التلميع الممنهج نوعًا من الاستعراض المسرحي للتفوق الإيراني، فطهران تصدّره كبطل عسكري ورجل يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المستقبل. ويُعد قاسم سليماني أقوى شخصية عسكرية في إيران وهو العقل الاستراتيجي الذي يقف وراء طموحات إيران في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، ووزير خارجيتها الحقيقي في شؤون الحرب والسلم.

    فلماذا قتل سليماني؟

          رصدت الولايات المتحدة تحركات قاسم سليماني في كلٍّ من: (العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن) منذ عام 2007، وقد اتهمته بأنه كان وراء الهجمات التي تعرضت لها القوات الأمريكية بعد احتلال العراق، وصنفت: (قوات الحرس الثوري الإيراني، وفيلق القدس كمنظمات إرهابية في ابريل عام 2019، وقالت إدارة ترامب: إن فيلق القدس قدّم التمويل والتدريب والأسلحة والمعدات إلى جماعات في الشرق الأوسط تُصنفها الولايات المتحدة بأنها منظمات إرهابية أجنبية، بما في ذلك حزب الله اللبناني، وجماعة الجهاد الإسلامي الفلسطينية في غزة، وفي بيان للبنتاغون يقول: إن سليماني ” دبّر بفعالية خططا لمهاجمة الدبلوماسيين الأمريكيين في العراق وفي جميع أنحاء المنطقة ” وأضاف البيان أن “الجنرال سليماني، وفيلق القدس مسؤولان عن مقتل المئات من أفراد القوات الأمريكية وقوات التحالف وجرح الألاف منهم”

           وما تسرّب من معلومات عن السيناريو الذي كان يقوده سليماني قبل أسبوعين، حيث اتفق الإيرانيون على سيناريو جديد في العراق للقيام في انقلاب عسكري والسيطرة على الحكومة بعد أن عجزت الأحزاب الحاكمة عن فرض مرشحيها لرئاسة الوزراء، وأن سليماني ذهب لدمشق لإبلاغ بشار أسد بالخطة وبعدها غادر لبغداد لإكمال الترتيبات التالية:

    • اغتيال المسؤولين العراقيين الرافضين لترشّح الأحزاب الحاكمة إلى رئاسة الوزراء.
    • إعلان حالة الطوارئ في البلاد.
    • قمع الانتفاضات الشعبية وإحكام القبضة الأمنية والسياسية على البلاد.
    • اختطاف رهائن من السفارة الأمريكية والتعامل مع الأمريكان بسيناريو سنة ١٩٧٩ وهذا الأمر يساهم بخسارة فادحة للرئيس ترامب في الانتخابات القادمة ويحقّق انتصارات للديمقراطيين، وأن يتم إطلاق سراحهم بعد سقوط ترامب كرسالة تعاون بين الإيرانيين والديمقراطيين كما حدث مع الرئيس ريغان واتفاقية الجزائر عام ٨١ 19م. وصلت إلى ترامب له هذه المعلومة قبل أسبوع حين تمّت محاصرة السفارة الأمريكية في بغداد.

         إن توقيت عملية الاستهداف كان ذكياً جداً، جاء في “الوقت الذي يثور فيه العراقيون في جنوب العراق ووسطها على التدخل الإيراني، فضلا عن استمرار المظاهرات في لبنان بشكل أو بآخر ضدّ سطوة حزب الله المؤتمِر بأوامر إيران، وكذلك بعد عدّة مظاهرات جرت في 29 محافظة إيرانية (مؤخراً)، وهي قابلة للاشتعال في أي وقت لاحق”.

         إن عملية مقتل سليماني تأتي تنفيذاً لتهديد الرئيس الأميركي الذي وجّه لإيران تصريحاته الأخيرة بأنها ستدفع ثمناً باهظاً نتيجة اقتحام السفارة الأمريكية، وشدّد في تصريحه بأن كلامه تهديد وليس تحذير، واعتبر وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، أنه من غير الصحيح أنّ قائد فيلق القدس قاسم سليماني كان في بغداد بزيارة دبلوماسية، مؤكداً أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب اتخذ قرارًا بقتل سليماني بناء على معلومات استخبارية. تهدف الضربة الأمريكية لردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية.

    البرلمان العراق وقرار إخراج القوات الأجنبية:

          على إثر ذلك تحرّكت الأحزاب الموالية لإيران وطلبت عقد اجتماع مجلس النواب العراقي وناقشت يوم الأحد الموافق 5/1/2020م مشروع خروج القوات الأمريكية من العراق باعتبار أنها تجاوزت السيادة الوطنية العراقية بشكل فجّ في محطات عدّة وأصبحت قوة احتلال تمارس ما تمارسه دون العودة للحكومة العراقية. ويشير البعض إلى أن هذا المشروع ربما كان السبب في تعجيل هذه العملية التي ربما تعيد رسم خريطة الوجود العسكري الأمريكي في البلاد. واقر مجلس النواب بحضور رئيس الوزراء السابق؛ إخراج القوات الأجنبية من العراق، حضر الاجتماع نواب الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران فقط ولم يحضر أحد من نواب السنة أو الأكراد. فرغم إصدار البرلمان العراقي قراراً يطالب الحكومة بسحب القوات الأمريكية من العراق، إلا أن اللافت في البرلمان أنه لم يصدر قانونياً ملزماً بهذا الشأن بل كان مجرد قرار غير ملزم عكس طبيعة القانون.

          وردّت الولايات المتحدة الأميركية، على قرار البرلمان بإلزام الحكومة إخراج القوات الأجنبية من البلاد، حيث هدّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب باحتمال فرض عقوبات على العراق تفوق تلك المفروضة على إيران، وهو ما أكّدته تقارير صحافية أميركية، وهذا ما أكده مسؤولون في البيت الأبيض حيث قالوا: إنهم أعدّوا قائمة للعقوبات المحتملة على العراق، وهذه العقوبات ستكون مؤذية بشكل كبير للعراق الذي يمرّ بظروف استثنائية”. حيث يمر بوضع هوا الأسوأ منذ زمن الحصار في التسعينيات، فإنّ الشعب العراقي يُعرّض صدره للرصاص، ويموت من أجل لقمة العيش، فعلينا أن نتصوّر المأساة التي ستحلّ بالعراقيين إذا فُرضت عليهم عقوبات أخرى وهم يمرّون بهذه الظروف الصعبة.

          أريد بهذا القرار أن  تستفرد إيران بالعراق من خلال هذه التعابير الفضاضة، والمقصود هنا في القوات الأجنبية هي القوات الأمريكية بالتحديد لأن هذه العبارة لا تعني التواجد الإيراني، فالقوات الأمريكية متواجدة وفق اتفاقيات تحدّد أسلوب العمل ومدّة البقاء وشروط إنهائه وأماكن تواجدها معلوم، أمّا التواجد الإيراني فهو موجود في كل مفاصل الدولة العراقية من خلال الأحزاب الموالية لإيران، ومن خلال المليشيات المسيطرة على الجانب الأمني ودون أي اتفاق أو ضوابط، فالمطوب هو إخراج التواجد الإيراني أولا، والذي لا يمكن إخراجه إلا بمساعدة دولية، وبعد ذلك يتم التفكير في إخراج الأمريكيين، أو تقليص نفوذهم وفق بنود الاتفاق، وإلا كيف يمكن إخراج القوات الأمريكية التي تحقّق نوعًا من الموازنة ! لأن خروج أمريكا يعني ترك العراق لإيران.

          والسؤال الأهم للبرلمان أليس دخول قاسم سليماني وخروجه وقتما يشاء وكيفما يشاء إلى إيران، وسوريا، ولبنان، وبدون تأشيرة خرقا للسيادة؟ وأين مجلس النواب من اختراق السيادة العراقية؟ فإيران تطلق 22 صاروخا على أرض العراق أليس هذا خرقا للسيادة؟ أليس هذا إعلان حرب على العراق فلماذا لم يجتمع البرلمان؟

    الردّ الإيراني:

            لا تجرؤ إيران على ضرب القواعد الأمريكية في الكويت، وقطر، والإمارات، وعمان، والسعودية، وأفغانستان، وباكستان، وتركيا، وجميع هذه الدول لها حدود مشتركة معها لكنها تضربها في العراق فقط لكثرة الذيول فيه، وحكومته عميلة ذليلة، ونقلت “اندبندنت العربية”، ومصادر دبلوماسية عراقية، أن الأيام الماضية التي أعقبت تنفيذ الولايات المتحدة هجوماً بالطيران المسير، أسفر عن مقتل قائد فيلق القدس في “الحرس الثوري” الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس “الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، شهدت حراكاً دبلوماسياً متسارعاً في المنطقة، شارك فيه العراق، أسفر عن توافق بين واشنطن وطهران بشأن الردّ، ويتضمن التوافق تنفيذ إيران هجوماً صاروخياً محدوداً على عدد من المواقع التي تضمّ قوات أميركية داخل العراق، بما يضمن عدم سقوط قتلى من جيش الولايات المتحدة، وهذا ما حدث بالفعل، وفقاً للمعلومات الأولية، كبالون إعلامي لإعادة ماء الوجه لإيران ولإيهام الشعب الإيراني بردّ مزلزل، إن هذا ما اتفقت عليه كافة الأطراف بشأن الضربة الصاروخية تجاوزا للازمة…

           وهكذا تمخضت كل التهديدات المرعبة عن زوبعة في فنجان. وهذ ما توقعناه في مقالنا السابق: (ثورة الكرامة تنتصر رغم صراع أمريكا وإيران على أرضها)

           لم يفاجئ القصف الإيراني القاعدتين التي تستخدمهما القوات الأمريكية في العراق فبعد التصعيد الكلامي الذي تبادلته واشنطن وطهران عقب مقتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني في غارة جوية أمريكية في بغداد. وتبدو الضربات الجوية الإيرانية على قاعدتي عين الأسد الجوية، ومدينة أربيل من النظرة الإيرانية كانتقام لمقتل قائد الحرس الثوري قاسم سليماني. ومباشرة بعد القصف الإيراني للقاعدتين في العراق بدأت الحرب الإعلامية بين الولايات المتحدة وإيران فيما تؤكد واشنطن أن القصف لم يخلف ضحايا بشرية.

          فتصريحات معظم المسؤولين الإيرانيين بعد القصف هي الأخرى تدفع للحديث عن ضربة رمزية بهدف حفظ ماء الوجه داخليًا وعلى مستوى المنطقة، حيث أشار وزير الخارجية جواد ظريف في تصريحاته أن هذا القصف يأتي في إطار إجراءات متكافئة للدفاع عن النفس بموجب المادة: 51 من ميثاق الأمم المتحدة، مشيرًا إلى أن بلاده لا تسعى إلى التصعيد أو الحرب. كما أعلن المتحدث باسم الحكومة الإيرانية أن إيران لا تسعى للحرب مع الولايات المتحدة. إلى جانب هذا، بقاء الصمت الذي تلتزم به واشنطن بعد القصف الإيراني، حيث اكتفى ترامب بكلمة واحدة على تويتر “كل شيء على ما يرام”. وثمة معطيات أخرى تشير إلى أنّ القصف الإيراني رمزيا، منها:

    1. القواعد العسكرية المستهدفة في العراق:

    تعدّ قاعدة عين الأسد الجوية ثاني أكبر القواعد الجوية بالعراق والتي تستخدمها القوات الأمريكية. ومنذ الهجوم الذي استهدف السفارة الأمريكية في بغداد ومقتل القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني الجمعة، حول الجيش الأمريكي في العراق كل قواته إلى قاعدة عين الأسد، وشدّد الإجراءات الأمنية حول المنشأة العسكرية، ما يجعل القاعدة محصنة بشكل كبير، ولذلك اختيرت لتوجيه الضربة لعدم وقوع خسائر.

    1. 2. صمت واشنطن:

        أكد المسؤولون الأمريكيون أن القصف الإيراني للقاعدتين العسكريتين الأمريكيتين في العراق لم يسبب خسائر بشرية لأن الصواريخ البالستية سقطت في محيط القواعد وفي مناطق غير مأهولة من قاعدة عين الأسد، وغياب الردّ المباشر من الرئيس الأمريكي المعروف بتهوره في مثل هذه المواقف خاصة، وأنه هدّد بالردّ السريع على أي استهداف للمصالح الأمريكيين في المنطقة من طرف إيران.

    1. 3. الحرب الإعلامية:

        مباشرة بعد بدء القصف الإيراني للأهداف الأمريكية، انتهجت طهران سياسة إعلامية دعائية كبيرة، حيث تمّ وصف هذه العملية بالثأر الذي وعدت به إيران من الولايات الأمريكي لمقتل قاسم سليماني. فالإعلام الرسمي الإيراني بث صور القصف ووزعه على كافة وسائل الإعلام العالمية، كما سارعت وسائل الإعلام الإيرانية إلى الحديث عن وقوع عدد كبير من القتلى بهدف حفظ ماء الوجه، في الجانب الأمريكي وهو الأمر الذي نفاه الأمريكيون.

    1. 4. تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين

      :

        سارع المسؤولون الإيرانيون بعد القصف مباشر لجملة من التصريحات تراوحت ما بين النبرة الحادّة داخليا والتطمين على المستوى الدولي، وقال وزير الخارجة ظريف: إن “رد طهران على اغتيال الجنرال سليماني انتهى، نحن لا نسعى للتصعيد أو الحرب، لكننا سندافع عن أنفسنا ضدّ أي عدوان.

    1. 5. أثبت الخبراء من خلال الحطام أن الصواريخ برؤوس فارغة لا يوجد فيها رئس حربي أي (بدون مواد متجرة).

    فما هي تبعات مقتل سليماني؟

    1. كان التصور العام أن إيران قويّة داخل العراق بوجود سليماني، ونائبه أبو مهدي المهندس، الشخصية التي أصبحت تأمر وتنهى، أما بعد مقتلهما فقد اهتزت تلك الصورة، وأظهرت ضعف إيران ذات المخالب المتوزعة على أكثر من بلد، حيث دفعت الثمن غاليا مقابل الأحجار التي رمتها على السفارة الأميركية.

     2.من ناحية أخرى فإن الدعم الإيراني للميليشيات في سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان ستشهد انحسارا خلال الأيام المقبلة… وسوف تحاول إيران إعادة تنظيم نفسها من جديد بعد سليماني الذي كان المدبر الأساسي لجميع أنشطة الميليشيات الموالية لإيران في المنطقة”.

    1. إن مقتل سليماني قد يحرّر بشار الأسد أكثر من ذي قبل، فسليماني كان الرجل المتابع للملف السوري منذ 9 سنوات وكان يشكّل ضغطاً على القرار السوري، وبعد مقتله سيتحرر بشار أسد من سطوته وتحكّمه”.
    2. الجغرافية العراقية لم تعد تحتمل الأمريكان والإيرانيين كلاهما، ولا بد من خروج أحدهما، ويبدو أن سليماني كان يخطّط من خلال أذرعه لإجبار أمريكا على الانسحاب من العراق… فإيران بدأت تخسر العراق وإن هي ردت رداً حقيقياً على مقتل سليماني فهذا يعني إعطاء ذريعة لأمريكا باستهداف الأراضي الإيرانية بعمليات عسكرية، وهناك بنك أهداف موجود لدى واشنطن، وهذا قد يعطي أيضا ذريعة للشعب الإيراني للثورة ضد نظامه”.
    3. لا ردّ حقيقي من قبل إيران، إلا أنه لم يستبعد حدوث عمليات “عشوائية وغير مخطط لها” من فصائل الحشد الشعبي العراقي “وهذا لا يمكن التكهن به”، وأن الأمريكيين حريصون جداً على حفظ التوازنات في العراق، وسوريا، وعدم الإخلال بها وعدم الاحتكاك مع الروس، وإعطائهم مبرر للتدخل بالملف العراقي، واللبناني”.
    4. وفي إطار متصل فإن العملية تلك ربما تقضي على ما تبقى من أمل في إحياء الاتفاق النووي الذي انسحبت منه أمريكا منفردة عام 2018، فالاتفاق الذي كان ميتًا سريريًا بعد انسحاب واشنطن، في ظل مساعٍ أوروبية لبث الروح فيه من جديد، بات اليوم بعد التصعيد الأخير ميتًا بصورة شبه رسمية، فقد طالب الرئيس الامريكي الدول بالانسحاب من الاتفاق، وسط احتمالات للتوصّل إلى اتفاق جديد وهذا ما تطلبه أمريكا.

    هل ستغادر القوات الأمريكية؟

         احتلت الولايات المتحدة الأمريكية القواعد العراقية بعد احتلال العراق عام 2003، وقامت بتطويرها فيما يتناسب مع قواتها، وأصبح عدد القواعد المشغولة 12 قاعدة موزعة بشكل دقيق بما يؤمن إحكام السيطرة على كل العراق، وتعتبر العراق مركز الشرق الأوسط الذي ينبغي السيطرة عليه لأحكام السيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية، ولذلك فإن القوات الأميركية تعتزم إنشاء مطار دولي عملاق بمواصفات عالمية، لطائرات “بي 52” العملاقة، في قاعدة عين الأسد الجوية بناحية البغدادي، في قضاء هيت غربي محافظة الأنبار وفي حال تمّ إنشاء هذا المطار، فإنه سيكون “من أهم المطارات في العالم”، كونه مخصّص لـطائرات “بي 52″، كالمطار الموجود في بريطانيا.

             ترامب أبلغ الصحفيين على متن الطائرة الرئاسية: «لدينا قاعدة جوية هناك باهظة التكلفة بشكل استثنائي. لقد احتاجت مليارات الدولارات لبنائها منذ فترة طويلة قبل مجيئي. لن نغادر إلا إذا دفعوا لنا تكلفتها».

            اعتبرت السفارة الأمريكية في بغداد يوم الجمعة 10/1/2020 أن الوجود العسكري لبلاده في العراق هو لموصلة القتال ضدّ تنظيم داعش، وأعلنت أمريكا بأنها لا نفكر في الانسحاب من العراق، ولن تناقش هذا الموضوع!!!

    الاحتمالات المستقبلية:

            مع كل ما ذكر آنفا فلا تزال إيران تواجه الاحتمالات الكارثية فما لحق بها أمر شديد الوطأة أيّا كانت المقاييس، لذا فإن تجاوز الأزمة بالتهدئة أو المقايضة أمر أقرب إلى التحقّق فيما يبقى أمر الردّ على العدوان كابوسا مخيفا فعواقبه ستجعل إيران اليوم شيئًا من الأمس البعيد… واغتيال سليماني رسالة أمريكية قد وصلت إلى إيران،  وفهمت بأن ترامب يريدّ التفاوض، وليس من الحكمة النفخ في كير الحرب، وليس من الحكمة المسارعة في الاصطفاف فيها، وهم منذ أربعين عاما متفقون على تدمير دولنا العربية، ومحو هويتنا، واستنزاف طاقاتنا وثرواتنا، ومنذ عشرين عاما ذهبوا معًا بعراقنا ودمروا كل شيء ، وقبل سبعة أعوام دمروا سوريا، واليمن …

         لقد أعرب دونالد ترامب عن هذا التخادم في قوله: “تدمير داعش الذي هو عدو طبيعي لإيران يصبّ في مصلحتنا، ويجب أن نعمل سويًا على هذا الأمر وغيره من الأمور المشتركة”.” أَدعوا قادة إيران إلى التعاون معنا ضدّ داعش”.

          فكلّ ما حدث لا يعدو أن يكون سوى تحذير أمريكي لإيران كي لا تخرج عن النص فواشنطن أرادت تنبيهها إلى ضرورة البقاء داخله، وفي هذا السياق يفهم مقتل سليماني. وهذه هي اللعبة القذرة بين إيران وأمريكا والمتضرر الأكبر منها، هو العراق.

         أقول سوف تقلّم أمريكا أذرع إيران ومعهم مليشيات العراق وتغدر بهم لأنهم خونه ومن يخن بلده يسهل عليه خيانة الآخرين. وستجلس أمريكا وإيران للتفاوض من جديد حول:

    1. الملف النووي بما لا يهدّد أمن إسرائيل
    2. تقاسم كعكة النفوذ في المنطقة.

        واستمرار تظاهرات ثورة الكرامة بهذه الصورة المدهشة، وراء مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، ستقولون كيف؟

        أقول إن تلك التظاهرات كانت أحد أهم أسباب تحرّك قاسم سليماني بكتائب حزب الله العراق لضرب القاعدة الأميركية، ثم الهجوم الأميركي ومقتل قياديين من الكتائب، ثم ما حصل ضدّ السفارة الأميركية بعد اجتياح المنطقة الخضراء، وبأمر بطبيعة الحال من قاسم سليماني مباشرة، وبالفعل تمّت التغطية تمامًا على التظاهرات خلال الأيام الماضية.

       عاش العراق موحدا حرًا مستقلًا، وأسأل الله الرحمة لكل شهداء ثورة الكرامة شهداء ثورة العراق، والشفاء التام لجرحى الكرامة، ونسأل الله العودة الكريمة لكل المغيبين قسرًا في سجون الميليشيات إلى أهلهم وذويهم.

  • ثورة العراق تنتصر رغم المكر الإيراني والصمت العربي

    د. ناجي خليفه الدهان-مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

           منظر رهيب تقشعر منه أبدان العصابات الحاكمة وهم يشاهدون المظاهرات المليونية في ساحة العز والكرامة، ساحة التحرير وقد امتلأت بالأحرار الذين يهتفون: (منصورة يا بغداد). وبات يمكننا القول: إن الحكومة الفاسدة والميليشيات المجرمة قد سقطوا جميعًا بشكل فعلي. ولا نحتاج سوى الإعلان عن حكومة إنقاذ وطني على يد الأحرار.

           ويمكننا القول: مبروك للشعب العراقي الثائر الذي تحمّل الظلم طويلًا وتجرّع الويلات من الخونة الذين باعوا ضمائرهم وشرفهم لإيران والأجنبي...

           فهذا الرفض الشعبي لكلّ الأحزاب الإرهابية فضلا عن العصابة الحاكمة التي مازالت تقتل بالشعب حتى وصل عدد الشهداء إلى أكثر من ٨٠٠ شهيدًا وأكثر من ١9٠٠٠ جريحًا أغلبهم في حالة خطره، فضلًا عن مئات المخطوفين الذين يُعاملون بطريقة وحشية يندى لها جبين الإنسانية.

           إن قطرة دم من عراقي واحد هي أغلى من إيران كلها ومن أذنابها، وإن الانتفاضة المباركة التي استمرّت أكثر من أربعين يومًا قد ميزّت الصفوف إلى فريقين؛ فريق يمتلك (المال والسلطة والسلاح والمكر والخداع...) لكنه عار من الوطنية والانتماء للعراق، وفريق ثان: لا يمتلك سوى الإرادة الوطنية في التحرر من الظلم والقهر والحرمان...

           يتحدث القتلة والفاسدون في مؤتمراتهم ومن خلال وسائل الإعلام عن إجراء انتخابات مبكّرة وتشكيل حكومة جديدة واختيار البديل المناسب، وهذا يعني بقائهم في السلطة! وبقاء هؤلاء القتلة يعني بقاء المحاصصة الطائفية، وبقاء الفساد مستشريًا في مفاصل الدولة، وبقاء التمييز العنصري والطائفي، وبقاء الفقر والتهميش والاقصاء وكبت الحريات، وبقاء ألوف الأبرياء في السجون...

         والثورة ما جاءت إلا للقضاء على كل هذه الممارسات الجائرة والعناوين الباطلة، فإجراء انتخابات أو تشكيل حكومة في هذه المرحلة ستكون في صالحهم وستشكّل على مقاسات تلك الأحزاب الطائفية العميلة وهذا يعني أنّ كل شيء منذ الاحتلال عام 2003 وحتى يومنا هذا سيبقى على وضعه، وبالتالي ستستمر المأساة والمهزلة والمعاناة، ويستمر التجهيل والاستخفاف بحقوق الشعب المشروعة. إن أهداف الثورة واضحة كالشمس ولا محيد منها، وفي مقدمتها طرد كافّة الأحزاب الطائفية التي قادت البلاد والعباد إلى الدمار والخراب والفتن...

       فالاحتلال الأمريكي هو من سلّم العراق لإيران وفتح الأبواب مشرعة لها وللصوص ومبدّدي المال العام، ما شجع الذين كانوا يتحينون الفرص للانقضاض على تلك الأموال حيث وفرّ لهم نظام المحاصصة الطائفية الحماية اللازمة. إن فشل الحكومات التي أنتجها الاحتلال وإصرارها على المشروع الطائفي والتقسيمي أضعف العراق وأهدر ثروته مما أدى إلى هذا الاصطفاف الوطني المتسامي فوق الطائفية والعرقية.

           إن الإصرار على استخدام القوة وفتح النار على المتظاهرين يعكس هلع السلطة السياسية وخوفها الشديد بعد فشل حكوماتها المتعاقبة في تلبية حاجات العراقيين من أمن واستقرار وحفاظ على أموالهم التي نهبت.

           منذ انطلاق الاحتجاجات في الأول مِن تشرين الثاني الماضي وحتى الآن، والقتل مستمر وكأن ساحات الاحتجاج أرض المعارك الكبرى، لكنها معركة غير متكافئة، إنها مبارزة المسلّح مع الأعزل!!!

       إن ما يعانيه العراق من ضائقة مالية، وعجز في الميزانية حيث عجزه عن سداد ديونه التي قاربت 145 مليار دولار وبالتالي توقفت مشاريع البناء والإعمار نتيجة حتميه لضياع تلك الاموال التي كان من المفترض أن تحمي العراق من أي أزمة طارئه!!!

           هناك محاولات من إيران وأذنابهم للالتفاف على جهود الشباب المنتفضين من خلال إسقاط حكومة عادل عبد المهدي مقابل قيامهم بتشكيل حكومة تضم الثلة المجرمة نفسها، بحيث يتم التضحية بعادل عبد المهدي ليكون كبش فداءٍ، وتأتي ببديل من أعضاء نادي المحاصصة، وبالتالي سيكون الحلُّ كالمستجير من الرمضاء بالنار!

         لقد جربت إيران عن طريق أذنابها اختراق الثورة في محاولات كثيرة، ولكن يقظة الشباب الثائر أفشلت كل تلك المحاولات. ومن هذه المحاولات:

         1. حاول التيار الصدري دخول التظاهرة رغم الرفض الشعبي ليعتلي أكتاف الشعب ويسقط التظاهرات، وإذا جوبه بالرفض الشعبي سيغير الخطة للإطاحة بالحكومة وتسلم رئاسة الوزراء وتمييع كافة مطالب الشعب لتبقى مخططات إيران مستمرة! ولكن يقظة الشباب الثائر أفشلت هذا المخطط الماكر.

         2. واستخدموا الطرف الثالث الذي يقتل المتظاهرين السلميين باستخدام قنابل الغاز والقنص والرصاص الحي وهم المليشيات الولائية (الخرساني والنجباء وكتائب حزب الله العراقي) التي تتبع نظام ولاية المرشد الإيراني وتلتزم بأوامر قاسم سليماني قائد فيلق القدس فقنابل الغاز القاتلة إيرانية الصنع. بل إن عادل عبد المهدي، ونجاح الشمري وباقي أعضاء حكومته مجرد بيادق وصناعة إيرانية ليس لهم لاحول ولا قوة!

           3. أرسلوا مندسين يستخدمون السلاح الأبيض لطعن المتظاهرين من الخلف، لكن تم كشف نواياهم وجوبهوا بالصمود والإصرار على استمرا الثورة.

           4. وأخيرااستخدموا مسلحين ملثمين يستقلون سيارات مدنية رباعية الدفع، قد فتحوا النار بشكل عشوائي من مسافات قريبة على المحتجين، الجمعة 6/11، لتخيم حالة من الهلع على أجواء المتظاهرين في ساحة الخلاني، القريبة من جسر السنك.وارتفعت حصيلة ضحايا احتجاجات الجمعة إلى 25 قتيلا و130 مصابا، وفق ما ذكرت مصادر عراقية.

           لقد جربوا كل هذه الأعمال الإجرامية ضد الشباب الأعزل الذي يطالب في إعادة السيادة للعراق والكرامة للمواطن العراقي... لكن كيدهم لم يثني الشباب الثائر عن مطالبه بل زاده إصرارًا!!

           فانتقلت إيران إلى محاولة الالتفاف من خلال استخدام أذنابها في البرلمان عن طريق التشريعات القانونية لاحتواء الثورة في تعديل بعض القوانين والتشريعات الترقيعية ظنًا منها أنها ستنطلي على الثوار!!! تحاول إيران استغلال تعديل الدستور، لصالحهاولتعزيز نفوذها. فدستور العراق وثيقة مزورة فهو مليء بالألغام والمطبات، ومراجعة الدستور العراقيمن أجل طمأنة المحتجين الغاضبين مطبّ كبير تريده إيران كي تضعف سيادة العراق.وهناك شك في رغبة النخبة العسكرية الإيرانية -التي ترى العراق مجرد جزء من مشروع جيوسياسي- في استغلال تعديل القانون الأساسي العراقي.

         تجدر الإشارة إلى أن المطلب الأساسي للمتظاهرين ليس هو الإصلاح الدستوري، إنما الغاء العملية السياسية برمتها لعدم شرعيتها.

         وفعلا فقد باشرت أذرع إيران في البرلمان في إصدار بعض التشريعات حيث أصدر البرلمان العراقي، خلال جلسته التي عقدت الإثنين 28 أكتوبر 2019، قرارات جديدة وصفت بـ "غير المسبوقة"، وأنها ما كانت لتتم لولا ضغط التظاهرات على الحكومة والبرلمان، ومختلف الكتل السياسية في البلاد، وتهدف في مجملها إلى تهدئة الاحتجاجات التي تصاعدت بشكل خطير منذ انطلاق ثورة تشرين.

         ومن أهم هذه القرارات المضي بإجراءات تعديل الدستور، وحلّ مجالس المحافظات، وإلغاء الامتيازات المالية للرئاسات الثلاث وكبار مسؤولي الدولة، بمن فيهم النواب في البرلمان والوزراء ووكلاؤهم والمدراء العامون ورؤساء الهيئات. وأخيرا قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وقانون الانتخابات الجديد المزمع إصداره في الأسبوع القادم.

         والسؤل الذي يطرح نفسه أين كانت الحكومات المتعاقبة خلال 16 عاما منذ الاحتلال البغيض إلى اليوم لتصدر عشرات القرارات خلال أيام لإرضاء الثوار؟

         إلى الشباب الذين اتخذوا ساحة التحرير وساحات المحافظات مكاناً ليعبروا فيه عن رأيهم، إلى المحرومين والمعذبين، إلى كل من أنهكه الجوع والحرمان والحاجة، إلى كل المهمشين؛ (لا تتراجعوا).

           نعم؛ للأحزاب الحاكمة سطوة، وللفساد عند أصحابه نشوة، لكن كونوا على يقظة وحذر لا تغرنكم بعض العمائم التي نزلت إلى الساحة، لا تنخدعوا ولا تنجروا وراء شعارات رنانة بل انظروا إليها بعين الحذر.لا تحاوروا الحكومة فهي غير شرعية كونها شاركت في قتل المتظاهرين وخطفهم...

    ولا تحاوروا البرلمان الذي ساند الحكومة وخدع الشعب بقرارات لا تطبق وليس لها سند قانوني.

           لا تحاوروا رئاسة الجمهورية لأنها ساندت الحكومة والبرلمان وكان كلامها انشائيا للتسويق الإعلامي وتسويف مطالب المتظاهرين.

           المطلوب لإنقاذ العراق وإعادة سيادته وكرامته؛ إلغاء العملية السياسية بالكامل، وطرد الوجود الإيراني و طرد عملائه من كل أرض العراق، فالعلاج الناجع للداء المستفحل ليس في توفير الأمصال واللقاحات، وإنما في ردم المستنقع الحاضن للجراثيم: ردم مستنقع المحاصصة، وإقامة حكومة إنقاذ وطنية مؤقتة تمهيدا لإجراء انتخابات نزيهة بإشراف دولي، وإعادة كتابة الدستور الذي يحفظ للعراق سيادته وكرامته، وفتح ملفات الفساد والسرقات الخرافية، وعدم السماح للمشبوهين بمغادرة العراق بغية محاكمتهم لإيقاع العقاب اللائق بجرائمهم واستعادة ما سرقوه...

         هذا ما يجري على أرض العراق من تأمر على الشعب والوطن، أمام أنظار كل العالم ولكن عتبي على الدول العربية، التي باعت العراق بل ساهمت في احتلاله، وكأنهم لم يكتووا بحقد إيران!

         ويبقى السؤال المحير: لماذا تقف الدول العربية صامتة إزاء ما يجري في العراق؟ لماذا لا تقف صراحة وعلنا في وجه كل هذا الإرهاب الإيراني المباشر وما تخطط له من جرائم؟ لماذا لا تنصر الشعب العراقي وتدعم انتفاضته الوطنية العربية؟

           هل تنتظر الدول العربية حتى تنفذ إيران مخططها الإجرامي فعلا وتذبح شعب العراق، ثم تكتفي بالإدانة بعد ذلك؟ الجواب متروك للإيام وسيجب عنه شباب العرق قريبا ان شاء الله، وما النصر الا صبر ساعة.

    د . ناجي خليفه الدهان: دكتوراه علوم سياسية / علاقات دولية، باحث في الشؤون السياسية والاستراتيجية.

  • مقال: الولايات المتحدة: من حدود سايكس بيكو إلى جدران الدم (العراق نموذجاً)… د.محسن صالح

    بقلم: د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.

    استنتاجات خاطئة:

    الذين يرون أن الولايات المتحدة تنسحب تدريجياً من المنطقة (خصوصاً المشرق العربي) مخطئون. والذين يسوقون باراك أوباما وسياسته في المنطقة كـ”بطة عرجاء“ يجانبهم الصواب. والذين يصفون السياسة الأمريكية في المنطقة بالضعف والترهل، يبدو أنهم استعجلوا في استنتاجاتهم غير الصحيحة.

    ما تقوم به الولايات المتحدة في المنطقة لا يعبِّر بالضرورة عن فشل أو عجز أو ارتباك؛ وإن قراءة متأنية للسياسة الأمريكية وعملية صناعة القرار فيها… تشير إلى أن المصالح العليا لم تختلف… وتوجيه مسار الأحداث الكلية بما يخدم السياسة الأمريكية لم يختلف… وأن محصلة تدخّل القوى الأخرى (بمن فيها الروس)… لا تبعد في النهاية عن الصبِّ في ”الطاحونة الأمريكية“!!

    كل ما فعله أوباما هو أنه غيَّر أسلوب التعامل الأمريكي مع المنطقة من أسلوب التدخل الغليظ الدموي المباشر والمكلِّف إلى تحقيق المصالح نفسها من خلال أدوات القوة الناعمة… وبتكاليف أقل… وربما بنتائج أفضل… وهو ما حاول تنفيذه من خلال ”الإدارة الذكية للنزاع أو للصراع“ أو بالإنجليزية Smart Management of Crisis.

    والملاحظة الثانية أن بعض الذين يتهمون أمريكا بالضعف والتردد يحاكمونها على أساس أنها القوة العظمى التي من واجبها أن تفرض الأمن والاستقرار ”في مناطق نفوذها” التقليدية. ولكن، مَنْ قال إن أمريكا في هذه المرحلة معنية بتحقيق الاستقرار، وفي المشرق العربي، وخصوصاً في البيئة الاستراتيجية المحيطة بفلسطين المحتلة أو الكيان الصهيوني؟!… (العراق، وسورية، ومصر…). وإذا كانت أمريكا تريد تحقيق شكل من أشكال الاستقرار، فليس بالضرورة ما تريده هو استقرار يخدم تطلعات أهل المنطقة وشعوبها في الحرية والنهضة والتنمية؛ وإنما تريد استقراراً مبنياً على خدمة مصالحها، حتى لو كان قائماً على معادلات هشَّة طائفية وعرقية، أو أنظمة قمعية، أو أنظمة تابعة تدور في الفلك الأمريكي الغربي.

    هذا المقال يركز فقط على العراق نموذجاً (ويتبعه مقال ثانٍ حول السياسة الأمريكية في سورية)، ويحاول أن يحدد حقيقة المنظور الأمريكي وممارساته تجاهها… وهو يرى أن أمريكا جاءت بعد نحو مائة عام على سايكس بيكو لتختط حدوداً ليست على الخرائط، وإنما حدوداً ترتفع فيها جدران الكراهية والدم، في مأساة وملهاة يشارك أبناء المنطقة أنفسهم في صناعتها!!

    المصالح القومية الأمريكية:

    تركز الاستراتيجية الأمريكية الدولية على المحافظة على الهيمنة الأمريكية على العالم، والبقاء كقوة عظمى وحيدة لأطول فترة ممكنة (عسكرياً، واقتصادياً، وعلمياً وتكنولوجياً…)؛ وإعادة تشكيل النظام الدولي وفقاً للمصالح الأمريكية. وهي بشكل عام استراتيجية تتميز ببراجماتية ومرونة عالية، وقدرة كبيرة على التكيف.

    وضمن هذه الاستراتيجية، وبعيداً عن الاستغراق في تصنيفات ومدارس السياسة الخارجية الأمريكية (انعزالية، وليبرالية، ومحافظة… بدرجاتها وتداخلاتها المختلفة)، فإن ثمة خطان رئيسيان يتنازعان هذه السياسة. الأول يعطي وزناً أكبر للأمن والقوة، ويعّد نفسه ممثلاً لقيم الحرية، ويميل لفاعلية أكبر في التدخل المباشر في النزاعات الخارجية ولو باستخدام القوة العسكرية، لفرض النُظم والمنظومات التي يراها متناسبة مع قيمه ومصالحه، وبما يليق مع الولايات المتحدة كقوة أولى عالمياً. أما الاتجاه الثاني فيعطي وزناً أكبر ”للقوة الناعمة“ في التغيير، ويسعى لإصلاح النظام العالمي، ويركز على آليات التفاوض والاتفاقات، ويُسوِّق اهتمامه بالتنمية وحقوق الإنسان، ويعطي اعتباراً للقوى المحلية وثقافاتها، ولاحترام الخصوصية والتعددية. ولا يميل للتدخل العسكري إلا إذا تعرضت المصالح الأمريكية العليا للخطر.

    وعادة ما يتركز أتباع الاتجاه الأول في الحزب الجمهوري، وأتباع الاتجاه الثاني في الحزب الديموقراطي.

    وعلى هذا، فإن هناك تقلُّباً بين هذين الاتجاهين، خاصة عندما يحصل الفشل لدى أي منهما… ومثال ذلك حلول رونالد ريجان ”القوي“ مكان كارتر الذي يركز على القوة الناعمة… وحلول أوباما الذي يركز على القوة الناعمة مكان بوش الابن الذي لجأ للقوة في أفغانستان والعراق… غير أن هاتان الثنائيتان لا تخرجان عن الغاية النهائية في خدمة المصالح الأمريكية العليا.

    أما الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط فتتلخص في:

    1. الحفاظ على ”إسرائيل“ وأمنها كقوة إقليمية عظمى، وباعتبارها حجر الزاوية في السياسة الأمريكية في المنطقة.

    2. الهيمنة على مناطق البترول لتأمين احتياجات أمريكا وحلفائها، وكأداة ضغط في الاستراتيجية الدولية.

    3. تأمين خطوط الملاحة والتجارة الدولية في المنطقة، بما في ذلك مضائق وممرات هرمز والسويس وباب المندب.

    4. دعم النظم السياسية الموالية أو ذات العلاقة الجيدة معها.

    5. ضبط وتحديد أدوار ونفوذ نظم المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية، أو بما لا يتعارض معها على الأقل.

    6. الاستفراد بالهيمنة على المنطقة ومنع أي قوة كبرى من المنافسة، إلا ضمن هامش لا يضر بالمصالح الأمريكية الاستراتيجية (بما في ذلك روسيا).

    مبررات احتلال العراق:

    لم تخرج السياسة الخارجية الأمريكية في العراق طوال الخمس وعشرين سنة الماضية عن المراوحة بين خطي الإضعاف والتفتيت. فبعد التدخل العسكري المباشر بقيادة جورج بوش الأب لضرب القوات العراقية وتحرير الكويت 1991، تابع الرئيس كلينتون (كانون الأول/ يناير 1993 – كانون الأول/ يناير 2001) سياسة إضعاف وإنهاك العراق بقصد إسقاط نظام صدام حسين بالطرق ”الناعمة“ مستخدماً أساليب الحصار والعقوبات الدولية، كما تابع توفير الحماية الجوية، ومنع استخدام الطيران العراقي في مناطق التَّركُز الكردي في شمال العراق. ثم جاء جورج بوش الابن ليعود للخط الأول في استخدام التدخل العسكري المباشر لإسقاط النظام، وفرض بيئة تفتيت داخلي عليه، ثم لحقه أوباما ليتابع خط كلينتون في الإضعاف بالوسائل الناعمة مع تخفيف الأعباء العسكرية والمالية.

    خط الإضعاف الذي اتبعه كلينتون في العراق لم يكن إنسانياً ولا رحيماً ولا منطقياً في معاقبة الشعب العراقي وتدمير اقتصاده. وعلى سبيل المثال، ففي مقابلة لوكيل وزارة الخارجية العراقية رياض القيسي مع قناة الجزيرة في 1/6/2001، قال إن معدل نصيب الفرد العراقي من الأموال التي سمحت الأمم المتحدة بصرفها (طوال السنوات الخمس السابقة) كان 125 دولاراً للفرد سنوياً. مع العلم أن الأمم المتحدة، مثلاً، استوردت لمعالجة موضوع الألغام في شمال العراق 28 كلباً صرفت على إطعامهم 33 ألف دولار خلال 11 شهراً، أي أن معدل إطعام الكلب الواحد كان حوالي 1,286 دولار سنوياً أي أكثر من عشرة أضعاف المصروف الذي سمحت به للفرد العراقي. لقد عوقب الشعب العراقي وجرت محاولات لإهانة كرامته وإذلاله، تحت شعار معاقبة النظام الذي تمكن من تكييف نفسه ومن الاستمرار حتى وقوع الاحتلال.

    بعد تولي بوش الابن الرئاسة الأمريكية، حدثت نقلة نوعية في استراتيجية التعاطي الأمريكي مع المنطقة، فقام مدفوعاً بمدرسة ”الأمن والقوة“، ومحاطاً بتيار المحافظين الجدد المهيمن على السياسة الخارجية، ومستغلاً بطريقة فجة الأوضاع الناتجة عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 ليطبق أجندات خاصة، ليس لها أي علاقة بالأحداث ذاتها. وكان احتلال العراق أكبر مثال على ذلك.

    الحجتان الرئيسيتان اللتان سعت الإدارة الأمريكية لتسويقهما لتبرير احتلال العراق كانتا:

    1. حيازة العراق لأسلحة دمار شامل، أو على الأقل قيامه ببرنامج لحيازة هذه الأسلحة بما يخالف التزاماته الدولية، وبما يشكل تهديداً على دول المنطقة.

    2. دعم النظام العراقي للإرهاب؛ وإيواء الإرهابيين.

    في 6/7/2016، أعلنت نتائج تقرير جون تشيلكوت الخاص بالمسؤولية عن مشاركة بريطانيا في غزو العراق، والذي يؤكد على كذب الأسباب المعلنة لاحتلال العراق، وأنها واهية أو منعدمة، ويتضح من التقرير أن المطلوب لم يكن مجرد استهداف صدام حسين ونظامه، وإنما العراق نفسه، دون أسباب حقيقية معلنة. ولكن لم تظهر مطالبة جادة بمحاسبة ومعاقبة من كذبوا وقاموا بالحرب ودمروا العراق. ولم يحدث التقرير الأثر والضغط الإعلامي الكافي لمحاسبة المسؤولين، حيث سيدفن كغيره من التقارير.

    لقد ثبت قطعاً كذب الادعاءات الأمريكية بشأن وجود أسلحة دمار شامل في العراق. أما حكاية دعم الإرهاب… فقد كان واضحاً أنها مجرد فقاعة إعلامية… فالنظام العراقي لم يكن فيه أحد من تنظيمات القاعدة أو ما شابهها… وكان أحد أنجح الأنظمة في قمع تيارات ”الإسلام السياسي“…. ولم يخرج منه شخص واحد ليشارك في هجمات 11 سبتمبر… أو في الاعتداء على المصالح الغربية…. إذاً، فالسؤال ببساطة إذا كان هذان السببان غير صحيحان وادعاءان كاذبان… فلماذا قامت أمريكا باحتلالها للعراق؟!

    تهاوي المبرر الاقتصادي:

    اتجهت معظم التحليلات التي رفضت المبررات الأمريكية للاحتلال إلى أن الجانب الاقتصادي المتمثل في السيطرة على ثروات العراق وخصوصاً النفط ونهب خيراته، هو السبب الحقيقي للاحتلال… وما تزال هذه المدرسة هي الأكثر رواجاً حتى أيامنا هذه. غير أن قراءة متأنية لتكاليف الحرب الأمريكية على العراق تكشف أن النفقات والخسائر المالية الأمريكية كانت أكبر بكثير من حصول الأمريكان على النفط العراقي ولو بأسعار تفضيلية أو شبه مجانية!! ومع ذلك فالإدارة الأمريكية لم تنهب نفط العراق، كما لم تهبط أسعار النفط في أثناء احتلال الأمريكان للعراق.

    من جهة أخرى، فقد اعترفت وزارة الدفاع الأمريكية أن نفقاتها المباشرة على الحرب في الفترة 2003-2010 بلغت نحو 758 مليار دولار. أما الدراسة التي أعدها معهد واتسون للدراسات الدولية في جامعة براون (وهي جامعة أمريكية) فقد أظهرت أن تكاليف الحرب للفترة نفسها تزيد عن 1,100 مليار دولار، أي بما معدله ملياران و640 مليون دولار أسبوعياً. الخبير الاقتصادي الأمريكي جوزيف ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، أعد بالتعاون مع ليندا بيلميز من جامعة هارفارد، دراسة قالت إن تكاليف الحرب على العراق ستكلف الاقتصاد الأمريكي نحو ثلاثة تريليونات دولار (ثلاثة آلاف مليار) في المعدل المتوسط، وبأرقام متحفظة.

    وأشارت وحدة البحوث في الكونجرس الأمريكي إلى أن تكاليف الحرب على العراق ستصل إلى نحو تريليون و700 مليار دولار في سنة 2017، بما في ذلك جوانب الرعاية الصحية للجرحى والمصابين من الجنود الأمريكان وفوائد القروض… وغيرها.

    وقبل أقل من أسبوع من العدوان على العراق (آذار/ مارس 2003)، أعلن نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني أن الحرب في سنتها الأولى ستكلف ثمانين مليار دولار، وأن هناك حاجة لإنفاق نحو عشرين مليار دولار على مدى سنتين ليتعافى الوضع في العراق، غير أنه لم يتحدث عن تكاليف بقاء الجيش الأمريكي في العراق. فهل تعمد عدم التحدث عن تكاليف البقاء المحتملة للجيش حتى لا يؤثر سلباً على الرأي العام الأمريكي، أم أن سوء التقدير بلغ به أنه لم يكن يتوقع البقاء لأكثر من سنتين في العراق؟!

    ربما ساعد الحصول على النفط العراقي بأسعار تفضيلية، وعقود إعادة الإعمار في العراق، وحتى دفع دول المنطقة لشراء الأسلحة الأمريكية… في خدمة الاقتصاد الأمريكي… ولكنها كلها عوامل غير كافية لتبرير احتلال العراق، ودفع تلك الأثمان الهائلة… فيما يبدو استثماراً خاسراً.

    إذاً، لا مكاسب اقتصادية من الحرب على العراق… بل تكاليف هائلة أسهمت بشكل أو بآخر في الإضرار بالاقتصاد الأمريكي… وصرفت الناخب الأمريكي لاختيار المرشح الديموقراطي أوباما.

    الأبعاد الجيوستراتيجية والخلفيات الدينية والثقافية:

    ما هو أقرب للصحة أن الخلفية الدينية والثقافية للمحافظين الجدد الذين أحاطوا بالرئيس بوش الابن، والرغبة في الاستفادة من البيئة العالمية المعادية لـ”الإرهاب“ والتي نشأت وجرى تعزيزها بعد أحداث 11 سبتمبر، قد دفعت صانع القرار الأمريكي لتبني رؤى إعادة تقسيم المنطقة على أسس طائفية وعرقية، بما يسهل مزيداً من الهيمنة الأمريكية عليها، وبما يخدم الكيان الإسرائيلي. ومن المفكرين الكبار الذين دعوا إلى تفتيت العالم العربي المؤرخ اليهودي الصهيوني المشهور برنارد لويس؛ والذي كان له تأثير مهم على مدرسة المحافظين الجدد، وعلى الرئيس جورج بوش الابن نفسه، من أبرز من دعا إلى تفتيت العالم العربي، معترضاً على أخطاء سايكس بيكو التي لم تراع الأسس الطائفية والعرقية. وقد بنى الكاتب الأمريكي رالف بيترز Ralph Peters على دراسات لويس ودعا إلى تقسيم الشرق الأوسط في مقاله ”حدود الدم“، التي نشرها في مجلة الجيش الأمريكي Armed Forces Journal في حزيران/ يونيو 2006. الذي تحدث بشكل فجِّ عن تقسيم العراق والسعودية، فاقترح دولة للشيعة العرب في جنوب العراق تمتد لتضم منطقة الإحساء وجنوب غربي إيران المطلة على الخليج وخصوصاً مناطق الأهواز وعربستان. كما اقترح دولة للعرب السنة وسط العراق وأخرى للأكراد تمتد شمالي العراق وشمال غربي سورية وشرقي تركيا وشمال غربي إيران. ولذلك، كان ثمة رغبة في ضرب العراق وتفتيته داخلياً، بغض النظر عن أي مبررات حقيقية قانونية أو مسوغات تمس الأمن القومي الأمريكي.

    معالم السلوك الأمريكي المعاصر في المنطقة:

    دَشَّن الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 في عهد بوش الابن مرحلة جديدة في الانغماس الأمريكي المباشر في إعادة تشكيل أو تطويع النُّظم السياسية في المنطقة، ثم جاء أوباما ليتابع خط الإضعاف والتطويع بالوسائل الناعمة. غير أن السلوك الأمريكي ظلّ يسير ضمن عدد من المحددات والمعالم أبرزها:

    1. إضعاف أنظمة المنطقة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، بحيث يسهل إخضاعها، ولا تشكل أي خطر على الكيان الإسرائيلي وعلى المصالح الأمريكية.

    2. لم يكن المطلوب بالضرورة رسم حدود سياسية جديدة، ولكن تأجيج الصراع الطائفي والعرقي بشكل يمزِّق النسيج الاجتماعي؛ داخل الدولة الواحدة، وبما يرفع جدران الحقد والكراهية بين الناس.

    3. إيجاد بيئات لتزايد الحساسيات والعداوات الإقليمية بين دول وشعوب المنطقة، على أسس طائفية ومذهبية وعرقية (سنة وشيعة، عرب وفرس وأتراك وأكراد…) بحيث تُستهلك في هكذا عداوات، بعيداً عن العدو المشترك ”إسرائيل“.

    4. قطع الطريق على أي مشروع نهضوي وحدوي في المنطقة، يمكن أن يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية أو للكيان الإسرائيلي.

    ولم يكن هذا السلوك الأمريكي ليجد لنفسه سوقاً، لولا أن الأنظمة الفاسدة والمستبدة والقمعية في المنطقة فشلت في مشاريعها النهضوية والوحدوية، كما فشلت في بناء الدولة القطرية الحديثة، وفي تقوية البنى الاجتماعية وتنمية الشعور بالمواطنة والولاء لدى شعوبها، بعيداً عن العصبيات الدينية والعرقية.

    السلوك الأمريكي كان معنياً بإيجاد البيئات المناسبة لتصاعد التوتر الطائفي والعرقي، دون أن يقوم بدور فظٍّ مباشر في هذا الإطار، لأن ذلك قد يفسد عليه خطته، وسيوجِّه أسهم الاتهام إليه. كان عليه فقط أن ”يكشف الغطاء عن الطنجرة”، ليجد ما يكفي من تيارات واتجاهات وقوى في الساحة العراقية مستعدة لصبِّ الزيت على النار الطائفية والعرقية.

    ومن أمثلة الإجراءات والسياسات التي اتبعها الأمريكان:

    1. القيام بحلِّ الجيش العراقي بطريقة كيفية؛ والسماح بإنشاء جيش جديد هيمنت على الكثير من مفاصله قوى طائفية.

    2. توفير الغطاء للأكراد في شمال العراق لتعزيز حكمهم الذاتي، وتكريس البنى التحتية للابتعاد عن الدولة المركزية والانفصال.

    3. السكوت عن تشكيل مليشيات عسكرية طائفية، مارست التحريض، وكانت جزءاً أساسياً من صراعات دموية طائفية تحت سمع الأمريكان وبصرهم.

    4. ترك مظاهر الفساد الإداري والمالي والسياسي تتفشى في كل مفاصل الدولة، وتكريس المحاصصات الطائفية والعرقية في البنى التحتية… وإغماض العين عن سرقة جهات وشخصيات عراقية متنفذة للمليارات من ثروات العراق وشعبها. فحسب عادل عبد المهدي، وزير النفط العراقي السابق، فإن الفساد أفقد البلاد 450 مليار دولار منذ 2003 وحتى 2015. كما أن الناطق باسم هيئة النزاهة في العراق عادل نوري أبلغ البرلمان العراقي عن اختفاء نحو 500 مليار دولار من الخزينة العراقية خلال فترة حكم المالكي 2006–2014. أما رئيس هيئة النزاهة الأسبق رحيم العكيلي فقد قال إنه قد تمّ عمل 6 آلاف عقد وهمي بـ 227 مليار دولار… وكان تقرير سابق للجنة المالية في البرلمان العراقي قد قال إن الهدر المالي خلال فترة حكومة المالكي قد بلغ 109 مليارات دولار. كل ذلك وضع العراق خلال ”العهد الأمريكي“ ضمن قائمة أكثر الدول فساداً في العالم، وضمن آخر خمسة دول في العالم في مؤشر الشفافية.

    5. السياسة الأمريكية والغربية التي بنت وكرست خطاباً إعلامياً يتحدث بشكل متواصل وبكافة الوسائل المؤثرة عن الجنوب الشيعي والوسط السني والشمال الكردي… بحيث أصبح ذلك أمراً عادياً منطبعاً في الوعي واللا وعي العراقي والعربي والدولي.

    6. هناك علامات استفهام حقيقية عن ترعرع ظواهر التطرف وانتشارها تحت الاحتلال الأمريكي… وتزايد أعداد المنتمين إلى الجماعات المتطرفة بالآلاف، بعد أن لم يكن لهم وجود تحت حكم صدام حسين. أي أن نمو قوى ”التطرف” حدث فعلاً تحت الاحتلال الأمريكي… ليس بالضرورة لأن أمريكا هي التي تصنعهم، وإنما لأن الاحتلال نفسه يؤجج المشاعر ضدها بكافة الأشكال المنضبطة وغير المنضبطة. وقس على ذلك ظاهرة صعود داعش، والتراخي النسبي في التعامل معها.

    7. التقصير المتعمد أو غير المبرر في حماية التراث والآثار والتاريخ العراقي والهوية الوطنية العراقية… بما في ذلك السكوت عن نهب المتحف الوطني.

    لقد تسبب الاحتلال الأمريكي وسياساته بأحد أعظم الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث والمعاصر، فخلال عشر سنوات من الاحتلال تم إحصاء مقتل نحو 134 ألف مدني، ولعله تسبب الاحتلال بوفاة أربعة أضعاف هذا العدد (بحسب تقديرات ”معتدلة“ لجامعة براون)؛ ومئات الآلاف من الجرحى، بالإضافة إلى ملايين المهجَّرين، والأهم من ذلك ارتفاع جدران الدم بين مكونات المجتمع العراقي.

    نواصل الحديث في مقال قادم حول السياسة الأمريكية في سورية

    هذا المقال هو نسخة معدلة عن النص الذي نشر في الجزيرة.نت، الدوحة 30/7/2016

  • مقتل سليماني- تداعيات ومآلات

    تقدير موقف12/1/2020

    د. سامر عبد الهادي علي – المركز السوري سيرز

       أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية فجر الجمعة 3 كانون الثاني/ يناير 2020 مقتل قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، في غارة جوية بطائرة مسيّرة قرب مطار بغداد، بناءً على توجيهات مباشرة من الرئيس دونالد ترامب، كما قُتل معه في الغارة أبو مهدي المهندس نائب ما يسمى "قوات الحشد الشعبي" العراقي، إلى جانب عشرة آخرين، منهم قياديين في الحشد.

    حدث لم يكن كغيره، وعملية من النوع الدقيق وذات أبعاد تتخطى مسألة التخلص من شخصية ما، كانت عملية تحمل في طياتها أسباباً كثيرة، وتداعيات كبيرة لاحقة، ليس على إيران والعراق والعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل على عموم المنطقة بملفاتها المعقدة والمتشابكة.

    *تسلسل أحداث ما قبل العملية:

       يمكن القول أنّ تطورات الأحداث ما قبل عملية اغتيال سليماني قد بدأت من العراق منذ انطلاق التظاهرات العراقية الكبيرة في بغداد ومدن الجنوب العراقي، تحديداً الشيعية منها، وذلك مطلع شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ضدّ سياسات الحكومة العراقية المتماهية مع السياسات الإيرانية في العراق، التي أوصلت البلاد إلى الانهيار التام في الكثير من القطاعات، خاصةً الاقتصادية منها، وحتى الأمنية.

    هذه المظاهرات التي استمرت، ولا تزال، طيلة أشهر، أدّت إلى شعور إيران بالخطر المحدق بها، لما قد يكون لها من تداعيات ليس فقط على ميليشياتها في العراق، بل حتى على الداخل الإيراني المتأزم كذلك بطبيعة الحال، خاصة وأنّ العراق يقع على حدودها مباشرةً، عكس التظاهرات التي شهدها لبنان أيضاً، فهي ليس ذات تأثير مباشر عليها كما العراق. من هذا المنطلق أوعزت إيران إلى ميليشياتها الطائفية، وتحديداً ميليشيا حزب الله العراقي، لتنفيذ عمليات قنص واغتيال بحق المتظاهرين العراقيين، وهو ما أدى إلى وقوع عشرات القتلى من العراقيين، إلا أنّ ذلك لم يؤدِّ إلى تراجع التظاهرات، وهو ما وضع الحكومة العراقية الموالية لإيران في مأزق كبير، ما دعاها إلى الاستقالة فعلاً، ليزداد خطر التداعيات على السياسات الإيرانية ومواليها في العراق، لذلك أخذت إيران بالتصعيد أكثر، ومحاولة خلط الأوراق، من خلال قيام ميليشياتها، حزب الله العراقي، بعمليات قصف على مواقع عسكرية عراقية تحوي جنوداً من القوات الأمريكية تحديداً، كان أعنفها القصف الذي طال قاعدة عسكرية في كركوك شمال العراق في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وأدّى إلى مقتل موظف مدني أمريكي في القاعدة، ما اعتبرته الولايات المتحدّة الأمريكية تجاوزاً على مواطنيها وجنودها، وبالتالي على مصالحها القومية، واتهمت حزب الله العراقي بالعملية، وردّت بتنفيذ ضربات جوية على خمسة مواقع تتبع لميليشيا حزب الله، أحدها في سورية، وذلك بعد يومين فقط في 29 كانون الأول/ ديسمبر 2019، وأدّت إلى مقتل العشرات من الميليشيات.

    تصاعد التوتر في العراق بين إيران وأدواتها من جهة، وبين الولايات المتحدة ومصالحها من جهةٍ أخرى، وهو ما سعت إليه إيران، التي بدأت تجييشها ضد الولايات المتحدة ومصالحها في العراق، وجرت محاولات لاقتحام المنطقة الخضراء، والوصول إلى السفارة الأمريكية، من قبل متظاهرين موالين لحزب الله العراقي وبدعم إيراني، بالتوازي مع بدء الإعداد لمؤامرة تهدف للسيطرة على المنطقة الخضراء بعملية انقلاب سياسي ستقوم به إيران للسيطرة على ما تبقى من العراق "بمعنى العراق الموالي للسياسة الأمريكية"، وكان التنفيذ يوم وصول قاسم سليماني إلى بغداد قادماً من دمشق، صبيحة الثالث من كانون الثاني 2020، إلا أنّ الولايات المتحدة، بحسب تقارير استخباراتية، اكتشفت الأمر، فصدر أمر مباشر من الرئيس ترامب شخصياً، بتصفية سليماني قبل خروجه من مطار بغداد، وهو ما تم فعلاً.

    *ردود الأفعال على العملية:

       على الرغم من حجم العملية، وتأثيراتها المتوقعة على ارتفاع حدّة التوتر في المنطقة، وإمكانية الرّد الإيراني بشكلٍ أو بآخر، ما ينذر بحرب قد تندلع في أيّ لحظة، إلا أنّ المواقف الإقليمية، وحتى الدولية، لم تكن ذات تباينات كبيرة، حيث اكتفت كثير من دول العالم، بما فيها الإقليمية منها، بالدعوة إلى الحوار ومنع حدوث صراع ما في منطقة لا تحتاج إلى مزيد من الصراعات، باستثناء العراق الذي رفض العملية، وطالب القوات الأمريكية بالانسحاب من العراق، بينما اكتفت سورية بالتنديد.

       الولايات المتحدة الأمريكية بررت العملية على أنّ سليماني "كان يعمل على تطوير خطط لمهاجمة دبلوماسيين وموظفين أمريكيين في العراق والمنطقة"، وأنّ هدف الضربة "ردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية"، وتعهدت الولايات المتحدة أنها "ستواصل اتخاذ جميع الإجراءات لحماية مواطنيها ومصالحها حول العالم".

    أما إيران، فقد توعّدت مراراً على لسان مسؤوليها كافة بالرّد "المزلزل" وغير المتوقع على الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، ليس في المنطقة فقط، بل في كل مكان من العالم. وتوعّد المرشد الإيراني علي خامنئي بـ"انتقام مؤلم" على خلفية مقتل سليماني. لكن وبعد نحو أسبوع من التهديد والوعيد قامت إيران باستهداف قاعدة عين الأسد الأمريكية بعدّة صواريخ بالستية، وصاروخين قرب أربيل شمالي العراق، ليتبيّن بعد الضربة هذه أنّها لم تكن سوى ضربة متفق عليها لامتصاص غضب الإيرانيين والميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، خاصة وأنّ إيران كانت قد أعلمت العراق بالضربة قبل وقوعها، وبالتالي علمت الولايات المتحدة الأمريكية بها، وهو ما ألمح إليه الرئيس ترامب. هذه الضربة التي لم تؤدِّ حتى إلى جرح عسكري أمريكي واحد، أو تتسبب بأي خسائر مادية، ومما زاد الأمر سوءاً استهداف إيران، بالخطأ كما تدعي، لطائرة ركاب أوكرانية خلال تنفيذها للضربة، ما أدى إلى إصابة الطائرة وتحطمها ومقتل 176 مدنياً قرب طهران، وبعد إنكار وتجاهل، اعترفت إيران بأنها من أسقط الطائرة.

    *التداعيات:

       إنّ تداعيات عملية قتل سليماني وأبو مهدي المهندس، وما تلاها من توجيه إيران لضربة إعلامية فاشلة على قاعدة أمريكية في العراق، وإسقاطها للطائرة المدنية الأوكرانية، قد بدأت بالظهور على الصعيد الإيراني من جهة، وعلى صعيد المنطقة من جهةٍ أخرى، أما التداعيات على الصعيد الإيراني:

    1- جاءت نتائج الضربة الإيرانية بنتائج عكسية عليها، فقد أظهرت إيران على حقيقتها من ناحية القوة المزعومة التي تدّعيها، حيث لم تستطع أن تنفذ تهديداتها برد عسكري مؤلم كما ادّعت.

    2- أدت إلى استنفار الشارع الإيراني، لتندلع التظاهرات ضد الحرس الثوري الإيراني والمرشد الإيراني، حيث طالبته بالرحيل الفوري.

    3- أظهرت ضعف ميليشيات إيران في العراق والمنطقة، التي كانت هي الأخرى قد توعدت بالرّد، إلا أنها اكتفت بالتصريحات والخطابات الإعلامية.  

    4- زاد من سوء الوضع الإيراني أمام العالم إسقاطها للطائرة الأوكرانية، ما يعني أنها فقدت أي تعاطف كان من الممكن أن تحصل عليه من جانب أي دولة، ومنها روسيا التي اكتفت بالصمت.

    أما التداعيات على صعيد المنطقة:

    1- ازدياد تعقيدات الداخل العراقي المتأزم أصلاً، خاصة على صعيد الموالين لإيران من قوى سياسية وميليشيات عسكرية، حيث أصبحوا في موقفٍ ضعيفٍ بالتوازي مع بداية بروز تيار سياسي غير موالي لإيران، ستتضح ملامحه في الفترة المقبلة، مع بروز اسم إياد علاوي من جديد.

    2- تعزيز الولايات المتحدة الأمريكية لنفوذها في العراق والمنطقة أكثر من السابق، مع ازدياد إرسال قوات عسكرية إلى قواعدها في العراق والمنطقة، على عكس ما طالبت به كل من العراق وإيران من سحب الولايات المتحدة لقواتها من المنطقة.

    3- ازدياد حدّة التوتر في المنطقة، وتصاعده لدرجة خطيرة، بما يسمى الوصول إلى حافة الهاوية.

    4- قلق خليجي من رد إيراني محتمل عليها، وهو ما دفع المملكة العربية السعودية إلى إطلاق تصريحات هدفها امتصاص التوتر، من خلال تصريحها بأنها تقف إلى جانب العراق، ورفضها تحويله إلى ساحة لصراعات خارجية.

    أما التداعيات على الملف السوري، فقد تكون الأهم والأكثر وضوحاً، خاصةّ بعد الزيارة المفاجئة للرئيس الروسي بوتين إلى سورية، قبل يوم واحد فقط من لقاءه الرئيس التركي أردوغان في اسطنبول، ولذلك رسائل عديدة منها: أنّ روسيا هي صاحبة الكلمة العليا في سورية، وليس إيران، بما يعني عدم تفكير إيران باتجاه رد ما على أي طرف انطلاقاً من الأراضي السورية. كذلك رسالة إلى "إسرائيل" بأنّ روسيا لن تسمح لبشار الأسد بأي تحرك من جانبه، سواء بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال السماح لوكلاء إيران في سورية، وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، بالاعتداء عليها. ورسالة إلى نظام الأسد نفسه بأنّ هناك متغيرات قادمة في المنطقة ما بعد مقتل سليماني، وعليه أن يكون متوافقاً مع ما قد تنجزه روسيا في هذا الشأن في المرحلة المقبلة.

    *المآلات المستقبلية:

       من خلال ما سبق، يمكن الحديث عن سيناريوهات محتملة في المرحلة المقبلة، يمكن أن تذهب الأوضاع العامة في المنطقة باتجاهها، وأرى أننا أمام سيناريوهين فقط:

    الأول: الاتجاه نحو حرب واسعة بين كل من إيران والولايات المتحدة الأمريكية، لن تكون مقتصرةً على الطرفين، عسكرياً وجغرافياً، بل ستشمل أطرافاً ودولاً عدّة في المنطقة، وهو ما قد يؤدي إلى تدمير واسع، وستكون المنطقة بأكملها الخاسر الأكبر، وليس إيران فقط، وهو ما يحاول الجميع تفاديه، لذلك فإنّ احتمالية هذا السيناريو ضعيفة جداً، وقد تكاد تكون معدومة.    

    الثاني: الذهاب إلى مفاوضات سياسية شاملة لكل ملفات المنطقة، أهمها على الصعيد الإيراني الملف النووي وملف الميليشيات الموالية لإيران وتمددها في المنطقة، وكذلك حول ملفات المنطقة الأخرى وهي الملف السوري والملف العراقي، وهو الاحتمال الأقوى والمتوقع حصوله فعلاً في الفترة المقبلة، حيث بدأت تظهر ملامحه، من خلال دعوة الولايات المتحدة الأمريكية لإيران للعودة إلى المفاوضات حول الملف النووي الإيراني ودون شروط مسبقة من أي طرف، وهي دعوة كررتها الدول الأوروبية، كفرصة لإيران للخروج من المأزق الذي وضعت نفسها فيه، لكن لذلك تداعيات محتملة أيضاً، حيث ستتنازل إيران عن بعض سياساتها في المنطقة، وقد ترضخ للطلبات الغربية في هذا السياق، ومنها تحجيم دور ميليشياتها وعدم التدخل في شؤون المنطقة، ما يعني إضعاف أذرعها العسكرية، خاصة في سورية التي قد يتم إخراج إيران منها بالكامل، لصالح تفاهمات روسية تركية بدأت تظهر منذ نحو أسبوع عندما تم التوافق بين الطرفين على هدنة جديدة في إدلب، قد تكون طويلة، وربما دائمة، حسب بعض التسريبات، وإمكانية فرضها عن طريق قرار من مجلس الأمن الدولي، مع إمكانية استئناف أعمال اللجنة الدستورية في المرحلة القادمة في حال تم تطبيق جدّي للهدنة في إدلب.

       مما سبق نجد أنّ الخاسر الأكبر في هذه المرحلة وما تضمنته من أحداث ومتغيرات جديدة هي إيران نفسها، التي دفعت أخيراً ثمن سياساتها العنجهية في العدوان على دول المنطقة وشعوبها، ونحن نرى اليوم الاضطرابات التي تشهدها الدول التي تدخلت فيها إيران سواء بميليشياتها العسكرية، أو بأذرعها السياسية، كما يحصل في كل من العراق وسورية ولبنان وحتى اليمن، وهو ما ينذر بمرحلة جديدة ستشهدها المنطقة عموماً، قد تكون أكثر استقراراً من السابق في حال أُنجز هذا السيناريو على المدى المتوسط.

  • ولادة جديدة دخلت العراق حافيا

    د.نزار السامرائي – مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية

    قبل ثمانية عشر عاما تحقق حلم كان أبعد من كل المجرات، فقد عدت إلى أرض الوطن بعد محنة الأسر التي استمرت عشرين سنة إلا شهرين أي 238 شهرا أي أكثر 1032 أسبوعا وبالايام هي 7245 يوما.

    وهذه هي قصة عودة الروح إلى جسدها.

    في تمام الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 22 كانون الثاني 2002 دخلت الأراضي العراقية الحبيبة من نقطة المنذرية بعد عشرين سنة عشتها مع آلاف من العراقيين الشرفاء الذين لم يفقدوا بوصلة الولاء للوطن في أقبية ودهاليز السجون الإيرانية الرهيبة المسماة بمعسكرات الأسر، وقد تقلّب هؤلاء الأسرى بين صنوف العذاب الذي لم تر له كتب التاريخ مثيلا إلا في بلاد فارس وتفنن فيه الإيرانيون كما برع في أساليب التعذيب وحوش محاكم التفتيش، ولم يتمكنوا من إشباع غريزة الانتقام من العرب عموما والعراقيين خصوصا الذين مرغوا أنوفهم في أوحال الهزيمة والذل، وأرغموا خمينيهم على تجرع كأس السّم في 1988/8/8، لهذا نقلوا انتقامهم إلى معسكرات الاعتقال السرية التابعة للمليشيات الولائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، فغيبوا الآلاف واغتالوا الآلاف، ولكن غريزة الدم عندهم لم تنطفئ بعد.
    وكي لا تغيب هذه الذكريات المرة عن الأذهان وعن العيون، ومن أجل أن تبقى متقدة وتستنهض كل مشاعر الكراهية لدولة الحقد دولة الولي الفقيه وتحصن العراقي أمام كل محاولات التدجين والاحتواء الفارسي، أعيد نشر السطور الأخيرة من كتابي (في قصور آيات الله) تلك السطور التي تحكي قصة العبور من الموت إلى الحياة.

    وهذه هي السطور الأخيرة

    عندما اقتربنا من الحدود العراقية بالحافلات الإيرانية، كانت الساعة تقترب من التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 2002/1/22، وشاهدنا عن بعد حشود العراقيين الذين جاءوا لاستقبال العائدين من أسرى يعرفونهم أو لا يعرفونهم، وقد تحشّدت الجماهير على جانبي الطريق بل سدّت الطريق عن آخره غير مبالية بهطول الأمطار الغزيرة، تواصينا وبرجاء حار، وكما أوصانا العاملون في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أسرعوا أثناء الانتقال من الأرض الإيرانية إلى الأرض العراقية لضمان دخولكم بلدكم، وقف جنديان، إيراني عند آخر نقطة إيرانية، وإلى جانبه جندي عراقي عند أول نقطة عراقية وهنا مفارقة المشهد المثير.
    يتم التسليم بين الجنديين باليد واحداً واحداً، كم تزاحمت الأفكار في الرؤوس، كم تعددت الصور أمام العين، ولكنّ الحقيقة كانت أكبر من كل خيال، وأجمل من كل الأحلام، حينما سلمني الجندي الإيراني للجندي العراقي، توقفت عن الحركة من دون إرادة مني ولكن وعيي المختزن في أعماق عقلي وضميري هو الذي قادني إلى ما أقدمت عليه، تساءلت هل أتوقف عن المضي إلى أرض الوطن؟ وهل يمكن أن يحصل مثل هذا لرجل مثلي؟ تداعت الأفكار الواحدة تلو الأخرى، وتبين أنني لم أنتبه إلى زملائي المتلهفين مثلي للوثوب إلى أرض العراق كانوا ينادون عليّ تقدم يا نزار، ولما لم أعرهم انتباها هاج بحر الأسرى وماج غضبهم بالصياح تقدم يا نزار وربما ترافق مع بعض العبارات النابية والشتائم، ولكنّني تسمرت في مكاني وبهدوء وبآلية قفزت إلى رأسي عند تلك اللحظة الحاسمة، بدأت أفتح خيط حذائي الإيراني الذي كانت إدارة المعسكر قد سلمته لي قبل بضعة أيام، ونزعته عن رجلي كليهما، ووسط صياح متعال، عبرت الحدود حافيا، بعد أنْ قدّمت قدمي اليمنى على خلاف المشية العسكرية، لأنّ أبي رحمه الله أوصاني بأنْ أقدم رجلي اليمنى حينما أدخل مكانا طاهرا من آخر بلا طهارة، ولأنّ الحذاء كان إيرانيا فقد وجدت من المستحيل أنْ أدخل أرض العراق الطاهرة بحذاء إيراني ومشيت وسط الأوحال وسيول المطر حافيا، فهذا استحقاق وطني للعراق العظيم.
    أُسرت يوم الأربعاء 24 أذار / مارس 1982 وعدت بعد 238 شهرا إلى العراق في 22 /1 / 2002، وعادت الروح والحياة إلى شراييني، حسبت عند اللحظة التي وضعت قدمي فوق أرض العراق كأن الأرض قد توقفت عن الدوران حول نفسها أو حول الشمس، كانت فرحتي وفرحة أهلي عظيمة ولا توصف وذلك ما جعل جرحا كبيرا يندمل ولكن مسيرة الأيام تمضي بنا من دون أن تفرق بين يوم وآخر.
    لمست أن أرض العراق وكأنها صنعت من مسك أو صيغت من الذهب والأحجار الكريمة، وكم تمنيت لو أني لم أطأها برجلي.